خاطرة أخرى: من الحقِّ أن يُسأل شاعرُ النثر لماذا لم يكتب نَظْمًا؟ عن عجز أم عن رغبة في التنويع؟ والأجوبة باتت معروفة. ولكن لماذا لا نسأل إنْ لم يكن هناك وراء اختيار النثر كيانًا شعريًّا نقصٌ ما في قدرة الأوزان على ملاقاة ما يريد الشاعرُ قولَه – ملاقاته بأمانة ورحابة، بطواعية وتناغُم، بعدما فتحت أطوارُ الحياة الحديثة أبوابَ الانقلابات والاحتمالات على مصاريعها، وحتى تلك الأشد عجبًا والأكثر استدعاءً لا لأساليب تعبيرية جديدة فحسب، بل للغة جديدة؟
لا عِبرة في القول إن كثيرين من أدعياء الشعر يختبئون وراء مسمَّى "قصيدة النثر" أو "الشعر المُرسَل" لصفِّ الكلام وطلاء العقم، تارة بالفراغ المنقَّط وطورًا بإنشائيات سقيمة تعمِّق الهوَّة بين القارئ والشعر، والشعر منها براء والقارئ فيها مظلوم. لا عِبرة في مثل هذا القول. فهو صحيح، كما هو صحيح القول إن كثيرين من أدعياء الشعر اختبئوا ويختبئون وراء مسمَّى قصيدة الوزن أو الشعر العمودي لصفِّ الكلام وإلخ. إنما العِبرة في قياس الشعر – بل الخلق عمومًا – بحجم القَدَر الذي يصارعه! ولا ألعب هنا على اللغة، فالالتباس مقصود: لأن الخلق يصارع القَدَر، كما أن القَدَر، على الرغم من مظاهره غير العابئة أو قناع اختفائه، هو أيضًا، هو خاصة، هو دائمًا، يصارع الخَلْق.
إن إغراء السهولة الذي تلوِّح به قصيدةُ النثر إنْ هو إلا سراب، أكثر ما يشبه سرابَ الانخداع بسهولة الحرية. ومرة أخرى، لا أستعمل التشبيه مصادفة، بل هو مفروض تبعًا لقاعدة السبب والنتيجة. فقصيدة النثر بنتُ الحاجة إلى الحرية، والحرية النثرية هذه حرية انعتاق من قوالب وحدود أكثر بكثير مما هي حرية قول أيِّ شيء نريد بأيِّ شكل نريد. ولأنها حرية الانعتاق من العبودية، فسرعان ما تلمَّست أشكالاً وضوابطَ من نوع آخر، من صميم التجربة الجديدة، تقيها تشوُّهات الفوضى. ولا أقاوم هنا استعمال تشبيه غريب لمحاولة وصف العلاقة التي تربط قصيدة النثر بصاحبها وصاحبها بقارئه وقارئها بها: أراها علاقة جدلية، سادية–مازوخية، طرفٌ فيها يقسو وطرفٌ يلين.
* * *
ومع هذا، مع هذا، ستظل الأوزانُ المعروفة مرغوبةً لأن إيقاعاتها استراحة للوجدان ونزهة راقصة للذاكرة والقلب، ولأن في إتقانها براعة تنتزع الإعجاب. وكم يحتاج الإنسان إلى الإعجاب بما لا يستطيعه شخصيًّا! ففي هذا ما يريحه في مقعد التلقِّي، يُطرِبُه ويهدهده ويحمله على أجنحة النغم السائغ إلى الضفاف الهنيئة.
ستظل الأوزانُ مرغوبةً وقبلةَ أسماع الكثيرين، وربما الأكثرية، بِمَن فيهم أحيانًا العديد من شعراء النثر. ستظل مادامت الحاجة إلى الرقص المضبوطِ الإيقاعِ حاجةً للذاكرة والحواس، كما هي حاجة للجسد بأعضائه جميعًا.
لا أعرف إنْ كان أحدنا في زمن الاندلاع الأول، أو ردِّ الفعل، قد قال مرَّة إنه يريد بقصيدة النثر إلغاء الوزن. ربَّما. لكنَّ الحقيقة هي أن قصيدة النثر لم يَخْلقْها تحدِّي الإلغاء، بل حاجةٌ مطلقة إلى الانوجاد. حاجةٌ بدوافع وعوامل وعناصر كثيرة، ولَّدها الانفجارُ بين كبت الماضي ونداء الحياة. حاجة إلى التمرُّد الكياني والتعبيري، وحاجةٌ إلى لغة وفيَّة. حاجةٌ إلى نبش تراب الكتابة حتى جذوره الخفيَّة الرطبة في أديم الشعور. حاجةٌ إلى الانبثاق لا تخضع نتيجتُها إلا لامتحان القدرة على الصمود بعد الانبثاق.
هل أردنا، من حيث لا ندري، إعادة ربط صلةٍ ما لا نعرفها بنثر عربيٍّ قديم يقال إنه لم يكن موجودًا، وبعض الظواهر، فضلاً عن عقلنا الباطن، يومئ لنا بأنه كان موجودًا؟ أم كانت فقط حركةَ حداثةٍ صافية، أرادت اللقاء بإيقاعات العصر والعالم، ولم تذكر بعض الجذور المحتمَلة لها في التراث إلا من باب التشنُّع؟
على كلِّ حال، من جهة، كائن مستقرٌّ ومرغوب وشعبي هو الوزن. ومن جهة أخرى، كائن متمرِّد وشقي ومبهم هو قصيدة النثر.
زواج شرعي، في وجهه علاقةٌ غير شرعية.
الحلال والحرام: واحدهما يستدعي الآخر.
الحرام يفقد نكهته الانتهاكية إذا تلاشى الحلال، والحلال يصير موتًا إذا لم يكمن له الحرام.
وهكذا نحصل على نوع جديد من التعايش الأدبي نستطيع أن نسمِّيه تعايش الخير والشر، الجريمة والعقاب، آدم القانع بمصيره، وآدم الآخر الرافض مصيره، وطبعًا حواء، الزوجة العاقلة، وحواء الأولى، ليليت العفريتة، المتمرِّدة التي فضَّلت حرية اللعنة، أو لعنة الحرية، على دموع الاستقامة وقداسة الأمومة وتاج الآخرة.
* * *
أيُّها الكرام،
هل يكره الخالق الخليقة؟ إذا أجبنا عن هذا السؤال بنعم، نفهم لماذا الموت. إذا أجبنا بلا، يتعاظم اتهامُنا للخلاَّقين: فإنْ كانوا يحبون خلائقهم فكيف يتركونهم يموتون؟! وإنْ كانوا يعجزون عن حمايتهم فلماذا يخلقونهم؟!
وقد يكره الخلاَّق خلائقَه لسببين على الأقل: الأول حسدًا منها إذا رآها وقد ابتهجت بوجودها أكثر مما يحتمل، والآخر تبرُّمًا منه بالمقلِّدين إنِ اعتبر أن مخلوقاتِه تستنسخه.
والخلاَّق معذَّّب في كلِّ الأحوال. فإنْ هو لم ينجب سلالة، يُصلَب على عزلته. وإنْ أنجب، يُصلَب على حرمانه صفةَ الوحدانيَّة.
وخلاصُه ما كان سيكون إلا ببقائه مغلقًا، يُعفيه عقمُه من النَدَمَين.
* * *
كلُّ تكوين إنما ينبثق من حلم. وما ينبثق من التكوين قد لا يكون حلمًا أو تحقيق حلم. ومرَّات، من التكوين تنبجس الكوابيس. وذلك هو أحد آلام الأحلام. الحلم كالحرية كالحبِّ: إما تأخذ به وبكلِّ نتائجه، وإما تعتذر منه وتستقيل. الحلم لا يرحم. ولستَ أنت مَن يحدِّد ثمنه. لا أعرف مَن. ولكن لستَ أنت.
لا يقتحم أحدٌ ميدانًا إلا وفي قرارة نفسه رغبةٌ بأن يكون البادئ والخاتم. حتى ولو تظاهر بالعكس. أتحدَّث هنا عن الخلاَّقين، لا عن الأنواع. الأنواع تتعايش، ولكن بذكائها الخاص، لا بإرادة خلاَّقيها.
أفظع ما في الأمر ليس مقدار التبجُّح ولا شغف السلطة ولا حمَّى الإلغاء عند الخلاَّقين. أفظع ما في الأمر أن القَدَر يشاء، بين مفترق وآخر في التاريخ، أن يحقِّق بعضُ المقتحمين هذا الحلم، وغالبًا بعد موتهم، فيكون للبشرية، مثلاً، سوفوكليس وأفلاطون وشكسپير ودانتي وميكلانجلو وداڤنشي وموتسارت وڤان غوخ وبيتهوفن وبودلير ودوستويڤسكي ونيتشه... هؤلاء، وغيرهم من طينة مشابهة، حلموا وكوَّنوا، وإنْ كانوا قد تركوا الحلم مفتوحًا فإنما أغلقوا التكوين. كيف؟ بوحشيَّة إبداعهم. وحشيَّة ترغب في التقليد، ولكنها لا تقلِّد. وحشيَّة طبعت الزمنَ كما طبع الإنسانُ الأول الأرض والبشر حين انبثق. ونحن، إذ نغبط هذه الوحوش الذهبية الإلهية، فليس فقط لتركها لنا جمالاتٍ توقف قليلاً سيرَ الموت فينا، بل لأننا نحبُّها أو نكرهها ولكننا لا نستطيع أن ننتسب إليها إلا كعشَّاق أو كارهين، لا كأنداد، ولا حتى كمقلِّدين.
ولكن أنَّى لنا، نحن الأقزام، مثل هذا المصير الرائع المروِّع؟ لقد حُكِمَ علينا، وقد سربلونا بتسمية "الروَّاد"، أن نفتح الأبواب ولا نستطيع إغلاقها. هل يؤلمنا هذا الوضع؟ يؤلم بعضَنا بالتأكيد، إذا توكَّلنا على نوازع النرجسية. ويؤلم بعضَنا الآخر إنِ اعتبرناه، أو اعتبر هو نفسَه، المرجع الأكبر. وفي هذا ما فيه من أنانية الأبوَّة التي لا ترى خيرًا في الأبناء إلا لأنهم يذكِّرونها بنفسها، وهي كانت تريد لنتاجها أن يكون مستودعها الأخير. وضعٌ مؤلم لِمَن ينسى أنه هو أيضًا كان طارئًا ودخيلاً قبل أن يغدو مقيمًا وأصيلاً. ومؤلم لِمَن يكره العودات، ولِمَن يكره البدايات إلا على يد ذاته، ولِمَن يكره أن يضيف إليه أحد – فكيف بِمَن يتجاوزه أو يطويه؟!
هذا الوضع المؤلم، أنا شخصيًّا عرفتُه. عرفتُه من زمان. ويومها لم أكن قادرًا أن أحبَّ من الشعراء والأدباء إلا مَن لا يشبهني في شيء. كنت أغترب بواسطتهم. أهرب. كان ذلك علامة مألوفة لدى جميع كارهي ذاتهم.
لم أنقلب من هذا الموقف إلى عكسه. كلُّ ما حصل هو أنِّي، بالإضافة إلى استمتاعي بقراءة اللامشابهين، تعلَّمت أن أكتشف: أن أكتشف جميع مَنْ تتاح لي مطالعتُه من دون حبٍّ جاهز ولا بغض جاهز، بل بملاءة ذهنيَّة ونفسيَّة يطغى عليها ميلٌ إلى الإعجاب وتعطُّش إلى الفرح بالموهبة أو النبوغ فرحي بالنعمة وكأنَّها مُنِحَتْ لي.
نحن الأقزام، هذه مكافأتنا. نجدها هنا، على حياتنا، وفي أبنائنا وأبناء سوانا ممَّن تخطَّانا بعضُهم. ونريد لغيرهم لا أن يتخطَّانا فحسب، بل أن يدفننا دفنًا ذات يوم.
* * *
شيء يجعلنا لا نرغب في القيام من أمام فيلم سينمائي، من أمام شريط متسلسل لا ينتهي إلا ليبدأ تخديرُ شريط جديد واستسلامُنا الكلِّي إلى براثن أحضانه.
عندما كنتُ طفلاً، كنت أبكي في صالة العرض حين ينتهي الفيلم، وأتشبَّث بالمقعد رافضًا الانصراف، ظنًّا منِّي أن بقائي سوف يعيد الحلم!
هذا الحلم هو نفسه ما يَعِدُنا به الفن، والشعر، وما تعطينا إيَّاه السينما بسخاء لا يكدِّره أبدًا طابعُها الصناعيُّ ولا حسابُها التجاري. هذا الحلم، هذا التهرُّب من قَدَرنا ورعبنا، طلبناه من الشعر، كما طلبنا منه أن يكون سلاحنا عند الاضطرار إلى المواجهة مع تلك الوحوش أو أولئك الآلهة. كلا الفرار والصراع هما في أساس قرعنا لأبواب النثر. لقد كانا كلاهما منذ فجر التعبير، طبعًا. ومنذ فجر التعبير وأساليبُ هذا التعبير تتحرَّك وتتغيَّر تبعًا للحياة. وهذا هو أيضًا ما أحسسنا بالحاجة إليه في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، عندما راحت نداءاتُ الداخل وعواملُ الخارج تستحثُّنا على اكتشاف أثوابنا الجديدة، وصناعة مفاتيحنا الخاصة، والدخول بخُطانا نحن، لا بخُطًى مستعارة، إلى حقول لم نعرف، والأمل أن نظلَّ لا نعرف، أين تؤدي، شرط أن يبقى الدافعُ إلى السير عليها هو تلمُّسُ لحم الروح، وتجرُّعُ شراب لحظةٍ تُصعِدُنا كالأولاد العابثين فوق ظهر الموت، وعدمُ إحناء الظهر وحسب، بل الظهر والرأس واللغة والأرض، إلا لشيء واحد، لشيء واحد يتكرَّر ولا يتكرَّر، يتكرَّر ويظلُّ معلومُه مجهولاً، يتكرَّر ويظلُّ هو المفاجأة، شيءٍ واحد يضع حدًّا لحرب الخير والشر، شيءٍ واحد هو فضيحة الفضائح وشريعة الشرائع، شيءٍ واحد أجمل من الجمال، شيءٍ واحد هو الحب.
* * *
كان غوته يقول: "الشعر هو الخلاص." وقال دوستويڤسكي: "الجمال سيخلِّص العالم."
هذا السباق إلى الخلاص، أريد أن أختم تحت رايته.
وبعيدًا عن الأنواع والأجناس، ومعارك القديم والجديد، وجهود المعبِّرين في البحث المتواصل عن لغة أكثر أمانة في تقمُّص التجربة، اسمحوا لي أن أعقد أمنية.
أنا، صاحب الهدم والصلاة، أتطلَّع، وقد أَضنَيتُ وأُضنِيتُ، إلى كتابة تشفي.
لا أقصد كتابةً تُلهي، وأنا أحبُّها، وفي مرحلة طويلة ما هربت إلا بها.
بل أقصد الكتابة التي تشفي، التي تُنقذ، التي تخلِّص، كما تشفي المعجزةُ وتنقذ وتخلِّص.
لا أتنكَّر لكتابة الغضب واليأس، ولا لكتابة الهدم والإطاحة، بل أتبنَّاها، وأنا من جنودها، وسوف تظل، كما تظلُّ كلُّ كتابة صادقة وحيَّة، ضروريةً ضرورةَ الحقيقة وضرورة الحياة وما فوقهما.
لا تنكُّر ولا انقلاب، بل إضافة. إضافة نعمة. نعمة تنير الليل الكوني كما تنير الليل الفردي.
إن للبشر في ماضي الكتابة روائعَ حقَّقت معجزات.
والكلمة في الأساس معجزة.
وما أتمنَّاه هو أن يستعيد الكاتب، شاعرًا كان أم روائيًّا أم فيلسوفًا وناقدًا وخطيبًا، أن يستعيد لا سلطة التكوين التي هي له فحسب، بل سلطة الشفاء من أمراض الوجود.
في مطلع الألفية الثالثة، وعلى هامش حديث الشعر الذي هو جوهري دائمًا، ومن هذا المنبر العريق في التفاؤل، أدعو الكتابة إلى وليمة.
إلى وليمة القوَّة التي تغلب البؤس، تغلب اليأس، تغلب العجز، وتغلب الاختناق.
إلى وليمة الخلاص بسحر المعجزة الشعرية.
والمعجزة، أيها الكرام، هي دائمًا شعرية.
فـلنَـقُلْ
أنسي الحاج
هل الانقسام العمودي صفة لبنانيّة دائمة؟ لا نعرف كيف كان وضع هذه البلاد قبل المسيحيّة والإسلام ولكنْ بعدهما يبدو ان الانقسام بات قاسماً مشتركاً. عندما نتكلّم باعتزاز عن محطّات في التاريخ، توحيديّة، أو وحدويّة، يحتقن كلامنا مثلما يفعل عند استعراض الاستثناءات. فخر الدين الثاني ــــ الذي حايل الباب العالي ووسع حدود لبنان على نحو خرافي، فاستعاد الخريطة الفينيقية ومهّد للبنان المستقبل، كما يقول جواد بولس ــــ لم يتمكن من التغلب كلياً على الانقساميين في الداخل. عيوننا على الخارج وليست فقط عيون الخارج علينا.
كأننا فُطمنا عن استعماراتنا على جوع. إذا لم يأتِ الخارج الينا نذهب اليه، وليس بالضرورة كعملاء بل أحياناً كطالبي إنقاذ خالصي النيّة. وسواء كان الخطر مبالغاً فيه أو واقعيّاً، فحالة الهلع التي يوقَع فيها المستنجد لا تعود قابلة للنقاش. نلجأ الى الخارج لأنه بالنسبة الينا هو «الدخل المثالي»، هو نحن الفضلى وقد اغتسلتْ من كره الذات وارتاحت من الطرف الآخر. لعلّ بين المستعمرات السابقة من يشبهنا، ولكن لا أدري إن كان بينها مجتمعات موزاييكيّة بقدرنا، دينياً ومذهبياً و«انتماءً» ثقافيّاً.
وبين المجموعات اللبنانيّة من هو أكثر من الآخرين ضياعاً بعد زوال «الاحتضان»، لعل المسيحيين في طليعتهم، وقد اهتدى السنّة الى «لبنان أولاً» والشيعة الى لبنان «الجديد» عبر إيران.
■ ■ ■
صدورنا أكبر من هوائنا. وما ينقصنا في الحكمة السياسية نعوضه بشراهة الحياة، لعلنا ننقسم (طائفياً، مناطقيّاً، عائليّاً، حزبيّاً، زوجيّاً) لأننا نكره رتابة الانسجام. عدونا المشترك هو الملل. شعب وجودي لا عرقيّ. عرقيّ في وجوديته. بلد ميكروسكوبي يُهدي دمه إلى العالم على الدوام.
يخطب ودّ العالم والعالم يَغْنم منه ما يناسبه. جرّب اللبنانيّون أنواعاً عديدة من الحروب بينها الانتحار. وبرعوا وربما طويلاً قبل الحكم العثماني بالوقوع في فخّ الصيّادين، وتسمية انتحاراته تسميات بطولية كما حصل عام 1975. ولعل إخواننا السوريين نجحوا في اصطيادنا أكثر مما نجح جيرانهم الأتراك. وأيضاً منذ ما قبل الأتراك، ومنذ ما قبل المسيح. دم يهدى الى العالم والاقربون أولى بالمعروف. وهل الأميركي أحقّ من السوري والايراني؟ والآن يعود الأخ السعودي بزخم أقوى من زخمه في اتفاق الطائف، وقد أضاف إلى أدواته المستعارة أسنانه الطبيعية.
من «مميزات» الأنظمة العربيّة (منذ ما بعد عبد الناصر خصوصاً) انعدام الفرق بين مواقفها والمواقف الأميركية من القضايا العربية، وصعوبة التمييز بين سياساتها وسياسات إسرائيل على الصعيد ذاته. اعتدنا وصف السياسة الأميركية باللا أخلاقية، بالسينيكيّة. وهي كذلك. ومن سخريات التاريخ أن جورج دبليو بوش قد يكون المسؤول الأميركي الوحيد الذي خرج عن نهج تلك السياسة، بدافع من أصوليّة ساذجة وسذاجة أصوليّة، وبسبب استسلامه لعقول مديري سياسته المعروفين براديكاليتهم. تبدو إيجابيات سلوك متطرّف كهذا حيال قضايا كالقضيّة اللبنانيّة حيث الضحيّة باتت تحتاج إلى نصير «جهنمي» لينتشلها من ورطة جهنميّة. وقد انسحب التأييد الأميركي لاستعادة لبنان استقلاله على الأنظمة العربية «المؤيدة» لأميركا فبدت مأساتنا، لوهلة، كأنها وجدت مفتاحها. وسرعان ما استأنفت السياسة الأميركيّة تلاعباتها (من يصدّق أن التحقيق في اغتيال الحريري لم يستطع بعد أن يعرف مَنْ وكيف ولماذا؟ من يصدّق أن أميركا مع تحديث المجتمعات العربيّة لا مع تحكيم أنظمة إسلامية في رقاب الناس؟ كف العفريت هي كف الجميع، أميركا و«جامعة عربية» وأوروبا، حيال بلداننا التي تتخبط).
■ ■ ■
تبدو الأزمنة الحديثة وقد ساوت الأمور في سيّئاتها ومرات لم تساوِ إلاّ بين السيّئات. كنّا نتوجّس من جمود «الموقف العربي» حيال مشاكلنا وبتنا نتوجّس من «تحرّك» هذا الموقف، وحين ينبري أحدهم لانتقاد السياسة الأميركية أصبحنا عوض التفاؤل أو الاعجاب، نتساءل: أي بلد من بلداننا سيكون ثمن المقايضة هذه المرة؟ وحين يؤكد لنا المسؤولون العرب أن مشاكلنا داخلية وحلولها يجب أن تكون داخلية نعلم علم اليقين أن التلاعب الخارجي بنا مستمر ومساعي التلاقي الداخلي ممنوعة أيضاً.
ليس لبنان وحده بحاجة الى ميثاق اجتماعي جديد لا يعالج إجحافاً بإجحاف كما فعل اتفاق الطائف، بل دول العالم العربي كلّها بحاجة إلى مثل هذه المواثيق، فلا تستطيع دول تشكو ألف علّة في طليعتها الطلاق بين النظام وشعبه أو الطلاق بين الشعب والعقل والحياة، أن تداوي علل الآخرين.
أحد أسباب الانهيار العربي انهيار الرأي العربي. ومن أسباب الانهيارين التراجع أمام المال والبطش. ما عجزت عنه الرشوة تَكَفّله القمع، الحرب على لبنان منذ 1975 هي حرب على النزاهة فيه قبل الحريّة. كثيرون من دعاة الحريّة استسلموا للمال (الخليجي وغيره) كما استسلم كثيرون من دعاة الشيوعيّة والقوميّات لبريق المناصب والجاه. وهي ظاهرة عالميّة لا محض لبنانيّة. لكن النزيه يصمد عادة أكثر من «خطيب» الحريّة. ربما لأن في طبيعة النزاهة مثاليّة مفتونة بإخلاصها، بينما الحريّة في طبيعتها متساهلة، وبعضُها لا تبعُد طريقه عن الاستهتار، ولا سيما عند ذوي الانانية التي سرعان ما تبرّر خياناتها بـ«غدرات الزمان».
لم تعتد أنظمة المال أن تسمع إلا نغمتين: التهليل والتهويل. وغالباً ما يبدأ العزف بالثانية لينتهي بالاولى، على أن يظل سيف الاولى مُصْلتاً حتّى لا تنسى اليد المعطية استحقاقات
العازفين.
عرفنا العديد ممن كانوا يتكبّرون على مدّ اليد إلى «المال العربي» يوم كان يشتريهم مال من جنسيات أخرى، وحين انحجب عنهم أو شحّ أو اتسعت رقعة «نفقاتهم» خربوا الأرض لتشملهم عباءة الاحسان النفطي بنعمتها. هي أو وكلاؤها من أهل البلاد، أو الينبوعان معاً.
والحقيقة أن مال النفط لم يُفسد إلا من كانوا في الأساس متعطّشين للفساد، والفرق بينهم وبين سواهم هو في المنافسة وفي نوعية القشرة التي تُغطّي، فبعض القشرة بلدي وبعضها
«سينييه».
ويجب أن تُفتح هذه الصفحة قبل أن يتم تصنيفها نهائياً من المسلّمات وتوضع على رفّ الأمر الواقع. صفحة شراء الذمم، تمويل الحروب، رعاية التعصّب و«الاعتدال» معاً، رفع سعر الشيء أو الحزب أو البلد لتحقيق المزيد من الربح عند بيعه، تحويل التسوّل إلى سبيل وحيد للإنقاذ، الحلف الموضوعي بين المال والارهاب، دولاً ومؤسسات وأشخاصاً، القدرة المالية العربيّة على إلغاء الأميّة والفقر والفرقة في العالم العربي وربما في العالم كلّه، وأسباب امتناع هذا المال عن تطبيق هذه القدرة.
لو كانت سوريا على حدود الخليج لا على حدود لبنان لتغيّرت الحال. لو كانت إسرائيل على حدود الخليج لا على حدود سوريا ولبنان لتغيّرت الحال.
لكن الحال هي كما هي. لا يبقى لنا إلا القول.
فلنَقُلْ
تعـالَ ومعـك هدايـاك
أنسي الحاج
يستعجل اللاحقون دفن السابقين.
إنّها السلطة، في الأدب والفنون والأديان أيضاً. تقول خرافة شائعة إنّ الحضارة تَواصُلٌ واستمرار. ولكنّها خرافة. يرثُ الحاضرُ الماضي شاء أم أبى وليس في الغالب من باب الوفاء. وتَراها وراثة ووراثة. ولم يرث حقّاً إلّا مَن غار الإرث فيه غَوْر الليلِ في مجهوله.
على أنّ اللاحق ليس دوماً جديداً ولا بالحتم مجدّداً وإنّما يأتيه ذلك بتلاقي الضرورة والموهبة، والتاريخ والقَدَر، واللحظة والشخص.
ولا يكفي اللاحق أن لا يقلّد السابق، بل زد انوجاد اللاحق في زمنه انوجاد مَن يَقْطع مع السابق ثائراً غازياً أو مَن يَصل الأوقات وَصْلَ الملخّص لها والمتقدّم إلى الأمام منها بقدراتٍ هَدْميّة وبخَلْفيّة تُوجِدُ العَدَم.
ليست البداية مشيئة محض فرديّة ولا محطّة زمنيّة تعقبها محطّات. وليست الريادة طلائع وموجات بل هي بداية «وكأنّها» من صفر. بداية في غير معنى المتابعة والإكمال، فليس للفجر متابعة وإكمال، وكلّ فجرٍ هو البداية. بودلير رائدٌ دائم. مثله رمبو. قبلهما شكسبير. في العربيّة جميل والمتنبّي وابن الرّومي وأبو نواس. في الأغارقة هوميروس وأخيل وأوريبيد وسوفوكل وهيراقليط. في الفنّانين ميكل أنجيلو ورافاييل وباخ وموزار وبيتهوفن وفاغنر. غداً مَنْ؟ ثمّة في الغد روّاد هم في الحقيقة أصحاب الزمان لا أمس ولا اليوم ولا غداً بل في المسامّ والعروق والحواس والمعتركات.
ثم فيمَ التسابق على صفة الريادة وليست هي المرام _ إن يكن مرامٌ _ بل لحظةُ استحضارِ الحياة استحضاراً أقوى، استحضاراً يجدّد التعلّق بها؟ أليس هذا هو الأدب والفنّ والفكر والجمال؟ إنْ لم يكن هذا فما هو؟ وما التجديد وما شرعيّته إنْ لم يكن تنفيض الحياة؟ وهل غير بَعْث الحياة اسم للإنسان؟ فكيف بالخلّاق؟
في ضوء هذه المعاني _ التذكيرات لا يبقى لاصطراع الكلمات غير طنين الألفاظ الخاوية. كلمات «حداثة» و«تقليديّة» و«ريادة» و«اتباعيّة» و«طليعيّة» و«سلفيّة» قد تؤدّي دوراً في مرحلةٍ من مراحل النطق التغييري، ولكنّها ملتصقة بالأحوال التي أمْلَتْها وليست «شعارات أبديّة». من الواجب على كلّ زائر أنْ يُطلّ ومعه هداياه، أو أن يأتي فارغ اليدين مليء المهجة فتكون تقدمته مفاجأة أكبر. ليس الأدب صراع نفوذ بل نفوذه من انبلاج إشعاعه ولا شأن لعضلات «السلطة» وحِيَل الشطارة ووصوليّة النرجسيّة في إرساء «قيمةٍ» أدبيّة. ومهما يكن ذكاء المتعطّش شديداً فلا نفع منه في الحلول محلّ الأثر، يكون أو لا يكون. وليس هناك «أَدوار» فيأتي الواحد في أعقاب الآخر. لا ديموقراطيّة في الأدب. وإنّها لتدوم لغيرك وقد لا تؤول أبداً إليك.
الموضوع لم يتغيّر حرفٌ من سرّه منذ أوّل تصوير على أوّل جدار. أحبب وافعل ما تريد، يقول أغسطينوس. كنْ واكتب. كنْ ولحّن. كنْ وصوّر. كنْ، أيْ ذاتك أَطعمْ يديك. وليست العبرة في تراكم الخبرات وحده بل في عظمة التراكم في الذات، وربّ مراهقٍ أو طفلٍ بذي عصور.
عنف الداخل يفرش الخارج. يقتحم الدار ويفرض الصمت والإصغاء. عنف الدفق المكبوت يجيش ثم ينبجس فيرسم حوله دوائر الفراغ والترقّب والدهشة والصدمة والنفور والانذهال والحبّ. كلّ لحظة من هذا النوع هي فلذة أَبَد. وعلى قلّتها في التاريخ، فكلّ واحدةٍ منها تبدو أكبر من التاريخ، مع أنّه أطول منها بكثير، ولكنّها هي لحظة الحياة، اللحظة الإلهيّة في الحياة، اللحظة الأمّ، التي يؤلّف مجموعها القصّة السريّة والخلْفيّة والعليا لعظمة الإنسان، بل لما هو أنبل من عَظَمته ومن أيّ عَظَمة: لجمال يديه.
■ إيذاء
لا نرى كلمة «إيذاء» متداولة. القاموس يذكر الأذى والأذيّة. ألْحَقَ الأذى. القرآن يعتبر الأذى ضرراً خفيفاً. الجميع يورد: أساء، أضرّ، الإيذاء مستهجنة. ومع هذا يقهرنا المعنى على إدخال الياء بعد الألف توكيداً للوجع. الحَقَ الأذى مثل رشرش الملح. بعض
الملح.
المؤذي مؤلم، لا ذلك الشاهر الأنياب فحسب بل خاصّة المرسال الذي يتوسّله القَدَر للهدم وهو ساهٍ عن القَدَر.
لكن... أحقّاً لا يعرف وسيط الشؤم أنّه يبذر فتنة؟
■ الإنسان الكامل
الإنسان الكامل، في مفهوم الفكر الباطني، هو الذي انتقل من طور العالَم الأصغر الموجود في الإمكان (الكون مختزَلاً في إنسان) إلى طور العالم الأصغر (ميكروكوسم) الآخذ في الفعل. لقد أصبح الخلاصة التامة والفاعلة للعالم. يقول الجرجاني: «الإنسان الكامل هو التقاءُ جميع العوالم الإلهيّة بالعالم الطبيعي، والعوالم الكونيّة وتلك الجزئيّة. إنّه الكتاب الذي تجتمع فيه كلّ الكتب الإلهيّة والطبيعيّة (...) الروح الكونيّة هي قلب العالم الكبير كما أنّ الروح العاقلة هي قلب الإنسان، ولذلك يُسمّى العالم «الإنسان
الكبير»..».
عابـــرات
رأيتُ الجانب الجوهريّ في استرجاع الوقت الضائع عندما ركض شخصان هذا من أوّل رصيف القطار وذاك من آخره وارتميا واحد على الآخر وأجهشا بالبكاء.
■ ■ ■
أين هو أيضاً الوقت الضائع؟ هو في عرقلة أحلامنا لأفعالنا.
■ ■ ■
لماذا الحبّ حَدَثٌ خارق؟ لأنّه يتألّف من مستحيلين: رغبةٌ ستجد نهايتها قريباً، وطرفٌ آخر لم يعرف بعد حظّه فيك.
■ ■ ■
عندما أتحامل على الحبّ لا أشعر أنّي أظلمه بل يحبطني عجزي عن المضيّ أبعد في التحامل.
■ ■ ■
كلّنا جرحى الوجود، وأحياناً الشاعر يتقدّم الآخرين، لا لأنّ جرحه مميّز، بل لأنّه يتميّز عن سائر الجرحى بتطلُّعٍ نحو عالم أكثر رحمة. هذا التطلُّع هو الشعر. لا يختلف شعرٌ عن شعر إلّا بهذا التطلُّع، وبزرقة الطفولة الصامدة وراء جهاد هذا التطلُّع.
ملامح امرأة صاعدة
أنسي الحاج
جميلة وفي جاذبيّتها طَعْم الحتميّة. قويّة وتوظّف كلّ قوّتها في طموحها.
■ ■ ■
الجهد، التنفيذ، النجاح.
وبفضل خيطٍ من الشكّ في نفسها، صادقة وفاتنة، وينطبق عليها وصف «فام فاتال».
■ ■ ■
ترغب في الحميميّة رغم حَذَرها. وما إنْ تبدأ بالحصول عليها حتّى تهرب.
■ ■ ■
تبدو جذورها أقوى منها، لكنّها الجذور المحدودة بالعائلة والمنشأ. جامعةً في أعماقها بين القدرة على الحبّ وخزائن من العزلة. وهذه الحَذِرَة مثل كرّاز الماعز عند تسلّقه الأعالي، تجازف أحياناً بأمانها لعيش لحظاتٍ شبه حاسمة.
■ ■ ■
تعصف بها الأحلام وترفض أن تتعثّر. وإذا رفضت الحبّ فلأنّه بدون ضمان. امرأةٌ صلبة وخائفة.
■ ■ ■
خوف، خجلٌ عميق، حذرٌ دائم من دوافع الآخرين. كلّ هذا إلى جانب قدرةٍ على الحبّ والولاء، ومحاولاتٍ لا تكلّ للسيطرة على العلاقات والتحكّم فيها. وغالباً ما تجد صعوبةً في إقامة توازن بين الارتباط والاستقلال.
■ ■ ■
امرأةٌ خُلقت لتتسلّق. الصاعد ألدّ أعدائه الخوف وأخلص أصدقائه الحيطة.
■ ■ ■
ما الذي يجعل امرأةً كهذه حرّة؟
كونها تستعصي على التدجين. امرأةٌ بَريّة.
■ ■ ■
بخل العواطف يُقوّي. إنّه فولاذ الروح، ترْس القلب. لا شيء يخترق هذا الحاجز. لا الحاجة ولا الحبّ. قد تخترقه الشفقة لحظة وسرعان ما يهبّ النسيان.
■ ■ ■
امرأةٌ كرَجُلٍ لا يفهم المرأة. امراةٌ يهمّها الانسجام مع نفسها قبل أحد آخر. عاجزة عن التعاطف مع عذاب الآخر كعجز رجلٍ دانت له فريسته، ولما حاسَبَتْه تَصرَّف باستخفاف مَن نسي كلّ شيء.
■ ■ ■
كأنّها تنصح لك أن تكون مقهوراً «من أجلك»!
■ ■ ■
حذار! إذا عرفكِ الرجل جيّداً _ ينطبق هذا على كل امرأة _ لا يعود قادراً على اجتياز البقيّة الباقية من المسافة.
■ ■ ■
الطَموحة الصاعدة تعتقد، عن حسن نيّة، أنّ لها المستقبل. المستقبل للجميع وليس لأحد. الحاضر لنفسه. الماضي وحده لنا.
■ ■ ■
الرجل يفضّل في المرأةِ ضعفاً ولو اختبأ أمام القوّة. الضعف مفتاحٌ ذهبيّ.
■ ■ ■
نصيحة امرأةِ الطموح والصعود أذكى النصائح ويستحسن الإصغاء إليها، خصوصاً على الصعيدين الواقعي والعملي. في المقابل تحتاج هي إلى مَن ينصحها في بعض المنعطفات الأساسيّة، لأنّها لا تُقدّر أهميّة ما يُعرض عليها ولا أهميّة ما تُفوّت.
بعض النساء لا بدّ أن يفعلن شيئاً يوماً من الأيام يُفقدنا إعجابنا أو احترامنا لهنّ.
امرأةُ الطموح والصعود ترتكب ما يجعلك تخشاها لا ما يجعلك تحتقرها.
■ ■ ■
كان بلزاك يقول إنّ المرأة عبدةٌ يجب وضعها على العرش. امرأةُ الطموح والصعود، ربّما عرفت «القبول» موقّتاً بمزعجات أو ضواغط، لكنّها لم تعرف العبوديّة. لا تلبث أن تتخلّص وتمشي واثقة إلى العرش وتجلس عليه دون استغراب أحد.
■ ■ ■
تدير ظهرها إلى ما لم تعد تريد، مسرعةً كأنّ السيّارة ستقلع بدونها.
الطموح يتحدّى مَن هم فوق، والصعود لا ينظر إلى مَن هم تحت.
■ ■ ■
تندم أنت على تعنيفها ندمين: واحداً عن نفسك وآخر عن عدم شعورها بالذنب.
■ ■ ■
نظرتها واقفة وهادئة. كلّ محاولة لحملها على الانفعال أو ردّ الفعل منذورة للفشل. «التمثيل» مهما كان ذكيّاً يتركها لامبالية. المظاهر (والمجتمعات الحديثة مجتمعات مظاهر) لا تعنيها، لأنّها تُشعرها بمحاولة سلب ذاتها الحقيقيّة.
■ ■ ■
إذا سخرتْ، فحتّى في سخريتها حياء.
■ ■ ■
كأنّها آتية من الصقيع، ومعها الهواء النقيّ، والعفويّة. وكلّ يوم تستدعي ذاتها فترجع هذه إلى الحظيرة. وهذا من فضائلها الكبرى.
■ ■ ■
قد يصدف لامرأةِ الطموح والصعود، بحكم توازنٍ خفيّ للقوى، أن تذهب إلى حبيبها بدافع الشوق والفضول، بينما يذهب إليها _ مع أنّه يحبّها فعلاً _ هرباً من حزنه وضجره.
■ ■ ■
تأخذ الشفقة بساعد الحبّ وقتاً يتوقّف عمره على حرص المرأة وعلى مدى تناغم الرجل في تجاوبه وإيّاها. غالباً، ولا أقول دائماً، إذا عرفت المرأة أن «تُعلّق» الرجل بحبائل الشهوة مع حنانه وخوفه عليها إلى حدود الشفقة (بمعنى المحبّة القصوى) استقرّ الحبّ الى الأبد. على الأقل من جانب الرجل. شفقة + شهوة = كلّ ما يريده الرجل من امرأةٍ تقيم أو تريد أن تقيم معه علاقة. علاقة مركّبة من هذا المزيج قد لا يحتملها الرجل المتوحّش، وهي ليست وصفة إلّا للمرأة. الرجل نادراً ما يعبأ بالشفقة، أمّا الجنس فهو متاح له أكثر ممّا يستحقّ.
■ ■ ■
إذا لاح شيء ولو زهيداً من كُمٍّ فوق ركبتيها، وإذا حصل فخاطفاً، يشعر الناظر إليه أنّه ينظر إلى نهوض ذكرى بيضاء من الأعماق الدفينة. بَشَرتها قوطيّة (غوتيك) ونقاؤها نقاء الأحياء المحفوظين في قوالبهم.
■ ■ ■
هذه رسالةٌ إلى المرأة المكتوب عنها. قد تقرأها وقد لا. وإذا قرأتْها فمن غير المستبعد أن تقول: «مَن هذه؟». ولن تجانب الصواب. فالسطح منها لم يظهر هنا، لأنّ جماله ليس موضع بحث. أمّا دخائلها وقد حاولتُ النظر إليها، فأنّى لي، وقد فارقني العزم على الكشف، أن أسبر غورها، فلا يبقى سرّ إلّا جاءني؟
وستقولين في نهاية المقال: حتّى أنت لا تعرفني.
■ طيف دو فونيس
جدلٌ على التلفزيون الفرنسي حول مسرحيّة «فنّ الضحك» المعروضة في مسرح الشانزيليزه. يحاول الممثّل إضحاك الجمهور بأساليب بائخة يشرح له بها كيف يضحكه (وهو لم يضحكه). جدلٌ تخرج منه خائباً من الهبوط الذي وصل إليه المسرح الفرنسي.
ضربت الأهداف التجاريّة الأرقام القياسيّة في التسويق للتفاهة والتضجيج حول الفراغ.
لو مرّ طيف لوي دو فونيس مروراً لثانية أمام أو وراء هذا التصنُّع المضني لفجّر الضحك وكان مروره كافياً لإفهام الشارحين الفاشلين ما هو الكوميك وأنّه، عدم المؤاخذة، موهبة.
الانذهال الفرنسي بالنتاج الأميركي الموسيقي والغنائي والمسرحي والسينمائي يفسّر جزئيّاً الانحلال الفرنسي حيال ما يظنّه مثقّفو باريس أفضل منهم.
ولو فتحوا صدر كلّ كاتب أميركي منذ إدغار آلن بو حتّى روبرت روث لوجدوا فيه دمى فرنسيّة مهترئة من فرط استهلاكها!
عابرات
الجنس سينتهي. سحرُ المرأةِ لم يعد ينطلي على الرجل. المساواة أَرَتْهُ ما لم يكن يجب أن يرى. مكان الصورة حلّ الزواج. حلّ مكان الحلم الروائح، اللزوجة، كركرة الأمعاء وباقي مفاعيلها، الصُفْرة، البثور، القيح. أصوات قضاء الحاجة. ما اكتشفته المرأة في الرجل هو أيضاً كارثة ولكنّها لم تصبها بالعنّة. الرجل بحاجة، مع المعشوقة، إلى وهمٍ بصلابة الوهم الذي عاش في كنفه عَهْدَ الأمّ.
■ ■ ■
هل بعض المجانين كذّابو جنون كما نَشْتبه، أم هو انطباعٌ يأتينا من غَيْرة تُسبّبها لنا الحالات الوجدانيّة التي يُعقّدنا جموحُها؟
■ ■ ■
لا يتذكّر أنّه قويّ إلّا بعد أن يبدّد قواه في متاهاتِ التوهُّم أنّه ضعيف!