® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11575 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2022-08-30, 9:25 pm | | ديوان الوليمة لأنسى الحاج #أنسى_الحاج
كن أنت ديمومة ذلك الوهم الذي أحْبَبْتُ من أحببتُهم بفضله. ليثبت عليكَ ذلك الوهم
في ظلام النهاية جلستُ أكتب البداية/ في دم الأرض/ غمستُ ريشة السماء/ وأقول للموت الداخل:/ أدخلْ! لن تجد أحداً هنا
رجل يغوص
رأيتُ الرجلَ يصعدهُ الشك كالدخان. رأيته يَقْتلع الظلّ. رأيت الرجل يُنزل وجهه، يُنزل صوته، يُنزل تيّار خوفه. رأيته لا يجد صراخه. رأيت الرجل يغوص في مياه العذاب المنخفضة. رأيته حصاة في ذاكرتكِ. رأيت الرجل عربة لكسلك، عطراً لخيالكِ، نافذة لصباحكِ، وفريسة قاتلة لأحلامك. رأيته يُصعّده اليقينُ كالدخان... («الوليمة» ــ 1994)
كان يكسر الماء
كان هدّاماً قبل أن ينهدم. كان يهجم كالنسر، وحتى النسيم يتفجّر في قبضته. لم يكن يكسر الزجاج. كان يكسر الماء، والقطن، والحجر، والوحل، والأيدي الخفيّة. لم يستطع أحد أن ينتزع من جناحيه ريشة. وهوى. زحف عليه الخوف، فوق الخوف، فوق الخوف. نَخَرته الشفقة. احذروا الحنان! لا تتركوه يلتف عليكم! أيها النسر! ثمّة وردة تنتظرك دائماً، احترس أيها النسر!
(«كلمات كلمات كلمات» ــ 12 شباط 1967)
المتفرّج المجهول
صبرُكِ الجبّار، القدّيس، كيف استحال فخّاً (وأنتَ، لا نهائيتكَ، ماذا تخفي؟ أتكون أنت أيضاً مثْلها؟ مثْلهم؟) هذه السهول الخضراء كيف صارت جحيماً، هذا الهواء كيف صار مَغْرَقاً، هذا الفراغ اللذيذ كيف عجَّ قاعه بالخناجر. لم أكن أعرف. وأنَّ الوليمة التي دعوت إليها بغباوة ألمي، لعنةٌ ودمار. وأن الوليمة التي دُعيتُ إليها هي روحي وجسدي! أيّها المتفرج المجهول على أفعالي، هل يرونك أكثر مني؟ هل يعرفونك أفضل مني؟ أتكون مثْلهم وأكون منبوذك أنت أيضاً!؟ أكثر ما أُحبّ في عينيكَ اللتين لم أرَ، ليس وهج المجد بل عكَر الحنوّ الفائض. لا تُشبه خلائقك، أرجوك. لا تُشبه هذه الليلة، ولا البارحة، ولا شيء. كن أنت ديمومة ذلك الوهم الذي أحْبَبْتُ من أحببتُهم بفضله. ليثبت عليكَ ذلك الوهم! يا إلهي! («الوليمة» ــ 1994)
سِفْر التكوين والهجر
أراكِ وفمكِ الحُرّ، بعيدة. يمرّ دهر عميق ثم أرفع فمك وتمرّ هنيهة مُقيّدة في صُرّة لا أزيح الباب عن قلبي. شفتاي شفة. أيُها المواطن الزّفرِ، إنّك معها! أمرُّ قبل جَرعها أتناول الحبر لأعميك. مُصطفى كي أسْبح فيّ وحدي. دهرُ أبوابك لديّ! يا رجْلكِ ترتع في نظراتي النوّحة، رجلك عند رجليَ كاحتضان! يا رأسك (متى؟) على رأسي! يا هَرَبي يُردُّ إليّ، ينام عليّ... أرقبكِ والضجرَ عارياً. («لن» ــ 1960)
إذا
يبدو أكثر حين يتكلم يُعقَد لواؤه على امرأة سيخونها وتخونه وبثيابه الملمّعة كبعض الرسوم المرسومة للسيّاح يعكس الينابيع صُدفة يستضيفكَ في كوخ الغرائز.
■ ■ ■
إذا هناك بشر يعيشون لن يلتقوه، لكن الذين يعيشون سيتلاقون.
■ ■ ■
تعلّمَ الموسيقى كالجُنديّ كالجُنديّ تَعلّم الموسيقى ليقهر الجُنديّ وعندما قَهَره تعلَّم الجنديّ ليقهر الموسيقى.
■ ■ ■
لن تعتاده معه تهبط شفتاك وتتأخّر عيناك كرجُل يلحقُ امرأة. فحيحُ الطبيعة وأُمّهاتها سيّدات الأشعار وبناتهنّ استراحتْ على صوته واحتَقَنَت به.
إذا صادفتَه اجلسْ معه إنه كليلة ودمنة وملايين الجدّات، على عُنُقه قايين ومن رقبته هابيل وفي حُنجرته ألف ليلة كجَوزة والهند ممتلئة والنيل والطاحون والبُزُق، لا يأكل وحده الرغيف ولا يحادث وحد الأزهار يُسطّر بِحبرِ نَفَسِه بياض المستقبل.
■ ■ ■
ولكنْ إذا أحببتَهُ قُل له إنّك أحببته. («ماضي الأيام الآتية» ــ 1965)
هوية
أخاف. الصخر لا يضغط صندوقي وتنتشر نظّارتاي. أتبسّم، أركع، لكنْ مواعيد السرّ تلتقي والخطوات تُشعُّ، ويدخل معطف! كُلّها في العُنُق. في العُنُق آذان وسَرِقة. أبحث عنكِ ، أنتِ أين يا لذّة اللّعنة! نسلُكِ ساقط، بصماتُكِ حفّارة! يُسلّمني النوم ليس للنوم حافّة، فأرسمُ على الفراش طريقة؛ أفتحُ نافذة وأطير، أختبي تحت امرأتي،
أنفعلُ ! وأشتعل!... تعال أصيح. تعال أصيح. إنّني أهتف: النصر للعِلم! سوف يتكسّر العقرب، وأتذكّر هذا كي أُنجبَ بلا يأس.
■ ■ ■
تُمطر فوق البحر .. أُناديكَ أيُّها الشبحُ الأجرد، بصوت الحليف، والعبد، والدليل، فأنا أعرِف. أنت هو الثأر العائد، صلْباً كالرّبا، فاحشاً، أخرس، وخططي بلا مجاذيف. أُسدِل رأسي على جبيني فتحدجني عينُك الوحيدة من أسغل؛ النهارُ يتركني اللّيلُ يحميك. النهارُ يدفعني «لك الّليل!» فأركض، اللّيلُ رَجُل! أهربُ أين وأنا الأفق؟ ad
■ ■ ■
الحياة حيّة. العين دَرَج، العين قَصَب، العينُ سوق سوداء. عينيَ قِمْع تقفز منه الريحُ ولا تصيبه. هل أعوي؟ الصراخ بلا حَبْل. هناك أريكة وسأصمد.
■ ■ ■
سوف يأتي زمن الأصدقاء لكن الانتظار انتحر. الجياد تُسرع، عَبَثاً عَبَثاً، الخوف رقم لا نهائيّ.
■ ■ ■
السقفُ ينحلّ في قلبي والأرضُ لا مكانَ لها. أُهرولُ وأُقذَف، يكنسني الصدى، صدى! الأرض بعيدة بلا طريق، الأرض تنزل بلا عَتَبة. ad
أُطلَقُ على الهواء، أغرز الهواء بأليافي.
■ ■ ■
بلا تَعَتُّه، الحركة ليست ضدّ اللّيل، الحركة عمياء تَرى باللّيل. قُم! المصباح خادم ويدك خادمة. (أضحكُ منّي) قم! هوذا أنا، الباب يُطرَق. الباب: هنا الموت. وجهُهُ وجه القَدَر وظهرُه الضياع. يُطرَق ولا ينتفض، فهو يبقى.
■ ■ ■
يجب أنْ أبكي. كيف نسيتُ أنّ الدموع تعكّر المرايا؟ المرآة غابة لكنِ الدمعةُ فدائيّ. فلأسمع جلَبتكِ أيّتها الرفيقة! فلأرفع لواءك حتّى تتقطّع أوتار كتفي! تُمطر فوق البحر
لم يعد في العالم دمعة
■ ■ ■
والحزن؟ ما سعر رجل حزين! التغضّن علامة، الغضب إبحار. دُرَفُ الصّرْع تذيع الربيع، وعند الصباح تتعانق المذبحة والظّفَر وحسداً أخْلَعُ وجنتيّ. لكنِ الخوف! ما الخوف؟ لا تبدأ. سأضؤل، وأصمت. جناحك. عينك الأُفقيّة! مولاي: لا! خُذْ قبلي الآخرين!... دم حديث.
في حضوره كما في غيابه، تظل تجربة أنسي الحاج موضع نظر واستعادة وتحليل ونقاش، ويظل هو الشاعر الذي كان أول من نظّر لقصيدة النثر العربية بطريقة متماسكة وقابلة للاستمرار. صحيح أن أغلب أفكار مقدمته الشهيرة لباكورته الأشهر «لن» – وهو أمر لم يكن سراً على أي حال – كانت مأخوذة من أطروحة سوزان برنار ومن شعريات النثر الفرنسي، ولكن حضور تلك المقدمة كمانيفستو عربي أول، ومعها قصائد «لن» التي كانت ترتطم باللغة وتتعارك مع الاستعارات أكثر مما تتألف منهما، منحا أنسي الحاج لقب عرّاب تلك البداية النثرية الشاقة التي تقوّت أكثر بنشوئها داخل مختبر مجلة «شعر» وأطروحاتها الجديدة وطموحاتها الحداثية الحادة. سيظل البعض يُبدّي الماغوط وشعريته اليومية السهلة – الممتنعة على جملة أنسي الاعتراضية والوعرة والمتلعثمة (أنا متلعثمٌ كبير، قال في «لن»)، وسيظل، في المقابل، من ينحاز إلى وعورة الثاني على حساب شفوية الأول، ولكن في الحالتين، لم تُنقص هذه التفضيلات والانحيازات المتقابلة من ريادة الاثنين لقصيدة النثر العربية. الفارق بينهما، حدث لاحقاً، حين وُلدت أجيالٌ متتالية من شعرية الماغوط اليومية أو شعرية التفاصيل، والشعر الشفوي، بحسب ما سماها النقاد والشعراء معاً، بينما لم تجد نبرة أنسي أتباعاً ومريدين بالكثرة ذاتها، بل بدا أن تجربة أنسي باتت منذ بدايتها ابنة نفسها، وبدا الشاعر نفسه في مجاراة مستمرة للغته ومعجمه ومخيلته الشخصية، وبدت قصيدته منطوية على عصبها الأول، وعلى هجومها العاصف على اللغة، وعلى هجرها الواعي للغناء الشعري المنمّق والمائع والساذج، وعلى نأيها عن الجمال الأدبي التقليدي. قصيدة الماغوط حظيت بتنمية مستمرة واستثمارات متوالية، بينما عَصِيتْ قصيدة أنسي على مخططات مشابهة للتنمية والتكييف والاستثمار. ويمكن القول إن ديوان «لن» كان بداية مفتوحة اتسعت لما صدر بعدها. وما صدر بعدها ظل يحوم حول «لن» ويجاورها، ويحفر تحتها، ويتنفس في كنف فقاعتها الأصلية. شعر أنسي الحاج ظل موجوداً في «لن»، وظل مديناً لتلك الباكورة التي لم تفقد حتى اليوم زخمها الرهيب وقيمتها الاقتحامية. الفَزَع الذي أحدثته «لن» كان فزعاً وجودياً خارجاً من فزع صاحبها، ومن ضجره بالجملة العربية الكاملة وهياكلها التقليدية. جزءٌ من قسوة «لن» أنه مكتوب بالتأتأة وأشباه الجمل والسطور المتقطعة والفقرات المبتورة غير القابلة للنمو. حضرت التأتأة والتقطيع والبتر في «الرأس المقطوع» أيضاً، ثم بدا لنا أننا نعثر في دواوينه التالية على جمل تامة، وسطور منتهية، وفقرات كاملة. وهكذا، رأى البعض أن أنسي في «ماضي الأيام الآتية»، ثم «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة»، أنهى تجربة وبدأ تجربة أخرى، وأنه أدخل شيئاً من الغناء والإنشاد والتصوف الإنجيلي في «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، وفيها قال: «أنا الشيطان أقدّم نفسي/ لقد غلبتني الرِّقة». نعم لقد غلبت الرِّقة شيطان «لن»، ولكن ذلك لا يبدو دقيقاً تماماً. جملة أنسي المبتورة اكتملت إلى حد ما، وفزعه الأول سكن إلى حد ما، وعصْفُ لغته هدأ كذلك، ولكن معجمه ظل في طبعة «لن». كانت «لن» شوكة في تجربته وفي تجربة قصيدة النثر العربية كلها. كان في إمكانه تنقيح تلك الطبعة الأولى، وقد فعل، لكي يُوصل روحية باكورته بما جاء بعدها، ولكي يضمن حياةً أخرى لجملته الأولى، ولكي يسلّم «طفولة» لغته إلى شبابها وإلى كهولتها.
ربما كان الأفضل أن نبدأ من مكان آخر، ونحن نستعيد أنسي الحاج في ذكراه الثانية. أن نبدأ من «خواتم» التي أصدر منها كتابين، وواظب على كتابتها أسبوعياً في «الأخبار». أو أن نبدأ من مساهمته الجوهرية في صناعة صورة بيروت ومجدها الذهبي في الستينيات، أو أن نبدأ من طيفه الذي لا يزال يتجول في مكاتب الجريدة، ومن ضحكته المجلجلة في الممر الطويل بين المكاتب، ولكن المشكلة أننا حالما نذكر اسم أنسي الحاج، وهو ما كان يحدث في حياته أيضاً، تحضر معه «لن» وبقية محطات تجربته المتفردة. لقد التصقت به «لن» والتصق بها. أحبّ الكثيرون «ماضي الأيام الآتية»، وتابعت أجيال جديدة من القراء «خواتمه». بين الشعر والخواتم، انقطع أنسي الحاج عن الشعر لفترة غير قصيرة. كانت «خواتم» معبره إلى كتابة الشعر بطرق وتنويعات متعددة. كانت «خواتم» حيّزاً ذكياً وواسعاً لتمرير أفكاره وتأملاته و«عابراته» المكثفة والشديدة الشعرية. في «خواتم»، استعاد أنسي الشاعر الذي في داخله على شكل ناثر مسترخٍ في جملته النثرية أيضاً. وكان لافتاً أنه خلط كل ذلك بالسياسة والثقافة والتعليق اللمّاح على المجريات والأحداث اليومية. واللافت أكثر أن انتظامه في الكتابة الأسبوعية لم ينلْ من فوران جملته ولمعان فكرته وفرادة كلمته الحرّة، ولم ينل ذلك، أولاً وأخيراً، من قدرته على جعل كل ذلك طازجاً ومُعدياً وجارحاً. أنسي الحاج هو ابن «الجملة اللبنانية» في النهاية. نستخدم هذا التوصيف هنا لمدح تلك الخفة و«الشّرقطة» اللتين كانتا تُحركان شعره ونثره وحتى أحاديثه الشفوية. كان أنسي موهوباً كبيراً داخل هذه الجملة، بل كان أحد صانعيها ومطوِّريها الكبار. والأغلب أن جزءاً كبيراً من حيوية تجربته كلها عائدٌ إلى حركية هذه الجملة ورشاقتها وتجدّدها. جملةٌ يمكن بسهولة استدعاء اقتباساتٍ كثيرة من نصوص أنسي نفسها للدلالة على تفوّقه فيها. هناك، في ظلال تلك الجملة، كان في إمكانه أن يكتب في ديوانه «الوليمة»:«في ظلام النهاية جلستُ أكتب البداية/ في دم الأرض/ غمستُ ريشة السماء/ وأقول للموت الداخل:/ أدخلْ! لن تجد أحداً هنا». | |
| |