أنسي الحاج ناثر الدهشة.. وداعًا
الشاعر في هذا الخضم البشري الهادر: هو الذي يتقدم الآخرين
أعد الملف: إيهاب طاهر ومحمد حافظ وإسراء عبد التواب وحاتم السروي
إشراف: سامح قاسم
* أنسي.. الخالق من النثر شعرا
مات من قال عنه الشاعر أدونيس: "إنه الأنقى بيننا"، مات أنسي الحاج رائد قصيدة النثر، الذي عاش مقتنعا بأن كل البشر هم ضحايا وجرحى الوجود، والشاعر في هذا الخضم البشري الهادر، هو الذي يتقدم الآخرين لأنه يتميز عنهم بتطلعه نحو عالم أكثر رحمة، هذا التطلع ليس إلا الشعر، لا يختلف شعر عن آخر إلا بمقدار وكيفية هذا التطلع.
وكما يقول الشاعر" إبراهيم داود" فإن أنسى هو علم قصيدة النثر المبرز فديوانه «لن» «1960» هو الإعلان الرسمي لها، وهو انتفاضة ضد القيد والصرامة، لقد كان طموح أنسي أن يحقق حرية الانطلاق بالشعر العربي إلى فضاءات دلالية ولغوية جديدة، وقد حاول جاهدًا أن يصل إلى الشكل المبتكر الذي تحدث عنه "بودلير" والذي من خصائصه أنه مرن ويتوافق مع حركات النفس الغنائية..
ومنذ ديوانه الأول "لن" مرورا بـ "الرأس المقطوع" و"ماضى الأيام الآتية"، و"ماذا صنعت بالذهب ماذا صنعت بالوردة؟".. حفر "الحاج" مجرى عظيما في ذائقة عشاق الشعر، وأثر في الأجيال الجديدة أكثر من الآخرين، لأنه أخلص لفن الشعر، وأثر أيضا في مهنة الصحافة التي بذل عمره في بلاطها، نثر أنسى المولود سنة 1937، هو فتح في السرد، ومقالاته التي صدرت في ثلاث مجلدات هي مصدر إلهام، وللأسف الشديد لم يقرأ جيدا في مصر، ربما بسبب الخيال التقليدي الذي يدير الثقافة الرسمية، ولكن منزلته عالية عند الشباب الحالم بالتغيير.
أنسي الحاج.. صاحب أول مجموعة نثر في اللغة العربية
أنسي لويس الحاج(1937 -2014) شاعر لبناني معاصر، وهو ابن الصحفي والمتّرجم لويس الحاج،تعلّم في مدرسة الليسيه الفرنسية ثم في معهد الحكمة.
بدأ ينشر قصصًا قصيرة وأبحاثًا وقصائد منذ 1954 في المجلاّت الأدبية..وهو على مقاعد الدراسة الثانوية، دخل الصحافة اليومية بـ(جريدة "الحياة" ثم "النهار") محترفًا عام 1956، كمسئول عن الصفحة الأدبية.
ولم يلبث أن استقر في "النهار" حيث حرر الزوايا غير السياسية سنوات ثم حوّل الزاوية الأدبية اليومية إلى صفحة ادبية يومية.
عام 1964 أصدر "الملحق" الثقافي الأسبوعي عن جريدة "النهار" وظلّ يصدره حتى 1974. وعاونه في النصف الأول من هذه الحقبة شوقي ابي شقرا،عام 1957 ساهم مع يوسف الخال وأدونيس في تأسيس مجلة "شعر"، وعام 1960 أصدر في منشوراتها ديوانه الأول "لن"، وهو أول مجموعة قصائد نثر في اللغة العربية.
له ستّ مجموعات شعرية "لن" 1960، "الرأس المقطوع" 1963، "ماضي الأيام الآتية" 1965، "ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة" 1970، "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" 1975، "الوليمة "1994 وله كتاب مقالات في ثلاثة أجزاء هو "كلمات كلمات كلمات" 1978، وكتاب في التأمل الفلسفي والوجداني هو "خواتم" في جزئيين 1991 و1997، ومجموعة مؤلفات لم تنشر بعد. و"خواتم" الجزء الثالث قيد الاعداد،
تولى رئاسة تحرير العديد من المجلات إلى جانب عمله الدائم في "النهار"، وبينها "الحسناء" 1966 و"النهار العربي والدولي" بين 1977 و1989.
نقل إلى العربية منذ 1963 أكثر من عشر مسرحيات لشكسبير ويونيسكو ودورنمات وكامو وبريخت وسواهم، وقد مثلتها فرق مدرسة التمثيل الحديث (مهرجانات بعلبك)، ونضال الأشقر وروجيه عساف وشكيب خوري وبرج فازليان.
متزوج من ليلى ضو (منذ 1957) ولهما ندى ولويس.
رئيس تحرير "النهار" من 1992 إلى 30 يونيو 2003 تاريخ استقـالته.
تُرجمت مختارات من قصائده إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية والبرتغالية والارمنية والفنلندية. صدرت انطولوجيا "الابد الطيّار" بالفرنسية في باريس عن دار "أكت سود" عام 1997 وانطولوجيا " الحب والذئب الحب وغيري" بالألمانية مع الاصول العربية في برلين عام 1998. الأولى اشرف عليها وقدّم لها عبد القادر الجنابي والأخرى ترجمها خالد المعالي وهربرت بيكر.
يعتبر أنسي الحاج من رواد " قصيدة النثر " في الشعر العربي المعاصر.
*مؤلفاته
ديوان " لن"، ديوان "الرأس المقطوع"،ديوان " ماضي الأيام الآتية"، ديوان " ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة؟"،ديوان "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع"،ديوان "الوليمة"،كتاب "كلمات كلمات كلمات" / ثلاثة اجزاء/مقالات، كتاب "خواتم"/جزآن،أنطولوجيا "الابد الطيّار" بالفرنسية في باريس عن دار "أكت سود"،
أنطولوجيا " الحب والذئب الحب وغيري" بالألمانية مع الاصول العربية في برلين،
في 2007 صدرت الأعمال الكاملة لأنسي الحاج في طبعة شعبية، في ثلاثة مجلدات ضمن سلسلة “الأعمال الكاملة” عن “هيئة قصور الثقافة”. ضمّ المجلد الأوّل: "لن"، و"الرأس المقطوع"، و"ماضي الأيام الآتية".
والثاني: "ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة؟" و"الرسولة بشعرها الطويل حتى الــينابيع" و"الوليمة". فــيما حــوى الثالث كتاب "خواتم" بجزأيه.
فازليان، كما ترجم الكتاب الوحيد لأدولف هتلر "كفاحي"..
* شعر"أنسي" هو الجسد العاري
قال الشاعر عبد المنعم رمضان " في شعر أنسي هاجس يصدم شعراء جددًا كثيرين بات شائعًا لديهم هذه الأيام تمجيد البراءة، براءة المعرفة. أنسي يرفض تلك البراءة، كأنها أتربة علقت بجسد من الأفضل أن يغتسل لنراه عاريًا. شعر أنسي سيرينا هذا العري، ولغة شعره ليست كساءً شفافًا، ليست غيمةً، ليست وسيلةً ولا غايةً. إنّها الجسد العاري نفسه حيث عريه معرفة، وحيث معرفته عري.
- الشاعر إبراهيم داوود: "أنسي مع الماغوط وسعدي يوسف هم الآباء الشعريون للقصيدة الجديدة في مصر، وهم الأقرب إلى ذائقتنا".
كثيرون كتبوا ولايزالون قصيدة النثر، ولكن أنسي بين هؤلاء آمن بالنثر الخالص الطبيعي
"أنسي".. التجاوز يولد الابتكار
حين تقرأ شعر أنسي الحاج ترى اللغة العارية التي تجردت من كل غايتها، التي نعرف ولجأت إلى غايات جديدة، لغة طليعية تصدم كل من اقترب منها، كثيرون كتبوا ولايزالون قصيدة النثر بمنطق الشعر التقليدي، بمنطق الأسلاف لغةً وبناءً ولكن أنسي بين هؤلاء آمن بالنثر الخالص الطبيعي فمنحه شعرًا خالصًا وخاصًا، منحه أسراره وفتح له أبوابه المستعصية ، فهو يؤمن أن أدوات النثر تعمل لغايات شعرية ليس إلا ، فهو لا يستعير من تراث الشعر شيئًا يتوكأ عليه في قصيدة النثر، لكنه يخلق من النثر شعرًا ، هو يعرف أكثر من كل الشعراء أن النثر وحده فيه كل مقومات الشعر.
*الإيجاز والتوهج والمجانية.. شروط قصيدة النثر عند "أنسي"
كان أنسي الحاج يقول دائمًا أنه يرفض شرطة الجمال وحشرات التزييف الشعري والفني، لأنه يعرف الكلمات في جوهرها لا في مظهرها الزائف وربما استطعنا أن نتخيله وهو يسأل الكلمات، وربما العابرين، الاسلاف والمعاصرين.. هل يخرج من النثر قصيدة؟ أنسي الحاج أجاب بمفرده والآخرون أجابوا أيضًا، هو أجاب وانحاز إلى النثر وقال: قصيدة النثر عالم بلا مقابل، فقصيدة النثر كي تكون قصيدة حقًا لا قطعة نثر فنية أو محملّة بالشعر تتوافر فيها شروط ثلاثة ،الإيجاز والتوهج والمجانية وظل هكذا في كل أعماله.
"لن" البيان الرسمي لقصيدة النثر
وفي خريف 1960 كانت مقدمة ديوانه الأشهر " لن" البيان الرسمي لقصيدة النثر وفيها كان يسأل النثر عن الشعر، وجاءت الإجابة حافلة بالقلق في "الرأس المقطوع"، "ماضي الأيام الآتية"، "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" – وبعد ثلاثين عامًا في مقدمة – خواتم – راح يكفر الكلمات نثرًا وشعرًا ، فلم تعد الكلمات تبلور الحقائق وتبدعها، يقول: لقد أصبحت الكلمات تنقل إلينا بلاغتها، في أي لغة كانت، لكنها لا تقيم بينها وبيننا تواصل الحب. القربان انفصل عن رمزه. هل ماتت الكلمة؟ وكان يسأل عن نفسه لا عن الكلمة ، كان يسأل عن موته بعد أن توقف عن الكتابة( لكوني عدت واستأنفت الكتابة وكأني عدت واستأنفت الحياة بعد موتي).
*كلمات "انسي" عارية كـ"آدم وحواء في الجنة
ويقول الناقد جرجس شكري: "في شعر أنسي الحاج الكلمات التي كانت في البدء، الكلمات العارية كحواء وآدم قبل طردهما من السماء، كلمات لا تشعر بالخجل من عريها تستطيع أن تواجه العالم دون أقنعة وتقف في القصائد مرفوعة الرأس بلا زينة.
*الشعر عند "انسي" كلام الصمت والحب فعله
فهو حليف الكلمات قبل أن يكسوها الأسلاف بملابس المجاز والاستعارة وكل عباءات البلاغة. والكلمات عنده تتخلص حتى معانيها التي نعرفها ، فالشعر كلام الصمت ( مامن فرق بين الشعر والحب إلا الأول كلام الصمت والآخر فعله) والكلمات عند الآخرين صاخبة ترتدي سراويل ومعاطف وأحذية وتضع كل أنواع المساحيق".
"انسي الحاج".. الراقص بنثرة بين الموت والحياة
كزهرة شتاء أرادت الاختباء في وردتها من البرودة، ظل الشاعر اللبناني "أنسي الحاج" في غيبوبته طويلا، قبل أن يختار الرحيل في نفس الشهر الذي.زودعنا فيه شاعر فيروز الرقيق "جوزيف حرب"، ليتركا لبنان حزينة وشجرات الأرز وحيدة في غياب المحبين
وبصمت هادئ وبعناد واضح ودعنا صاحب ديوان "لن" الذي جعله في مصاف شعراء قصيدة النثر اللذين استطاعوا التمرد بقوة على أنفسهم، وهو يجربون التدرج الشعري دون خجل ولا عنصرية، عندما هجر قصيدة التفعيلة التي كتبها في البدايات ليختار قصيدة النثر التي تحتاج لمتذوق غير عاد.
لقد كان "أنسي الحاج" يكره العادي ويحن دائما للابتكار كأي فنان متمرد يهوى الهروب من التكرار ليقتحم جماليات ومساحات باهرة، وقبل الموت كتب مرثيته الخاصة "لن أكون بينكم لأن ريشةً من عصفور في اللطيف الربيع ستكلل رأسي وشجر البرد سيكويني وامرأة باقية بعيدًا ستبكيني وبكاؤها كحياتي جميل.." بعدها اختار "الحاج" الرحيل ليترك "أدونيس" غارقا في الصدمة فلقد كان رفيقا له وليوسف الخال في تأسيس مجلة "الشعر" التي كانت صوتا حادا وفاصلا في تاريخ الشعر المعاصر
*صاحب وصف صوت فيروز بـ" هي شيء أكثر"
وكما ذاب "جوزيف حربا" عشقا لصوت فيروز اختار "الحاج" وهو عاشق لصوتها أيضا أن يعلن كذلك عجزه عن وصف صوتها، ولم يجد من الكلمات سوي عبارتين تلخص هذا الوله عندما يتم وضعها في مقارنه مع مطربات أخريات يكتفي "الحاج " بقوله "هي شيء أكثر".
الشاعر الذي ميزه الصمت والكلام القليل كان يختزنه دائما لشعره، ليكتب على مدى حياته ستة دواوين شعرية فقط، وبين كل ديوان وآخر كان يترك لنفسه مهلة طويلة من الصمت الجميل المتأمل كطبعه ليجعلنا نغرق في الخوف من أن يكون "الحاج" قد عزف عن الشعر فيبعث لنا طول الوقت بقصيدة نثرية تؤكد وجوده وفي نفس الوقت تؤكد أنه زاهد طول الوقت في الحياه.
*الراقص بنثرة بين الموت والحياة
كان يجيد الرقص بقصائده دائما في المسافة المبهرة بين الموت والحياة، فلا يترك نفسه فريسة لصخب الحياة ولا لكآبة الموت، ورغم أن مرض سرطان الكبد جعله دائما في مواجهه الموت.
*"انسي".. الموت خيال الحياة والحب خيال الموت
كان "أنسي " يهرب منه بالقصائد ليجمل ألمه ومعه كان يتدفق نبع إلهامه مع سيرته الذاتية التي كتبها ف"خواتم" لترقص الحكمة في أبياته الشعرية لتقول لنا "لا تطلب أن تولد من جديد ذاتًا أبدية بل أن تمضي هذه اللحظةُ هنيئةً كالنوم البسيط وهذا اليومُ بلا جروح، كالراحة المستحقَّ وهذا العمرُ في ظلك حيث النور أَعمق حتى يجيء الموت حين يجيء أخفَّ من هواء الحرية فكما أن الموت هو خيال الحياة كذلك الحب هو خيالُ الموت وذاتي الجامحة إليكِ لن يؤذيها شرٌ بعد الآن
شعراء ومثقفون ينعون ناثر الدهشة.. أنسي الحاج "..
دينا الشدادي: أي عزاء بعد رحيل الحاج ؟
سمير درويش: كان الحاج فارس من فرسان النثر الأنقياء
أحمد سويلم: الحاج رائد لقصيدة النثر
سامح محجوب: الحاج شاعر لا تستطيع الفكاك من ظله بسهولة
عاطف عبد العزيز: الحاج علمنا الن يكون لنا صوتنا الخاص
صلاح السروي: خسرنا برحيل الحاج أحد مؤسسي الشعرية العربية الأحدث
إبراهيم أبو سنة: الحاج نئي بشعرة عن المضامين السياسية والاجتماعية
أسامه الحداد: الحاج أحد الآباء الشرعيين لقصيدة النثر العربية
فاروق شوشة: رحيل الحاج خسارة فادحه للشعر العربي بلبنان
* كان خبر وفاة رائد قصيدة النثر أنسي الحاج مؤلمة وقاسية على كل الشعراء والادباء والمثقفون في الوطن العربي، جعلتهم في حالة اندهاش فكما كان "الحاج" يدهش العالم بقصائده النثرية وتفردها وغرابيتها التجاوزية والابتكارية ؛ ادهشهم اليوم بخبر وفاته المفاجئ، وكأن الدهشة قدر لها أن تلازم هذا العملاق في كتاباته وحياته فراحو يعبرون عن شديد حزنهم على فجيعتهم في وفاه "الحاج "
*دنيا الشدادي
في البداية قالت الشاعرة المغربية دنيا الشدادي: لقد فقدنا رائدًا من روّاد النهضة الشعرية العربية وعميدًا من عمداء قصيدة النثر الذين كان لهم السبق في تغيير خارطة الشعر العربي، إلى جانب الشاعر أدونيس وغيرهما رحل أنسي الحاج، فأي عزاء بعده؟
وحول تقييمها لمن اقتفى أثر "الحاج" أضافت الشدادي: لا نستطيع أن نقول إن من جاء بعد جيل رواد قصيدة النثر، كانوا على مستوى المسئولية أو إنهم قد أساؤوا لها، ولكن تظل محاولات لتسلّم المشعل، بعضها قد نجح في اقتفاء الأثر وبعضها مازال يتخبط لا يلوي على إبداع، والبعض الآخر يتطفل على الشعر عموما نثرا وغيره
* سمير درويش
كما نعى الشاعر سمير درويش، الشاعر الكبير أنسي الحاج، الذي وافته المنية اليوم، وبدأ حديثه مقتبسًا من كلام الراحل: "وليس الشعر ما يتعذر على النثر تقديمه، فالنثر منذ أقدم العصور وفي مختلف اللغات يحفل بالشعر حفلًا إذا قيس بشعر النظم يغلب عليه".
وأضاف درويش: إذن حسم "أنسي الحاج" قضية تفجر الشعر من النثر عام 1960، حين كتب مقدمة لديوانه الأول "لن"، الذي صدر في بيروت عن دار مجلة شعر، التي كان أنسي الحاج أحد أهم فرسانها، وأنقاهم كما قال عنه أدونيس.
تلك المقدمة بيان مبكر لـ"قصيدة النثر"، حينما كانت تُصوَّرُ كونها ضدًّا للشعر، وحينما كان شعراؤها يضطرون إلى التفرقة بين الشعر بمعناه الواسع العميق، وبين النظم، الذي لا يأخذ من الشعر إلا الإيقاع الرتيب.
وتابع درويش: قصائد أنسي الحاج، وغيره من شعراء "شعر" شكلت مرحلة طفولة "قصيدة النثر"، أو إرهاصاتها، لم تتخلص من جماليات القصيدة التقليدية، شعره وشعر جماعته كان موازيًا زمنيًّا لقصيدة التفعيلة، فديوانه الأول خرج للنور بعد ديوان "الناس في بلادي" لصلاح عبد الصبور بسنوات ثلاث فقط، علمًا بأنه كان ينشر القصائد في الدوريات قبلها بسنوات ولم يجمعه في دواوين، تخلص صلاح عبد الصبور من العدد المتساوي للتفعيلات في كل بيت، والقافية الموحدة، وتخلص أنسي ورفقاؤه من الإيقاع التراتبي كله.
يقول أنسي الحاج في قصيدته "كنا نحسب الفراغ نبيذًا": "كان صوتك هضبة تُغطّيها المياه/ وكانت مراكبنا سودًا/ أراضينا بورًا/ شموعنا صخورًا./ كُنّا نُخطئ بالصغيرة والكبيرة/ نحسب الفراغ نبيذًا/ والرملَ على الرمل: القمحَ والذهب./ وكُنّا نَحفظ الأوراق لنَحفظ/ ونَعبد الآثار لنعبد/ ونُخبّئ لنُخبّئ،/ حتّى جئت/ فلم ننظر إلى ما كان/ غير نظرة!/ ولمّا البحارُ تشقّقت/ وأشَعَّ صوتك/ هَوَينا إليه كمياه./ صرت المياه/ صرت المطر/ ونزل الوقت/ نُزول الرعاة من الهضبة
*************
ذهب وترك الهدايا التي لا تذهب
أنسي الحاج
جريدة الأخبار اللبنانيّة
السبت ٢١ كانون الاول ٢٠١٣
أنسي الحاج يستعجل اللاحقون دفن السابقين.
إنّها السلطة، في الأدب والفنون والأديان أيضاً. تقول خرافة شائعة إنّ الحضارة تَواصُلٌ واستمرار. ولكنّها خرافة. يرثُ الحاضرُ الماضي شاء أم أبى وليس في الغالب من باب الوفاء. وتَراها وراثة ووراثة. ولم يرث حقّاً إلّا مَن غار الإرث فيه غَوْر الليلِ في مجهوله.
على أنّ اللاحق ليس دوماً جديداً ولا بالحتم مجدّداً وإنّما يأتيه ذلك بتلاقي الضرورة والموهبة، والتاريخ والقَدَر، واللحظة والشخص.
ولا يكفي اللاحق أن لا يقلّد السابق، بل زد انوجاد اللاحق في زمنه انوجاد مَن يَقْطع مع السابق ثائراً غازياً أو مَن يَصل الأوقات وَصْلَ الملخّص لها والمتقدّم إلى الأمام منها بقدراتٍ هَدْميّة وبخَلْفيّة تُوجِدُ العَدَم.
ليست البداية مشيئة محض فرديّة ولا محطّة زمنيّة تعقبها محطّات. وليست الريادة طلائع وموجات بل هي بداية «وكأنّها» من صفر. بداية في غير معنى المتابعة والإكمال، فليس للفجر متابعة وإكمال، وكلّ فجرٍ هو البداية. بودلير رائدٌ دائم. مثله رمبو. قبلهما شكسبير. في العربيّة جميل والمتنبّي وابن الرّومي وأبو نواس. في الأغارقة هوميروس وأخيل وأوريبيد وسوفوكل وهيراقليط. في الفنّانين ميكل أنجيلو ورافاييل وباخ وموزار وبيتهوفن وفاغنر. غداً مَنْ؟ ثمّة في الغد روّاد هم في الحقيقة أصحاب الزمان لا أمس ولا اليوم ولا غداً بل في المسامّ والعروق والحواس والمعتركات.
ثم فيمَ التسابق على صفة الريادة وليست هي المرام _ إن يكن مرامٌ _ بل لحظةُ استحضارِ الحياة استحضاراً أقوى، استحضاراً يجدّد التعلّق بها؟ أليس هذا هو الأدب والفنّ والفكر والجمال؟ إنْ لم يكن هذا فما هو؟ وما التجديد وما شرعيّته إنْ لم يكن تنفيض الحياة؟ وهل غير بَعْث الحياة اسم للإنسان؟ فكيف بالخلّاق؟
في ضوء هذه المعاني _ التذكيرات لا يبقى لاصطراع الكلمات غير طنين الألفاظ الخاوية. كلمات «حداثة» و«تقليديّة» و«ريادة» و«اتباعيّة» و«طليعيّة» و«سلفيّة» قد تؤدّي دوراً في مرحلةٍ من مراحل النطق التغييري، ولكنّها ملتصقة بالأحوال التي أمْلَتْها وليست «شعارات أبديّة». من الواجب على كلّ زائر أنْ يُطلّ ومعه هداياه، أو أن يأتي فارغ اليدين مليء المهجة فتكون تقدمته مفاجأة أكبر. ليس الأدب صراع نفوذ بل نفوذه من انبلاج إشعاعه ولا شأن لعضلات «السلطة» وحِيَل الشطارة ووصوليّة النرجسيّة في إرساء «قيمةٍ» أدبيّة. ومهما يكن ذكاء المتعطّش شديداً فلا نفع منه في الحلول محلّ الأثر، يكون أو لا يكون. وليس هناك «أَدوار» فيأتي الواحد في أعقاب الآخر. لا ديموقراطيّة في الأدب. وإنّها لتدوم لغيرك وقد لا تؤول أبداً إليك.
الموضوع لم يتغيّر حرفٌ من سرّه منذ أوّل تصوير على أوّل جدار. أحبب وافعل ما تريد، يقول أغسطينوس. كنْ واكتب. كنْ ولحّن. كنْ وصوّر. كنْ، أيْ ذاتك أَطعمْ يديك. وليست العبرة في تراكم الخبرات وحده بل في عظمة التراكم في الذات، وربّ مراهقٍ أو طفلٍ بذي عصور.
عنف الداخل يفرش الخارج. يقتحم الدار ويفرض الصمت والإصغاء. عنف الدفق المكبوت يجيش ثم ينبجس فيرسم حوله دوائر الفراغ والترقّب والدهشة والصدمة والنفور والانذهال والحبّ. كلّ لحظة من هذا النوع هي فلذة أَبَد. وعلى قلّتها في التاريخ، فكلّ واحدةٍ منها تبدو أكبر من التاريخ، مع أنّه أطول منها بكثير، ولكنّها هي لحظة الحياة، اللحظة الإلهيّة في الحياة، اللحظة الأمّ، التي يؤلّف مجموعها القصّة السريّة والخلْفيّة والعليا لعظمة الإنسان، بل لما هو أنبل من عَظَمته ومن أيّ عَظَمة: لجمال يديه.
إيذاء
لا نرى كلمة «إيذاء» متداولة. القاموس يذكر الأذى والأذيّة. ألْحَقَ الأذى. القرآن يعتبر الأذى ضرراً خفيفاً. الجميع يورد: أساء، أضرّ، الإيذاء مستهجنة. ومع هذا يقهرنا المعنى على إدخال الياء بعد الألف توكيداً للوجع. الحَقَ الأذى مثل رشرش الملح. بعضالملح.
المؤذي مؤلم، لا ذلك الشاهر الأنياب فحسب بل خاصّة المرسال الذي يتوسّله القَدَر للهدم وهو ساهٍ عن القَدَر. لكن… أحقّاً لا يعرف وسيط الشؤم أنّه يبذر فتنة؟
الإنسان الكامل
الإنسان الكامل، في مفهوم الفكر الباطني، هو الذي انتقل من طور العالَم الأصغر الموجود في الإمكان (الكون مختزَلاً في إنسان) إلى طور العالم الأصغر (ميكروكوسم) الآخذ في الفعل. لقد أصبح الخلاصة التامة والفاعلة للعالم. يقول الجرجاني: «الإنسان الكامل هو التقاءُ جميع العوالم الإلهيّة بالعالم الطبيعي، والعوالم الكونيّة وتلك الجزئيّة. إنّه الكتاب الذي تجتمع فيه كلّ الكتب الإلهيّة والطبيعيّة (…) الروح الكونيّة هي قلب العالم الكبير كما أنّ الروح العاقلة هي قلب الإنسان، ولذلك يُسمّى العالم «الإنسانالكبير»..».
عابـــرات
رأيتُ الجانب الجوهريّ في استرجاع الوقت الضائع عندما ركض شخصان هذا من أوّل رصيف القطار وذاك من آخره وارتميا واحد على الآخر وأجهشا بالبكاء.
***
أين هو أيضاً الوقت الضائع؟ هو في عرقلة أحلامنا لأفعالنا.
***
لماذا الحبّ حَدَثٌ خارق؟ لأنّه يتألّف من مستحيلين: رغبةٌ ستجد نهايتها قريباً، وطرفٌ آخر لم يعرف بعد حظّه فيك.
***
عندما أتحامل على الحبّ لا أشعر أنّي أظلمه بل يحبطني عجزي عن المضيّ أبعد في التحامل.
***
كلّنا جرحى الوجود، وأحياناً الشاعر يتقدّم الآخرين، لا لأنّ جرحه مميّز، بل لأنّه يتميّز عن سائر الجرحى بتطلُّعٍ نحو عالم أكثر رحمة. هذا التطلُّع هو الشعر. لا يختلف شعرٌ عن شعر إلّا بهذا التطلُّع، وبزرقة الطفولة الصامدة وراء جهاد هذا التطلُّع.
فيروز..البطرك
فيروز _ أنسي الحاج
فيروز - أنسي الحاج فيروز صوتٌ يخترقُ دروعَ اللامبالاة، يبكّت ضميرَ الهزء، يطهّر النفس كما يطهّرها البكاء لا العقاب، محبّةُ الطفل لا مهادنة العدوّ. هذه السلطة الأخلاقيّة ليس مثلها لفلسفة ولا لتعليم. ربّما مثلها في شواهد خارقة. لا تُحبّ فيروز أن يُقال عنها «أسطورة» أو «أيقونة». كان عاصي يلقّبها بـ«البطرك» إشارة إلى المهابة ولم تضحك لهذه المداعبة. تكره التحنيط. تكره المصطلحات. تريد أن تتأكّد من حيويّة فنّها كلّ لحظة. عندما تسمع أغانيها الأولى تبتسم بتأثّر قائلة «يا الله هديك البنت!». تتعجّب لها، كما لو أنّها مغنّية أخرى. تجتاز أعمارها باضطرام وهدوء معاً، كما لو أنّها وُلدت الآن. لكنّها في الواقع غداً ستولد. الحفلة المقبلة هي الأولى. تحبّ ماضيها الفنّي ولا تتجمّد عنده. لا يوقف حلمها شيء. حلمٌ مُطْلَق. حلم بمَ؟ توقٌ إلى مَ؟ «أنا عندي حنين/ ما بعرف لمين». والجميل، المؤلم الجميل، أنْ لا تَعْرف. كل يوم ينبثق الفجر ويكتفي الزمن بدورته الرتيبة، إلّا فجر الفنّان، أمسه غير يومه ويومه غير غده. هذا المجهول هو الحبيب. هذا الخيال هو الذي يهفو إليه الشوق. هذا الجزء هو المبحوث عنه دون كَلَل. الجزء الناقص للكمال، فقط هذا، فقط بعدُ هذا، هذا هو! بلى، هو! وجدتُه! وجدتُه!
«كأنّها» وَجَدَتْهُ. لم يكن إلّا دَرَجة أخرى في السلّم. طيّبة هذه اللحظة، شكراً للّه! شكراً أيّها اللحن، أيّها الشعر، أيّها الجمهور الحبيب! شكراً يا ربّي على نجاحي! على صوتي! على أصدقائي! يا إلهي ما أكرمك! ولكنْ، ولكنْ، لمَ أقفرت الصالة بعد الحفلة؟ أين راحوا؟ «متل الحلم راحوا». وأنا أرجع الآن إلى العزلة، الانتظار، التحرُّق على هذا اللعين الذي لا يزال ناقصاً! هَبْني يا ربّ فرصةً جديدة علّني أجده فأرتاح! أرتاح! يا إلهي!…
ولن تَجِديه يا فيروز. حُلمكِ يحفرُ فيكِ كما يحفر النهرُ العظيم في الأرض. رُوحُكِ عَطّشها اللّه لتظلّ تضيء شموعَها الرائعة على طريق الرجاء.
نهرٌ هادرٌ وعطشان: هذا هو عذابُ الموهبة.
الأرض السائبــة- أنسي الحاج
أنسي الحاج
جريدة الأخبار
السبت 30 تشرين الثاني ٢٠١٣
هاملت اوفيليا- شكسبير
هاملت اوفيليا- شكسبير جديّاً؟
ممّا يستوقف في المشهد العربي منذ بدأ «ربيعه» أنّ البديل المتقدّم هنا وهناك ليس أفضل من الذين خُلعوا أو هم مرشّحون للخلع. يحكى عن ضرورة مرور وقت. يحكى عن الثورة الفرنسيّة. أمّا الوقت فلم يدخل ولن يدخل في الحساب العربي إلّا بالمقلوب. وأمّا الثورة الفرنسيّة فهل نحن جادّون حين نرتكب هذه المقارنة؟
إعادة اختراع
القتل على مراحل بلّد المشاعر. حتّى التلفزيون لم يعد يلتفت إلى المجازر. لا العراق ولا سوريا، مع أنّهما ضربا الأرقام القياسيّة. لقد تغيّرت مقاييس التراجيديا، صار الموت أصغر. لو حصلت اليوم أحداث الالياذة والأوديسه وكلّ تراجيديّات شكسبير في أفريقيا أو الشرق الأوسط لما استدعت بضعة أسطر في قاع صفحة داخليّة من الجريدة.
هذه الألفة مع الموت تساعد أهل الفقيد على استيعاب فقده وتغيير الموضوع، لكن يُخشى أن يرفض البعض الموت في ظروفٍ كهذه ويتشبّثوا بالحياة ريثما يصبح الوقت ملائماً للبكاء عليهم. وأكبر الظنّ، إذا استمرّت شلّالات الدم الفعليّة من هنا والقتل السينمائي الأميركي بإغراء سهولته من هناك، أكبر الظنّ أنّ البشريّة ستطالب بعد حين بإعادة اختراع الموت.
مطالعة ومشاهدة
مطالعة الصحف ترعب ومشاهدة التلفزيون تقطع الظهر. وما كان ذلك بمهمّ لو أنّ البلاد في أيدٍ أقوى من أيدي المواطنين، لكنّ نظرةً واحدة إلى طاقم السفينة اللبنانيّة تُغني عن الشرح. وهكذا صَدَق تحذير السيّد نصرالله لـ14 آذار وطلع ارتياح المحور الإيراني _ السوري في محلّه.
عند خلط الأوراق ابحث عن مكانِك وإنْ لم تجده فاصنعه. وهذا ينطبق على المنطقة كلّها من خليجها إلى المغرب. لقد وضع التذبذب الأميركي الجميع في حالة ضياع ودرجة الحدّة التي بلغتها السعوديّة في مجافاة أميركا ليس لها سابقة في تاريخ المملكة. والسؤال اليوم كيف سترجع الرياض إلى عهدها في الدبلوماسيّة الهادئة بعدما ذاقت طعم الغضب وكيف سيُعاد الإسلاميّون السلفيّون إلى مناخات التعايش مع الآخرين بعدما خرجوا بلا أقنعة وجرّدوا السيوف.
يبدو الشرق الأوسط أرضاً سائبة برسم مَن يخطفها.
«كلّما نضجت عاطفة السلام»
أقرأ في عدد 7 حزيران 1936 من جريدة «المكشوف» (الرقم 52) بتوقيع الياس أبو شبكة:
«كانت المساخر البشريّة تشهر الحروب بالسيف والبندقيّة فأصبحت تشهرها بالمدفع والمدمّرات. وقد تشهرها غداً بالكيمياء. بالكيمياء دون غيرها، فيقتل الألوف بدقيقة بدل أن يُقتلوا بساعة. وهذه لعمري طريقةٌ في سرعة الدمار والفناء تنضح في نفوس البشر كلّما نضجت فيها عاطفة السلام وفكرة الفلسفة!».
صمت
الخوف من الصمت. كما يخاف التائه في الغابة من احتمال وحش. للصمت جبينٌ مغلق وعاصف. الصمت ليس أنْ لا يكون لنا ما نقوله بل أن يكون الظلام فينا قد التهَمَ المساحة.
لا يقف في وجه الصمت غير العيون.
قطيعة
ـ ماذا تشعر أمام الإرهاب؟
ـ بأنّ في رأسي ماء. وأنت؟
ـ بالعجز المهين.
ـ العجز عن ردّ الفعل؟
ـ لا، العجز حيال الكلمات. أمام الإرهاب ما معنى الحريّة؟ ما معنى المطالعة، السينما، الموسيقى؟ الإرهاب قطيعة. إنّه أفظع ما أنتجه الإنسان.
قسوة
اليوم، لأوّل مرّة، تصطدم مشاعري بقسوةٍ لم أرَ مثلها. قد أرى أسوأ، كاللامبالاة والبرود، لكنّهما دون القسوة حَزّاً وخضّاً وتعنيفاً. في مَن يقسو عليك طارد بلا رحمة. وسيقول لك إنّ ذلك لتربيتك. وإنْ صحّ، فلهجةُ القسوة وتحجّرها ليسا أفضل من رخاوة الرخو.
بين الرخاوة والقسوة مساحةٌ للرحمة.
شرق وغرب
لم يعتد الشرق تبدّلات الغرب. لا يزال يحاكمه أخلاقيّاً. مع استثناء اثنين: سوريا ابتداءً من حافظ الأسد وإيران بعد الثورة الإسلاميّة. مسيحيّو لبنان لا يزالون يعتقدون أنّهم «حصّة» أميركا بعدما أمسوا خارج الحساب لا بل أحياناً للمقايضة. أمّا السعوديّة فيبدو أنّها بدأت تكتشف وجهاً حقيقيّاً من وجوه أميركا ظلّ شبه غائب عنها منذ عبد العزيز.
هامليتيّات
من مسرحيّة شكسبير
أيّتها الهشاشة! اسمُكِ امرأة.
(هاملت، مرتدياً الأسْوَد، في بداية المسرحيّة)
***
خافي يا أوفيليا، خافي يا شقيقتي الحبيبة،
قفي بعيداً من عاطفتك،
في منأى عن الرغبات الخطرة.
أعْقَلُ العذارى تسخو أكثر ممّا يجب
إذا أَرَتْ جمالها للقمر.
(لاييرت محذّراً شقيقته من الاستسلام إلى تودّد هاملت)
***
(بولونيوس، مستشار التاج، مخاطباً ابنته أوفيليا قبل دخول هاملت):
طالعي في هذا الكتاب
ستخففين عن وحدتك.
غالباً ما يُعاب علينا _ والبراهين كثيرةٌ على صوابيّة هذا اللوم _
أنّنا تحت مظهر الورع
وبأعمالٍ تقيّة
إنّما نغطّي بالسُكّرِ الشيطان.
هاملت _ تكون أو لا تكون، تلك هي المسألة كلّها.
أهو أنبل للنفس أن تتحمّل رجم الحجارة وطعن السهام من القَدَر الغاشم،
أو أن تحمل السلاح ضدّ الأمواج العدوّة ومواجهتها للخلاص؟
أن نموت… أن ننام،
لا شيء آخر.
(…) أن نموت… أن ننام.
***
(الملك قاتل أخيه والد هاملت):
أَمَا في السماواتِ الرحيمةِ مطر كافٍ
لتبييض هذه اليد الملعونة
وجعلها كالثلج؟
ما نفع الرحمة
ما لم تساعد على النظر إلى الجريمة في عينيها؟
ما نفع الصلاة بدون هذه القوّة المزدوجة
التي توقفنا عند حافة الهاوية
وتغفر لنا بعد السقوط؟ آه أنْ أستطيع رفع رأسي
وأعْبُر فوق خطيئتي… ولكنْ أيّ صلاةٍ أجد
فتكون هي الصلاة؟
(…) وكيف يُغْفَر لي وأنا محتفظٌ بثمرةِ جريمتي؟
وما حيلةُ التوبة، واأسفاه، عندما لا نعرف أن نتوب؟
***
(الملك قاتل أخيه والد هاملت):
أعرفُ أنّ الحبّ يولد في الزمن،
وما تقوله التجارب أنّ الزمن يقوم بإيهان شرارته وإخماد ناره.
في عمق أعماق لَهَب الحبّ
يُقيم بكامل حيويّته ذلك الفتيل
الذي يَتفحّم ويتفحّم حتّى إطفاء اللَهَب.
لا شيء ثابت على محض فضيلته
لأنّ الفضيلة تنمو حتّى الإفراط
وتموت من تخمة ذاتها.
ما نودّ أن نفعل
يجب أن نفعله فور الرغبة به،
لأنّ هذه الرغبة تتبدّل
وتعاني انهيارات ومعوّقات كثيرة
بمقدار كثرة اللغات والأيدي والحوادث.
مسيحيّــــون ويهــــود- أنسي الحاج
أنسي الحاج
جريدة الأخباراللبنانية
السبت ٥ تشرين الأول ٢٠١٣
مهدي ياغي
مهدي ياغي نحن (العرب عموماً) نتذمّر كلّما قرأنا أو شاهدنا يهوداً يستشهدون بيهودٍ ويعلون شأنهم حتّى لتبدو الحضارة، لمَن لا يعرف أو لمَن يُغْسَل دماغه بسهولة، صناعة اليهود وحدهم. ولكن هل انتبهنا إلى كوننا نحن المسيحيّين العرب غالباً ما نعظّم شأن التنويريّين في عصر النهضة، وغالبيّتهم مسيحيّة، وبالكاد نتذكّر، مثلاً، مساهمات جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده؟ وعندما نعرض للدور المهمّ الذي لعبه مسيحيّان في القرنين التاسع والعاشر هما حُنين بن إسحق ويحيى بن عُديّ، ألا ننسى أحياناً دوراً بالغ الأهميّة لعبه الوزير الفارسي جعفر البرمكي الذي تفوّق على أقرانه في الغوص على العلوم القديمة في شكلها الفارسي والهندي والبابلي بصورةٍ عامة، وشكلها الإغريقي واليوناني بصورةٍ خاصّة، كما ينوّه ماجد فخري في مقدمة كتابه: «تاريخ الفلسفة الإسلاميّة»؟
لا شكّ في بروز المسيحيّين العرب أدبيّاً وصحافيّاً نهايات القرن التاسع عشر ومطلع العشرين حتّى أواسطه وبدء ثلثه الأخير. ولا مبالغةَ في وصف كثرتهم بالطغيان، لا سيما في لبنان. ما العمل لتفادي الظهور كنخبةٍ عنصريّة؟ الحقّ أنّ المسلمين لم يظهروا إلّا قليلاً جدّاً ضيقاً بهذا الطغيان، فغالباً ما أقرّوا به واقعاً شرعيّاً وحاولوا محاكاته والاندماج فيه.
لقد بدأ الوضع يتغيّر منذ اندلاع حرب 1975. بعد شعراء الجنوب وعبّاس بيضون ومحمد العبد الله وشوقي بزيع، أصبح الطغيان لأدباء الشيعة ومفكّريهم كوضّاح شرارة وأحمد بيضون. سوف تحتاج هذه الحقبة إلى تأريخ في العمق وإلى مقارنتها بما قبلها. وفي النهاية لن يكون حسبانٌ إلّا للأدب والفكر ولا طغيانَ لسوى الخَلْق في معزلٍ عن الخنادق.
«هيدي القضيّة تَبَعْنا»
لفظة «هيدا» الموضوع، «هيدي» القضيّة، اشتهر بها بشير الجميّل: «هيدي القضيّة تَبَعْنا». يواظب عليها الشيخ أمين وابنه سامي. (الشيخ أمين يلفظ التاء طه. «نحن نعطبر أن…»). منذ إميل لحّود الأوّل نائب الثلاثينات والأربعينات وحميد فرنجيّة وبشارة الخوري لم يشتهر الساسة الموارنة بمتكلّمين. كانوا بالكاد يخلّصون أنفسهم بالدارج. وعلى العموم لم تسعفهم طبقات أصواتهم. إذ كانت إمّا مخنوقة كما عند كميل شمعون وإمّا «رفيعة» مثل ريمون إدّه وإمّا مبحوحة وانفعاليّة مثل بيار الجميّل. من جهة التلفزيون يكثر طوني خليفة من استعمال هيدي وهيدا مع الحيرة في اختيار الألفاظ والتردّد في إنهاء الجملة حتّى يتعب المشاهد نيابةً عنه. هذه علاجها التمرُّن فضلاً عن إعداد ما يمكن إعداده كتابةً. برنامج «للنشر» جيّد وجريء.
التوراة
الإخضاعات الفرويديّة والنفسيّة عموماً لم تقدّم ولم تؤخّر في تقييم مطالعاتي للتوراة. أعتقد أنّ من أسباب دوام تأثير هذا الكتاب تعامله مع أركان كياناتنا ومع خفايا القاع، ومع العنف والتوبة بلا أقنعة ثقافيّة. كلّ قارئ للتوراة هو مشتبك مع إلهها وأنبيائها وفي الوقت نفسه يظلّ يشعر أنّها مكان الجريمة الذي يعود إليه القاتل شاء أم أبى.
مهما يكن الله نرجسيّاً في ذهن الأنبياء، أعطاه داود ما يزيد ويفيض.
اليوم تكتشف وجهاً جديداً لمزمورٍ يفتح لك باب الإياب إلى الآب. غداً يكتشف الآب أنّه يضيع.
تشبه التوراة حقلاً يتلاقى فيه الأعضاء في بداية مسالمة وبألوان الفجر الجبليّة، ولا أحد يعرف بالتمام مَن الذي دعاه، ولا ما سيفعل بعد أن ينتهي من اللقاء.
نزوح الآلهة
بين الروايات الوثنيّة القديمة واحدة تقسم الخلائق الروحيّة أو الجنّ أربع طبقات، مجانسةً مع عناصر الطبيعة الأربعة: السِلْف، وهو كائنٌ هوائيّ، السمندل للنار، حوريّات البحر للماء، والأقزام (أو العفاريت) للتراب. وذهب بعض اللاهوتيّين المسيحيّين الغربيّين قبل أربعة قرون إلى القول إنّ هذه الكائنات الخرافيّة كانت في الأصل آلهة وإنّ هذه الآلهة لم تكن، لسبب أو لآخر، منخرطة في الصراع الذي دار بين الملائكة والشياطين، فلم يلحقها أذى، واستمرّت على وجودها بعدما أمسى ثانويّاً، وعندما تخلّى البشر عن عبادتها اكتفت برعاية الحيوانات الأليفة والمفيدة، بينما بسطت الشياطين سلطتها على البهائم المفترسة أو المنحطّة.
أمّا بعد المسيح، فيعتبر أولئك الشُرّاح أنّ الآلهة الكبار أو أنصاف الكبار نزحوا عن الأرض إلى الكواكب، منازلهم الأصليّة. هذا التأويل ساد القرون الوسطى، وبقوّة لدى أهل القِبالة ولا سيما في أوساط الفلكيّين والمنجّمين والخيميائيّين والأطبّاء. وهو مستمرّ إلى اليوم في الغرب على التقليد الإغريقي (السومري الكلداني أساساً) لعلوم الفلك أو على التقليد الصيني أو الهندي أو سواهما في حضارات أخرى.
العريس مهدي ياغي
لا يصدّق المرء أنّ هذا الشاب استشهد. رأيتُ وصيّته على مواقع التواصل الاجتماعي. الشاب مهدي ياغي. الضاحك الوسيم. أبى أن يضخّم أحد استشهاده وناشد أمّه الهدوء.
من أوّل وصيّته لآخرها وهو يضحك ويحاول جهده إضحاك مشاهديه. هل يموت فارسٌ كهذا؟ ألا يقهر الضحك الموت؟ ولماذا إذن نُمجِّدُ الضحك؟
يضحك ويعاتب نفسه على الأخطاء اللغويّة. يا مهدي أنت ذاهب للاستشهاد أم لاحتفال؟ لو تعطي كلّاً منّا نحن الجالسين وراء مكاتبهم ذرّةً من شجاعتك! ذرّةً من استخفافك بالموت! ذرّةً من عطفك الضاحك على الباقين أحياء!
هذا شهيدٌ عريس. بصرف النظر عمَّن يقاتل. لا تجوز التعزية به بل التهنئة. وزلغوطة على قَدّ بعلبك.
ضجر
عرفتُ ضجر أثرياء. يحاربونه بأرخص الأسعار. كأس، كتابة مذكرات، تلفونات، استمتاع كاذب بالموسيقى، ولائم كأنّها مباريات للثقلاء.
ثم النوم.
عرفت ضجر فقراء. أشدّ المدمنين. يحرمون عيالهم وأنفسهم لقمة العيش ليشحذوا شمّةَ كوكايين. ينفقون طاقاتهم الجنسيّة كمَن يسبح كي لا يغرق أو كي يغرق. يلعبون القمار مثل كبار الملياردريّة ووحدهم يليق بهم تبذير ما ليس لهم بل ما استدانوه.
اغتربوا أيّها الأدباء
على كلّ أديب لبناني أن يهرب إلى أميركا وأوروبا والآن إلى الصين والهند واليابان ليعيش هناك ثلاثة أرباع حياته ويقيم علاقات وتقام له مقامات ثم يعود ليموت في لبنان وسط الهالات. والأوفق أن يعود ميتاً خالصاً حتّى لا يغلط إذا سأله صحافي عن موضوع وأجابه المغترب المسجّى جواباً بلديّاً مسطولاً.
الأكاذيب المحليّة مكشوفة والأصاديق المحليّة لا تملأ العين. البلدان الصغيرة بحاجة إلى أحلام ضخمة. عد لهم بحقائب ألف ليلة وليلة.
ومت برّاً قبل العودة. سيكون نقل رفاتك احتفالاً مقدّساً لن تقوم منه لا حيّاً ولا ميتاً، والمولى راعيك.
عابــــــرات
الرائحة: بدأوا يستعملون بثّها في حفلات الغناء وراح الجمهور يتباوس. هنا الجمهور (ولا سيما النساء) محضّر للاحتمالات. تخيّل لو كنتَ على موعد مع شخص (أو شخصة) غير جاهزين للاقتراب كثيراً، وأحدهما راغبٌ في القرب.
***
كراهيّة الناس تُميت. وكراهيّة الأقربين أشدّ من الأبعدين. إذا تأكدتَ من كراهيّة أحد واجهه بالسؤال: «لماذا تكرهني؟». أيّاً يكن جوابه تكن أنت قد نَفَّسْتَ النحس إلى حين.
***
الإنسان لن يتقدّم كثيراً بعد اليوم. معظم البشر سيقيمون في حالات التخلّف والفقر والجهل التي اعتادوها. والأثرياء سيزدادون ثراءً.
الإنسان لن يتقدّم. كنّا نأمل في تقدّمه طبياً وجراحيّاً، ولكن أين؟ كلما أُحرز تقدُّم استحالَ تجارة. لماذا التقدّم حيث سيكون أداةً للاستغلال؟
الإنسان لن يتقدّم.
كلّ ما كان سيفعله «إنسانيّاً» فعله.
***
المتسامح يُحْتَقَر والمتشدّد يُبْغَض والمتوسّط يُخان بلا شغف.
***
سعادته تخيفه وتعرقله. تُكرّهه بسائر الرجال. تُحسّسه بخفّةٍ تشبه التفاهة. كان يفضّل سهولة المتعة على هذا العبء الذي ظاهره فرح وباطنُه تَخلُّف عن المكان الذي يحصل فيه الفرح الحقيقي.
***
لا تغفر المرأة لامرأةٍ أخرى أن تسرق منها رجلاً ولو لم تكن الأولى تحبّه… ولا الثانية!
لا تضعف، أقول له-أنسي الحاج
أنسي الحاج
جريدة الأخبار اللبنانيّة
السبت ٢٨ أيلول ٢٠١3
أنسي الحاج عدد القتلى اليوميّين في العراق: رئيس الحكومة يحذّر من اندلاع حربٍ أهليّة. هذا الحاصل اليوم ما هو؟ حضارةٌ أهليّة؟
نكاد ننسى الحرب في سوريا. الوحشيّة التي يتساقط بها القتلى في العراق بدأت تقنعنا بأنّنا لا نستحقّ معاملةً أفضل. وحوشْ ولمَ لا؟ أغبى ما في هذا أنّنا نحسب أنفسنا أسياد مصيرنا.
يكتب فاروق يوسف في «ملحق النهار» تحت عنوان: «نحن خير أمّةٍ أُخرجتْ للناس»: «حينها تذكّرتُ قتلى الحرب العراقيّة _ الإيرانيّة من الطرفين المؤمنين. كان العراق يرسل شهداءه إلى الآخرة بعد أن يعدّهم للالتحاق بسعد بن أبي وقّاص ورفاقه في معركة القادسيّة الأولى. في المقابل كانت إيران تفعل الشيء نفسه، غير أنّ شهداءها كانوا يلتحقون بقتلى موقعة الطفّ، وفي مقدّمهم يقف أبو عبد الله الحسين. كانت المفاتيح الصغيرة التي صُنعت في الصين هي الرمز السريّ الذي تتعرّف من خلاله الملائكة إلى ضالّتها. علينا أن نتخيّل مشهد الضحايا هناك. أقصد في مكان الانتظار. مَن قَتَل مَن؟ الماكينة نفسها لا تزال تعمل في أماكن مختلفة من العالم العربي».
شرق أوسط الموت. لكنّ أميركا أطلّت على إيران بابتسامة، فلنستبشر. ما نحن إلّا براغٍ في الماكينة.
***
شهر أيلول شهر الكلمات الطويلة. غدّار. دامع العينين على فراغ قلب. شهر انغلاق أبواب وانفتاح أبواب.
السائل عنك يوحي لك أنّه يشاطرك. أحاول أن أحصي اللامبالين. الخروج من هذه السيرة يحصيهم وينهيهم. لا تضعف، أقول له.
***
أرى وأسمع موسيقى «أرتي» أو «ميتزو» فأقول: لماذا لا يتعهّدنا هؤلاء؟ ثم أضجر. ويأتي دور بان كي مون والصليب الأحمر فأقول هذا هو الحلّ. لكنّ المرجعين المذكورين لا يريدان. ثم أقول لمَ لا تحتضننا فرنسا؟ خبزها طيّب وعندهم مكان لكلّ واحد. وطبعاً فرنسا ترفض فلا يبقى غير أميركا. لكنّ أميركا لا تريدنا الآن قبل أن تنتهي من تمزيقنا.
إذاً مَن؟ الروس؟
لا حول ولا قوّة إلّا بالله!
***
من الكتب التي وجدتها لدى عودتي إلى «الأخبار»: «شعراء أعلام من المشرق العربي» للدكتور ميشال خليل جحا. دارا «صادر» و«نلسن». 778 صفحة من القطع السميك. تصدير لإحسان عبّاس. من أفضل ما في هذا الكتاب أنّه لم يذكرني. يقول في مقدّمته: «أنا أعترف بأنّ هناك شعراء مهمّين لم يتّسع المجال لتناولهم في هذا الكتاب. إنّ عدم تناولهم لا يعني أبداً إنقاصاً من قيمتهم». من الواجب الشكر. لا أحسد سائر الشعراء على ضبّهم في هذا الكيس.
من الكتب الواردة «نقولا الحداد الأديب العالِم» لسلمى مرشاق سليم، عن الشامي المصري الصيدلي الكاتب. «نموذج كامل الأوصاف عن المثقف في طبعاته العربيّة الأولى». كنّا نتمنى خلوّ الغلاف الأخير من عبارتَي «الصيدلاني _ الأديب في آن واللبناني _ المصري في آن». لا معنى للفظة آن وحدها دون تحويلها إلى عبارة كاملة كقولك «في آن واحد». أو «في الآن ذاته».
بين الكتب الجديدة «من جورج واشنطن إلى أوباما _ الولايات المتحدة والنظام الدولي» للدكتور حسين كنعان، عن «دار النهار». ينظر المؤلّف بعطف وإيجابيّة إلى الموضوع الأميركي ولا يستعديه سلفاً ويشير إلى منابع يستطيع القارئ العربي من خلالها فهم العقليّة الأميركيّة فهماً أعمق.
مفاجأة أخيرة: كتاب «الشوير وتلالها _ سجلّ مصوّر» لبدر الحاج، عن «دار كتب». الصورة الأولى لمصوّر مجهول: الدكتور خليل سعاده وعائلته في 20/11/1912. الصورة الثانية لنسيب خنيصر عن كنيسة المخلّص للروم الكاثوليك في ضهور الشوير في الثلاثينات من القرن العشرين. الصورة الثالثة لوديع مجاعص، صفحة زجاجيّة تمثّل غطّاس عطايا حوالى عقد العشرينات من القرن الماضي. الرابعة لوديع مجاعص عن رشيد زغيب حوالى عقد 1920. الخامسة لنسيب خنيصر عن سيّدة شويريّة حوالى عقد 1930. إلى المقدمة فالأقسام. أعرف كثيرين، أنا منهم، سيتحلّب ريقهم لتصفّح هذا الكتاب ويتمنّون لو كان لبلداتهم وقراهم مثله. غزير، بكفيا، زوق مكايل، جزّين، تنورين، عمشيت، عاليه، دير القمر، بيت الدين، حصرون، اهدن، بشري، بنت جبيل، مرجعيون، راشيا، بعلبك، زحلة، انطلياس، دوما، بيت شباب… مشروع يحتاج إلى وزارة ثقافة. ولبنان بحاجة إلى وزارة ثقافة أكثر ممّا هو بحاجة إلى حكومة.
ماضينا متجذّر في رؤوسنا. نستعيده في الفولكلور الغنائي فلماذا لا يُستعاد أيضاً بالصورة والكلمة؟ مشروع كمشروع بدر الحاج غرسةٌ في حقلٍ فارغ. دعونا نراه يتوالد.
***
كان أبي يقول لي: «عمول حالك مش عارف». بهذا كان يعالج ثلاثة أرباع مشاكله. الصديق إميل منعم يذهب أبعد: «اليوم _ يقول _ يموت الواحد ثم يسترجعونه. يكون ممزّقاً إرباً ويعيدون تركيبه. لا تنقّوا. يعيش نيتشه!».
كان نيتشه يكابر. يزكزك نفسه ليقهقه. أما من قوّةٍ سوى هذه؟ أما من صحّة حقيقيّة؟
أهل الجبال.
قوّة ابن الجبل.
بثقافة وبدونها.
***
هذه المرأة التي تترقوَص على الشاشة أهذه هي الفرح؟
أعدني أرجوك إلى الهورس شو، عند السيّد منح دبغي، قبل الحرب (أيّ حرب!؟) بأربعين سنة. كنّا ملوكاً. أرادت إحدى الأطروحات أن تكتشفني. أيّها الأعزّاء الذين تغارون عليّ ولا تعرفون مَن أنا، كم كتاباً يجب أن يؤلّف المرء؟ كم قرناً يلزم أن ينشر في صحف لبنان حتّى يصبح معروفاً؟ كم قرناً يلزم لهذه الأجيال حتّى تعرف آباءها؟ أجدادها؟ لعلّنا يجب أن نُطوّب قدّيسين. لكن ألسنا كذلك؟ هل في لبنان قدّيس أكثر ممّن أمضى الأعمار يكتب في بلدِ الأجرة والثراء الأسرع من البرق وهو لا يزال يحتاج إلى نوّاصة كي يراه اثنان ثلاثة من العابرين؟
***
هل يمكن أن أقول ما لم أقل؟ بعضه، بعضه فقط!؟ ترتعد أوصالي لمجرّد الخاطرة. قد يؤتى هذا في «الحالات الثانية»، تحت البنج، أو في مسامرة تجرف خلالها الحماسة حواجز وتفكّ قيوداً، لكنّها سوانح. ليتني أنام وتنطق ذاكرتي وذهني فيما أحدٌ يسجّل لي. كأنّ كلّ ما حصل معي أو شهدتُ له أو عليه حصل ثقة منه بامتناعي عن ترداده. إذا كانت هذه وساماً لي من القَدَر فأستطيع أن أعتبره لا رشوة فحسب بل سجناً. إنّه القفص الذي أُسرَتْ فيه روحي باسم الوفاء.
ولستُ نادماً حقّاً ولا آسفاً إلى حدود التراجع. إنْ هيَ إلّا أَنّة.
عابــــــرات
نظرةٌ تجد فوراً نقطة الضعف فيك مهما كنتَ مغلّفاً، وتخترقها.
***
العينُ تَشتدُّ حين يلين القلب، والقلبُ شديدٌ حين العين طريّة.
***
يسقط عنّا سحر فنطارد سحراً آخر. وُلد الشعراء ليقعوا في الحبائل. إنّهم غرباء الأمم، والكبير فيهم، من فرط غربته، لا يعرف إنْ كان يمشي على الأرض أو هي الأرض تمشي عليه.
***
كما يخلق الله كائناتٍ لا تُصدّق أنّه خَلَقها، يخلق الشاعر أشخاصاً ومناخات، أحلاماً واستجابات، ولا يصدّقه أحد.
الله يعرف مسبقاً. الشاعر لا يعرف.
حميميّــــة [3] -أنسي الحاج
سبتمبر 14, 2013
أنسي الحاج
جريدة الأخبار اللبنانية
أنسي الحاج اتخذت حلقتا «حميميّة» (الانطباع الأوّل) طابعاً لم أرده لها، وآلمني أن يعتقد أصدقاء أنّي أغفلتهم بموقف استبعادي. لكنّها الذاكرة ولا شيء آخر. ذاكرة خائنة ومسوّدة للوجه. أورد هنا حلقة ثالثة، وأنا متأكّد من كوني سأنسى أيضاً مَن يجب أن لا أنساهم، وأرجو