"
لا شيء يدل" - قصائد لصائد الفراشات
أوٌل الرٌبيع
أورقت شجرة التوت في الحديقة
وارتفعت عاليا إلي الشرفة
حملته الخضرة الدانية علي الذكري
كان ضحي
كان الربيع في أوٌله
عندما حملها بين يديه
وزرعها هناك
مرٌ وقت طويل إذن
يمكنه بعد أسابيع
أن يمدٌ يده إليها ويأكل
النٌساء
كنٌ يأتين في الضحي
بصحبة أطفالهن المعلولين
يعبرن القنطرة الخشبية
ويمشين بخطي متوسلة
إلي الِبركة في مواجهة الضريح
وعندما يؤذٌن لصلاة الجماعة
كن يلقين بالأطفال في الماء
ثم يخلعن عنهم الملابس الصغيرة الملونة
ويتركنها علي الشاطيء هناك
قبل أن يضعن النذور
ويتبرٌكن بالمقام
وكان يتعيٌن عليهن
أن يفعلن الشيء نفسه لأسابيع
وكنا نذهب إلي هناك لمشاهدة النساء
ونري الأطفال يتعافون
أسبوعا بعد أسبوع
صورة في إطار
كنت في العاشرة
لست صبيا بعد
ولم أعد طفلا كذلك
وكان أخي يكبرني بتسع سنين
وهو يراهق بشدٌة
في ذروة مراهقته
شدٌ شعره بالصابون
وصبغه بالأوكسجين
وقد التجقطت له آنذاك
صورة بالأبيض والأسود
لا أدري كيف أعاد المصور تلوينها هكذا
فإذا أخي أشقر
وعيناه خضراوان
وضع أخي الصورة في إطار
وججنٌ بالغناء
أراد بالفعل أن يكون مطربا
وكانت به عِلٌة غريبة
أنه يقرأ
لكنه لا يكتب
وقد استخدمني لصغري
كاتب أغان
لا شيء يدل
لا شيء يدلٌ عليها الآن
ربما كانت هنا
ربما كنا نصعد إليها
علي درجي خشبيٌ
ينتهي بشرفة مكشوفة
تبدأ من عندها الحقول
وتمتدٌ إلي آخر ما نري
هل تعلٌمت شيئا
في مدرستي الأولي
ومتي تركتها لأتعلٌم
تحت سماوات من رصاص؟
لا أذكر
أذكر للآن المدي الأخضر
لا شيء يدلٌ الآن
سدٌ من طين
صبيان في الظهيرة
خلف سدٌ طينيٌ
ينحنون هكذا
بكل ما يقع بأيديهم
وبأيديهم
ينشلون الماء
يمكن رؤية كم هم سعداء
يمكن رؤية عوراتهم مكشوفة
يمكن بعدها
رؤية الأسماك والأصداف
امرأتان
قبل سنوات بعيدة
راجت في ناحيتنا مجلٌة جريمة
اعتدت في تلك السٌن
أن أقرأها لامرأتين
غاب عنهما زوجاهما
قرأت لهما ذات مرٌة
جريمة خيانة
كان الزوج غائبا
وكانت الليالي طويلة
وكانت المرأة تواعد الرجل الآخر
وتكتب له رسائل عارية
اعتادت أن توقعها بقبلة حقيقية
استمعتا بشغف إلي الرسائل
وبدتا مستثارتين
وربما تحاضنتا
وهما تحملقان في شفتي المرأة المكتنزتين
بلون طلائها المفضل
بدتا علي الورق
أكثر تطلٌبا وشهوة
أخيرا انتبهتا لي
خزيتا قليلا
وأغرقتا في الضحك
سرعان ما يأتي الصيف
تأتي الكرٌاكات
وتطهٌر مجري النهر
يبدو وقد حجفٌ شاطئاه
أعمق مما نظنٌ
ونحن نسبح علي مائه
لكنٌنا سرعان ما ننسي في الصيف
تأتي البلابل
وتبني بيوتا في طين الشطٌ
تضع بيضها في الداخل
وتملأ الفضاء بالشٌدو
بلابل خضراء في متناول اليد
لكنها سرعان ما تطير في الصيف
ترفع الفتاتان أذيال ثيابهما
وتخوضان في الماء
تضيء بشرتاهما تحت الشمس
وينعكس ماء القرار
رائقا مثل بلٌلور
لكنه سرعان ما يعتكر في الصيف
سكٌة البحر
علي طول الطريق من البحر
تأتي جموع الصبايا
بجراري مرفوعة علي الرأس
صبايا بأعناقي طويلة
وقدودي فائرة
بجراري بيضاء
وجراري بيضاء بلطخات حمراء
ثّمٌ علي طول الطريق
صبايا ووشوشات
وضحكات منطلقة
وثّمٌ فضوليون وعشٌاق
علي هذه الطريق
كّمنّ أبي لأمي
وضع الجرٌة عن رأسها
وحملها إلي الدار
النٌوْل والدٌولاب
مات أبواي في الوباء
وهو دون العشرين
وجد أخي الأكبر نفسه أبا
حتي تبقي الدار مفتوحة
ترك أخي دراسته
وعمل علي النٌول
كان النٌول لأبي
يجلس أخي في صدر الغرفة
ظهره إلي الحائط
ويرتفع السٌدّي أمامه إلي قرب الباب
تعمل ساقاه صعودا وهبوطا علي الدٌوٌاسات
المشدودة إلي النٌير
فيما تتناوب يمناه ويسراه حّدْف المكٌوك
وتتحرٌك رأسه في الاتجاهين
علي ذات الإيقاع
أجلس أنا علي العتبة
وأدير الدٌولاب
ننسج معا مقاطع زاهية
من قطني مصبوغ
حجّر وقشٌ
قشٌ ذهبيٌ
درج من حجري أبيض
ينحدر إلي الماء
الصفصاف يميل علي الماء
يتوضٌأ في الماء الجاري
الصبية يلهون علي الجسر
والفتيات يملن علي الماء
الفردوْس
يزرع الرجل قطعة أرض
علي الشاطيء الآخر
يزرع ما لانزرع هنا
يزرع الرجل فاكهة
وقصب سكر
ويعيش وحده في كوخ هناك
يشعل نارا من حطب أشجاره
ويضع إبريقه علي طرفها
ظلٌ الجمٌيز
كانت شجرة جمٌيز
تنمو علي حافة ترعة
تمرٌ من أمامنا
للمقهي تحتها مصطبة خلفية
تطلٌ علي سكٌة الحديد
هناك يجلس الرجال
يدخٌنون في الأصيل
تمرٌ القطارات في ساعات معلومة
بعضها لايلوي علي شيء
بعضها يتوقٌف
يأتي عمٌي في ساعةي معلومة
يجلس إليهم
وتتهلٌل الوجوه
لعمي وجه وضيء
وسريرة بيضاء
يأتي دائما بشيء لامرأته وأولاده
ينتظر إلي أن يجتمعوا
ماذا يجري بينهم هناك
يعود عمٌي وقد تغيٌر كثيرا
يمضي مطرقا
لايلوي علي شيء
في مديح الخالة
كان لايزال طفلا
عندما ماتت خالته
وذهب مع أمه إلي هناك
ورأي الناس تبكي
وفي غمرة انفعالهم
بكي طفلي أيضا
وحمل معهم الجسد المسجٌي إلي هناك
ثم وقف بينهم والدموع في عينيه
يتلقي العزاء
كان الخلاء شاسعا
سمع عويل النسوة علي البعد
وبدا طيٌبا
أن يشدٌ كل هؤلاء علي يده
وعندما عاد من هناك
كان طفلي أكبر
الطٌفل
عندما دعينا لرؤيته أوٌل مرٌة
تمنٌينا نحن جّدٌيه
أن تكون له ملامح أبيه في طفولته
لكن الطفل كان صورة من أمٌه
وكانت ابتسامته العذبة
هي كلٌ ما دلٌنا عليه
شعرنا بغصٌة وكأنه ليس طفلنا
ونقمنا أكثر علي الكنٌة
لأنه لم يولد في دارنا
وكأنه لو ولد بيننا لكان شبهنا
فيما كان الطفل في المهد
يستلقي في هدوء
ويتطلٌع إلينا
وكأنما يحدٌق في فراغ
فجأة رفس منامته وعرٌي قدميه
كانت له قدمان جميلتان
وكان له لدهشتنا
إصبع سادس نحيل
ينام علي إصبعيه الصغيرين
تماما كما كان لجدٌته
وفي الموضع ذاته حيث استأصلته
بدت قدما الطفل
مثل معجزة حدثت لتوٌها
انحنينا نقبلهما بامتنان
واندفعنا نحتضن الطفل
الشٌباك
هل رآه أحد منا يدخٌن؟
لا أدري
لكنني كلما تذكٌرت خالي
تذكرت شبٌاك غرفته
الشبٌاك العالي
بين السرير والدولاب
بنصفه السفلٌي
الموصد دائما
وقاعدته العريضة
التي تضرب بعيدا في الجدار
وقد كساها بالورق
ووضع عليها أشياءه
الطربوش القاني
العصا الأبنوس
بيدها الناعمة
المخروطة من قرن الجاموس
إلي جوارها صحف الأسبوع
مطوية بعناية
وصفوف
من علب سجائر فارغة
اعتدت أن أراها هكذا
نظيفة ولامعة
كأنٌما فرغ منها للتوٌ
زيارة إلي منزل الخال
هذا ما بقي من طابقين
وإحدي عشرة غرفة
وزريبة واسعة
كومة أحجار
هل يمكن نسبتها إلي الدار
هل وضعها أحدهم هناك
هل يمكن أن تبيد حياة بكاملها
وتصير إلي لا شيء
الناس
والطيور
والبهائم
ماذا يفعل طفل
عاش هنالك
ورأي؟
هنا حيث تضوٌع الشٌّهد
هنا حيث كانت حقول
وجداول
وأشجار توت
هنا حيث نوٌّر البرسيم
وطنٌّت النحلات
وتضوٌّع الشٌّهد
ورفرفت فوق رؤوسنا فراشات بيض
هنا
تقوم بيوت متلاصقة
وتسيل مجارير
آخر النٌهار
جمرة متٌقدة
يعلوها رماد كثيف
رماد نهار بطوله
تلمع في أطرافه
شرارات مشتعلة
تومض ثم تنطفي
ويحجلٌ ظلام شفيف
حياة أخري
لو حدث هكذا
يكون شيئا حسنا
تفتح الباب وتجدني
باب الشٌرفة مفتوح
الشمس في منتصف الصالة
وأنا مستلقي هناك
وساقاي بطولهما علي الطاولة
الكتاب في حجري
وإلي جواري سجائري