عرض كتاب: ابن زيدون
اسم الكتاب: ابن زيدون.
المؤلف: د. شوقي ضيف.
سنة النشر: 1981 م.
دار النشر: دار المعارف- مصر.
الطبعة: الحادية عشرة.
صفحات الكتاب: 126.
مَا عَلى ظَنّيَ بَاسُ
يَجْرَحُ الدّهْرُ وَيَاسُو
رُبّما أشْرَفَ بِالمَرْ
ء، عَلَى الآمَالِ، يَاسُ
وَلَقَدْ يُنْجِيكَ إغْفَا
لٌ وَيُرْديكَ احْتِرَاسُ
والمحاذيرُ سهامٌ
والمقاديرُ قياسُ
ولكمْ أجدَى قعودٌ
ولكمْ أكدى التماسُ
وَكذَا الدّهْرُ إذَا مَا
عزّ ناسٌ، ذُلّ ناسُ
صوت الأندلس المطرب، وشاعرها بديع الوصف والرصف، واسطة عقد شعراء الأندلس الرطيب، أحمد بن عبد الله بن زيدون الذي يقول عنه ابن بسام في مؤلفه "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" (1/ 336): "أحد من جرَّ الأيام جرًّا، وفات الأنام طرًّا، وصرف السلطان نفعًا وضرًّا، ووسع البيان نظمًا ونثرًا؛ إلى أدب ليس للبحر تدفقه، ولا للبدر تألقه. وشعر ليس للسحر بيانه، وللنجوم الزهر اقترانه. وحظٍ من النثر غريب المباني، شعري الألفاظ والمعاني"...
يعرض لنا د. شوقي ضيف في كتابه "ابن زيدون" جوانب من أدب وعبقرية "ابن زيدون" الشعرية مع ترجمة مختصرة ماتعة تبرز لنا جوانب من شخصية ابن زيدون الاجتماعية، وسيرة حياته، مضطربة الأحداث مضطرمة الإبداع.
وهذا الكتاب يعد من أدب "السير والتراجم" الصادر ضمن سلسلة "نوابغ الفكر العربي" عن دار المعارف، وهي سلسلة تهتم بتقديم صورة حية لأهم الجوانب الفكرية والتاريخية الحياتية للمفكر المترجَم له، وإبراز جوانب من مواطن عبقريته وتفرده بين أبناء عصره، وريادته الفكرية في عهده .. وفي هذه الدراسة يقدم المؤلف ترجمة تاريخية صادقة لسيرة "ابن زيدون"، وعصره، وجوانب من تميز "ابن زيدون" في قصائده شديدة العذوبة والشاعرية؛ يقول د. شوقي ضيف واصفًا ابن زيدون وأثره الأدبي:
"وأكبر الظن أننا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن ابن زيدون هو أهم شاعر وجداني ظهر في الأندلس، فهو أستاذ هذا الفن هناك، إذ كان أول من اعتصر فؤاده شعرًا عذبًا فيه جوىً وحرقةً وهوىً ولوعة، وتبعه أصحاب الموشحات والأزجال يصوغون على هديه ويحتذون بمثاله"؛ صـ43.
ولعل هذه الشهادة من جانب د. "شوقي ضيف" تبرز لنا ريادة "ابن زيدون" شديدة التميز في ذروة تألق الشعر الأندلسي وتطوره في الفنون البديعية كالموشح والزجل والدوبيت والمواليا التي صارت علامات مميزة تفرد بها الشعر العربي الأندلسي وأثرَّ بعدها في نشأة الشعر الأوروبي الحديث في إسبانيا وفرنسا.
ومؤلف الكتاب د. "شوقي ضيف" هو أديب وعالم لغوي مصري والرئيس الأسبق لمجمع اللغة العربية المصري.
ولد شوقي ضيف في يوم 13 يناير 1910 م بمحافظة دمياط شماليّ مصر. ويُعدُّ علامة من علامات الثقافة العربية، وكان الدكتور "شوقي ضيف" عضوًا في مجمع اللغة العربية في سوريا، وعضو شرفٍ في مجمع الأردن والمجمع العراقي. ونال أكثر من جائزة، منها: جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1979، وجائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي عام 1983. وجائزة مبارك للآداب عام 2003، وكذلك مُنحَ دروعًا من عدة جامعات كالقاهرة والأردن وصنعاء.
وقد ألَّفَ الدكتور شوقي ضيف حوالي خمسين مؤلفًا في مجالات الأدب العربي، وناقش قضاياها بشكل موضوعي، منها:
• سلسلة تاريخ الأدب العربي، وهي من أشهر ما كتب. استغرقت منه ثلاثين عامًا شملت مراحل الأدب العربي منذ خمسة عشر قرنًا من الزمان، من شعر ونثر منذ الجاهلية وحتى عصرنا الحديث، سردها بأسلوب سلس، وبأمانة علمية، وبنظرة موضوعية. وتعتبر هذه السلسلة هي مشروع حياته بحق.
• نشر وحقق كتاب "الرد على النحاة" لابن مضاء، وأخرجه من بين المخطوطات القديمة، ودرسه وأعاد نشره. وهو كتاب ألفه ابن مضاء في النحو، يلغي فيها أمورًا رأى أنها عقَّدت النحو العربي وجعلته صعب الفهم.
• كتاب تجديد النحو.
• كتاب تيسيرات لغوية.
• كتاب الفصحى المعاصرة.
وله مؤلفات في النقد الأدبي، منها:
• من النقد والأدب - مكتبة نهضة مصر بالفجالة - القاهرة.
• ومن بلاغة القرآن - مكتبة نهضة مصر بالفجالة - القاهرة.
• أسس النقد الأدبي عند العرب - مكتبة نهضة مصر بالفجالة - القاهرة.
• شعر الثورة في الميزان - مكتبة نهضة مصر بالفجالة - القاهرة.
• الحياة الأدبية في عصر الحروب الصليبية بمصر والشام.
وله عدد من التراجم، منها:
• رفاعة رافع الطهطاوي - لجنة البيان العربي - القاهرة 1950.
• مع الصحفي المكافح أحمد حلمي - مكتبة نهضة مصر - القاهرة 1957.
• صلاح الدين الأيوبي بين شعراء عصره وكتابه - دار القلم - القاهرة.
• حياة البحتري وفنه - مطبعة لجنة البيان العربي - القاهرة 1956.
• ديوان المتنبي في العالم العربي وعند المستشرقين - مكتبة نهضة مصر بالفجالة.
وصف الدراسة:
وضع الكاتب دراسته في أربعة فصول، تناول فيهم سيرة مختصرة لحياة "ابن زيدون" وأثره في عصره، وعرض بعضًا من أدب وقصائد "ابن زيدون" جماليًا، مع تحليل لأثر هذه القصائد وعلاقتها بحياته السياسية، ونظراته النقدية في تميز هذه القصائد ومدى تفردها ومواطن الابتكار فيها، بالإضافة إلى أنه ضمَّن ترجمته مختارات كاملة من بديعيات قصائده، ومقتبسات من أدبه النثري المتمثل في رسائله؛ للإشارة إلى نتاجه الأدبي الرائد في وقته وتأثر كثير من أدباء عصره بأسلوبه الشعري، إلى جانب تأثره بكثير من أدباء المشرق في قصائده وعلى رأسهم البحتري وأبو تمام والمتنبي وغيرهم.. وجاءت عناوين تلك الفصول على النحو التالي:
الفصل الأول: عصر ابن زيدون.
الفصل الثاني: ابن زيدون في عصره.
الفصل الثالث: جوانب ابن زيدون.
الفصل الرابع: منتخبات من آثار ابن زيدون.
تناول الفصل الأول بعنوان: "عصر ابن زيدون" وصفًا للعصر الذي ظهر فيه "ابن زيدون"؛ تمهيدًا لسيرة المترجَم له، حيث تناول الحياة السياسية في القرن الخامس الهجري في بلاد الأندلس – حيث عاش ابن زيدون- والتي شهدت أفول الخلافة الأموية التي فتحت الأندلس، وتولىَ الحكم من بعدهم مجموعة من الملوك الضعاف سُمَّوا بـ"ملوك الطوائف" تقاسموا مدن الأندلس فيما بينهم وكثرت بينهم المشاحة والفتن والاضطرابات، فصارت الأندلس "أندلسات كثيرة ودويلات صغيرة يناهض بعضها بعضًا، كما كانوا يناهضون أعداءهم من المسيحيين في الشمال، وغُلبَ كثير من هذه الدويلات الإسلامية على أمره، فنزل عنه أصحابه لفرناند ملك قشتالة وليون، أو دفعوا الجزية عن يدٍ وهم خاضعون، وتبعَ "فرناند" "ألفونس السادس" فسعر الأندلس بحروبه وأشعلها بجيوشه، فاستغاث "المعتمد بن عباد" زعيم ملوك الطوائف بـ "يوسف بن تاشفين" ملك المرابطين في المغرب، فأغاثه بجيش جرار هزم المسيحيين هزيمة منكرة في موقعة "الزلاقة" المشهورة، ولم يلبث أن ضم الأندلس كلها تحت جناحي دولته، إذ رآها لقمة هينة سائغة، وبذلك قضي على هذا النظام المعروف باسم ملوك الطوائف" صـ6.
بذلك نلمح ملامح من تلك الفوضى السياسية التي انتظمت الأندلس طيلة فترة حياة ابن زيدون، حيث يمكن تفسير سر تقلبات "ابن زيدون" واضطراب نوازعه السياسية التي تماشت مع تلك الفترة الحرجة من تاريخ الأندلس، وقد أدت الفوضى السياسية إلى تنوع وحراك اجتماعي حيث نجد أنه في خلال تلك الفترة لم يكن في العالم العربي إقليم اختلطت به الدماء والأجناس كما اختلطت بالأندلس، يقول شوقي ضيف "وكأن الأندلس بلد المتناقضات، فهي بلد الثورة المستمرة، وهي بلد التقاليد الدينية، ثم هي بلد الترف إلى أوسع ما يكون الترف" صـ9.
وفي ظل ملوك الطوائف تنوعت الحياة الفكرية وازدهرت فنون الأدب وحدثت نهضة علمية وفكرية كبيرة، ربما كان تأثرها ببلاد المشرق، حيث ارتبطت الأندلس في تاريخها الأدبي ببلاد المشرق وحاول أدباؤها محاكاة شعراء وأدباء العراق والشام والجزيرة، غير أنه ما سرعان ما نرى تميز هؤلاء المغاربة عن نظرائهم من المشارقة، وجمعَ كل ملك من ملوك الطوائف حوله أكبر عدد ممكن من الأدباء والشعراء ليباهي بهم وينافس فيهم من حوله من الملوك والسلاطين، وفي هذه البيئة ظهر شاعرنا "ابن زيدون".
تناول الفصل الثاني ترجمة سريعة خاطفة لابن زيدون، وحياته، حيث وُلدَ بقرطبة سنة 394 هـ - في ظل سقوط دولة الأمويين وقيام حكم "أبو الحزم جَهْور" - في بيت من بيوت أعيانها وفقهائها، فأبوه فقيه من سلالة بني مخزوم القرشيين، وجده لأمه القاضي والمفتي الوزير "أبو بكر محمد بن محمد بن إبراهيم"، وقد اهتم أبوه بتربيته وكان له أكبر الأثر في نبوغه المبكر، وقد لزمَ "ابن زيدون" صديق أبيه "أبي العباس بن ذكوان" عالم قرطبة الأول في عصره، وأخذ عنه كثير من العلوم الأساسية في عهده، وقد بان أثر العلوم التي حازها في صغره في كثير من شعره، فقد أبرز د. "شوقي ضيف" مواطن هذا التأثر من أمثلة قوله:
همامٌ أغرُّ رويتُ الفخارَ *** حديثًا إلى سَرْوِهِ مُسنَدا
يبين الحديث المسند عند أهل الحديث والفقه.
ودادي لك نَصٌ *** لم يخالفه قياسُ
يشير إلى ما هو معروف عند علماء الأصول من تقديم نص الكتاب والسنة على القياس العقلي في الأحكام الفقهية.
وقوله:
عَرَضْتَ لشعري ولمْ تتّئبْ *** تُعَارِضُ جَوْهَرَهُ بِالعَرَضْ
حيث يذكر الفساد والجوهر والعرض مما يدل على ثقافته الفلسفية.
ويبدو أن شاعرنا سرعان ما انخرط في السياسة حيث كان في حاشية "جهور" حين تقلد مقاليد الحكم في قرطبة، ولا نعلم هل كان موظفًا كبيرًا أم شاعر بلاط، غير أن ما لدينا من أخبار يهتم بأخبار حبه وهيامه بولادة بنت الخليفة المستكفي الشاعرة الجميلة - بقية بيت الملك - ودلالها عليه، وكتابته الكثير من القصائد في وصفه هذه الفتاة اللعوب والتي خلدت قصائده اسمها في تاريخ الشعر الأندلسي، يقول ابن زيدون في هيامه بها:
لحا اللَّهُ يومًا لستُ فيهِ بمُلْتَق
مُحَيّاكِ من أجلِ النّوَى والتّفَرّقِ
وكيفَ يطيبُ العيشُ دونَ مسرّة ٍ
وأيّ سُرورٍ للكَئيبِ المُؤَرَّقِ؟
وسرعان ما نافسه في حبها وزير خطير هو "أبو عامر بن عبدوس"، وتولع ابن زيدون بولادة التي مالت عنه إلى خصمه، فكتب يتهدده وألف في هجوه والتندر عليه "الرسالة الهزلية"؛ فألَّبَ عليه "ابن عبدوس" السلطانَ فحاكمه وحبسه.
وفي سجنه نراه يبدع العديد من قصائد الاسترجاء والاستعطاف يناشد فيها أبا الحزم "جهورًا" أن يعفو عنه:
ومثليَ قدْ تهفو بهِ نشوة ُ الصِّبَا
وَمثلُكَ قد يعفو، وما لكَ من مثلِ
وإنّي لتنهَاني نهايَ عنِ الّتي
أشادَ بها الواشي، ويعقلُني عقلي
ولم يكتف ابن زيدون بأشعاره وقصائده الطنانة، بل واتبعها برسالة نثرية بديعة تشتهر باسم "الرسالة الجِدِّية" يستعطفه فيها، وذهبت شكاويه سدى فانقلب إلى ابنه "أبي الوليد بن أبي الحزم" يمدحه ويتخذه وسيلة لأبيه للعفو عنه، ولم يجد مناصًا في النهاية سوى الهرب من سجنه والاختفاء لبعض الوقت حتى توسط أصدقاؤه ومنهم "أبو الوليد" في الصلح بينه وبين "جهور" من جديد.
وعندما توفى "جهور" وتولى ابنه "أبو الوليد" الحكم، لزمه "ابن زيدون" ومدحه، "وتفيض أشعاره في أبي الوليد بالإخلاص، وقابل أبو الوليد هذه الأشعار باتخاذه سفيرًا له بينه وبين ملوك الطوائف" صـ25.
غير أن هيام ابن زيدون بحبه القديم "ولادة" لم ينقطع، وظل يدبج قصائده الشهيرة في هواها، ولكن سرعان ما وقعت جفوة بينه وبين "أبي الوليد" على إثر ثورة ومحاولة انقلاب على حكمه، واتهام الملك "ابن زيدون" بالمشاركة فيها؛ فرحل عنه إلى "المعتضد بن عباد" صاحب إشبيلية.
وفي بلاط "بني عباد" التزم الشاعر مدح "المعتضد" حتى توفي سنة 461 هـ، وخلفه ابنه "المعتمد" الأمير الأديب رقيق الحاشية؛ الذي قربه وحفظ وداده وعرف قدره، وعاش "ابن زيدون" حياةً لاهيةً بان أثرها في موشحاته وأشعاره الرقيقة حتى كانت سنة 463 هـ حينما ثارت ثورة العامة على اليهود في إشبيلية فأشار منافسوه على المعتمد أن يرسل "ابن زيدون" لتهدئة الثورة وكانت السن تقدمت به وبه أثر من مرض، فما إن وصل إشبيلية حتى ثقل عليه مرضه وقضى "ابن زيدون" نحبه.
وجاء الفصل الثالث بعنوان "جوانب ابن زيدون" حيث تناول الكاتب آثار ومؤلفات ابن زيدون؛ وعلى رأسها ديوان شعره، وهو ديوان كبير، نشره الأستاذان "كامل كيلاني" و"عبد الرحمن خليفة"، ويبرز د. "شوقي ضيف" أوجه النقص فيه وعدم الترتيب الزمني لقصائده وإغفال أوجه تطور المراحل التاريخية لشعر ابن زيدون، "ومن يرجع إلى ديوانه يستطيع أن يلاحظ في وضوح أن الموضوعات الأساسية التي تتوزع في شعره هي الغزل والمديح ويدخل فيه ضرب من الاستعطاف" صـ31.
وشعر المديح متأخر عن شعر الغزل، حيث أن ما ألفه من مديح كان بعد سجنه وهيامه بولادة، وشعر الحب عند ابن زيدون هو أقدم ضروب الشعر في ديوانه، ومنه قوله:
أنّى أضيّعُ عهدكْ؟
أمْ كيفَ أخلِفُ وعدَكْ
وقدْ رأتْكَ الأماني
رِضى ً، فَلَمْ تَتَعَدّكْ
يا ليتَ ما لكَ عنْدي
منَ الهوى ، ليَ عندَكْ
فَطَالَ لَيْلُكَ بَعْدِي
كطولِ ليْليَ بعدَكْ
سَلْني حَيَاتي أهَبْها
فلسْتُ أملكُ ردّكْ
الدّهْرُ عَبْدِيَ، لَمّا
أصْبَحتُ، في الحبّ، عَبدَكْ
ومنه قوله أيضًا في هيامه بـ"ولادة":
هَلْ لِداعِيكَ مُجِيبُ؟
أمْ لشاكيكَ طَبيبُ؟
يا قَرِيبًا، حِينَ يَنْأى
حاضِرًا، حِينَ يَغِيبُ!
كَيْفَ يَسْلُوكَ مُحِبٌّ
زَانَهُ مِنْكَ حَبيبُ!
إنّمَا أنتَ نسيمٌ
تَتَلَقّاهُ القُلُوبُ
قَدْ عَلِمْنَا عِلْمَ ظَنٍّ
هِوَ، لا شَكّ، مُصِيبُ
أنّ سِرّ الحُسْنِ مِمّا
أضمرَتْ تلكَ الجيوبُ
ونلاحظ في قصائد ابن زيدون مدى عذوبة ألفاظه وسلاستها، ومقابلاته البديعية المبتكرة من مثل قوله:
أيُوحِشُني الزّمانُ، وَأنْتَ أُنْسِي،
وَيُظْلِمُ لي النّهارُ وَأنتَ شَمْسي؟
وَأغرِسُ في مَحَبّتِكَ الأماني،
فأجْني الموتَ منْ ثمرَاتِ غرسِي
لَقَدْ جَازَيْتَ غَدْراً عن وَفَائي؛
وَبِعْتَ مَوَدّتي، ظُلْماً، ببَخْسِ
ولوْ أنّ الزّمانَ أطاعَ حكْمِي
فديْتُكَ، مِنْ مكارهِهِ، بنَفسي
أما شعر المدح فأبرزها ما قاله بعد اعتلاء "أبي الوليد" عرش قرطبة بعد أبيه، حيث عينه "أبو الوليد" على أهل الذمة، وهنا نجد أن "ابن زيدون" يلتمس منه وزارةً ويستعطفه في شعره أن ينيله إياها مما حدا بابن جهور أن يلقبه بـ"ذي الوزارتين" وندبه للسفارة بينه وبين ملوك الطوائف، ومنها:
فديتُكَ، إنّي قائلٌ، فمعرِّضٌ
بأوطارِ نفسٍ، منك، لم تقضِها بعدُ
منى ً كالشَّجا دونَ اللّهاة ِ تعرّضتْ
فلمْ يكُ للمَصْدُودِ، من نَفثِها، بُدّ
أمثليَ غفلٌ، خاملُ الذّكرِ ضائعٌ
ضَياعَ الحُسامِ العَضْبِ، أصْدأه الغِمدُ
أنا السّيفُ لا يَنْبو معَ الهَزّ غَرْبُهُ
إذا ما نبا السّيفُ، الذي تطبعُ الهندُ
لَعَمْركَ! ما للمَالِ أسعى ، فإنّما
يَرى المالَ أسنى حظّهِ، الطَّبِعُ الوَغْدُ
ولكنْ لحالٍ، إنْ لبستُ جمالَها
كسوْتُكَ ثوبَ النُّصحِ، أعلامه الحمدُ
أما شاعرية ابن زيدون فقد شهد بها القاصي والداني من معاصريه "فقد تعاقب الكتاب والمؤرخون يثنون على جمال ديباجته ورونق أساليبه، فالجميع مشدوه لروعة نظمه وشدة أسره" صـ37.
وكان الأدباء يسمونه "بحتريَّ المغرب" حيث يشبهونه بالشاعر الكبير "البحتري" رقيق الحاشية جميل الموسيقى في أشعاره.
وقد أشار د. "شوقي ضيف" في دراسته إلى تأثر "ابن زيدون" بكبار الشعراء الذين قرأ لهم أمثال أبي تمام وأبي نواس وابن المعتز والبحتري والمتنبي حيث احتذى أمثلتهم، واقتبس منهم كثير من المعاني، وقد نبه المؤرخ "ابن بسام" لهذه المواطن المشتركة في كثير من أشعاره؛ صـ39.
ويقول "شوقي ضيف" أنه "على كل حال يصور لنا ابن زيدون في شعره هذه الروح العربية العامة التي تتمسك بالماضي والتقاليد الموروثة، وفي الوقت نفسه ينبض شعره بحياة عصره وما كان فيه من حضارة وترف باذخ وإغراق في الحس والخمر واللذة، فاتصاله بالماضي لم يحُل بينه وبين تصوير الحاضر الذي عاش فيه" صـ41.
يقول ابن زيدون في قصيدته الشهيرة التي مطلعها:
أضْحَى التّنائي بَديلًا منْ تَدانِينَا *** وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا
يقول:
حَالَتْ لِفقدِكُمُ أيّامُنا، فغَدَتْ
سُودًا، وكانتْ بكُمْ بِيضًا لَيَالِينَا
إذْ جانِبُ العَيشِ طَلْقٌ من تألُّفِنا؛
وَمَرْبَعُ اللّهْوِ صَافٍ مِنْ تَصَافِينَا
وَإذْ هَصَرْنَا فُنُونَ الوَصْلِ دانية ً
قِطَافُها، فَجَنَيْنَا مِنْهُ ما شِينَا
ليُسقَ عَهدُكُمُ عَهدُ السّرُورِ فَما
كُنْتُمْ لأروَاحِنَا إلاّ رَياحينَا
لا تَحْسَبُوا نَأيَكُمْ عَنّا يغيّرُنا؛
أنْ طالَما غَيّرَ النّأيُ المُحِبّينَا!
وَاللهِ مَا طَلَبَتْ أهْواؤنَا بَدَلًا
مِنْكُمْ، وَلا انصرَفتْ عنكمْ أمانينَا
يا جنّة َ الخلدِ أُبدِلنا، بسدرَتِها
والكوثرِ العذبِ، زقّومًا وغسلينَا
وهذا الشعر العذب الذي فيه جوى وحرقة صادقة وهوى ولوعة جعل قصائده من الأهمية بمكان "حتى جعل كبار شعراء العربية من همهم أن يعارضوا بعض قصيده، كي يظفروا ببعض أنغامه، فعارضه صفي الدين الحلي والصفدي وأخيرًا شوقي في نونيته الأندلسية على نمط نونيته "أضحى التنائي"" صـ43.
أما أسلوبه في قصائده النثرية فهو جانب أدبي آخر ممتع من شخصية "ابن زيدون" الثرية، فـ"الرسالة الهزلية" التي أجراها على لسان "ولاَّدة" في بيان مثالب "ابن عبدوس" منافسه في حبها، رسالة طريفة من حيث الأسلوب الذي اتبعه فيها، ويرى د. "شوقي ضيف" أن ابن زيدون ساقها على نمط رسالة الجاحظ "التربيع والتدوير" وعلى نفس منهاجها، وتخلط التهكم بضرب الأمثال والأبيات التي تجري مجراها والتي تستمد معينها من باب الهجاء.
أما "رسالته الجدية" التي كتبها في السجن فنلمح فيها جانب من الضعف الإنساني لابن زيدون في استرحامه "أبي الحزم جهور" مع اعتزازه بوطنه قرطبة وإعلانه أنه لا يؤثر عليه وطنًا غيره، "وتمتلئ كسابقتها بذكر الأمثال، تتخلل ذلك عبارات نُزعت من الشعر والنثر القديم، من أجل ذلك كانت هي الأخرى تشبه متنًا من المتون، ولا ينفي ذلك أنها رائعة من الوجهة البلاغية"؛ صـ47.
وتناول الفصل الرابع الأخير نماذجًا ومنتخبات من آثار "ابن زيدون" مع شروح ما غمض من ألفاظها، فذكرَ نماذج من قصائده الشعرية الشهيرة، ومختارات من فرائد أشعاره المتفرقة الخاطفة قصيرة النفس، مع نصِّ الرسالتين الشهيرتين لابن زيدون "الهزلية" و"الجدية" الذي تخلى فيهما عن السجع، وهو أسلوب الرسائل في ذلك الوقت، واستخدم فيهما الأسلوب المرسل في نثره.