قراءة في كتاب يوثق الجرائم اليومية المستمرة التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي الذي يتغزلون بتحضره ورغبته في السلام. #بلال_فضل بعيداً عن كل ما تقوم به إسرائيل فوق سطح الأرض من جرائم وانتهاكات بحق الفلسطينيين، ثمة جريمة أكثر خطورة وأبعد تأثيراً تمارسها إسرائيل تحت سطح الأرض، حيث تسعى للسيطرة على 80 في المائة من المخزون المائي الموجود تحت أرض الضفة الغربية، والذي يعتقد ساسة إسرائيل أن مستقبلها معتمد على مخزونات المياه تلك، التي لا يمكن أن تظل تحت سيطرة الفلسطينيين، برغم أنها المصدر المائي الوحيد للفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية، مع أنهم يستخدمون فقط 17 في المائة منه، في حين تستخدم إسرائيل 83 في المائة منه، ومع ذلك تعمل على وصول المياه إلى مئات الآلاف من الفلسطينيين بكميات محدودة وبشكل غير منتظم.
ليست هذه الحقيقة على خطورتها، سوى جزء بسيط من تفاصيل مشهد كبير مخيف، يرسمه الكاتب الإسرائيلي إيال وايزمان في كتاب (أراض جوفاء) الذي يتتبع فيه مظاهر (الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي)، مشيراً في أحد فصول كتابه إلى مصطلح (انتفاضة المياه) الذي أطلقه وزير البنى التحتية الإسرائيلي السابق إيفي إيتام في عام 2005، حين اتهم الفلسطينين بإغراق الأرض عمداً بالفضلات ومياه المجاري بهدف "تلويث المياه الجوفية الإسرائيلية"، متناسياً أن السلطات الإسرائيلية أخفقت طول فترة احتلالها المباشر في توفير البنية التحتية اللازمة لمياه المجاري بالحد الأدنى الذي يوجبه عليها القانون الدولي بوصفها قوة محتلة، وبرغم أن المجتمع الدولي تعهد منذ بداية "عملية" أوسلو بتقديم أكثر من 230 مليون دولار أمريكي للبنية التحتية لمياه الصرف الصحي في الضفة الغربية، فقد أسفرت إجراءات وممارسات الجيش الإسرائيلي العسكرية عن تدمير جزء كبير منها، كما تسبب القصف الإسرائيلي لخطوط إمدد الطاقة الكهربية في يونيو 2006، في تعطيل المضخات الكهربائية وفيضان ثلاثة مرافق لمعالجة مياه المجاري في غزة، فضلاً عن عرقلة وتأجيل عدد من المشاريع التي تعهدت بها جهات دولية.
بسبب سياسة التفرقة الإسرائيلية التي عزلت البلدات والقرى الفلسطينية خلف شتى أنواع الحواجز والجدران، تدهورت الأوضاع الصحية لفلسطينيي الضفة الغربية، ونشأت بسبب صعوبة التنقل أكثر من 300 مقلب نفايات غير نظامي تقع بالقرب من البلدات والقرى، في الوقت نفسه تستخدم شركات إسرائيلية مواقع متعددة في الضفة الغربية للتخلص من نفاياتها الخاصة، على سبيل المثال لا الحصر، تُرمى عشرات الآلاف من أطنان القمامة المنزلية الإسرائيلية بالقرب من الضفة الغربية لمدينة نابلس، وبسبب فوضى التخطيط الإسرائيلي في بناء المستوطنات اليهودية التي تُبنى دون ترخيص، وتُسكّن قبل تركيب أنظمة الصرف الصحي لفرض الأمر الواقع، تتدفق مياه المجاري من التلال التي تبنى عليها المستوطنات إلى الوديان لتختلط بمياه الشرب الفلسطينية في بعض المناطق، وتختلط بمياه المجاري الفلسطينية في مناطق أخرى، وينتج عن ذلك خليط يتسرب إلى أنابيب المياه التي تم تركيبها تحت الجدار العازل، وهو ما ينشأ عنه ما يسميه إيال وايزمان "رُهاب الصحة الصهيوني"، الذي يؤكد خيالاً قومياً في إسرائيل يرى وجود الفلسطينين كمادة دنسة ضمن المشهد الطبيعي الإسرائيلي، لا يجب أن تكون في ذلك المكان أبداً.
بشكل أكثر وقاحة، استعملت الحكومة الإسرائيلية مياه المجاري كأداة فعالة لتهجير قبيلة الجهّالين الفلسطينية التي تعيش في منحدرات أسفل جبل تتمدد عليه مستوطنة معاليه أدوميم، حيث عمدت السلطات إلى كسر أحد أنابيب الصرف الصحي للمستوطنة، مما أدى إلى غمر مساحات واسعة ضمن مخيم القبيلة وحوله، بسيول ومستنقعات من المواد الملوثة لإجبار القبيلة على الهجرة، ليتم السماح لأفراد القبيلة الذين جرى إخلاؤهم بالاستقرار فقط قريباً من مقلب النفايات غير النظامي المجاور لقرية عزيرة الفلسطينية. وفي قطاع غزة الذي يعاني نصف سكانه من عدم استفادتهم من نظام الصرف الصحي، تفيض مياه المجاري على امتداد بعض مخيمات اللاجئين لتصب على الكثبان المحيطة بهم أو في شواطئ غزة مباشرة، وحين تبذل مكاتب الأمم المتحدة في بعض المناطق جهوداً لاستبدال منومة البنى التحتية القائمة بأخرى مدعمة بشبكة مواسير تحت أرضية دائمة، تقابل مساعيها بالرفض والعرقلة، في نفس الوقت لم تقم إسرائيل بالإفراج عن بعض الأموال الدولية القادمة لتمويل الخدمات العامة الفلسطينية والتي كانت تحتجزها لسنين، إلا خوفاً من أزمة صحية يمكن أن تنتقل إليها، أو لأسباب أمنية لأن استمرار تدهور الأحوال في المخيمات يشجع على توسع حركات المقاومة لإسرائيل.
في اجتماع داخل الكنيست أشار آفي ديختر رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي إلى أن صورة مخيم جباليا من الأقمار الصناعية تجعله يبدو كحديقة سنترال بارك في مانهاتن، لكن مع ملاحظة الصورة من زاوية أقرب، يتضح أن البحيرة في مركز الصورة ليست سوى حوض ضخم من مياه المجاري، وبالتالي فإن المخيم في أوضاع كهذه يصبح تربة خصبة للمقاومة، وهنا يستعيد الكاتب تصريحاً لرئيس بلدية القدس تيدي كوليك، يعترف فيه بكل بجاحة أنه لم يقم بخدمات للقدس الشرقية التي يسكنها الفلسطينيون إلا نظام صرف صحي مضيفاً: "هل تعتقدون أن ذلك كان لخيرهم ورفاههم، لا ليس الأمر كذلك، :ان ثمة إصابات بالكوليرا هناك، ودب الخوف من العدوى في أوساط اليهود، ولذلك أنشأنا نظام الصرف الصحي والتروية المائية، وبعد أن اكتمل تم التخلص نهائياً من النتانة غير المحتملة التي كانت تنتشر في القدس الشرقية".
على كثرة ما يقدمه الكتاب من معلومات موثقة عن سياسة إسرائيل لتحويل ما تبقى من الأراضي التي يعيش عليها الفلسطينيون إلى أراض جوفاء، عبر نشر المستوطنات ونقاط التفتيش والحواجز والجدران، وتطبيق منهج الاحتلال من الجو عبر الاغتيالات الموجهة في المناطق التي تم إخلاؤها لكي يعيش عليها الفلسطينيون، يظل من أخطر ما فيه وصف ورد للطريقة التي تم بها بناء مستوطنة على تلة فلسطينية مزروعة بالتين والزيتون، حيث تقدم مستوطنون بشكوى إلى الجيش الإسرائيلي، يشكون من الاستقبال السيء في هواتفهم المحمولة، فاستجابت شركة أورانج لهم بإنشاء برج هوائي لاستقبال الإشارة في المنطقة التي أشار إليها المستوطنون.
اعتبرت قوات الجيش الإسرائيلي أن إقامة هوائي مسألة أمن قومي لا تستدعي الحصول على موافقة من مُلّاك الأرض الخاصة، ولذلك تم الحصول على إذن من الجيش لتعيين حارس خاص للموقع، انتقل للإقامة في عربة مقطورة ووضع سياجاً حول موقع الهوائي، ثم انتقلت زوجته وأبناؤه للإقامة معه وتم مد منزلهم بالماء والكهرباء، وبعدها بأشهر انضمت إليهم خمس عائلات، وأصبح الموقع كياناً رسمياً تنامى باطّراد، وبنت فيه وزارة الإسكان والتعمير حضانة أطفال بحجة وجود عائلات، كما وصلت التبرعات من الخارج لبناء كنيس يهودي، لتصبح تلك البؤرة الأكبر من بين 103 بؤرة استيطانية تترامى على امتداد الضفة الغربية، طبّق مستوطنوها نصيحة آرييل شارون وزير خارجيتهم في 98 حين قال للمستوطنين "اهرعوا إلى انتزاع ما تستطيعون من التلال، لأن كل ما نأخذه الآن سيبقى لنا، وكل ما نتركه سيذهب لهم". ثم بعد هذا كله، وهو للأسف غيض من فيض، يتعجب الأوساخ من أبناء جلدتنا حين ينفجر غضب الفلسطينيين.
hassanbalam يعجبه هذا الموضوع
قراءة فى كتاب أرض جوفاء الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي إيال وايزمان