hassanbalam ® مدير المنتدى ®
رسالة sms :
عدد المساهمات : 11556 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر :
| | مدونة الكشكول لبلال فضل فى العربى الجديد | |
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] كانت هزيمة مجتمع بلال فضل
5 يوليو 2018
في مثل هذه الأيام قبل خمسين عاماً، صحا الأسرى المصريون في المعسكر الإسرائيلي الذي بدأ احتجازهم فيه عقب هزيمة يونيو 1967، ليجدوا في لوحة الإعلانات المثبتة في مدخل المعسكر صورة زنكوغرافية لمقال كتبه محمد حسنين هيكل في صحيفة (الأهرام) يقول فيه إن الجيش الإسرائيلي كان يحارب بطرق علمية أكسبته النصر، وإن القيادات المصرية أصابها الذعر والارتباك فلم تستطع الصمود. وبعد ذلك بأيام قليلة، وجدوا في نفس اللوحة مقالاً كتبه أحمد بهاء الدين في مجلة (المصور) عن ضرورة قيام دولة عصرية في مصر، وأن "السبب في الهزيمة أننا لم نكن نأخذ أمورنا بمقاييس الدولة العصرية، وأنه مستحيل أن يؤمن عامل بالاشتراكية التي يحدثه عنها رئيس مجلس الإدارة ذو العربة وجهاز التكييف والملابس المستوردة، وأنه لكي يؤمن الشعب بضرورة شد الحزام لا بد أن يرى شد الحزام هذا عملياً على قيادات العمل السياسي والمهني".
لم يكن قد مضى على الأسرى في أسرهم الأليم سوى أسابيع قليلة، ولأنهم عاشوا سنين شبابهم كلها في بلد لا يجرؤ أحد فيه على أن يقول كلاماً انتقادياً جريئاً مثل هذا في العلن، ولو حتى بين أهله وأصدقائه، فقد كان بديهياً أن يشكوا من كون النسخ التي رأوها من المقالات مزورة، صنعها الإسرائيليون لتأكيد تفوقهم وللتأثير فيهم نفسياً، حتى أن بعضهم دلل على كون المقالات مزورة، بما حدث في سورية بعد الانفصال عن مصر عام 1961، حين طبعت سورية صورة مزورة من جريدة الأخبار تحمل خبر حدوث انقلاب في مصر ووفاة عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، مما دفع الضابط المصري جلال هريدي إلى أن يتسرع ويقوم بسب الحكم وفساده في التلفزيون السوري، في حين رد أسرى آخرون على هذا الكلام مؤكدين أن ما قرأوه هو أسلوب هيكل وبهاء الدين فعلاً، فرد عليهم آخرون بأن الأسلوب يمكن تقليده، ليرد عليهم زملاؤهم بسؤال منطقي مفحم "وهل معقول أن يكتب في مصر"، وينتهي النقاش الطويل بعبارة "سنعود في يوم ما ونعرف الحقيقة"، ثم يستأنف النقاش مجدداً حين يحضر لهم الإسرائيليون كتاباً كتبه مندوبو وكالات الأنباء يحكي قصة النصر العسكري الاسرائيلي، فيرفض أحد الضباط أن تتم قراءتها لأنها كتب مسممة للأفكار، ويثير رفضه عشرات الأسئلة تدور كلها حول ما حدث في 5 يونيو ولماذا حدث، فتزيد مرارة الحديث قسوة الأسر ووجعه. " ينتهي النقاش الطويل بعبارة "سنعود في يوم ما ونعرف الحقيقة"، ثم يستأنف النقاش مجدداً حين يحضر لهم الإسرائيليون كتاباً"
لم يكن المعماري والمقاتل والأديب محمد حسين يونس وزملاؤه من الأسرى من كافة الرتب والأفرع بحاجة إلى مقالات هيكل وبهاء، لكي يدركوا كيف كانت تدار الدولة المصرية بطريقة قادتها إلى الهزيمة، وقادتهم إلى أن يُلتقطوا بتلك الطريقة المهينة من رمال سيناء، ليس فقط لأنه شاهد كغيره من المواطنين رئيسهم جمال عبد الناصر وهو يعقد مؤتمراً صحافياً قبل الحرب يعلن فيه أنه قادر على تأديب إسرائيل، وحين سأله صحافي إنكليزي هل أثر فيه مرور عشر سنين على حرب 56، رد قائلاً: هل تتخيل أنني مثل مستر إيدن الخرع؟ بل لأنه حضر كمقاتل قبل الحرب مباشرة مؤتمراً تم عقده في مقر قيادة الفرقة الرابعة المدرعة، حضره المشير عبد الحكيم عامر وصدقي محمود قائد الطيران وعبد المحسن مرتجى قائد الجيوش البرية وعدد من قادة الأسلحة، تكلم فيه المشير عن المعركة القادمة بصفتها نزهة عسكرية، وحين طلب من الضباط توجيه أسئلة لم يسأل أحد لأن قائد الفرقة المعين حديثاً عثمان نصار أدلى بتعليماته قبل حضور المشير "لا شكاوى لا طلبات نحن مستعدون للتضحية فقط".
بعد أن ألح المشير على تلقي أسئلة الضباط سأله أحدهم: هل نحن مستعدون للحرب؟ فأجاب غاضباً: بالطبع عندنا أقوى طيران في الشرق الأوسط، أنتم جهلة قل لهم يا صدقي عن السوخوي والتوبيلوف، فرد صدقي: يا فندم لن يحتاج المشاة للحرب، سأنهي المعركة ولن يحتاج جندي المشاة حتى لتطهير الخنادق سأطهرها بالطيران، فصفق الضباط، وحين سأل ضابط آخر: يا فندم الجيش كله في سيناء وهذا ما حدث في 56، ماذا سيحدث لو هاجموا مصر؟ فدق المشير المنضدة بقبضته بعنف وقال: أنا قادر على حماية مصر وتحقيق نصر في اليمن وتحقيق مصر في سيناء ثم انتصب واقفاً وغادر القاعة وهو يبتسم ويقول إن شاء الله لن يحدث شيء، وطمأنت إجابته الضباط الذين بدأوا يحسبون موعد الإجازة والزيادة المتوقعة للمرتبات، ولم يكن بعضهم يعلم أنه بعد أيام سيخوض أقسى تجارب حياته. ""أنا قادر على حماية مصر وتحقيق نصر في اليمن وتحقيق نصر في سيناء" ثم انتصب واقفاً وغادر القاعة وهو يبتسم ويقول إن شاء الله لن يحدث شيء"
في كتابه (خطوات على الأرض المحبوسة)، يروي محمد حسين يونس ـ متعه الله بالصحة والعافية ـ كيف انكشفت الأوهام التي عاشها هو وعدد من زملائه الضباط والجنود بصورة مفزعة، حين وجدوا أنفسهم محاصرين من الدبابات الإسرائيلية، التي انبعثت منها نداءات بعامية مصرية ركيكة: "سلم يا مصري.. قومي..مفيش حد حنضربه.. احنا مش متوحشين..قومي"، ليصبح هو ورفاقه عرايا أمام الحقيقة الداهمة، فيتحول بعضهم إلى أطفال ينهنهون ويتحول بعضهم إلى جبال صلدة شامخة، أخذ أحدهم يبكي أطفاله الذين سيتيتمون، وآخر يستجدي عطف آسريه بإطلاق مجموعة من الشتائم في كل من يحلو لهم سماع شتائمه فيهم، وآخر يقرأ سوراً من القرآن، ورابع يخرج صورة زوجته ويكلمها ويقبلها، وخامس يخلع رتبه العسكرية وينهمك في حفر حفرة ليدفن فيها سترته والفانلة والكلسون لأن الإسرائيليين يعرفون الضباط من ملابسهم الداخلية، في حين أخذ يقول لنفسه: "تشجع إنه القدر الذي كتبه عليك ذوو الكابات الحمراء، تشجع فإن متّ فلتمت شجاعاً، تشجع لو ضعفت فستندم طول عمرك، تشجع فلن يجدي انهيارك شيئاً إلا لذة عدوك".
حين عاد محمد حسين يونس من أسره، شهد قيام أول مظاهرة في القاهرة بعد الهزيمة احتجاجاً على الأحكام الصادرة ضد قادة الطيران، كانت أول مظاهرة يشهدها منذ قيام الثورة، "احتاج الأمر لستة عشر عاماً وهزيمة عسكرية حتى يستطيع الإنسان المصري أن يحتج ويعلن احتجاجه في مظاهرة جماهيرية"، رغب في الاشتراك في المظاهرة لكنه كان يعلم أنه أصبح محل اتهام لدى الأجهزة الأمنية هو وزملاؤه الأسرى، لذلك خاف على المظاهرة من أن يقبض عليه، فيقال إن المخابرات الإسرائيلية هي التي حركت المظاهرة بفضل عملائها الذين قامت بغسل دماغهم خلال الأسر فيفسد الهدف منها، ويؤكد على نفسه تهمة كان مجرد الشك فيها يوجعه ويهينه.
رأى الأسير العائد في المظاهرة أملاً في التغيير، لأن معاناة الأسر الطويلة كانت قد أكدت له أن الهزيمة التي تمت كانت هزيمة مجتمع، لا بد من حدوث تغييرات أساسية فيه لمواجهة الهزيمة، ولذلك كان يقول دائماً "لقد كنا نعيش ونحن نتخيل أننا نستند إلى حائط صلب ونقف على أرضية متماسكة، وكنا نرمي بكل ثقلنا على القيادة، متصورين أنها تصنع المعجزات، هكذا علمونا، لذلك أخذنا موقف المتفرج وفي أفضل الأحيان المتعاطف الساذج، ولم نتحمل أبداً مسؤولية اتخاذ قرار استناداً إلى أن القيادة أفضل وتعرف صالحنا أكثر، وقرارها سيكون الأصوب وتغاضينا عن أشياء كثيرة وسلبيات حادة تراكمت ونخرت في البناء، حتى أصبح بناءً من قش طار مع أول صدمة".
لم تعد الأرض التي تعرض فيها محمد حسين يونس للأسر محبوسة بنفس الشكل القديم، ولم تصبح محررة بشكل كامل أيضاً، تغيرت أشكال حبسها وأسر مواطنيها رهائن لقرارات هوجاء تساعد على صناعة الإرهاب وتدعيمه، لم تدم حلاوة النصر طويلاً، لتعود الهزيمة مجدداً بعد أن تغيرت أشكالها، لكنها كانت وما زالت في جوهرها هزيمة مجتمع لا زال يظن أن قيادته تعرف صالحه أكثر.
............................................
"خطوات على الأرض المحبوسة" ــ محمد حسين يونس. صدرت طبعته الأولى من دار المستقبل العربي في الثمانينيات بمقدمة للشاعر محسن الخياط، ثم أعادت طبعه بعد ذلك دار الشروق. | |
|
2018-07-07, 4:45 am من طرف hassanbalam