منتخبات من أعمال أنسي الحاج
منتخب «لن» 1960
أسلوب
حَلْمتاي ومَثَلي الطيّب. أقول هذا: لولا قوّة فرحكِ لأسرعتُ أقتطع جوعاً أو أملاً. لَغْوكِ الأشقر ينتظرني عندما تنتابني الوداعة فيُعيدني إلى الأصوات البعيدة. ثمّ يداكِ تركضان دائماً على ثيابكِ؛ الطبيعة زاخرة ومُباحة، لكنّني أقتاد بسهراتك ومن تحت سقفك أعضدُ انهياري. يا دليل الوقوع! اخترتكِ بين محرّضيّ لأحبّكِ وأبصق. أقول هذا: لأعبُدَكِ وأدلّ عليكِ: إنّني نهرها! أيّها المنتظرون لأنضج، أُسفّهكم بهذا النبع، فهو أميركم. على أصفى أراضيكم أشكّ يأسي. وغداً تقولون: أعماهُ شَعْرُها الطويل! والليلة أفضح باطلكم. أقول هذا: «مليئة بالأجنحة»، أقول أيضاً: «مصطفقة بالزيت». بلا شرف أمرُّ على وجه العالم. ظلال العقم على جوانبي، إنّ مسرّات هائلة يحلم بها باعةُ قراري ولكنهّم سيذوقون العار والحَيْرة. إنّني أمضي فقد صَرَختُ آخر صرخة. الطبيعة قدوة وراغبة، لكنْ على الجناح وطّدتُ خنجري واتّكأتُ عليه. أحكمُ بثقة وموت مُشرَع.
في إثرك
كلمة سمراء تحت يدي
ووجهك أسمر
أين أنا؟
كلمة كلمة نحوكِ أعرج،
أَتَصَهْصَه.
قائدي، يا قائدي
نَيْشِنّي!
لأبقى
أصدقاؤكِ هيّأوك لعهدي
أحبّاؤكِ عتّقوك لأنتشر فيك
لآكلك عشّاقك أنضجوك
ها أنا!
- حين أسترخي جواركَ لمَ لا تأكلني يا سيّدي؟
هذي ليلتي الثانية، للآن لم تلمسني. أما أفتنك، آه!
لماذا لا تأكلني؟
- لأبقى في انتظاركِ. إبعدي.
رحلة تفقّد
كانت تهرب على فَرَس بنصف جسد، يثب عليها.
راهقتْ بعذاب طويلاً، طويلاً ترامت إلى الوراء.
إنتهى.
رَشَدتْ، ولدتْ للدّمّ. من ملايين السنين وهي تتراجع؛ انتهى.
هوذا دهرها، وهي المُعافاة الآن وحدها. لا تسمع، بدأت ولن تفهم. خزائن الرحمة ماعت جَرَفَتْها دموع المُفترَسين الأُوَل. البرُّ البحرُ الفضاء جُمعت في الإصابة والعنين؛ لا ثقة بها. الصُّلبان طُبعتْ بالنار ودُقّت على الصدور، لم تقوَ، دُحرج هذا، جُنِّز، العالم صندوق!
ليل نهار تُقرع أجراس النجدة في الأحشاء والسّوسةُ عُريانة تقطع الصوت. بجلودنا مُرصّعة، مُرتدية تاريخنا، معروكة بدم هاطل بالسمّ فائض لا أمل. آدم! لا أمل. سوسة أو عقرب، نخر وامتصاص، أشباحاً نهوي تحت حوافرها.
داخلة أنتِ فينا لا كَوَباء أيّتها العروة الأصليّة. إنك تعقديننا فيكِ إلى الأبد لأنك عَمَلُنا وأنتِ تَفَتُّحُنا أيّتها الرائحة، وقد أعدَمتِنا الشعور بعطر سواكِ. أطلقناك بالمنيّ والفم والفساد والشهوة، لن نقدر أن نهرب، سنتلقّاكِ لأنك اكتملت! إني باسمك أُطلعهم على السرّ، باسمك أُميتهم. ملفوف بأجنحتك حتّى أصيرك، لا نوى وراءك في شيء. كم تفلفلوا! يا ملكتي كم عيونهم نقّبت وانهاروا أمامها وغصّوا! تناسلوا مُتواعدين على الغلبة، وسقطوا بلا عيون لا نسل ولا فجر. ينتظم الانهيار أسواراً جديدة ستبقى. وَصَلتْ أمواج الدّمّ الأسود إلى الحواجب، أنتِ تفرزين ونحن نَسْبَح، نغرق ويحتلّ الأطفال دوائرنا. بعدكِ لا جدوى من الخضوع، فلنقطع الركبة ونصبّ العنق عمودياً. لا خضوع، آدم! يا موت! بعث، يا كفاح! لا شيء. فرّخي كثيراً لتُوحّدك جميع الأقاليم وأنا حيّ.
الحبّ والذئب
الحبّ وغيري
XII
يا قشّة البحر الوحيدة:
كَسَرْتُكِ، لم أكسْركِ
سرطاناً أُحوّل أشنةَ القاع إليّ، أذهبُ للباقي أُضخّمه، أفتح رمشه على جسده، ييأس، يُجنّ ويُسرِع. لن
أرخيتِني أغرق
أتعمّر على طريقتي، إرثيَ أبذلُه وأرفعه. حكمة هذياني:
لن،
يا جدار العيون، أيها الموعود لنْ، يا آخر كُريّة، أنتِ هو الشّلال. بكِ أفتتح النظر وأختمه، فيكِ أزعق وأرقص. يا يدي على السرّ، يا مُطلِقتي، أيّتها المُطْلَقة. على الشمس لنْ، على صخرة اليوم الثالث، على الدم. يا زهرة الجِلد، ملايين ونحن بالعضو نسقيكِ، وبالعَرَق، وها تنبتين بارتياح يا مملوءة لعنة! أغنّيكِ فلأكن
رنّتك وحبّة زيتونك يا معصرة. لن!!! إخترعنا موتنا، يُرجَع موتُكَ أنت. صَنَعْنا موتنا وطريقه، ولوناً له!
أرخيتِني، يا قشّة البحر، لم تُرخيني، لا فرق. أغرقُ فهذا هو. أغرق أو أحلّق، أو أنام. لا وجهة لا وجهة! أُسرطِنُ العافية، أهتكُ الستر عن غد السرطان
حُريّة!
منتخب «الرأس المقطوع» 1963
الفيض
ذَهَبَ غُراب
يُحوّم فوق المِسك الممضوغ والأجناس المطفأة.
أشْعَلَ الغُلامُ المُطلّ لفافةَ الاستمناء الكبيرة.
كلّما أحبَبتُهم وقعوا من القطار
إبدالُ يديها بالضحك، وما هي إلاّ نصف ارتباك. لم يشعر به الفارس من قبل.
كانت الصالة مُغنّية تجهل الرجال وتُؤجّل الحُكم في هذه القضيّة. وقَفَزَ الخادم يُتَوّجُهُ شَعر رومنتيكيّ وبارك تلك الشجاعة وغادرها دون أنْ يُضيف شيئاً.
المساكين!
كلّما أحببتُهم وقعوا من القطار!
وتورّدت وجنتا الصالة وصاح الفارس: بحاجة إلى
عذر!
إنه العصر الطويل، المناطيد تنأى بالحجارة. وشاء القَدَر أن الفارس وَقَع في حيرة فاعترفتْ له المُغنية بقلقها وقالت: أُريد أنْ أفهم...
وكبرا في الدير. غَلَب اليأس على المُعجبين ورأت المُغنّية أنّ نبأ المُغامرة سيزدهر، وسمعتْ وقع حوافر عصيّ فقالت بحماسة: حَسَناً!
ولم يكن الفارس ناوياً ذلك، لكنّه صاح فوق يديها: تُقيمين طويلاً هنا؟
وراح يتحدّث عن شيخوخته بعبارات بيضاء أي بلا حبّ فلم تسمع المغنيّة. وانقضى النهارُ ساحراً تضحيةً جديدة.
إلى الغد يا أعزائي!
ماموت وشَعْتقات
(...)
الهاويةُ ملأى.
كلُّ هاوية قديمة وملأى.
لا شيء يدور في بطون الجمال، والأرْزُ فاتَهُ القطار
وإنْ بدا مسافراً.
في القاع أخذْتُكِ. وعلى السطح أخذْتُكِ.
وفي يديَّ ظهَرَتْ يداي
وفي فمي مدائح...
تنزاح ثيابُكِ عن أغصاني، أخْضَرُّ وأيْبَسُ أخْضَرُّ وأيبس.
ردفاكِ شاحبان!
من خَصْرِكِ يَدْلفُ الرملُ، ومن نهديكِ الأولاد، ومن
لسانكِ العَسَلُ الخانق.
سَمِعْتُ فيكِ انهياري
ومُتْ.
كلُّ سحابة ماتَتْ
آه!
ما أكذبَ العبد الهارب!
الطابةُ تجيء
النشّابُ يقف
الصاعقةُ تُصعَق.
زارعو الفتنة محروقون في الذَّهب
اللّيلُ استأجر المشعوذات!
لِمَنِ الأقدامُ البيضاء والثريّاتُ والعلَّيقُ الكهربائيّ
وحَمَلاتُ الأشعَّة
والخادمات
وحروف الحَلْق...
ههنا! الصفحةُ الميتة
أحملُ الذروةَ للهاوية
في البدء، ما أقرب الهاوية!
كوكب العَسَل، كوكب العَسَل
يدان للخنق
مَنْ أشكُرُ مَنْ أُبَخّرُ برياح خلجاني؟ العودةُ خفيَّة.
العودة مدسوسة في الصفّ، والأجنحة مُبطَّنة بالرفّاص،
والرياحُ... الرياحُ للرياح: «سنعود. أشياء كثيرة بعد!».
وكلُّ مالكِ سكَّة، كلُّ سيّدِ مَطَر، كلُّ زنبقة في
الصباح. نسكُنُ إلى الأبد أيدينا.
لو الوردةُ تُبطىء على الجَسَد! كوكبُ العَسَل
يبكي. يداه... إذهبْ!
يداه...
الهاويةُ ملأى.
عَرَقُ السماء يضيءُ الذباب. الرقّاص ينظر إلى الكلمة ويكويها.
العشاءُ انتهى!
بحَجَر أحفرُ الحَجَر: جَسَدي وردة
أفتحُ فمها بيديّ
وحدي أنزل دَرَجَها
يترقرقُ عبيرها على خدّيّ
والدَّرَجُ يروح. يروح.
جَسَدي امرأتي
غيومه أبوابي. غيومه أعماقي.
جسدي امرأتي
جَسَدي
جسَدُ الهاوية!
منتخب «ماضي الأيام الآتية» 1965
العاصفة
حين جُننتُ وقرَّرتُ أن أضحَك
وَحَمَلْتُ على ظهور النساء سريراً
حتّى أصبحوا جميعاً يعرفون ما بي
وكانوا ينظرون إلى المَلِك فصاروا إلى الجسد،
تلك القصّة
لو عاد زماننا أيّتها الطالعة من الروايات لجعلتُها أثْمَنَ
في الموت.
كما ترين كلُّ كلمة
أصدروا كلَّ كلمة
ويُخيَّل إليّ، وقد جَمَعْتُ المتناقضات، أنّي لم أعد
أصلح حتّى كاذباً
(أو مُبالغاً)
وقد كنتُ أتوقَّع وأتوقَّع إلاّ هذا: أنْ أقع كسمكة
القرش أنيقاً
ناعساً كالحنكليس
مفتوحَ البَصَر
وبأعجوبة
أُطوّق التجمّعات
الكوارثَ
والأمور
والناحيةَ الأخرى.
أيَّةُ أشياء وراء الجبال
أيَّةُ ذكريات لكنَّ في البلاد الحارّة؟
أيَّةُ منازعات ومُضاجعات على سواحل أوروبا
المُشمسة
أيَّةُ التفاتات تُهرّبكنّ من شهواتنا؟
أيَّ بديل كنتُ
مأخوذاً أيّتها الملسوعة بمجاعتي
سجينة وهجي
مُلَبّية شتائمي
وعَودتي عنها!
أيَّ لسانٍ كُنتُ لشهوات بائسة موَّهَتها أمواج طَفَرَتْ
وراء ماضيكِ الحبيب وحَجَبَتْهُ
وجَفْصَنَتْكِ
وشدّتني إليه لآخذكِ عليه فأصير فِراشه كما أصير
موجه
وكوحش يرعى تحت الحَلْق
أتَدمَّرُ
وفيكِ أُدمِّر كُلَّ امرأة!
لم يَقُمْ حبّ إلاّ حبّي
إلاّ حبّي
لم يقم حبّ إلاّ حبّي
إلاّ حبّي
لم يقم حبّ إلاّ حبّي
بالعودة إلى النار والسير مع الأسد.
كما غنّى لم يُغنِّ أحد
وكما تمزَّق كأسنان تصنع البَرْق
أسرع أسرع فأسرع
وكما تجهَّم وانجذب انجذاب الفأر
وكما طاف بالأوجاع الشخصيّة
الأوجاع الأوجاع الشخصيّة
أُكرّر
أُكرّر
حتّى تصبح قاعدة للاحترام: الأوجاع الأوجاع
الشخصيّة
وكما تجمَّع على بعضه كتاباً مبلولاً
وانفتح عطشاً وكالورق اليابس
وانفتح وانغلق
وكما اتَّضَع وتوسَّل وتبذَّل في الألفاظ
وارتاح في الهَلَع
وتَمدّد في السكوت
وكما طاف بالأوجاع الشخصيّة
الأوجاع الشخصيّة لا أحد يعرف كيفَ
وكما انقلب إلى آخر
لا يُوصَف لكنّه سيعود
وربّما سواي
ربّما سواي المرَّةَ المُقبلة...
لم يَقُم إلاّ كُرْهي.
ما ذكرتُه لا يُلغى
ما ذكرتُه لم يَمُت
لكنّه لم يُمتني
(لا تدَعوه يقتلكم!)
لذلك الكُرْه
الكُرْه وهو الضَّحِك.
ورائيَ الضاحكون الذين كانوا أعدائي
انضممتُ إليهم
(إنضمّوا إلى أعدائكم!)
صرتُ أكثر فَشَلاً
أكثر إيذاء
لأنّني حين وجَدتُكِ تحت ثياب لم ألمس أخطر
منها
وجدتُ فيكِ كلّ شيء
وحين وضعتُ يدي عليكِ
آكُلكِ لقمةً لقمة وتأكلينني لقمةً لقمة
وجدتُ كم جوعي سيكون
ومتاهتي
وكم انتهى
وكم لا حُدودي وكيف كالسيف
وكيف
أيّتها الأُنثى الطائرة يُمدّدُك الجنس على أعشابي
تُعانقين فقط أعشابي.
وكنتُ قد أحسستُ أنّك مُختلفة
وبدأتُ أُجهّز فنون العزم والدهشة بعدما مزجتُ
عشقي بمياه ونيران من السماء
قريبةٍ من السماء
وبدأتُ أعثر على جسمكِ في النساء وعلى النساء
فيكِ
وبدأتُ وأنا مضطجع عليكِ أفقدُ عادة الفراغ
وبدأتُ وأنا أنتظركِ أكتشف أنْ يكون للمرأة فم
أنْ تكون يد
أنْ تكون امرأة أنْ تكون
حَرَكةُ الطيرِ حَرَكةُ الفهدِ حَرَكةُ الأفعى.
ولمّا صرتُ في لذَّتي
وصار جَسَدي
ملأتُ المُربَّعات
فخرجتِ تصيحين كقدّيسة وتصمتين كعاهرة.
أختارُكِ
بين جميع أنواع فشلي أختاركِ
الفشل
الذي صاغني صيغة البطاقة وقدَّم عقلي كريشة
وسَحَقَه كحنطة
وجوَّفه ككهف
وجرّأه جرأة الإعدام
ورنَّ فيه رنَّة الولادة رنَّة الموت رنَّة الولادة
أختارُكِ امرأة طموحي وامرأة انهياري
وصوتُكِ يُردّد: أُحبّكَ
وصوتُكِ لا يزال يُردّد: أُحبّكَ.
وصلتُ إلى البكاء ولم أبكِ
لكنْ ثأرتُ عندما وصلتُ إلى الثأر
وطَبَعْتُ عليكِ وأنا أفتكُ بكِ رَجُلاً
وعَظَمة وجودك القاتلة!
في حُروفي تلمع شفرة كأنّها تلمع في رقبة شعب
ودمُه لا يُلطّخها
يلمع البَطَرُ والدمار
تلمع جُثث امرأة
وهذا يقتلك،
وأنّني شاعر لي
وأنّكِ مُقطَّبة بعروقي
وأنّني كلّما خسرتُ ربحت
ودائماً يداي تَقْطعان
ومن جُثّتي مهما كان الزمان تفوح الجنَّة وينساب
حنان الجحيم
وتصعد لذائذ الوحوش الوحشيّة
وترتفع ضحكة غير ضحكة العبد الساكن
جَسَدَكِ
الساكنِ
الساكنِ جَسَدَكِ
وتكرهينني
(هل تكرهينني؟)
لأنّ ما يقتلكِ
ويقتلني
يقتلكِ بعدما مُتُّ
بعدما عفّرتُ فيك عميقاً
يقتلكِ
وصفاؤكِ يرميكِ بين مخالبه كاللعبة!
أُريد أنْ أتوقَّف عن الرثاء وكالأُمّ
أركع
فاتحاً خزائني مالكاً
مَلِكاً
باسطاً
مُشْعِلاً بشِعريَ الأرض
قاطعاً
رابحاً
رائجاً فالتاً جميلاً وحيداً مُتدخّلاً في كُلّ شيء
رافضاً
قابلاً
ملعوناً لا يبقى حجر إلاّ يطير لصوتي.
قُلتُ لهم سأكتبُ يوماً عنكِ هذه القصيدة
قُلتُ لهم حين جُننتُ وحين قرَّرت أن أضحك.
لا قصيدتي تصحّ ولا جسدكِ.
هذه فتاة صغيرة تَشرد عن قطيع
أُغطّي ضباب وَحْيك بجسدها
كما قليلاً وأخترقُ وَحْيها الصغير.
وأظلُّ أُلقي على الضباب جَسَداً فوق جَسَد
فوق جَسَدكِ
فوق جَسَدكِ
فوق جَسَدكِ الذي لا يتجسَّد.
أضع ذقني على الدّبْق
قُلتُ: شُعاع! حَمَلَني وجاوب: ماذا تشتهي؟
وأسرع صبيّ من الصوف يجرّ غيمَ الخُرافات فدعاني ذلك للقول.
ولم يُميّزني! فمحوتُ القول قائلاً: لا يكفيني.
لحُسن الحظّ عندي مَنْ يُفكّر ومَنْ لا يُفكّر.
أضَعُ ذقني على الدّبق أُمازح الزبائن والصيّادين. مثلاً: كُلُّ القصّة تشفيها رحلة!
الضّبّاط والمُراقبون غيرُ سيّئين لكنْ أقلُّ جمالاً. هذه فُروق جوهرية. لن يذهب أحد بعيداً في النظام ولا بعيداً في الثورة. الصواب هو أنا.
ولماذا التَّعب؟ كُلَّما قلتُ كلمة حَمَلَني شُعاع!
إذا أردتَ أن تركب الخيل
إذا أردتَ أنْ تركب الخيل ليكن لك شَعْرُ امرأة، تُؤيّدك الغابات والرياحُ تنطرح عليك.
ولا تكن بين امرأتين عبداً إذ تنزل الأُولى يستعبدك خوفُ نزولِ الأخرى. (أيّتها العبوديّة! لتتغيَّر هذه الصيغة المنقولة عن أيّتها الحرّيّة...)
الخيل خيّال الخيال معقود عليها الهرب حيثُ الورودُ البيض تلَذّ كالورود الحمر: الأولى مسروقة والأُخرى مقطوفة (اللصُّ والمُقامر من فصيلة واحدة هي الأنبياء).
شَعْرُ داناي صيّاد الماء العَكِر، للحَذَر والغوص والعبور والسقوط والتهريب. أنتَ لا تعرف: شَعْرُ داناي يترك الخير، يترك الشرّ، يترك الشّعْر، يقول: حتّى أنت يا قيصر؟
اللّحظة حرير وحجر
لا أذكر كتبتُ لكِ كلمةَ شِعر: كُلّ هذا كان تقليداً لطعمك الجسديّ.
وعندما تبحثين عن بلاد يصلبون فيها العصافير مقلوبةً، أتبعُكِ لأرى بنفسجات قدميك تتفتَّح من خميرِ رغبتي الرتيبة. وهكذا أعبُدُك، تحت حرير اللحظة أو حَجَرها، وتحسبين تَعبي نبوغاً.
لم أُؤلّف لكِ كلمة. وما إنْ كتبتُ حتّى قلت: لا أريد أنْ أرى رجُلاً!
وقبل أنْ أنزل إلى الرصيف أنزلتُ غوّاصتي في بحرِكِ، داناي، حيث لا غوّاصة لا بحر لا داناي.
وأضحكتكِ لأنّي لم أغرق في هذا الغوص، وظننتِ صَرْخةَ خَجَلي أغنية انتصار...
أنا الموقّع اسمي أدناه
الكُرديُّ يُقدّر المرأة
الصّينيُّ ثابتُ الطول
الرّوسيُّ ملفوف بلحية الأرض
البلجيكيُّ فرنسيّ
لكنَّ اليهوديَّ خالةُ العالم
وعند رسّام رأيتُ عتّالاً برتقاليّاً يرفع برقبته
جنكيزخان.
كُرديّ يُقدّر المرأة وسومريّ لو كُنْتُه
حُجَّتان كوردة
تُهدى حتّى
أقول إنَّ كتابي
تَعلَّم ممّا يُحبّ العُلماء
وعَصَرَ رأسه ليتذكَّر
عَبَثاً
أيَّ شيء.
أنا الموقّع اسمي أدناه
أسْمَعُ المطرَ ينزل
جافّاً على الإسفلت
وممّا قُلتُ الآن وقبل الآن
لن تذكروا كلمة
لكنَّ فمي ارتوى قليلاً
وهو يروي لمن يريد
ماضي الأيّام الآتية.
منتخب «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» 1970
ماذا صنعتَ بالذّهب ماذا فعلتَ بالوردة
قولوا هذا موعدي وامنحوني الوقت.
سوف يكون للجميع وقت، فاصبروا.
إصبروا عليَّ لأجمع نثري.
زيارتكم عاجلة وسَفَري طويل
نظرُكم خاطف وورقي مُبَعْثر
محبّتكم صيف وحُبّيَ الأرض.
مَن أُخبر فيلدني ناسياً
إلى مَن أصرخ فيُعطيني المُحيط؟
صار جسدي كالخزف ونزلتُ أوديتي
صارت لغتي كالشمع وأشعلتُ لغتي،
وكنتُ بالحبّ.
لامرأة أنهَضتُ الأسوار فيخلو طريقي إليها.
جميلة كمعصية وجميلة
كجميلة عارية في مرآة
وكأميرة شاردة ومُخمَّرة في الكرْم
ومَن بسببها أُجليتُ وانتظرتُها على وجوه المياه
جميلة كمَركب وحيد يُقدّم نفسه
كسرير أجده فيُذكّرني سريراً نسيتُه
جميلة كنبوءة تُرْسَل إلى الماضي
كقمر الأغنية
جميلة كأزهار تحت ندى العينين
كسهولة كُلّ شيء حين نُغمض العينين
كالشمس تدوس العنب
كعنب كالثّدْي
كعنب ترْجع النارُ عليه
كعروس مُختبئة وراء الأسوار وقد ألقتْ عليَّ الشهوة
جميلة كجوزة في الماء كعاصفة في عُطلة
جميلة أتتني
أتت إليّ لا أعرف أين والسماء صحو
والبحر غريق.
من كفاح الأحلام أقبلتْ
من يَناع الأيّام
وفاءً للنذور ومكافأةً للورد
ولُمّعتُ منها كالجوهرة.
سوف يكون ما سوف يكون
سوف هناك يكون حُبّنا
أصابعه مُلتصقة بحجار الأرض
ويداه محفورتان على العالم.
أُنقلوني إلى جميع اللّغات لتسمعني حبيبتي
أُنقلوني إلى جميع الأماكن لأحْصرَ حبيبتي
لترى أنني قديم وجديد
لتسمَعَ غنائي وتُطفىء خوفي.
لقد وَقعْتُها وتُهتها
لقد غرْتها
أعيروني حياتكم لأنتظر حبيبتي
أعيروني حياتكم لأُحبّ حبيبتي
لأُلاقيها الآن وإلى الأبد.
لَكُم أنتم لتدقَّ الساعات
من سراجكم ليؤخذْ نور الصباح
فأنا بريء وحبيبتي جاهلة
آه ليُغدَق علينا
لنُوفَّرْ لنُجْتَنَبْ
ولْيُغدَقْ علينا
فحُبّي لا تكفيه أوراقي وأوراقي لا تكفيها أغصاني
وأغصاني لا تكفيها ثماري وثماري هائلة لشجرة.
أنا شُعوب من العشّاق
حنان لأجيال يقطر منّي
فهل أخنق حبيبتي بالحنان وحبيبتي صغيرة
وهل أجرفها كطوفان وأرميها؟
آه من يُسعفني بالوقت من يُؤلّف ليَ الظلال مَن
يُوسّع الأماكن
فإنّي وجدتُ حبيبتي فلمَ أتركها...
ما صَنعَتْ بيَ امرأة ما صنعت
رأيتُ شمسك في كآبة الروح
وماءك في الحُمى
وفمك في الإغماء.
وكنت في ثياب لونُها أبيض
لأنها كانت حمراء.
وأثلَجَتْ
والثلج الذي أثلجت كان أحمر
لأنك كنت بيضاء
ورَدَدْتِ عليَّ الحبّ حتّى
لا أجد إعصاراً يطردك
ولا سيفاً
ولا مدينة تستقبلني من دونك.
هذا كلّه
جعلتُه في ندَمي
هذا كلّه جعلْتُه في أخباري
هذا كلّه جعلته في فضاء بارد
هذا كلّه جعلته في المنفى
لأني خسرْتك
إذ ملأتُ قلبي بالجنون وأفكاريَ بالخُبث
فكتمت وانفصَلت
وكنت أظنّك ستصرخين وتبكين وتُعاودين
الرضى
ولكنْ كتمت وانفصَلت
وكنت أظنّك ستعرفين أن نفسيَ بيضاء برغم
الشرّ
وأني لعباً لعبت وحماقتي طاهرة
وكنت أظنّ أنك وديعة لتغفري لي
أنك وديعة لتُقبّلي آثامي
أنك وديعة لأفعل بك كالعبيد
وكنت أظنّ أني بفرح أظلمك وبفرَح تتنفّسين
ظلمي
وكنت أظنّ أني ألدغك فتتّسع طُمأنينتي وأنقضك
كالجدار فتَعْلَقين كالغبار بأطرافي
لكنّي ختمتُ الكلام وما بدأْتُه
وأتفجّع عليك لأني لم أعرف أنْ أكون لك حُرّاً
ولا عرفت أنْ أكون كما تكون اليد للزهرة
فكنتُ مغنّياً ولك ما غنّيت
ومَلكاً وأنت لم أملك
وأحبّك
وما أحببتك إلاّ بدمار القلب وضلال المنظر
وأحبّك
وطاردتك حتّى أُشاهد حبّك وهو نائم
لأعرف ماذا يقول وهو نائم
فحمَله الخوف وروّعه الغضب
وهرب إلى البُرج عالياً
كاتماً قد انفصل
وأنا في جهلي أطوف وفي حكمتي أغرق
على موضع أدور على موضع أهدأ
وحُبّك يقظان وجريح وراء الأسوار
وحبّي بارّ بعد الأوان
نار البرّ تأكله بعد الأوان.
أحفظُ مظالمي وأُعطي مبرّاتي
أحفظُ مظالمي فمن يُعطيني مظالمه
ومن يأخذ مبرّاتي ويُعطيني الرجاء
لأنّي لم أعد ألمح نوراً في الغابة.
تذهب الريحُ بالثلج وبالثلج تعود.
جسدي كالخزف ولُغتي كالشمع.
إتّخذتُ آفاقاً عظيمة وجعلتُها حفراً
إتّخذت اللّيل فأطفأته والنهار فأسلمته
إتّخذتُ الأكاليل فاحتقرتُها
إتّخذتُ الحبّ فكسرته
إتّخذتُ الجَمال وكرَجل أفقرْتُه
إتّخذتُ الحبّ
إتّخذتُ الحبّ الشبيه ببَرّ لا يحدّه ماء
الشبيهَ بمياه لا تحدّها برّيّة
إتّخذتُ الحبّ عوض كلّ شيء مكان كلّ مكان
بدَلَ الجوهر ومحلّ الشرّ والخير
أخذته أخذت الحُبّ وشكاني
الذين صاروا في فاقة
وتعالت جفونهم الذين حسدوني
ونهش ضحكهم الهواء الذين تهكّموني
فماذا صنعتُ بالحبّ
وأخذتُ ذهَبَ النساء وردةَ الذهب فماذا صنعتُ
بالذهب وماذا فعلتُ بالوردة؟
أُنقلوني إلى جميع اللّغات لتسمعني حبيبتي
ثبّتوها على كُرسيّ وجّهوا وجهها إليّ
أمسكوا رأسها نحوي فتركض إليّ
لأني طويلاً وبّخت نفسي ويأسي قد صار مارداً.
أطيعي دمعك يا حبيبتي فيُطرّيَ الحصى
أطيعي قلبك فيُزيلَ السياج
ها هو العالم ينتهي والمُدن مفتوحة المُدنُ خالية
جائعة أنت وندَمي وليمة
أنت عطشانة وغُيوميَ سود والرياح تلطمني.
المطر أبيض
الأصوات بيضاء
جسدك أبيض وأسنانك بيضاء
الحبر أبيض
والأوراق بيضاء
إسمعيني اسمعيني
أُناديك من الجبال من الأودية
أُناديك من أعباب الشجر من شفاه السحاب
أُناديك من الصخر والينابيع
أُناديك من الربيع إلى الربيع
أُناديك من فوق كلّ شيء من تحت كلّ شيء ومن
جميع الضواحي
إسمعيني آتياً ومحجوباً وغامضاً
إسمعيني اسمعيني مطروداً وغارباً
قلبيَ أسوَد بالوحشة ونفسي حمراء
لكنّ لوحَ العالم أبيض
والكلمات بيضاء.
فرْدة حذائها
كي أرتمي فيها كعملاق يرتمي في كأسه. كي أُقبل عليها كغُرباء إذا استوطنوا يأكلون الوطن وفاء. كي أنهارَ مثل رَجَفان الجبال.
الغائبةُ القلب في اليدين، الغائبةُ اليدين في صدأ السعادة الجمريّ.
التي تفقد فرْدَة حذائها من أجل أنْ يهتدي الأمير إلى مصيره.
أوراقُ الخريف مريمُ العذراء
الكآبة التي كانت تسكنني ماتت
حلَّ محلّها، برياحه وأمطاره،
السيّد الوقت.
صرت أستغرب الشعر
أقول عن الأطفال أطفال
عن ركبة امرأة ركبة امرأة
وعن غُصن حَوْرَة مقطوع غُصن حَوْرة مقطوع.
ولم أكن، عهد الضباب الدامع،
أتداول أسماء المُسمّيات المتداولة
لا تكبّراً وحده
بل لأني كنت شاعراً،
فكنت عهد الكآبة أُسمّي
مثلاً
أوراق الخريف مريمَ العذراء.
كم كنت أُحسّ ذلك!
وما كنت كما قلت
أُسمّي هذه الأشياء
بل أراها
وآه كنت غنيّاً
كلّ ما يلمسني يسحرني
كلّ ما ألمس أسحر
ولم أكن أجهل
لكنْ لم أكن أعرف
وظننت صُبْحَ يوم من الأيّام
أنني خالد،
حتّى
فاحت الكآبة التي كانت
والتي لم أعرف كيف
ماتت كالمسك.
منتخب «الرسولة بشعرها الطويل حتّى الينابيع» 1975
كتبوا الكُتب ولفّني هتاف عظيم
فلماذا أصعد؟
وحين مررتِ فوق الجبل وانحنيتِ
أدركتُ أنَّ أحداً لم ينحنِ من قبل
فوق هاوية.
ولم تقولي اصعدْ
ولكنّي صعدت
لأنكِ عالية.
وحملتُ الهاوية
فلمّا رأتكِ اعتَمَدَتْ في نهر الأردنّ.
وَغَيَّرْتِني
كزنبقة ارتميتُ عند قاعدة عرشِك
أنتِ الملكة وأنا الفقير
وماذا الملكة تطلب من فقير
وأيّة تضحية ولم تفعليها
وأكبرُ تضحياتكِ أنّكِ أجملُ النساء.
كيف أُعطيكِ فلا يغرق عطائي في عطائك
وماذا أُعطيكِ
يا صمتَ تفجُّر العطاء؟
ما أقلّ حُبّي بظنونه كالسَّيل ولكنّي عرفتُ أن صوته أكبر من صمته.
ما أهديتكِ شيئاً إلاّ اهتدى بكِ.
كم أفهم الآن شهوة الماءة أنْ تذوب في المحيط، شهوةَ المملوك أنْ يُمْلَكَ أشَدَّ، شهوَة الغارق أنْ يغرق أعمق، وكم أفهم حسرة الظلّ أنه لا يقدر أنْ يصير أكثر ظلاً!
يا امرأة الأصل والبيّنات
ماذا أُعطيكِ؟
تُلَوّحينني بالضوء وتَذُرّينني في الطيبة
تُشَمّسينني في الحقول العالية
وتجعلينني تيناً وعنباً لتفرح بي العصافير
مِن حبّكِ الشُّعلةُ الحنونة والقويّة
من حبّكِ أكاد قدّيساً
أصيرُ من حُبّك.
أصغ يا ربُّ إليّ
من حبّها أجيء
هُم أعطوني عدوّاً فنشبتُ كالرمح
وحبيبتي نَشَبَتْني قوسَ قُزَح
هُم دفعوني كانحدار في العتم
وحبيبتي حَطَّتْ رحاليَ في الغاية
إختَبأتْني كعصفور من العاصفة
وأطلّتني
أطلّتني كجزيرة للراصد في أعلى السارية
كراصد في أعلى السارية صاحتني: وَصَلْنا! وَصَلْنا!
من حنانها آخذُ رباطاً إلى الجميع فيصيرون إخوة
أنا رعيتُ السّوء وحبيبتي ردّتني
أنا تبعتُ الجوارح وأبراج بابل
ولاحتْ حبيبتي فأصبحتُ صلاة
وَحَفظَتْني فظهرتَ لي يا ربّ.
يا حبيبتي
أُقْسِمُ أنْ أكون لُعبتكِ ومغلوبكِ
أُقْسِمُ انْ أُحاول استحقاق نجمتكِ على كتفي
أُقْسمُ أنْ أسمع نداء عينيكِ فأعصي حكمةَ شفتيكِ
أُقْسِمُ أنْ أنسى قصائدي لأحفظكِ
أُقْسِمُ أنْ أركض وراء حبّي وأُقسم أنّه سيظلّ
يسبقني
أُقْسِمُ أنْ أنطفىء لسعادتكِ كنجوم النهار
أُقْسَمُ أنْ أسْكُن دموعي في يدكِ
أُقْسِمُ أن أكون المسافة بين كلمتَي أُحبّكِ أُحبّكِ
أُقْسِمُ أنْ أرميَ جسدي إلى الأبد لأُسُودِ ضجرك
أُقْسِمُ أنْ أكون بابَ سجنكِ المفتوح على الوفاء
بوعود اللّيل
أُقْسِمُ أنْ تكون غرفةُ انتظاريَ الغَيْرة ودخوليَ
الطاعة وإقامتي الذوبان
أُقْسِمُ أنْ أكون فريسة ظلّك
أُقْسِمُ أنْ أظلّ أشتهي أنْ أكون كتاباً مفتوحاً على
رُكبتيكِ
أُقْسِمُ أنْ أكون انقسام العالَم بينكِ وبينكِ لأكون
وَحْدَتَه فيكِ
أُقْسِمُ أنْ أُناديَكِ فتلتفت السعادة
أُقْسِمُ أنْ أحمل بلاديَ في حبّك وأنْ أحمل العالم في
بلادي
أُقْسِمُ أنْ أُحبّكِ دون أنْ أعرف كم أُحبّكِ
أُقْسِمُ أنْ أمشي إلى جانبي وأُقاسمكِ هذا الصديق
الوحيد
أُقْسِمُ أنْ يطير عمري كالنحل من قفير صوتكِ
أُقْسِمُ أنْ أنزل من برقِ شَعْرِكِ مطراً على السهول
أُقْسِمُ كُلّما عثرتُ على قلبي بين السطور أن أهتف:
وَجَدْتُكِ! وَجَدْتُكِ!
أُقْسِمُ أنْ أنحني من قمم آسيا لأعبدكِ كثيراً.
يا ليلُ يا ليل
إحملْ صلاتي
أصغِ يا ربّ إليّ
إغرسْ حبيبتي ولا تَقْلَعْها
زوّدها أعماراً لم تأتِ
عزّزها بأعماري الآتية
أبقِ ورقها أخضر
لا تُشتّت رياحها
أبقِ خيمتها عالية فعُلوُّها سهل للعصافير
عَمّرْها طويلاً كأرْزَة فتمرّ مواكبُ الأحفاد تحت
يديها الشافيتين
عمّرْها طويلاً كأرزة فتجتاز أُعجوبتُها مراكزَ
حدود بعيدة
عمّرْها طويلاً كأرزة فتتبعها مثل توبتي شُعوب
كثيرة
أبقِ بابها مفتوحاً فلا يبيتُ الرجاء في العراء
باركْها إلى ثلج السنين فهي تَجْمَعُ ما تَفَرَّق
أُحرسْ نجوم عينيها فَتَحْتَها الميلاد.
وها هو المَطَر
المداخنُ تَصْعد لاستقبال المجيء.
تُمطر من قُبلة.
السماءُ أطلّتْ
الأرضُ الصبيّة أرْبَتْ
المواسمُ تعلو
إسمعوا دقة الحصاد
المملكة المُنقسمة اتّحدتْ
تاجُها الحُبّ سلام للملكة.
المستحيل صار معيشة.
تُمطر من قبلة
والمنفى ينهار
أُنفضوا على المنفى غُبار المنفى
وتعالوا
من أعماق اليأس ومشارف الصقيع
من أطلال الأماني ورماد الصبر
تعالوا
صِيروني كما صِرْتُكُم
أنا شفّافكم
أنا مَنْ سَقَطَكُم ومَنْ نَجَاكُم.
حبيبتي كَشَفَتْ عن الضائع
دلّتْ على المفقود
الرسولةُ فازتْ بعُذوبة
بشفَقة فازتْ على القُوّات
وتَشْهَدُ تُعلن العودة.
تعالوا
المملكة مفتوحة
أسرابُ الحساسين عند باب المملكة تُسْرع للتحيّة
على بُعْد قُبلة تقفون من الباب
الكنوزُ وحيدة
الأرضُ وحيدة
الحياةُ وحيدة
تعالوا
كلّلوا رؤوسكم بذَهَب الدخول
وأحرقوا وراءكم
أحرقوا وراءكم
أحرقوا العالَم بشمس العودة.
منتخب «الوليمة» 1994
شفاه الينابيع
النبع أكثر حزناً من العطشانة
عندما تقصده فتجده مُغْلَقاً بالحَجَر والشوك.
النبع أكثر عطشاً.
وأنتِ العطشانة لا تبكي
قولي: «أيّها النبع أنا المحتاجة إليك!».
ومن ثنايا الحجر والشوك سيُنْهِضُه جمالُكِ.
أيتها العطشانة لا تكتئبي
فمكِ هدّية وجوعُكِ عطاء
ولمثلكِ تتجسّد الآلهة.
نامي وعند الصباح
الشوكُ مزمارٌ والحجر قَصْر،
ويُشرق النبع وتأخذينه.
فيا عطشانة أنتِ النبع
والينابيعُ شفاه.
من الذراعين
نازلةٌ مع الهواء شَعْرُها
يطول من رموشها نحيبي.
تضحك لأنّيَ الأَضْعَف
أضْعَفُ لأنها تَضحك.
لا شيء في آثارها.
وكلّما حَلَتْ ضحكتُها...
في براري اللُفاح بَنَتْ لرجُلٍ قَصْر ذراعيه حيث
رَكَضَتْ
وحيث وَقَعَتْ
بدون تدخّلٍ من الشِّعْر!
باقٍ
باقٍ...
أسأتُ وداعكِ وما حَمَلْتُ دمعكِ.
أقلعتْ عربةُ القار والصقيع وما هَتَفْتُ لكِ.
تسمّرتُ أُسْلِمنا إلى جحيمنا.
باقٍ.
-