ممدوح عدوان: تلويحة الأيدي المتعبة
جن الحطيئة، السجن بئر يمكن أن يظهر الحطيئة ضمن بقعة ضوئية]
وحشي (ينادي): أبا مليكة يا أبا مليكة
الحطيئة (ينتبه): من؟ من هذا؟
وحشي: أنا وحشي
الحطيئة: ماذا تريد؟
وحشي: جئت أراك
الحطيئة: لا تستطيع أن تراني لأنني لا أرى نفسي
وحشي: جئت أطمئن عليك
الحطيئة: ستطمئن علي لو طمأنتني عن بناتي
وحشي: إنهن بخير
الحطيئة: هل لديهن ما يأكلنه؟
وحشي: نعم لا ينقصهن شيء والحمد لله
الحطيئة (يدور كالمطعون): آه آه كم أخشى أن تضطر إحداهن إلى شيء ما بسبب الفاقة
وحشي: اتكل على الله يا جرول
الحطيئة: متكل متكل ولكن أنت تعرف ما اضطرت إليه أمي بسبب فقرها
وحشي: لقد قلت لك أن بناتك بخير
الحطيئة: شكراً يا أبا دسمة
وحشي: لا تشكرني. أنا أخوك يا أبا مليكة
الحطيئة: أشكرك، لأنك لم تبلغني شيئاً من حاجياتهم، فلو قلت لي عن أية حاجة يحتاجونها لقتلتني قهراً وكمداً
وحشي: أصلحك الله. مادمت تحب بناتك إلى هذه الدرجة، فلماذا إذاً تغضب الخليفة وتعصي الله حتى يزج بك في السجن؟
الحطيئة: أنا لم أعص الله يا أخي، لقد هجوت الزبرقان بقصيدة. والله لم أفعل غير هذا. حتى أنني في هجائي له قلت ما لم يقله مسلم من أولئك الشعراء الأدعياء. اسمع:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه/ لا يذهب العرف بين الله والناس
وحشي: وسجنك عمر من أجل هذا فقط؟
الحطيئة: حرضه ذلك الدعي حسان بن ثابت
وحشي: عجيب
الحطيئة: ليس عجيباً يا أخي
وحشي: كأن شيئًا لم يتغير
الحطيئة: إن سادتك في الجاهلية هم سادتك في الإسلام وأنت تأتي إلى الإسلام هارباً من عبوديتك وسادتك
وحشي: إيه أيها العمر الهارب
الحطيئة: ماذا قلت؟
وحشي: لا شيء، أعمارنا تجري ونحن نشيخ قبل أن نصل إلى راحة النفس. طوال هذه السنوات وأنا أحارب، كنت أعتقد أنني أحارب السادة لأقيم دولة العبيد ـ وإذا بي أخدم السادة وأمكنهم من العبيد. كنت أطمح أن أكون شهيداً فانعم بغفران الله. ولكنني لم أكسب إلا الثناء الفارغ على ما يسمونه بطولة، لماذا يصل الفقراء إلى أبواب مسدودة يا جرول؟
الحطيئة: لأنهم غرباء. هذا ليس مهم إنه متاهة غريبة بالنسبة لهم
وحشي: ألم نحلم ذات يوم أننا سنبني عالمنا الخاص بنا، كيف حدث أن تسلل إلينا الأغنياء وأعادوا ترتيب عالمنا هذا على نمط عالمهم؟
الحطيئة: لقد تعبت يا وحشي. تعبت ولم أعد أستطيع المقاومة ولذلك أرسلت قصائد اعتذار إلى عمر كان آخرها هذا الصباح.
* مقطع من مسرحية "ليل العبيد" (1977)
..
أنت تحب مصياف
وأنا أحب سلمية
وكلانا ديك الجن في مجونه،
وعطيل في غيرته
فلنصطحبهما إلى أول حانة أو مقصف
ونبثهما أشواقنا وكلامنا وهمومنا.
ولأن مدينتي لا ترتدي شيئاً تحت كرومها
فإياك أن تطرف عينك عليها
وإلا صرعتك في الحال.
***
لا تصدق أنني أهوّل عليك لا أكثر
كما كان سليمان عواد يهوّل على أمير البزق،
مهدداً إياه بلفافته الـ"خصوصي للجيش".
أتذكر تلك اللفائف؟
وذلك السعال المديد والمتقطع،
كالتدريبات الأولية في المستعمرات على نشيدها الوطني؟!
ومع ذلك لا أقل عنك جهلاً في هذه الأمور.
فللآن لا أعرف سعال الشاعر من القارئ من الناقد
من المترجم من الراوي.
لا أعرف إلا سعالي!
صحيح أن معظم التبوغ مصنعة،
لكن سعالي طبيعي ومكفول لمئة عام من العزلة!
ومع ذلك، أقدمه بكل سرور
مقابل شعرك المتساقط ولونك الرصاصي،
وأهوال العلاج ونفقات الأمل.
مع أنني لا أملك سواه.
إنه نشيدي الوطني!
وأتمنى أن يُعزف قريباً في المعسكرات
والدوائر الرسمية والمدارس،
وعلى الأقل في دور الحضانة.
ولن أقلع عن التدخين.
ولماذا؟
وكل أنواع السموم تحيط بي كقشرة البيضة،
أو اللباس الهتلري في القطب الشمالي.
***
والآن دعنا من كل هذه الترهات
أريد خزعة من رئتيك وجبينك وأحزانك..
إن نسيجها أكثر متانة ومماطلة
من قلعة مصياف وجبال ديرماما
وأكثر فطنة وثقة من أعلام الغزو في الظلام.
وأنا واثق بأنك ستزهر من جديد كالوراقة،
وفي عز الشتاء.
وإذا خطرت لك زيارتي حيث أقيم
فعلى الرحب والسعة.
فإذا لم أكن موجوداً،
فسعالي يقوم بالواجب وأكثر:
تهليلاً وترحيباً وعناقاً
حتى الغضب والانفعال،
والتظاهر إلى جانبك ولأية قضية.
لأنني قد لا أعود أبداً،
فمدينة لا يوجد فيها مريض نفسي
أو عقلي حتى الآن
لن أبقى فيها دقيقة واحدة.
بطاقة تعريف الكاتب
على غير جرح معتق، يتقلب هذا الشاعر العربي السوري، المولود في عز الحرب عام 1941 في قيرون (مصياف)، تلقى تعليمه في مصياف، وتخرج في جامعة دمشق حاملاً الإجازة في اللغة الانكليزية، عمل في الصحافة الأدبية، وبث له التلفزيون العربي السوري عدداً من المسلسلات والسهرات التلفزيونية ويخرج من العربية الأم ولسان كتاباته إلى الأدب الإنكليزي دارساً ومدرساً فيجول في كل أمصار الثقافة وأصقاع الشعر والصحافة والإعلام والمسرح والتعريب (الترجمة) وعلى غرار كل الحالمين الكبار، الموسوعيين الظامئين إلى الكل، بعد هذا اللاشيء الذي استغفلنا منذ سقوط بغداد سنة 1258 حتى سقوط القدس سنة 1948.
نقل إلى العربية "سد هارتا" لهيرمان هسة، ومذكرات كازنتزاكي 81-1982، وفي الرواية ابتكر واحدة سنة 1970، موسومة بعنوان مفرد "الأبتر".
وأطول من التعريب كانت رحلته في الكتابة للمسرح العربي الناشيء من فراغ النصوص إلى تجاوب النفوس مع المحكي والتمثيل وفي هذا المضمار امتدت رحلة ممدوح عدوان ما بين 1967 "المخاض" و 1971 "زنوبيا تندحر غداً" دون أن ننسى ما بين هذين الموعدين "تلويحة الأيدي المتعبة" و "محاكمة الرجل الذي لم يحارب" (1970)، و "ليل العبيد" (1977) وأخيراً "هاملت يستيقظ متأخراً" 1979.
إلا أن الشهرة قدمته شاعراً حفياً، متأنقاً بجراحه متألقاً بالهموم القومية والإنسانية التي تراوده ويراودها. عضواً في اتحاد الكتاب العرب منبرياً في مهرجانات الشعر كأنه فارس جديد من فرسان الصولات الشعرية العربية القديمة.
وتبدو محطات المخاض عند ممدوح عدوان ذات منطلق مشترك هو بكل أسف واعتبار، منطلق انكسار 1967، فليس مصادفة إذا أن ينشر في ذلك العام مسرحية "المخاض" ومجموعة شعر "الظل الأخضر"، ثم ينهمر هادراً صاعقاً ثابتاً في استنفاره صابراً في مواقعه بل في متاريس ممانعته ومراهناته على الآتي الأجمل.
سنة 1967، أطلق ممدوح عدوان سهام الشعر والمسرح من جعبة واحدة:
"القلب العربي، المنكسر، المقاوم، الممانع والباحث عن ولادة أخرى".
بعد "الظل الأخضر" الذي يمحو بالكلمات الحلوة المحمسة
آثار العدوان الإسرائيلي على الأرض والشعب ينطلق ممدوح عدوان متفائلا واثقا من عروبة أو أمة لا تقهر، لا انهزمت آنا بعد آن.
سنة 1974، بعدما أدت الحروب المتتالية 56، 67، 1973، إلى انقلاب في النفسية القتالية العربية، وضع الشاعر مجموعته الثانية "الدماء تدق النوافذ" و "أقبل الزمن المستحيل".
سنة 1977 يذهب إلى بيان شعري رفيع "أمي تطارد قاتلها" و "يألفونك فانفر" ويندر أن نجد شاعراً سواه، ينشر في العام الواحد مجموعتين من الشعر، ومسرحية، وكأنه بحر يفيض بذاته على حبر جمره وعمره.
سنة 1980 يتقدم من العام إلى الخاص، ومن حدود القضايا العربية القومية إلى لب القضية الفلسطينية "لو كنت فلسطينياً" معلنا رغبته في هوية المظلوم وفي الانتماء أو الاستناد لمقاومته المتمادية بالأجساد والأشجار وبالرصاص والحجارة.
ويستحضر في الزمن المستحيل تلك الصور الإمبراطورية القديمة التي تدعي أن "كل الدروب تؤدي إلى روما" ليعلن سنة 1990 "لا دروب إلى روما".
سنة 1999 فاجأنا الشاعر المقاوم ممدوح عدوان بقصيدته الجديدة الأخيرة بعنوان
"طيران نحو الجنون" "الصادرة عن شركة رياض نجيب الريس - بيروت".
عضو جمعية الشعر
مؤلفاته
.المخاض- مسرحية شعرية- دمشق 1967
.الظل الأخضر -شعر- دمشق 1967
.الأبتر -قصة- دمشق 1970
.تلويحة الأيدي المتعبة -شعر- دمشق 1970
.محاكمة الرجل الذي لم يحارب -مسرحية- بغداد 1970
.الدماء تدق النوافذ -شعر- بيروت 1974
.أقبل الزمن المستحيل -شعر- 1974
.أمي تطارد قاتلها -شعر- بيروت 1977
.يألفونك فانفر -شعر- دمشق 1977
.ليل العبيد- مسرحية - دمشق 1977
هملت يستيفظ متأخراً- مسرحية- دمشق 1977
-زنوبيا تندحر عداً- مسرحية
-لو كنت فلسطينياً- شعر
.مذكرات كازنتزاكي -ترجمة -جزآن- بيروت 1980-1983
.حكي السرايا والقناع - مسرحيتان- دمشق 1992- اتحاد الكتاب العرب
رحل مودعاً أرض الفناء الأربعاء 22/ 12/ 2004، ليبقى أثره نبراساً مميزاً بالعطاء في قاموس الأدب العربي.
كما لو نُودي بشاعرٍ أن انهض
بقلم محمود درويش
على أربعة أحرف يقوم اسمُك واسمي، لا على خمسة. لأن حرف الميم الثاني قطعة غيار قد نحتاج إليها أثناء السير على الطرق الوعرة.
في عامٍ واحد وُلدنا، مع فارق طفيف في الساعات وفي الجهات. وُلدنا لنتدرّب على اللعب البريء بالكلمات. ولم نكترث للموت الذي تَدقّه النساء الجميلات، كحبة جوز، بكعوب أحذيتهن العالية.
عالياً، عالياً كان كُل شيء... عالياً كالأزرق على جبال الساحل السوري، وكما يتسلق العشب الانتهازي أسوار السلطان، تسلقنا أقواس قُزحٍ، لنكتب بألوانها أسماء ما نحب من الأشياء الصغيرة والكبيرة:
يداً تحلب ثدي الغزالة،
مجداً لزارعي الخسّ في الأحواض، شغف الإسكافي بلمس قدم الأميرة، ومصائد أخرى لجمهور مطرود من المسرح.
لم ننكسر بدويٍ هائل كما يحدث في التراجيديات الكبرى، بل كأشعة شمس على صخور مدَببة لم يُسفك عليها دم من قبل، لكنها أخذت لون النبيذ الفاسد، ولم نصرخ، هناك، لأن لا أحد، هناك، ليسمع: أو يشهد.
دلتني عليك تلك الضوضاء التي أحدثتها نملة بين الخليج والمحيط، حين نجت من المذلة، واعتلت مئذنة لتؤذن في الناس بالأمل،
ودلتك عليّ سخرية مماثلة!
ولما التقينا عرفتك من سُعالك، إذ سبق لي أن حفظته من إيقاع شعرك الأول، يُفزع القطط النائمة في أزقة دمشق العتيقة، ويبعثر رائحة الياسمين.
لم يكن لنا ماضٍ ذهبي على أهبة العودة، كما يدّعي رواد المقهى الخائفون من القبض على قرون الحاضر الهائج كالكبش، ولا غد أكيد، خلفنا، كما يدعي رواد الشعر الخالي من الملح، المتخم بفراغ المطلق.
لم نبحث إلا عن الحاضر.
ولكننا، من فرط ما أُهنّا، بشرنا بالقيامة بصوت مرتفع، أثار علينا غضب الملائكة المنذورين لصيانة اللغة الصافية من غبار الأرض، والباحثين عن الشعر الصافي في جناح بعوضة.
ودُعينا، في غرف التشريح معقمة الهواء والكلام، إلى بتر المفردات كثيرة الاستعمال. وسرعان سرعان ما علاها الصدأ من قلة الاستعمال، وفي أولها: الحياة... ومشتقاتها.
لكننا آثرنا أن نخاصم الملائكة.
ممدوح، لا أطيق سماع اسمك الآن، لأنه يذكرني بما ينقصني من رغبةٍ في الضحك معك على عورة بردى المكشوفة كأسرارنا القومية. ولأنه يُذكرني بمدى حاجتي إلى استراحة من الركض آناء النوم، بحثاً عن حلم مسروق، أراه واضحاً وأحاور السارق. ويذكرني اسمك بما أنا فيه من طقطقة كأني حبّة بلوط في موقد الفقير ليلة العيد.
لهذا، اكتب اسمك ولا ألفظه، ففي الكتابة يتموج اسمك على ماء الحضور. وفي الكلام أسمع وحش الغياب يطاردني من حرف إلى حرف، ليفترس الشلو الأخير من قلبي الجائع إلى هجائك المادح.
ممدوح! ماذا فعلت بك وبنا؟ فلم نعد نحزن من تساقط شعرك المبلل بالزيت، فإنك تستعيده الآن من عشب الأرض. ولكن، في أية ريح أخفيت عنا سعالك، فلم يعد في غيابك متسع لغياب آخر.
لا لأن حروف اسمك هي حروف اسمي، لا أتبين من منا هو الغائب، بل لأن الحياة التي آلفت بين ثعلبين ماكرين لم تمنحنا الوقت الكافي لنقول لها كم أحببناها، وكم أحببنا فجورها وتقواها... فتركت ثعلباً منا بلا صاحب.
لا جلجامش ولا انكيدو. ولا الخلود هو المبتغى ولا قوة الثور. فنحن الخفيفان الهشان، كواقعنا هذا، لم نطلب أكثر من وقت إضافي لنلعب بالكلمات لعباً غير بريء، هذه المرة، أو لنورث ما لم نقله بعد من لم يقل بعد. ولنجعل من الشعر مزاحاً مستحباً مع العدم. لكن حرف الميم الثاني في اسمك واسمي ظلَّ قطعة غيار لا تنفع.
ممدوح! هذا هو وقت الزفاف الفاحش بين الرعد والصحراء، شرق الشمال، لإنجاب الكمأ إعجازي التكوين. صف لي ولادة الكمأة أصف لك عجزي عن وصف القصيدة، فانظر شرق الشمال!
هي حسرة التعريف، أنين الرمل على الشاطئ حيث يرفع القمر، بأصابعه الفضية، سروال البحر وقت الجزر، ويرش علينا قصيدة حب، إباحية التصوف.
فاغضض من صوتك، لا من بصرك، وانظر. فمنذ ولادة اللغز الكوني، والشعر مختبئ في أشد المواقع انكشافاً. ويظهر جلياً جلياً في اللامرئي من سماء مسقوفة بكفاءة الغيب.
كل الأزهار شريفة حيث تترك لحالها، ما عدا القرنفلات الحمر التي يضعها الجنرالات، ما بين وسامٍ ونجمة، على بزة سوداء أو كحلية... لخداع أرامل الشهداء.
وكل اليمامات نظيفة، حتى لو بالت على شرفاتنا والوسائد، ما عدا اليمامات التي يدربها الغزاة والطغاة معاً، وعلى حدة، على الطيران الرسمي في أعياد ميلادهم، وفي مناسبات وطنية أقل أهمية.
الآن، لا أتذكر شيئاً منك. فالذكرى تلي الحرب والموت والزلزال. وأنت، ما زلت معي تكتب هذه المرثية، على هذه الورقة البيضاء، في هذا الليل البارد... أو نكتبها معاً لشاعر محبط. فلعلها لا تعجبه فيتوقف عن اغتيال نفسه، إلى أن يقوم غيرنا بكتابة مرثية أفضل، لا تعجبه هي أيضاً، فينتظر غيرها ويحيا أكثر.
كما لو نُودي بشاعرٍ أن انهض من هذا الألم.
وأنسى الآن، لتبقى معي، أكثر من غلسٍ لم يدركنا ولم ندركه قبل أن تُفرغ آخر كرم عنبٍ مقطر في كأسك التي لا تخلو أبداً إلا لتنكسر، أيها العاصر الماهر!
ليس هذا مجازاً، بل هو أسلوب ليلٍ لا يصلح إلا ضيفاً، وأنت المضيف الباذخ. وإن افتأت عليك، كصديقٍ حامض القلب، عاملته بالحسنى وأرقت عليه حليب الفجر.
لكني لا أنسى ضحكتك التي تشبه شجرة زنزلخت مبحوحة الأغصان، عاليةً وعريضة، لا تاريخ لها منذ صار التاريخ قهقهة عابثة. ومنذ عادت الجرار إلى حفظ الصدى، كالزيت، خوفاً عليه من آثار الشمس الجانبية.
كم حيَّرني فيك انشقاق طاقاتك الإبداعية عن مسار التخصص، كعازفٍ يحتار في أية آلة موسيقية يتلألأ. لم أقل لك أن واحداً منك يكفي لتكون عشيرة نحل تمنح العسل السوري مذاق المتعة الحارق. بحثت عن الفريد في الكثير، من دون أن تعلم أن الفريد هو أنت. وأنت أمامك بين يديك. ألا ترى إليك، أم وجدت نفسك أصفى في تعددها، يا صديقي المفرط في التشظي ككوكبٍ يتكون.
فصصت الثوم للقصيدة لتحمي شرايينها من التصلب. فالشعر، كالجسد، في حاجة هو أيضاً إلى عناية طبية، والى فصادٍ كلما أُصيب الدم بالتلوث. آه، من التلوث الذي جعل الإيقاع نشازاً، واستبدل حفيف الشجر بموسيقى الحجر، واعتبر الحياة عبئاً على الاستعارة!
لكن هذا لم يهمك. لأن الحياة لا تُوهب لتعرف أو تعرض للنقاش، بل لتُعاش... وتعاش بكاملها، وتُلتهم كقطعة حلوى إلهية، أو شفتين ناضجتي الكرز. وقد عشتها كما شئت أنت، لا كما هي شاءت. أحببتها فأحبتك. وشاكست ما يجعلها أحد أسماء الموت، في عصر القتل المعولم الذي يمنح القتلى قسطاً من الحياة لا لشيء... إلا لينجبوا قتلى.
يا ابن الحياة الحر، أيها المدافع عن جمال الوردة العفوي، وحرية العشاق في العناق على مرأى من كهان الطهارة اللوطيين! من بعدك سيسخر ممن يتقنون تسمية الآلهة، ولا يقوون على تسمية الضحايا؟ يأنفون من الانتباه إلى دم مسفوك على طريق المعراج، ويسرفون في التحديق إلى غيمة عابرة في سماء طروادة، لأن الدم قد يلطخ نقاء الحداثة المتخيلة، ولأن الغيم سرمدي الدلالات. لعلهم على حق، ما دامت هزائمنا تستدعي تطوير النقد إلى هذا الحد!
لكن هذا أيضاً لا يهمك، أيها المتعالي على التعالي، أيها العالي من فرط ما انحنيت بانضباط جنديٍ أمام سنبلة، ونظرت، حزيناً غاضباً، إلى أحذية الفقراء المثقوبة، فانحزت إلى طريقها الممتلئ بغبار الشرف. الشرف؟ يسألك المترجم: ما معنى هذه الكلمة؟ فلم أجدها في الطبعات الجديدة من المعاجم.
ممدوح، يا صديقي، لماذا كما يفعل الطرخون خانك وخاننا قلبك؟ لماذا لم تعلم كم نحبك؟ لماذا تمضي وتتركني ناقصاً؟ لماذا... لماذا؟
ألقى الشاعر محمود درويش هذا النص في أربعين الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان، في احتفال أقيم مساء أمس في دمشق، بدعوة من وزارتي الإعلام والثقافة في سورية وعائلة الفقيد. وتحدّث في الاحتفال: الشعراء محمد الماغوط وأحمد عبدالمعطي حجـازي ونزيه أبو عفش وعادل محمود، الناقدة عبلة الرويني، الصحافي طلال سلمان، المفكر صادق جلال العظم ووزير الثقافة السوري محمود السيد.
أضيفت في 20/12/2005/ خاص القصة السورية / عن الحياة 2005/02/1
نماذج من أعمال الكاتب
سئمت مناجاة روحي
أتلفت نحوك أبكي
مرثية متأخرة
مرثيّة متأخّرة
سيد عماد الدين نسيمي اتُّهم وحكم عليه بالسلخ حياً في حلب عام 1418. وجاء القضاة والأئمة يجادلونه ويجادلهم،
فيما عملية سلخه قائمة. وحين انتهى السلخ وضعوا جلده على كتفه وأطلقوه. وظل يسير وينزف ويسير…
قف يا نسيمي.. أين تمضي يا رجلْ
قف وانتبه لخطاك.. خلف خطاك دم
العزم تتلفه الرطوبة، وهو مخزون، فقلْ
قل أي شيء.. يا رجلْ
ما عاد ينفع أن تشد شكيمة الألم
الذي يسعى إلى حضن الندم
ما عاد في الأيام متسع لكبح الـ "لا"
وإيماء الـ "نعم"
تمضي.. نزيفك راشح مترقرق
يغري بأن تنساه،
تشرد ساهماً،
لا تندفع بخطاك.
لا تسمح لعثرات الطريق ترجّ جسمك
فالنزيف يزخ أمطاراً على وقع القدمْ
والنسمة السمحاء، إن مرت عليك،
ستوقظ النار التي كمنت
فتطلق فيك ألسنة الألم
قف يا قتيلاً
يتقن السير المنغم في جنازته
يقطر عمره متوكئاً يأساً جميلاً
مسنداً يده على كتف العدمْ
قف يا رجلْ
قد أتقن الجلاد فعلته
ومنّى النفس أن السلخ
قد عراك من ستر المثلْ،
جاء القضاة مدججين
وأشرعوا تلك السكاكين
التي شُحذت لتعزف لحنها في اللحم
كانوا يأملون بأننا سنشيخ
في رقص الدراويش السكارى
إنْ تهيجنا أنينك نغمة مبحوحة
أو أننا سنستر العار الذي فينا
بثوب شماتة
(ما أنت ناقل صوتنا)
أو نستعير توجعاً
ليلفنا خوف بصفرته
فننسى أن نرى شلال دمْ
أدنوا نصالاً للتشفي،
أغفلوا.. فتساقطت أستارهم:
للمرة الأولى توافق حقد حساد
وشهوة قاتلين
نسوا ندب جراحهم
ونسوا ولوغ الوحش في أحشائهم
حتى تجمد رعبهم بين العيون رغائباً
وتدفقت شهواتهم
فتقدموا بصدورهم
ليجرب الجلاد فيهم سيفه
وليشحذ النصل اللئيم
على عظامهمُ
تلمظ كل حقدٍ وهو يلحس جرحه
وتطوع الؤماء خدامين
يرضيهم بأن يتمددوا للدوس
أو يتحسسوا أقدام قاضٍ
يحملوا نطعاً، وسكين
وكأساً تنعش الجلاد
حين رأوا عيون الناس عرتهم
تنادوا للتضامن
ثم أبقوا في الجيوب سلاحهم
وكبحت صرختك الدفينة
أقبلت محزونة
مزحونة تحت الضجيج
وأنت تنصت للنشيج مرفرفاً فينا
ارتجفنا في توجع صمتك النبوي
وانسربت شكاوانا إليك
كأننا جلد تمزق عنك
أو نبضٌ من الضوء ادلهمْ
أرض الموالي فيك مولاهم
فردْ أمانة الجلد السليخ
لكي يبرئ ذمة
ويظل مبتسماً نظيفاً
قال: سرْ في الأرض،
واختر ما تشاء من السبل
إن طال دربك، طال فيك القول،
واعتبر الورى
قف يا نسيمي
لا تظل معرضاً تدمى
ويجرحك النسيم عقاربا
ما عدت تقوى أن تجدف
وسط طوفان الأعادي قارباً
قف واكتشف فينا حمى وأقارباً
لا تنس أنا قد تموت ونحن ننزف فوق نطعك
إن كل دمائنا لم تكف فيهم ظامئاً أو شارباً
والأرض حافلة بما يخزيك أو يبكيك
حافة بقوادين باسم الدين
جلادين مكسوين بالتمدين
أين تروح في هذا الخضمْ
وجع تخزن في دم
والسلخ باق في جفونك
سوف يرسو في الضمير
معبأ أرقاً بألف هم
لا.. لست مهووساً تكلم طيف جنيٍّ
وصمتك صرخة منثورة في كل فمْ
لا.. لست سكراناً.. وإن رَنَّحْت خطوك
إنك الآتي وتبدو ذاهباً
والنازف القاني.. وتبدو شاحباً
سيظل وقتك غائباً
ويظل صوتك عائماً في بحر سكرات
وتمشي راهباً
متخففاً من عبء جلد
عله يعفيك من أعباء ظلٍ
كلما استعصى عليه تتبع الخطوات
في المنفى ثقلْ
ستطير في حمى فضاء الحزن
توغل في ضباب غباره
لتغوص في اليأس
الذي أضحى غداً أرحب
وتظل تحنيك المرارة
كي تلائم عالماً أحدب
دفعوك تمشي مفرداً
متنكباً شيئاً تهدل كالعباءة
قف يا رجل
قف.. أنت تمشي فوق نار
وسط غارٍ مغلق
يبدو بلاداً تزدهي
والمرتمي المجرور خلفك جلدُك الخاوي
فكذّب ما يقول لك الخيال
لقد تجفف
إذ تخفف من طموحك، أو دمانا
واختفى.. لم يُبقِ حلماً لائقاً، فينا، وراءه
وخطاك فوق الدرب حمراءْ
ذئاب أجفلت حين التقتها
ثم غذت غدرها
في إثر من عشقت دماءه
قف.. أنت ميتٌ يا رجل
لا تنخدع بالنزف،
هذا ليس نبعاً للحياة
الموت يخدع
قد تنكر فيك واستشرى إلينا
كي يصفى ما اخترنا من براءه
ماذا ستفعل، بعد، بالجلد
الذي ينجر خلفك
لم يعد يجديك أن تنوي ارتداءه
شرب الدم المسفوح لا يشفي قتيلاً.. يا رجل
إن كنت أنهيت الكلام
فإنني مازلتُ أنوي أن أقول.. ولم أقل
فسِّرْ لنا
كيف الشقائق فتِّحت في مرج جلدكَ
بعدما المرجو في الدنيا ذبل
وأنينك الدامي
تعلق فوق أبواب الربيع
فجاهدت حمى العواصف والسيول
تزيل عنها العار
لكن لم يزلْ
فسِّرْ لنا كيف احتملت الموت حياً
كيف ضوّات الطريق الوعر
من نطع القضاة إلى تواشيح الدناءة
كيف اقتنعنا بالذي أخفيت عنا
بالذي أهدرت منا
بالذي ينقضُّ رعباً
وارتدينا منه أمنا
فاقشعرت من بشاشتهم براءتنا
رأينا نغمة التسبيح أوقح من بذاءه
قل: كيف طال الليل في إشراق خيبتنا
وليلك لم يطلْ
لا تمض وحدك يا نسيمي
لا تلعن ذلك الهم الذي أضناك
أنت رفضت تكفين البدنْ
ورضيت سلخك صامتاً
فرفعت صمتك صاخباً
يطغى على إيقاع رقصات الزمن
وهجرت جلدك راضياً
تأوي إلى دفء التعري
تقبل المنفى سكن
متخففاً من كل قبرٍ.. كل عمرٍ
كل جلد.. أو كفنْ
مَيْتٌ يسير مكابراً متجلداً
كي لا يريح الشامتين
وصامتاً كي يحرم الصوت ارتجافاً
أو عتاباً.. أو شجنْ
فلعلك استعذبت هذا المحفل المحموم
واستغرقت في قولٍ سيحرق جوف كاتمه
فلا روح تطيق العبء
لا جسد يقايض بالثمنْ
قل يا نسيمي
فالذي تخفيه عنا
كانا إرثاً لليتامى
ارثهم نارٌ.. فقلْ
ولتعط محروماً كما يملي الكرمْ
حقْ تأجج كالحمم
غطى توجع حلمك المشحون كالرمم
نايٌ يرافق خطوك الدامي
يغني جثة تمشي
تخلص نفسها من شربكات الموت
لا تتعبْ
وتشع جرحاً شاملاً
تحكي بضوء النزف كالكوكبْ
قف يا نسيمي
لست حراً أن تموت
ولست حراً أن تعيش
فأنت كون مرتهنْ
حاورت جلاديك ما أسمعتنا
سلخوك عنا كي تصير الرب
أو نوليك قبلتنا
وبعدما يحطمون الحلم
تعرى كالصنمْ
أبقوك إذ ضاعت ملامحنا
سخوت بحلمنا
أبقوك كي تمشي بنا نحو المسالخ كالغنمْ
هل فيك هذا السر وحدك
أم أتى للناس كلهمُ
ورثت الله وحدك
أم سنغتصب الموزع بيننا بالعدل
أم قد حصِّصت فينا البلايا
ثم وحدك للنعمْ
ضاقت بنا الدنيا
وغطت عتمة البلوى سماء بلادنا
وتسرب الألم الدفين
تطلعنا فزعاً لدى أولادنا
اليأس باغتنا.. وزلزلنا
أتانا في الهزيمة كالهزيم
لم ينته الهذيان.. مهلاً يا نسيمي
إن شئت أن تمضي
فقل لي منْ غريمي
قل لي.. أخاف السم في كأس النديم
ما عدتُ أطلب جنة والأرض قد صارت جحيمي
آمنتُ أن لابد من هذا الجنونْ
والموت أضحى وحده الخلَّ الحنون
لابد من صوت على نطعٍ
وقولٍ جارحٍ في وجه مسكينٍ
فقل لي أي شيء يا نسيمي
قل غير هذا النزيف
تكفيني استدارتك الفخورة
رفعك الجلد المدمى كالعلمْ
يكفي عذاباً يا رجل
يكفيك رفضك للندم
يكفي.. فهمنا كل شيء
من نزيفك يا نسيمي
فلتمضِ في صمت
لتبقى عندنا تلك الشيم
سيظل في الدنيا مكان لائق بالموت
رأي يستحق الموت
درب شائك
لنسر فيه مع الرسل
يكفي الهزيمة نبلها يحكي
فهمنا يا نسيمي
تابع الصمت الثقيل
وتابع النزف النبيل..
ولا تقلْ
أتلفت نحوكِ.. أبكي
تقبلين من الفرح المرتجى
تقبلين من الفرح المستحيل
وتأتين كالضوء من عصبي
تطلعين من القلب
ينكشف العمر في عريه
هيكلا من عظام الأماني
وزوبعة من شقاءْ
تكشفين قصوري عن الحب
بعدي عن الله
عجزي عن الحلم والذكريات
تجيئين ملء القلوب العريقة
ملء العيون العتيقة
لم تتركي فسحة للرغائب واللهو
لم تتركي خفقة للّقاءْ
غربتي كشف وجهها
فرأيتك كل الذي مرمر القلب
لم أتحمل دفاعاًَ عن العشق
أو عن طفولتنا
ورأيتك:
لم يضطهدني الطغاة لرأي
ولم يأت خلفي الغزاة لأرض
ولم تجرح القلب في لوعة هجرة الأصدقاءْ
كنت خلف التوجع والدمع
في الخوف كنت... وكنت الشقاءْ
ولكي أتقرّب منك
لكي أتلمس نبضك
أو أتقرى ابتسامة عينيك
كابدت هذا العناءْ
فضحتني الدموع التي صبغت ذكرياتي
ودمعيَ غال
تعلمت كيف استوى الدمع بالدم
أعبد من سفح الدمع والدم كرمى لها
فضح الدمع حقدي
فلا عفو عمن أباحوا دمائي
ولا عفو عمن أباحوا البكاءْ
قلت:قلبيَ يقفز
ينذر بالشر
قلبي تعلق مرتعداً
عند أول هذا السواد
الذي يملأ الأفق
قلت:جبيني على وشك الإنكفاءْ
والعواصف إذ تعتريني تبددني
وأنا أتماسك في ذكرياتك
هدَّأتني
لم تكن غيمة تتجمع سوداء في الغرب
كي ترتمي مطراً
فالغيوم التي اعتدتها أصبحت ناشفة
والرياح استكانت
فلم تأتنا نذر العاصفة
قلت لي:
إنها الطير
في رهبة الأفق سوداء
والناس ترقبها
أقبلت كالشحوب الذي يعتريني
إذا ما ارتعدت على ذكرهم نازفه
ما الذي سوف يأتي؟
ترنحتُ..أمسكتِني
وتوجعتُ..أسكنتِني
واندحرتُ..فأرجعتِني
كانت الطير في رهبة الأفق سوداءَ
جاءت كعتم يفاجىء عند الظهيرةِ
غطت سماءَ المدينة
واصطدم الخلق بالخلق
فالضوء يسودُّ
والقلب يسودُّ
والمدن المستعيذة مشلولة واقفه
وصلت زعقة
وتلاها عويل
تغير نبض السماءْ
ذهل الخلق
وابتدأتْ هجماتُ الطيور
وراحت مناقيرها تنتقي في الزحام
فرائسها الراجفه
خفت ملء عظامي وأوردتني
أقبلت هجرة راودتني
هممت بها
غير اني رأيتك،
قلت:معاذَ هوانا
رجعت أسلِّم عمري
وأخلع خوفي
أواجه نبض نهايتنا
خفت أن تفقديني
وخفت إذا شدني الخوف صوب الأمان
إذا لفني الذعر بين المنافي
بأن لا ألاقيكِ عند المساءْ
حينما شبَّ بين القلوب هروبُُ
تشبثت باسمكِ
أطبقتُ قلبي على نظرتيك
لأجلك أبقى
وتطبق حولي مصيدة الطير
أبقى لديكِ
ولستِ معي
أتمسك بالبرق من ذكرياتك في حلكي
أتعلق بالماء، يندفع السيل
أنشدّ للضوء، يندلع الليل
أنشدّ نحو التراب، يثور العجاج
بلاد تفور
وأخرى تغور
وشمس تغيب وراء الطيور
أطارد خيط شعاع
تسرب ما بين طير وطير
وأغمض عينيّ
سئمت مناجاة روحي
أغني للهوى القتال أغنية
على طلل يصير ركامْ
أغني كي أنقب في بقايا الصمت
عن أشلاء مجزرة ٍ
يغطيها اخضرار كلامْ
وها إني عثرت الآن
:على شيء سأفعله بلا استئذان
أموت
لكي أفاجئ راحة الموتى
وأحرم قاتلي من متعة التصويب
نحو دريئة القلب
الذي لم يعرف الإذعان
سأحرم ظالمي من جعل عمري
مرتعا لسهام أحقاد
وأرضا أجبرت أن تكتم البركان
أموت
وقد نزفت مخاوفي
لم يبق مني غير جلد فارغ
قد صار كيسا فيه بعض عظام
فصائغ يأسي المقرور فرغني من الأحلامْ