ثلاثون بحراً للغرق
قاسم حداد
أنظري،
أيتها الحياة النحيلة،
بكائي نبيلٌ
وصبري طويلٌ
وأخطاءُ قلبي قليلة،
أنظري،
كل مَنْ غادرَ بيتَ الطفولةِ
مستسلماً للرحيل
انتهى نادماً
واستعادَ السفينةَ
في زرقةٍ مستحيلة.
أنظري،
قلبي عليلٌ
وليلي قصيرٌ
وأحلام حبي طويلة.
2
زرقاءُ موسيقاكِ
تمنح دفترَ الأطفال أسماكاً
وزعنفة لأحلام الغريق
وخيط أفقٍ في البريد
حنينُ موسيقاكِ بابُ البحر
للباقي من الأسفار
موسيقاكِ
بعضُ سفينة الغرقى
رؤى الكلمات
أطفالُ المسافة
واحتمالاتٍ من الذكار.
3
دَعْ لنا حرية الخوف
و دَعْنا في النوارس.
4
كلما أجَّلتُ موتَ الأصدقاء
لكي يُطيلوا نومَهم في هدأة الشطآن
تزْرقّ انتظاراتي
وتوقظني يدٌ مذعورةٌ.
هل كنتَ لي وحدي
وهل بابُ الصداقة موصَدٌ في وحشة العنوان
بحرٌ أم بِحارٌ
أم شظايانا على طَوفٍ وعاصفةٍ
له وحدي
إذا نالَ انطفاءته ليفقدني
صديقٌ يَقبل التأجيل
بحر ٌ في المرايا
في حريق الماء
في كتفي
لئلا أنحني في حضرة التأويل.
5
لم يزل لونُ المخاوف أزرق
لم يزل ريشُ النوارس أزرق
لم تزل في النوافذ رعشتها
وأخطاؤنا الخضرُ
كالزرقة المشتهاة
تَهيمُ وتَغرقْ.
6
نُجَرِّدُ ماءَكَ من لونه،
أسودٌ مستهامٌ
يُعرّيكَ
هذا الحزين الذي يصطفيك
انتهتْ نزهةٌ في الكلام،
لنبدأ في السفر المُرّ
فارحلْ
وخذْ زِنجَكَ مَوجَكَ
للغرق الحُرّ
دعهم يضيعون
لم تعد زرقة تحتويك
فالمدى موجةٌ في الخيام.
7
في القرى المستباحة
في منعطفات الخرائطِ
في ما تبقى من اليأس
تأتي القواربُ شاخصةً للجنون
وتبدو السنون
تفاصيلُ مستنفرٍ في الجراح.
8
بلادٌ
تؤلفني نشيداً نشيدا
بلادٌ
ستكتبني ثم تبكي عليَّ
وحيدا
بلادٌ مؤجلةٌ
سوف تمحو ليَ الحزنَ
عيداً فعيدا.
9
صحارى تطاردنا
وتزدردُ الزبدَ اللؤلؤيّ
كلما جَرَفَ السيلُ أخبارَناَ
مثل نهرٍ من الرمل
جاءَ الخرابُ الخَفيّ.
هل نحن أسطورةٌ
تقتفي موتها الفلسفيّ.
10
ذهبتُ إلى’بحرٍ بلا سفنٍ
وجَرَّبتُ الشظايا وهي طائشة
وتاهَ الموجُ بي
وحدي تَجرَّعتُ الغيابَ
فَقَدتُ أحبابي بلا سفنٍ
يَضيقُ البحرُ في ليل الكتاب.
11
منذ بحرين
يأتي لها الضائعون
يضيعون فيها،
قراصنةُ الأرضِ
فيها الصعاليكُ
والقرامطة اليائسون،
لعل التي منذ بحرين
تدركُ بَحْارةً
وحدَهم
يغرقون.
12
كنتُ بحاجةٍ للماءِ كي أتلو صلاة الموج
حنجرتي وَرَتْ
من فَرْطِ ما نَطَرَتْ،
هنا جرحٌ يجفُّ،
وكنتُ وحدي في انتظارٍ لا يؤجلني
فهل قِسْتَ الدلالةَ مَرَّةً
بين المخدة واختلاج الحلم في ليل الرحيل
هل كنتَ تقرأ نورساً يهفو بأجنحةٍ
ويسبقُ صاريات النوء
هل فاتَ الفَنارُ هداية الغرقى
قبيل تفاقم الماضي؟
طلبنا نجدةَ الغرقى
لنزعمَ أن قاموساَ سيسعفنا
من الأموات.
تهجَّينا عذابَ البحر وهو يموج.
ما المغزى إذنْ
وثلاثُ أخشابٍ تجوبُ الأفق،
لا الماضي يحرِّرها من المعنى
ولا مستقبلُ الأخطاء يدركها
ثلاثُ سفائنٍ في التيه
نقرأها تِباعاً وهي تَغرقُ
والمسافة بيننا لغةُ المعاق
وموجةٌ في المَدّ.
13
للبحر موسيقى
ونحن جوقة القتلى
نغني في نشيد الموج
كي لا يَنْعَسَ الحراسُ
نرخي كائنات البحر
في المرآة
في حبر شفيفٍ
نجمة صارتْ لنا فَرَسَاً
كما الخشب الخفيف
فجاءنا نيلوفرُ الأعماق وهو يُضَلِّلُ الأسماكَ
يمحو لغزنا المائيِّ
نغفو سكرة في الكاس.
14
لم يعد بيته عامراً بالنوارس
في الجزر النائيات
ستبدو الحياة الوحيدة
مطمورةً بالحجر الحيّ
بالرمل وهو مسجىً
بلا أملٍ
يحتمي بالحدود البعيدة.
15
جُزرٌ مُجزَّأةٌ
تكافئنا بما لا يستقيم لنا
بماءٍ يفقدُ الميزان
هل كانَ الخليجُ سفينةَ الجرحى
وهل في وحشة الشطآن
جائزة.
فكلُّ جزيرةٍ وهمٌ
وحنجرةُ النشيدِ شهادةٌ للفقد
بحرٌ مستهامٌ بالقواقع
وهي تكشفُ سرَّها
هل في الجزيرةِ ساحلٌ يحنو
وهل هذي النساءُ دفاترٌ ثكلى
تؤجلنا لننتظرَ السفينة
وهي عائدة بهم
في يقظة الأحزان؟
16
بلا أملٍ في الغياب
تلك أسفارُ أهلي
وتلك السفينة تفقدني
كلما أبْحَرَتْ
صَهَلَتْ فرسٌ في البقايا من الأفق
بلا أملٍ في الضباب
أبي كان بحراً على البحر
زرقتُه
لونُ عينيه
فانوسُه مطفأ في الجزيرة
صَلَّى
بلا أملٍ في الكتاب.
17
كنتُ أعبِّئه في الدفاتر
والبحر يرفل في الدفء بين الحروف
تنتابه رجفة الغرق المُشتهى
فأكتبه نخلةً فارعة
في هامش الغيم
تنساه عينا فتاةٍ
تضيعان في النشوة المترعة
أخبئه في التباس الكتابة بالزعفران
فينساه بحارةٌ ضائعون
يتيهون قتلى الرؤى الخادعة
أُزَكِيّهِ للغوص
للؤلؤ المستحيل
فتنتابه ليلة المحو
في الزرقة الضائعة.
18
أبحرتُ،
كلُ قصيدةٍ موجٌ
وألواني حروفٌ
والبقية من دمي كان الدليلُ
*
هل في التفاتةِ راحلٍ
ما يستعيد الأزرقُ المفقودُ في كتبي
ويمنح حسرتي خشباً قديماً
ناضجاً حولي ليبتدأ الرحيلُ
*
أبحرتُ،
لو أن الكمان بكى قليلاً
قبل هَبّ الريح
وانثالتْ رؤى البحار
لازدادَ القليلُ.
19
لو أن القصيدة ذات مغزى
والكلام محررٌ
والبيتُ داري
صارَ لي صوتٌ
يترجمني لأحفادي
وصرتُ شجيرةَ النارَنجِ
في الوادي
ولكنَّ ناينا ينسى
وأخطاءُ الكمان ذريعة
والعمرُ يسرعُ بي
وأسماء البِحارُ عليلة،
فانهرتُ وحدي
والقصائدُ جمّةٌ،
هل كنتُ قد أبحرتُ كي
أرسو على شمسٍ بخيلة.
20
نساءٌ يتعلمنَ الغرقْ
في انتظار الخشب العائد
بالمستوحشين
برجالٍ في أقاصي الحجر المنسيّ
في الأعماق
في ردهة بيتٍ موحشٍ
طافٍ
على يأس الشفق
ونساءٌ يتدربنَ على ماءٍ ثقيلٍ
ثم يحرسنَ القلقْ
ويُصلينَ لكي يأتي شراعٌ غائبٌ
قبل الغسق
كنساءٍ مستجيراتٍ يضعن النارَ
في البحر
ويصبرن على جمر القلق.
21
من أينَ جئتِ بنجمةٍ المجنون
يخسر جنةً في الماء
بحثاً عن حديقته المضاعة
كيف ينفجر الكتابُ
وفهرسَ القتلى وفلسفةَ المسافة
بين أن يحظى الجنونُ بعقله المفقود
أو يُنسى العذابُ.
وردةٌ كسلى،
ابتدأتِ أم انتهيتِ
فدفَّة السفن الكسيرة
بيرقُ الأسري
فنارٌ في تخوم الموج
طيرٌ أم ضبابُ
***
هل كافأتِنا بالحب
كي نفنى على مضضٍ
وهل أخبار قتلانا جنونٌ جامحٌ
والبحرُ جنتنا
وهل تاهَ الغيابُ.
22
يضعُ الأطفالُ قواربَهم في الشاطئ
يكتئبون لفرط النطرة
والماءُ شحيحٌ
لا البحر يحقق أحلامَ الأطفال
ولا الموجُ يؤجلُ حسرتهم.
أطفالٌ، يرتجلون طقوسَ الفقد
ويبتكرون أغانٍ راعشةٍ
كي تأتي الزرقةُ
تمحو الشاطئ تمحونا
يأتي النورسُ بالأخبار
تطيشُ الأحلامُ جنونا.
23
اليأسُ أجدى،
كلما غابَ المغامرُ في خريطتِه
بكتْ أسطورةٌ
ومَضَتْ خيولٌ
واستدار الكونُ نحو شكيمةٍ مغدورةٍ،
يَجْلُو قراصنةٌ مساميرَ السفينة.
ربما مالَ الخرافيون نحو خديعةٍ
فاليأسُ أجدى،
ليس في بحر الغياب نهايةٌ
ولا ينتابنا أملٌ بما ينهار
مَنْ تختارُه نارُ الهزيمة
يفتدينا
ربما قال النهاريون حكمتَهم
ربما اختاروا لهم موتاً رحيماً
قبل أن تنتابهم أسطورةُ الأنواء
خيلٌ هائجٌ وشكيمة مكسورة
واليأس أجدى.
24
هي أمرأةٌ بكتْ أحلامَها
لتهدهدَ الأطفالَ
كي تغفو على مستقبلٍ في البحر
يا امرأةً لها ألوانُها
ولها انتظارٌ شامخٌ
خشبٌ يغني في قديم البيت
حتى شرفة المعنى
هي امرأةٌ تؤجل نورساً لليل
كاد الليل أن يفنى.
25
تمنينا ثلاثاً
أن يكونَ البحرُ مسرحنا
نؤلف مركباً
لنؤثِث الشطآن بالذئب الحزين
ونحتسي من سلة القرويّ عصفوراً
ونلبسُ حلةً من عنفوان الموج
خيلٌ خائفٌ
أو مستحيلٌ عابرٌ
فالبحر يهرب في المرايا
كلما متنا
تمنينا له أن يختفي
في اللؤلؤ المكنون
كالمجنون
وهو يبجل المَحَّارْ،
مجنونُ الشظايا.
26
سُفنٌ محطمةٌ على باب الحريق
وشهوةُ القرصان تحدُو بي
وحُلمي سيدٌ
كيَف انتهتْ بي هذه الأسفارُ
مصلوباً بصاريةٍ
ومصطرعاً بموجٍ جامحٍ.
هذا المدى يغتالني غرقاً
لماذا كلما جاءَ البريدُ
فقدتُ أحلامي
وصارتْ لي قُرىً مهدورةً في دُكْنة الأخبار
مَنْ يتلو حطامي في السفينة
من يترجمني
ومن يعطي لأحفادي ذريعتَهم
ليبدأ درسُهم في الماء
مثل تضرّع التاريخ بعد النار.
27
عاد المسافر
والمسدسُ لا يزال مصوّباً للرأس
كي أروي الحكاية مثلما يبغون
ما زال المسدسُ غارقاً في الدمّ
ما زال المسافرُ واقفاً يرنو لراحته الأخيرة
غير أنَ قُضاتَهم يُصغون للتحقيق
عبر الكأس
ماذا يرتجون من الضحية
وهي دائخة
تواري موتها
كي لا يصوغون اتهاماً تاسعاً.
سَئِمَ المسافرُ
وهو يهجو تاجه المهجور
قالوا سوف تُصبح سيداً
ما لم يزاحمك السُكارى حول تختِ الحكم
قل أنَّ المسدسَ كان يشهدُ عندما غاب الضحايا
خفيةً عن موتهم،
كَذِبَ الحواةُ،
*
هل في الرواية ما يفسّره الرواة.
***
28
( أ )
مثلما تنتهي سهرة العاشقات مع الأفق
يبدأ بحرُ المصابين بالفقد
قلبٌ وخائفة من تآويل أحلامِها:
موجةُ الفاتحين
وانكسارٌ مع الضوء
حناؤها زعفرانٌ على الكعب
والعمرُ يمضي جنوباً ..
إلى الشرق.
( ب)
الماءُ في اللازورد
وعيناك ضائعتان
وما لا يسمى من الماء
أرجوحة للسفر
كأنَّ النظر
هتافٌ وتفاحتان
ومحتملٌ موشكٌ للشفق.
( ت )
يترك الماءُ آثاره في خطانا
ويستبق الغيمُ أحلامنا
كي يُضلّلَ،
مثل الفنار العدوّ،
ربابنة البحر.
*
هل كان مركبنا يتبع الله
أم يسبق المعجزات
هل كانت البوصلات صديقة أحلامنا
هل لنا أن نؤنبَ أخطاءنا
مثلما يفعل الحالمون
وهمْ يبحرون؟
*
سنغرق ثانية
.. مثلهم.
29
لم يكن لي غير خمسين جناحاً
كي أطير،
وبعيدٌ ساحلُ النسيان
منفىً إثر منفى،
هاتِ موسيقاك قبل النصّ
منفاي أليفٌ
وهنا البلدان تغويني
لكي أنسى.
*
جاءني بحرٌ وعشرونَ دليلاً لارتياد الموج
منفىً إثر منفى
والأدلاءُ كتابٌ يشرح الأنواء
والنهر وراء البحرِ يغريني.
تدربتُ لكي أغرق وحدي
وأسمّي غربة المنفى
وخمسين جناحاً
جرساً يوقظني في جنة النسيان
هل كانت بِحاراً
أم غزاة كسروا مرآتنا قبل السفر.
30
ما من أملٍ،
لا تتخذوا حِصناً للحرب
فليسَ لنا غيرُ الغرق القادم
مادمنا ننسى أسماءَ البحر الحسنى
ما من أملٍ
قد فَسِدَ الملحُ ونالَ الماءُ الأعظمُ
من حلم الناس
وهذي الرأس تُعَدُّ
فهل نتجرع مُرَّ الكأس كِلانا
لا أملٌ في هذا الفأس.
خُذْ درسَ الغرق الأخرق
واسألْ نفسك في بابِ اليأسْ.
فلنذهب عبر الماء
لئلا تعرفَ عينُ الموتِ خُطانا
ما دمنا في شمسٍ يائسةٍ
لا أملٌ ينقذُ هذا البحر سِوانا.
***
‘بيت هاينريش بول’ – ألمانيا – شتاء 2013