® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11575 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2013-08-25, 1:04 pm | | قيثارة حب
أوفيد
ترجمة: علي أحمد كنعان
مقدمة
قيثارة حبشاعر روماني قديم، تقرأه فتحس أنه معاصر، وإن مضى على رحيله ما يقارب ألفي سنة. تلك هي روعة الشعر العظيم وفرادته، إنه يتحدى الزمن ويستعصي على الموت والزوال. الحب موضوعه الأثير، في الجد والعبث، في الملحمة الصاخبة والمرثاة الوجدانية الشجية. والشاعر الذي يكرس حياته وعبقريته وفنه لهذا الموضوع الإنساني الجليل جدير بأن تزين الأجيال المتعاقبة جبينه بأكاليل الغار، وأن يسجل عشاق الشعر والجمال والابتهاج اسمه في لائحة الخالدين.
إنه بوبليوس أوفيديوس ناسو، وهو معروف باسم (أوفيد) وكفى. ولد في أسرة ميسورة سنة 43 قبل الميلاد وتوفي سنة 17 ميلادية، وبعض المراجع تشير إلى أن وفاته كانت سنة 18م. لا نعرف إلا أقل القليل من حياته. ولولا تلك اللمحات المنثورة في شعره، ما وصلنا عنه نبأ ذو شأن يذكر. مسقط رأسه في سولمو (سولمونا، اليوم) في أبروتسي على شاطئ الأدرياتيكي، وهي مدينة صغيرة وجميلة تقع على مسافة 90 ميلا (140كم) شرقي روما. والشاعر يتحدث عنها وعن جمالها بلهفة حميمة تذكرنا بصورة الأندلس في الشعر العربي.
تنتمي أسرة الشاعر إلى طبقة الفرسان، وهي الطبقة الوسطى بين عامة الناس ومجلس الشيوخ. وأحوال أبيه الميسورة أتاحت له ولأخيه الأكبر أن يتوجها إلى روما لمتابعة تعليمهما. كانت دراسة البلاغة والقانون طموح الشباب الروماني، أملا في أن يغدو واحدهم متألقا في الخطابة والقضاء. وفي روما درس أوفيد البلاغة تحت إشراف أساتذة كبار من بينهم أوريليوس فوسكوس وبروكيوس لاترو، ثم أكمل تعليمه في أثينا حيث أعد نفسه أن يكون شاعراً. لكنه عمل في روما قاضيا يفصل في قضايا الوراثة والوصاية، وفي قضايا الإجرام أحيانا، ولعل ذلك الالتزام بالواجب كان إرضاء لوالده. لكنه لم يستطع الاستمرار محصورا في إطار القانون، وسرعان ما تخلى عن الحياة العامة ومشكلاتها ليتفرغ للشعر وعالمه الرحب. ذلك قدر أوفيد في أن يكون شاعرا كبيرا ويقف في الصدارة بين شعراء جيله.
بدأ كتابة الشعر في الثامنة عشرة من عمره، واكتسب شهرة واسعة جعلته أهم شاعر في جيله. وفي الخمسين من عمره كان أهم شاعر روماني، وخاصة بعد وفاة فيرجيل. لكن الشاعر لم يسعد بتلك الشهرة المتفردة لأن الإمبراطور أوغسطس نفاه في السنة الثامنة للميلاد إلى توميس، وهي بلدة صغيرة تقع في أقصى أطراف الإمبراطورية على ساحل البحر الأسود ( في رومانيا اليوم). وهناك مات، بعد معاناة عشر سنين من الأسى والوحشة ولهفة العودة إلى أحضان روما. والباحثون لا يجزمون تماما في أسباب نفيه، وإن اعتبروه إبعادا لأن الإمبراطور لم يصادر أملاك الشاعر ولم يحرمه من المواطنية الرومانية. وهم يتفقون جميعا مع الشاعر بأن (فن الحب) كان أحد السببين. أما السبب الآخر فقد ظل غامضا، إذ تشير بعض الدراسات إلى أن قرار الإبعاد ألمح إلى جريمة ارتكبها أوفيد، فضلا عن شعره العابث في (فن الحب). وأوفيد ذاته يقول إنها كانت مجرد إساءة من طيش الشباب وليست جريمة. ولا ننسى هنا أن الشاعر درس القانون ويعرف جيدا الحدود التي تفصل بين الجريمة والإساءة. وربما كانت مصادرة أشعاره، وحظر تداولها بين الناس، أقسى من المنفى.
هناك إشاعة تقول إن أوفيد أقام علاقة غير شرعية مع (جوليا) حفيدة الإمبراطور، والدليل الواضح أنها نفيت بأمر من الإمبراطور كما نفي أوفيد وفي السنة ذاتها، كما نفيت أمها (واسمها جوليا أيضا) في السنة الثانية قبل الميلاد، أي قبل عشر سنوات من نفي الشاعر ونفي ابنتها (جوليا). وفي تلك السنة، أو بعد ذلك بقليل، صدر كتاب (فن الحب) بأجزائه الثلاثة. وهكذا استند قرار نفي الشاعر إلى تهمة تخريب البرنامج الأخلاقي الذي وضعه الإمبراطور، إضافة إلى تهمة (أو فضيحة) انتهاك شرف العائلة الإمبراطورية، وإن لم يجرؤ أحد على الإفصاح عن ذلك. ومن مرارة السخرية أن النفي جرى على أساس انتهاك الأخلاق، لكن الإمبراطور ذاته لم يكن مراعيا للقانون الذي أصدره. لقد تزوج ثلاث مرات. الزوجة الأولى طلقها قبل أن يبني بها، والثانية أنجبت له (جوليا)، لكنه سرعان ما طلقها عندما وقع في غرام (ليفيا) التي سرقها من زوجها , وهي أم لطفل. وبلغ من استهتاره بالقيم ذاتها أنه زوَّج ابنته (جوليا) ثلاث مرات زواج مصلحة، وكانت إحدى تلك الزيجات أشبه ما تكون بالفضيحة إذ أجبر (تيبريوس) ابن زوجته وخليفته في الحكم على الطلاق من زوجته، وهي حامل وله منها عدة أولاد وكان يحبها، لكي يزوجه (جوليا). لكنه لم يكن زواجا سعيدا ولم يدم طويلا.
أوفيد كذلك تزوج ثلاث مرات، ولم يرزق إلا بابنة واحدة. الزواج الأول والثاني كانا قصيرين، أما الثالث فكان ناجحا. ويبدو أنها كانت سيدة لها مكانتها في روما، فقد بذلت جهدها لتخفيف حكم الإبعاد عن زوجها، سواء من الإمبراطور أوغسطس ذاته أو من خلفه تيبيريوس، ولكن بلا جدوى. والشاعر يتحدث عن زوجته هذه بحب واحترام.
أعماله الشعرية:
* بين الثامنة عشرة والثامنة والعشرين من عمره كتب (قصائد حب)، وأصدرها أول الأمر في خمسة أجزاء، ثم أعاد صياغتها وكثفها في ثلاثة كتب - حسب اعترافه. ومن تلك السن المبكرة انطلقت شهرته. * بين الثامنة والعشرين والحادية والأربعين من عمره، كتب (فن الحب) بأجزائه الثلاثة. وكان قد كتب (رسائل العاشقات) قبل ذلك. * في السنة الأولى للميلاد، وهو في الثالثة والأربعين، بدأ كتاب (التحولات) وأنجزه كما أنجز قسما كبيرا من كتاب (التقويم) بعد سبع سنوات من ذلك التاريخ. ثم جاءت صدمة المنفى وهو في الخمسين من عمره، وهي صدمة قاسية وموجعة لم يسلم منها إلا بالموت. * وفي المنفى كتب (أغاني الحزن) و(رسائل من البحر الأسود)، وفيها يلتمس العفو من الإمبراطور مباشرة أو من خلال زوجته وأصدقائه، ولعله كان يتوجه إلى جمهور القراء والمعجبين مبينا مدى الظلم الذي لحق به. * وهناك أعمال أقل شأنا هي (فن التجميل) و ( مداواة العشق) و(رسائل العاشقات) أو (رسائل البطلات) والمقصود (بطلات العشق) من أمثال (هيلين) طروادة.
لكن أهم أعماله هما (فن الحب) و(التحولات) بلا جدال.
قيثارة حبإن أهمية أوفيد تتجلى في تحديه السافر للآلهة والإمبراطور معا. فالشاعر الذي أنزل آلهة الرومان إلى الأرض في (فن الحب) وراح يعاملهم بسخرية، كان يرمي في الوقت ذاته إلى السخرية من الأباطرة الذين جعلوا أنفسهم أشباه تلك الآلهة الوثنية. إنه يتمتع بثقافة رومانية وإغريقية واسعة، وفي أكثر من موضع يشير إلى أهمية تعلم اللغتين. ويوم بدأ في كتابه (فن الحب)، كان يرى أمامه مثالين سابقين: الأول هوميروس الإغريقي مبدع الإلياذة، والثاني فيرجيل الروماني مبدع الإنيادة. لكنه لم يتبع الأسلوب الملحمي، لا في الإيقاع ولا في البناء، إنما بنى عالمه الساخر حين اتخذ من الحب لعبته الجميلة الأثيرة. الإمبراطورية الرومانية إمبراطورية حرب ؛ كان الشاعر يدرك هذه الحقيقة بوعي حاد ومرارة لاذعة. وتصوير أهوال الحروب وأمجاد الأبطال يحتاج إلى الملحمة بإيقاع سداسي التفاعيل متوارث عن الإغريق. لكن أوفيد، إمعانا منه في السخرية من أباطرة الحروب ومن قيم المجتمع المنهارة، ولا سيما الطبقات العليا، فقد حول الحب إلى معارك حربية مضحكة، تعج بالمؤامرات والدسائس والابتهالات والرشاوي.. وكل ما في المجتمع المترف من فساد وتفسخ وانهيار أخلاقي.
أجمل عاطفة إنسانية تحولت إلى مجرد رغبة جسدية مسعورة، تتطلب السحر والاحتيال والتذلل، أو حتى العنف والتواطؤ مع الخدم والعبيد, وربما مصادقة الزوج والتغرير به وطعنه في الظهر. إن طبقة اجتماعية مترفة قد انهارت قيمها وتقاليدها الأصيلة المتوارثة, ولم تستطع ترسيخ قيم حضارية جديدة، هذه الطبقة تتحول إلى وحوش امتلاك واستئثار بالمتع والانغماس بالملذات. وفي سبيل ذلك فإن أبطالها مستعدون لاقتراف أكبر الكبائر. لذلك نرى الشاعر يستعيد رصانته الحذرة وينصح بأن الحكمة تقتضي عدم ائتمان أحد على الحبيبة، فلا أخ ولا صديق ولا جار.. كلهم سواء. وهذا يعني، في المفهوم العصري، أن الحبيبة ليست إنسانا وإنما هي دمية.
لكن، ليس من حقنا أن نظلم الشاعر، ما دام يفصل بيننا وبينه كل هذا الجدار العريض من الزمن. لقد فتح عينيه على الحياة، والقناصل الثلاثة يتصارعون على السلطة، ويسقط أنطونيوس ليصعد نجم أوكتافيوس حتى يصبح الإمبراطور الحاكم الأوحد إحدى وأربعين سنة، ويطلق على نفسه لقب أوغسطس أي (الجليل أو المهيب). وكان الرومان يطلقون على الشعوب الواقعة تحت سيطرتهم اسم (برابرة). وأوفيد الذي كان يحلم أن يمضي حياته كلها في عاصمة الإمبراطورية , روما , أقصاه الإمبراطور (الحريص على الأخلاق) إلى بقعة نائية محكومة بالقبائل (البربرية)!
هل كانت قصائد أوفيد عامل هدم وإفساد في أخلاق المجتمع فعلا، أم أنها كانت خطرة على النظام العسكري، في إمبراطورية تجعل من الفروسية والفرسان عمادها الأساسي؟ إن الشاعر سليل هذه الطبقة، وهو يعرف جيدا قيمها وأخلاقها ومخازيها على حد سواء. لذلك لم يملك غير سلاح الشعر والسخرية , ولم يجد موضوعا غير العشق الحسي ومغامراته التي يرتقي بها إلى مستوى الأسطورة , وينزل آلهة الرومان عن عرشها ليلعب بها كبيادق الشطرنج.
شعره كله باستثناء (التحولات) ينضوي تحت جناح المرثاة Elegy، بالمعنى الكلاسيكي (الإغريقي) للكلمة، وقد كتبه بيتين بيتين، يلتزم بالقافية حينا...وكثيرا ما يتخلى عنها. لقد كانت عبقريته العاشقة للحرية أكبر من أي قيد، وإن كان فناًّ متوارثا. و ( التحولات) قصيدة طويلة تضم نحو اثني عشر ألف بيت من الشعر، وتقع في خمسة عشر كتابا، وهي مكتوبة على البحر الملحمي ذي التفاعيل الست، بحر المأساة Trgedy. إنها تضم حكايات أسطورية وخرافية، يلعب التحول فيها دورا ما، مهما كان ضئيلا. وهو يبدأ منذ كان الكون في حالة العماء والفوضى ثم انتقل إلى النظام .. حتى ينتهي في موت يوليوس قيصر وتأليهه - أو ما يعرف بالسلام الأوسطي. وفي كثير من القصص، كانت الشخصيات الأسطورية وسيلة فنية لتوضيح أمثلة من الطاعة أو العصيان تجاه الآلهة. وكانت هذه الشخصيات تكافأ أو تعاقب، جزاء على أعمالها، بالمسخ إلى حيوانات أو نباتات، وربما بالترقية إلى كائنات فلكية. إن أهمية (التحولات) أكبر مما تبدو في حقيقة الأمر. ذلك أن موضوعها الجوهري هو العاطفة الإنسانية في ذروة مكابداتها. أي أن وحدة الموضوع موجودة، مهما تلونت القصص وتباينت العقوبات والمكافآت. وفي هذه القصائد يستفيد الشاعر من دراسته المعمقة للبلاغة، وتصويره العابث لألاعيب العشق الجسدي في شبابه يتحول في هذه القصائد إلى خيال مفعم بالعاطفة الإنسانية العميقة , وكأنه يريد أن يقول لأبناء قومه من الرومان: إن آلهتكم لا قيمة لها إلا بما تحمل من عواطف إنسانية حميمة.
وهنا لن أتحدث عن (فن الحب) أو عن بداياته الشعرية في (قصائد حب) لأن النص الأصلي - وإن كان مترجما - يغني عن أي شرح أو تعليق. النص هنا بين أيدي القراء، وارتشاف الماء من الينبوع أشهى وأعذب. ولا شك أن هذا الشعر مرآة العصر الذي ولد فيه، ومرآة المجتمع , بقدر ما هو مرآة الشاعر، إنما بالمعنى المجازي الفني للمرآة بعيدا عن العلاقة الميكانيكية الجامدة. وإذا كانت جرأة الشاعر تخدش الحياء في بعض الأبيات ولا تراعي حدود الأخلاق، فليس مصدر ذلك ولا غايته ترويج العبث والتهتك والاستهتار، وإنما هو محاولة قاسية لشد الأنظار إلى الحالة المستنكرة التي بلغها المجتمع المترف، وبخاصة أنه مجتمع محكوم بطغمة عسكرية في إمبراطورية مترامية الأطراف.
الشاعر يتطلع دائما إلى المستقبل، فهو مرتبط بالأحلام. من هنا انبثقت سخرية الشاعر، وهي سخرية لاذعة لم يسلم حتى أوفيد نفسه منها , إذ ينتقد قسوته على الحبيبة أحيانا وهو يعاملها بما لا يليق. وفي عالم يفرق بين النبلاء , والناس العاديين , والعبيد ويجعل البعد بين الطبقة العليا والدنيا بعد السماء عن الأرض، في عالم كهذا لا بد أن يثور الإمبراطور حين يرى الشعر سلاحا ضده وضد قوانينه، فالعسكري الذي يحارب في أطراف الإمبراطورية يريد أن يكون ظهره محميا وأن يكون آمنا على حبيبته وزوجته وأسرته كلها. لكن تركيز أوفيد على الفساد الذي ينخر في لباب ذلك المجتمع , جعله يهتز من أساسه وربما أسهم في دفعه إلى الانهيار. ويظل الشاعر أخلاقيا مستقيما - كما قال بصدق - وإن عبر في شعره عن حالة تتنافى مع القيم .
الترجمة: يضم هذا الكتاب عدة أعمال للشاعر كتبها في مراحل مختلفة من حياته قبل المنفى، وهي: قصائد حب في ثلاثة أجزاء أو كتب - كما أسماها. أدوات التجميل أو فن التجميل. فن الحب في ثلاثة أجزاء أو كتب. مداواة الحب.
اعتمدت في هذه الترجمة أساسا على النص الانكليزي , من ترجمة أ. د. ميلفيل الذي استفاد من ترجمات سابقيه , واستعار بعض القصائد من ترجمة مارلو، معاصر شكسبير. كما اطلعت على مقتطفات من ترجمات إنجليزية متعددة، لكنها لم تكن أمينة للأصل، ولقد عشت مع هذا العمل الإبداعي المتألق ثمانية أشهر، وأنا أعمل فيه ما بين خمس وست ساعات كل يوم، إضافة إلى ما يقارب الساعة أمضيها مع النص اللاتيني الصعب. لقد أعادني أوفيد أربعين سنة إلى وراء، يوم بدأت دراسة اللغة اللاتينية بمتعة خاصة واستهوتني قواعدها المشابهة لقواعد النحو في العربية، حيث تتغير أواخر الكلمات وفق حالة إعرابها. لكني لم أمض إلا سنتين مع تلك اللغة.
ولست أزعم أني ترجمت بيتا واحدا عن اللاتينية مباشرة، بل إن اعتمادي كان على النص الإنكليزي كلية. إنما كنت مضطرا أحيانا إلى الاستئناس بالأصل اللاتيني، رغم صعوبته، حين كان يلتبس علي أحوال المذكر والمؤنث والفاعل والمفعول في النص المترجم، فضلا عن صيغ الأسماء الأصلية. يضاف إلى ذلك متعة الإيقاع الشعري في نصه الأصلي، وإن كانت الترجمة الإنكليزية شعرا مرسلا , يعتمد الدوبيت (البيتين) , وأحيانا الرباعية , وفي حالات قليلة جداً البنية السداسية.
من المعروف أن هناك ترجمة مشهورة قام بها السيد ثروت عكاشة , فكان له فضل الريادة في تعريف القارىء العربي بأوفيد. كما أن في الجامعات العربية ترجمات مجتزأة قام بها طلاب بإشراف أساتذتهم. لكن القارىء سيكتشف أن هذا النص مختلف اختلافا كبيرا عن كل ما سبقه. إن الترجمات السابقة، على ما يبدو، قد اعتمدت نصوصا مختلفة، وربما لغات وسيطة مختلفة. يضاف إلى ذلك أنها أدخلت كثيرا من الحواشي والشروح في متن الشعر, مما أفقد الشعر كثافته وأبعده عن الأصل. ولعل الدافع كان حرص المترجم على إيضاح المعنى للقارئ العربي، ولا سيما أنه نص مفعم بالرموز والأساطير.
لقد حاولت جهدي أن أكون أمينا لروح النص الأصلي ودلالته. وكنت أحمل بعض المقاطع معي لأرددها مالا يقل عن عشرين مرة , وأنا أسير في حديقة الخالدية (في وسط أبوظبي) مساء كل يوم، وبخاصة في فترة النقاهة، بعد إصابة القلب بالاحتشاء والخروج من تلك المحنة. كنت أتمنى لو أمضيت سنتين كاملتين مع أوفيد في هذه القصائد، ولو أتيح لي ذلك لجاءت الصياغة الفنية أجمل وأقرب إلى شعرية الأصل. لكن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها. ولا شك أن كل تقصير أو خطأ سوف تقع تبعته علي وحدي في هذه الترجمة.
وفي الختام، لا بد أن أحيي المجمع الثقافي وأمينه العام على هذا الاهتمام بكنوز التراث العالمي ونقله إلى العربية. وإذا كان قلب الشاعر قد تعرض أكثر من مرة لسهام كيوبيد، فإن شعره كان عزاء لي خلال إصابتي القلبية. وهنا لا بد من التنويه بالجهود الاستثنائية الميمونة التي أحاطتني بها السيدة فاطمة عطفة طوال هذه الشهور المضنية. فرغم قيامها بأعباء أسرة كبيرة، كانت إلى جانبي ليل نهار, تكتب ما أمليه عليها خلال فترة النقاهة , وتهيئ لي الجو المريح في البيت والمشفى معا وحتى في إعادة صياغة بعض الأبيات، ولا سيما قصيدة (فن التجميل) وفي مناقشة العادات والأزياء وألاعيب الساحرات. ولولا رعايتها الحميمة الغامرة , لما تمكنت من إنجاز هذا العمل الجميل. وتبقى الكلمات عاجزة عن رد المعروف، لأن الأيادي البيضاء التي تحيط القلب المعطوب بغيمة ياسمين حتى يمن الله تعالى عليه بالرحمة والشفاء، ستظل أرق من الكلمات وأسمى من كل تعبير.
أبو ظبي ـ 22 /10/ 2000
*******
قصائد حب
استهلال
[للطبعة الثانية]
نحن كنا خمسةَ كتبٍ نحيلة لأوفيد والآن ثلاثة: لقد رأى أنَّ التكثيفَ أفضل. ومع أن قراءتنا قد لا تمنحك أيَّ متعة ، لكن إزالة اثنين ستجعل الألم، على الأقل ، أخف.(1)
****
الكتاب الأول
-1-
إني عزمتُ أن أُنشِدَ بإيقاع جليل (2) حكايةً عن الأسلحةِ والحربِ والشدائد وأنا أُوازِنُ هذه القضيةَ الخطيرةَ بشعري الأبياتُ كلها في الطولِ سَواء - فلا اختلافَ لكنَّ كيوبيد (3) ضحك ( كما يقولون) واختطف إحدى التفعيلاتِ بعيدا
أيُّها الغلامُ القاسي ، من ولاَّك حكَماً على الشعر؟ نحن لسنا من غوغاءِ رعاياك، إننا ربَّاتُ الفنون أتنتزع فينوس(4) من بالاس(5) الشقراءِ سلاحَها؟ وبالاس الحسناءُ تُزكي نارَ اللوعةِ استعارا؟ ومن يرضى إذا سيريز (6) تربعَّت ملكةً على كلٍ غابةٍ في الهضاب العالية؟ أو ينبغي للعذراءِ المحاربةٍ (1) أن تتولَّى حظيرةَ المواشي؟ ويتمرسَ أبوللو(2) ذو الشعرِ المسترسلِ بتسديدِ الرماح؟ بينما يداعب مارس(3) أوتارَ القيثارةِ على قمة هيليكون؟ يا لعظمةِ سلطانِك! وإن هيمنتَك لأعظمُ بكثير. فيا أيها الغلامُ الطمَّاع ، لماذا ينبغي لك أن تتصدَّى لهذه المهمةِ وهي جديدةُ عليك؟
أليس العالمُ كلُّه يومئذ لك؟ أليس مقامُ رباتِ الفنون هو ملكَك أيضا؟ وحتى قيثارةُ فيبوس(4) ليست في مأمنٍ الآن؟ على الصفحةِ الجديدةِ تجلَّى بيتيَ الأولُ زاهياً، ثم جاء الرديفُ، مثيرا أعصابي بلا ريب؛ وليس هناك من موضوعٍ يخصني يمكن أن يوائمَ ذلك البيتَ المهلهل ،
لا فتى، ولا فتاة بشعرِها المسترسلِ الجميل - كذا أعلنتُ احتجاجي. وسرعانَ ما سحبَ من كنانتِه سهماً ، مختاراً بعناية ليطرحَني صريعاً، ثم سندَ قوسَه الهلالية إلى ركبتِه مُسدِّدا: "خذّ مني أيُّها الشاعر، هذا جزاءُ ما سوف تنظمُ من أبيات."
يا ويلي! إنَّ سهامَ الغلامِ دقيقةُ لا تخطيء. ها أنذا أحترق ُ، وفي قلبي الخالي يسيطرُ الحب ولا بد أن ينطلقَ شعري اليومَ بستِ تفعيلات ثم يتراجعُ مستقراًّ في خمس. وداعاً يا أناشيدَ الحربِ الفولاذيةِ! وداعاً لكِ ولإيقاعِ بحرِك الملحميِ كذلك!
يا رباتِ الفنون، كَلِّلْنَ ضفائرَكنَّ الذهبيةَ بآسِ البحر، وبإحدى عشرةَ نبرة أَلْهِمينا كتابةَ الشعر.
- 2 -
ما هذه الحالةُ التي أجدُ فيها فراشي قاسيا إلى هذا الحد ، والأغطيةُ تنزلقُ والنومُ طار تماما، وخلال الليل - وما أطولَه! - أستلقي مسهدا ، أتقلَّب حتى تصرخَ عظامي التعبى من الوجع؟ وعلَّي أن أعرفَ إن كان الحبُّ يرمي إلى تعذيبي أم هل يتسلَّلُ أذاه سرا؟ تلك هي الحالة. لقد أطلق سهمَه الرقيق الحبُّ استولى ، عاصفاً بقلبي المسكين. أعليَّ أن أَستسلمَ هكذا أم أغذِّيَ اللوعةَ وأقاوم؟ سأخضع: إن الثقلَ المحمولَ سرعان ما تشعر بخفتِه. ومن المشاعلِ المتموجةِ رأيت اللهبَ يندفع عاليا ؛ وهي تموت، حين لا يلوِّح بها أحد. الثيرانُ التي تقاوم المحراثَ في البدايةِ تُضرَبُ أكثر من تلك التي تعلَّمت أنَّ المحراثَ عملُ سار. الحصانُ المغرورُ يجدُ أن الشكيمةَ تسبِبُ ألما ؛ لكن ذلك المطيعَ يحس أن اللجامَ أخفُّ وطأة. الحبُّ يضرب العنيدَ بضراوةٍ أكبرَ بكثير من أولئك الذين يُقِرُّون له بالعبودية. انظرْ يا كيوبيد ، إني أعترف - جائزتُك الأخيرة - أرفع يديَّ الذليلتين، وقلبي يُذعِن. لا حاجة للحرب. الإحسانُ والسلام هما كلُّ شيء إني أنهزم أعزلَ أمام سلاحِك - ولا تمجيدَ لك. جّهِزْ حمامات أمِك(1) وكّلِلْ شعرَك بالآس. فأنا أُعلنُ أنًّ زوجَ أمِك (2) سيعطيك عربةً لائقة ، حيث ستقف بينما تُهلِلُ الحشودُ للنصرِ على الجانبين.
وستسوق طيورَك برشاقةٍ وأنت تتابع قافلةً من الفتيان والصبايا الأسرى ستواكب نصراً سيجعل السماءَ مدوِية. وأنا، الغنيمةُ الجديدة، وجرحي الذي أصابني فعلا سيرهقني وفي قلبي المتيَّمُ أحملُ أغلالاً جديدة. وفي موكبِ النصرِ سترى الحساسيةَ الطيبة مكبَّلةَ اليدين خلف ظهرِها ، وكذلك الاحتشام - (1) وكلَّ ما يقف ضد أسلحة الغرام. جميعُ الأشياء تخافك. وبترحيبٍ صاخبٍ طويل سوف يترنَّم الجمهورُ المتبهجُ بأنشودةِ النصر إنّ دغدغةَ المحبةِ والجنونِ وهيام العقل (2) ستكون حاميتك في الموكب السعيد، والأنصارُ الأوفياءُ يتابعون قضيتَك. بهذه القواتِ الرائعة ستَهزِمُ في حروبك الرجالَ والآلهةَ معاً: لاجدوى من خدماتِهم ولا يمكن أن تُهزَمَ أبدا في عريِك.
ـ
أمُك من قمةِ الأولمبِ وبابتهاج تشارك ابنَها فرحةَ النصر، ستمنحك التصفيق والثناءَ إعجابا وتنثر الورودَ لتزين جبينَك. تأمَّل ، ها أنت بأجنحةٍ وخصلاتٍ مرصَّعةٍ بالجواهر ستمتطي في موكبٍ ذهبيٍ عربةً من ذهب. وإذا كنتُ على معرفةٍ بك ، فسوف تُشعلُ عندئذ أتونَك في قلوبٍ ليست بذات عددٍ قليل. كم من الجراح ستعالج أثناء مرورك بها: وحتى لو رغبت ، فإن قوسَك في وقت الراحة لا تهدأ ؛ ونارُك الرهيبةُ تلذع كلَّما كانت حرارتها قريبة. هكذا علَّم باخوس انتصارَه الهندي - (1) إن الحمائمُ تجر عربتك ، فهو يستخدم النمور. لذلك، وبما أني جزءُ من انتصارك لا تُبدِد ثروةَ ظفرك على قلبي البائس. تأمَّل كيف تسير انتصاراتُ نسيِبك القيصر: إن المنتصر يحمي عدوَّه المهزوم.
هو دونيسوس - إله الخمر، ويمثل قوة الطيش والجنون.
***
( بقية فصول الكتاب تنشر تباعا، كل اسبوع)
يبدو أن الشاعر كتب هذه القصيدة في خمسة كتب أول الأمر، ثم رأى أن تكون ثلاثة كتب فقط. ( ) بحر الملاحم الشعرية مؤلف من ست تفعيلات. ( ) كيوبيد: إله الحب الجنسي عند الرومان، ويصورونه طفلا عاريا مجنحا، يحمل قوسا ونشابا. (1-2) كيوبيد هو المخاطب، والأم (فينوس) وزوج الأم (مارس)، والعربة التي تجرها الطيور واردة في (أنشودة سافو) إذ كانت عربة أفرودايت كذلك.
ديانا : إلهة القمر والغابات، وتصور دائما بلباس الصيد. أبوللو: إله الشعر والموسيقى عند الإغريق والرومان. مارس: إله الحرب عند الرومان. فيبوس: أبوللو. فينوس: إلهة الحب والجمال عند الرومان. بالاس ( أثينا): إلهة الحكمة عند الإغريق، وهي (مينيرفا) عن الرومان. سيريز: إلهة الزراعة عند الرومان.
الاحتشام والحساسية الطيبة مكتوبة بحروف كبيرة، أي أنها رموز تجريدية تشير إلى آلهة. هذه أيضا رموز تجريدية أوردها الشاعر نظائر غير عقلانية للأسرى.
****
قيثارة الحب تأليف:أوفيد ترجمة: علي كنعان _________________ حسن بلم | |
| |