زاهي وهبي جامع النجومية الحية في الاعلام والصحافة، لم تستنفده تلك النجومية الى ما يجعله بعيداً من همه الأساسي الشعر. جمع الاثنين بجدارة ولياقة وتفوق على نفسه بهما. فكأن القضاء الواسع غذى اوراقه البيضاء، وحبره، ومشاعره، وحساسيته. وهذا ما تلمسه بقوة في مجموعته الشعرية الجديدة (عن الدار العربية للعلوم، ناشرون، ومنشورات الاختلاف) وعنوانها متموج ومتحرك "راقصيني قليلاً".
ففي هذه القصائد ما يعمق شفافيته، وما يشحذ ولعه "المجنون"، وما يجوهر قصائده "المتغزلة" ونصوصه العاشقة، وكذلك رهافته في مقاربة الحالات الاستثنائية، والتواصل مع جروح الأصدقاء وحتى رحيلهم، بدمع هنا مليء، وبتعاطف هناك نافذ ووفي. لحظات وفاء عالية تمتزج بلحظات عشق، وبأخرى من سهام الواقع وخلاياه. ولقد نجح زاهي وهبي في تسجيل اضافات واختراقات بادية على تجربته، عبر عناصر جديدة، وصور مرئية، وبنية متماسكة، ولغة مفتوحة لا تنأسر بخط، او تنسجن بشكل، وهو في هذه التجربة، ينضج على نضارة، وينضر على اتساع، ويتسع على فتح الشاشات كلها على ما هو رقيق، وصاف، وجارح، حتى التشويش، ومشوش حتى القلق.
هنا نصوص من مجموعته الجديدة.
احبك أكثر
غداً
حين تكبرين
ينحني ظهرك قليلاً
تجاعيد عينيك واضحة
كأوشام دهرية
البياض مطل من ليل شعرك
العشب بين مفاصل ذكرياتك
النمش في سفوح ظهرك
على مهل تنهضين من سرير الوقت
متكورة مثل نون الحنان.
ثمة أدوية على المنضدة
سعال في الأروقة
زينة أقل
زياراتك الى المزين نادرة جداً
الى الطبيب أكثر
زجاج نظاراتك يزداد سماكة
غضبك سريع الذوبان
بصيرتك اقوى من بصرك
الواحة في أعماقك أكثر نخيلاً
من الجسد
ما عشناه سويا اشد بريقاً
من الذهب
غداً،
حين تكبرين
سوف أحبك أكثر
لن أفتقد رماح قامتكِ
صحبتك نخلة مثمرة
لن أطلب ماضياً مضى
كل رجوع يضمر خيبته
كل عودة مشوبة بالنقصان
سوف احب الشقوق في باطن قدميك
وحماقاتك المستجدة بعد الأربعين
أمسك كفك على كورنيش المنارة
كمن يمسك موجة من مشيب البحر.
غداً،
يتخرج ابنك البكر
أرافقك كمن يحتضن سحابة
أشد على يديك المورقتين فرحاً
منصتاً لحداء قلبك
للدماء المسرعة الى وجنتيك
تستعيدين عمراً مضى كاغفاءة عصر
امس كان يحبو في مرمى حواسك السبع
(الحنان حاستك الأولى)
عائداً بأجراس اللهفة وفروض البراءة
يتهجى اسمك بحروف من نسيم
وأنت عند العتبة
مشرئبة كرأس الرجاء الصالح
كم سيّجت عمره بالنذور
وحيدة على حافة نومه
تتخيلين هذه اللحظة
واقفاً بردائه الأسود
شهادته كآذان الفجر
مبتسماً صوبك كأول النهار.
كل يشيخ الا الماء
وأنت كما أنت
جميلة في الستين، في السبعين، في عمر يطول
وروح لا تعرف الذبول
جسمك قليل عليك
أنوثتك
ليست شكلاً
ولا فستان سهرة
أنوثتك
قلب يفيض
و"ضحكة تجري من تحتها الأنهار"*...
* من قصيدة الشاعر "لا أسافر في الشتاء" كتاب "يعرفك مايكل أنجلو"
أرمي صوتي، أرفع صوتك
لن أقع ثانية في الحب
لن أغني لسواك
لا متسع لشرفة أو نهر
لا ذريعة لعصفور ينتحر
لا عذر لحديقة نائمة
وشوشة عطرك تبدد كآبة البنفسج
بلا يدك
ما كانت لي نجاة
ولا شفاء من قروح الأصدقاء
أو مواساة الندوب الجليلة
ارفع صوتك
جسراً لمشاة يعبرون رخام ذاكرتي
أبسط كفيك
سهولاً لخيل أوردتي
أستهل كل امر بفاتحة عينيك
أنوثتك صياح ديكة منتصف العمر
زئبق أحمر في مجرى الأنفاس
مرصد نجوم الظهر
أستل صوتك من غمده
أبتر عنق النسيان
أتذكر أمكنة تذكرني بك
أتذكر رفاقاً حدثتهم عن خضرة يديك
عن فصول تتعاقب تحت خصرك
عن حنان الرماد في قدميك
عن ورد خطاك في ممرات العمر.
أمر على عري كتفيك
كهارب من ضفة إلى ضفة
أرمي صوتي بين نهديك
أتنفس في خرز ظهرك
أصيح كالمذبوح الا قليلاً
أغيب في نشوة الصوفي
أدور كالدراويش حول دمي
أرصع السماء بنجمة الغياب
والغيب بمسمار الشك
أعلق اليقين على خشبة والأرض على المياه.
ثانية،
أتعبتني البداهة والبلاد المنذورة للبلاغة والانشاء
أتعبتني المسلمات
كيف للأسود عليك كل هذي المسرات
كم من الألوان كامنة فيك
كم من البلابل هارب اليك من بنادق
الصيادين وصقيع المدن
كيف لجلدك ان يؤاخي ناره
أن يكتم اللهيب؟
كيف لنحلة أن تثأر من رحيق؟
شوكة السعادة
كيف لكفك
كل هذا الغيب
ثمة خطوط لا تعرف المواربة
غد يتنكر في الراحة
خاتم الحظ في الاصبع
شوكة السعادة في القلب
اقرأ ما أريد
ابتسم لصغيرة في حضن أمها
أشتاق اليك
مثل قرميد جعدته الشمس
مثل شباك مفتوح على الأبد
أشتاق اليك
من أعلى نجمة
حتى أخمص النوم
أتعبتني البداهة
أتعبني النشيد
لأجلس قليلاً
ضحكتك أوجاع النهر
شهوة الملاك
أتبع عطرك المضلل يتيماً
يمسك ثوب أمه
ردي الي استقامة ظهري
ردي الي نهري الذي تكور في نهدك
أعيريني خصرك
لأثير حنق الكمنجات
وأنت كمان اسمك ونفسك
زهر "الجميلة" على الشرفة
بنفسج الوحيدين والمارة
تقولين ببراءة قاتل محترف:
تعال لبلاد أخرى
كيف تكونين بلادي والبلاد الأخرى
كيف يتسع صدرك لحقول آسيا وأحلام الفقراء
كيف لكفك كل هذا الغيب
أظافرك التي جرحت جلدي
من قلمها؟
لو غرستها في أصص جسدي
زهرت تفاحاً على المطر
كلما لامستك
حبست أنفاسي
كطفل يمر في مقبرة
راودتني رغبة محادثة غزال
لكن قلبي عشب
وبأسي رماد
فما الذي أفعله وحيداً
في ضيافة الخطيئة
تعصف بي الظنون
تراقصني الأسئلة
كل هذا المطر لشتاء يتكرر
كل هذا الموت لحياة مضجرة
لماذا أنفلونزا الطيور
لمن جمرة الخبثاء؟
لا اكراه في الحب
لا ضرورة للدماء
أقرأ كفك
أعرف العاشق
قبل ان يعرف نفسه.
خيل أسئلتي
أعدو ورائي
كأنني قاصر عن اللحاق بغدي
ليس لي ما أرتديه سوى لغتي
ناعمة كالقطن حيناً
أدمى من الشوك وغناء الموتى
لا أمس لي ولا اغنيتي
يا خليلي
اذ تسيران غداً خلف سبات الأبد
أطلقا سرب موسيقى خضراء
أطردا خطباء المأتم
غضا الطرف عن دمع امرأة
انتحت جانباً
سترت قلبها بباقة قرنفل أبيض
اغرسا خصلة من حزنها في حديقة صمتي
لا أحب الحشود المغمى عليها
ولا هواة الأدعية
تكفيني نجمة ساهرة
غيمة ماطرة فوق تراب فتوتي
عساني اخضر قليلا
أعود عشبة قرب شاهدتي
أو صفصافة يمر غريبان بها
يقرآن:
هنا يرقد فلان ابن فلانة
عرفناه يوماً
فتى مسرعاً نحو صباه
ينشب احلامه في الريح
ممتشقاً سيف ماء
خجولاً مثل قمر كانون
حكيماً مثل راع حجري
مفعماً بالزيتون والزيت، بالنذور والرقى
له في كل خصر حكاية
في كل نحر غواية
علق المياه على قبلة،
والسماء على نجمة
ومضى في مطاف الأسئلة
لا عشب في ارض ذاكرتي
لا وقع أقدام
لا صمت ظهيرة كسول
لا قطعان عائدة
لا مدن عائمة
فقط
قمر نبوي
يجيء من لامكان ويغمرني
كأنني ابن الآن
لا أمس لي ولا غدي
كأنني حانوتي ايامي
أطوي قمصاني وبلادي
وأمضي،
أعدو خلف خيل أسئلتي؟
حسرتان
نتحسر على أصدقاء مضوا
نرسم ما تبقى من قسماتهم في البال
نتبادل دمعاً وكلمات عزاء
قائلين: خسارة (محمود، يوسف، خولة، غسان...) ماتوا تباعاً
ربما في الوقت نفسه
على نجمة أخرى
الذين ماتوا تباعاً
يتحسرون أيضاً
يرسمون ما تبقى من قسماتنا في البال
يكتبون شعراً وكلمات رثاء
قائلين: خسارة (زاهي, رشيد، ماري، فيصل...) لم يموتوا بعد!