سيرةٌ ذاتيةٌ لملاك
فريد أبوسعدة
(مصر)
إليها
ابنة الشيخ ، وزوجة السائق الوسيم
فريد
كتبت هذه الفصول بين
2003-2006
فهرس
فريد أبوسعدةفصل فى مايراه اليقظان
1. السيدة (1)
2. شجارات عائلية (2)
3. امرأة غير متاحة مؤقتا (3)
4. وساوس قهرية
5. صورة جماعية
6. موتى يكررون موتهم
7. الجرافة
8. صباح متكرر
9. عبده جبير
10. بث مباشر
11. missed 2
12. السيدة (4)
13. متع لم نجربها
14. بلاك آند وايت
15. عشرة طاولة
فصل فى مايراه النائم
1. آدم
2. الجمل
3. بين السحب
4. طفت خارج جسدى
5. العرافة
6. حيوات سابقة
7. ملائكة صغيرة
8. كابوس
9. صحراء
10. الشاعر
11. فى الضوء الشحيح
12. القاتل المأجور
فصل فى مايراه بين اليقظة والمنام
1. سينما
2. الموكب
3. شتاءات قديمة
4. نزوة
5. زهايمر
6. قمر على سمرقند
7. تاتوو
8. د. زيفاجو
9. الهوى
10. القصيدة
11. وطن بديل
12. كازينو صفية
13. الموتى (1)
14. ساعة جدتى
15. الموتى (2)
16. أبى
17. مات قبلى فلم أعرف
18. التلميذ
19. البهلوان الحكيم
20. رأيت الملائكة
21. تسلل
22. صبىّ الرسام
23. بورتريه لأمرأة عادية
فصل
فى ما يراه اليقظان
(1)
رُوحها الخفيفة ُ
لا تستطيع أن تجرَّ فراشة ً،
فكيف تطيرُ بهذا الجسد !!
إنها تنطلق بعيداً، وجسدها بين يديّ
يتوهجُ كنحاس ٍ أحمر .
غالبا ما نقطعُ الوقتَ في الشطرنج،
متهيئين للتوقفِ عن كل شىءٍ
إذا ظهرتْ علامة !!
(2)
تنامُ بين مشمسةٍ وغائمةٍ جزئيا .
السيدة ُ الصغيرة ُ لا تحب الأطباء، ويفركها السعالُ طول الليل،
فاجأتني أمس، بأنها استمعتْ إلى أحلامي،
وأنها راحت تفككها كنص، فاكتشفت أن حياتي تمضى في مياه ضحلة،
وأن أحلامي لا تكفى لإضاءة الغرفة .
كنت أبتسمُ ،
فلا يعقل أن تكون، مثل هذه الأحكام، تأويلا لحلم خاطف،
عن أرنب وقناص !!
أسحبُ كرسيا وأرقبُها وهى تطبخُ،
كانت تخترع أكلاتٍ غير تقليدية، فإذا سألتها
تقول ببساطة
إنها تتصنّت على الأشياء:
الأرز. والخضروات. واللحم، وتأخذ بمشورتها !!
كانت تستغرق في هذا طويلا،
إلى الدرجة التي لا تنتبه فيها، إلى حركة الدبابات بين الغرفة والمطبخ،
أو الحرائق التي تشب في الستائر
من جراء ملامستها للأحداث الجارية .
ليست عاطفية، لكنها مصابة بنوستالجيا مزمنة
فعلى سبيل المثال،
دائما ما يطلُّ واحدٌ من أسلافها في الشجارات الصغيرة،
لكن جدها الأكبر،
ينأى بنفسه عن المشاركة،
إذ يعبرُ طيفهُ الغرفة، غامزا لي،
أو كاشفا عن مشهد اعتزاله النساء فوق السطح .
هذه القاسية كمحراث،
الناعمة كورق البفرة،
يكفى أن أمشى في الغرفة وهى نائمة،
لتهبَّ كمدينةٍ يضربُها زلزال !!
(3)
تقوم من النوم فلا تجد القهوة بجوارك ،
ولا تجد السيدة الصغيرة أمام الكومبيوتر
(متلفعة بشالها الصوفي )
تبتسمُ حين تفاجأ بك ، ثم تتمطى بدلال رافعة ذراعيها
: ممكن حضن .
تذكرك قبل الخروج بالمفاتيح، والموبايل، والمنديل النظيف .
أن تقوم من النوم فلا تجد السيدة
أن تخرج وتعود، فلا يفتح لك أحد
فتهرع إلى المطبخ بثيابك
لتعدّ الطعام
أن يحدث هذا لستة أسابيع
وهاتفها مغلق أو غير متاح مؤقتا
فلابد أن أمرا يقتضى العروج طار بها .
فى المطبخ ، وبينما الأرز على نار ٍهادئةٍ ، قابلتها
كانت غاضبة فى الحلم
تقلب المكان بحثا عن عام ٍ مضى ،
ولم تكتبه !!
(4)
لم تكد تجلسُ على مكتبها في المصلحة،
حتى أخرجتْ السندوتش، وأومأتْ للساعي
فذهب لإحضار الشاي.
جاء زميلٌ ،
جاءت زميلتان ،
انتهى الرئيس من تصفح الجورنال، وها هو ينهى قهوته.
تحدث أحدٌ عن الحرب،
تحدثت واحدة ٌ عن الغلاء،
وعندما تأهبتْ للكلام ِ، فاجأها الخاطرُ، فصرختْ واقفة ً
: مصيبة
اهتزّ المكتبُ، وتماوجَ سطحُ الشاي في الكوب ،
التقطتْ الشنطة والمفاتيح ،
وتعثرتْ في اندفاعها نحو الباب.
: ماذا حدث
: هناك شىء على النار
واختفتْ في زحام اللاهثين على السلالم
خوفا من التأخير.
(5)
الموتى يرفضون دفنهم،
قبل أن تُؤخذ لهم صورة ٌ جماعية،
يستعيدونَ فيها اللحظة التي سبقتِ القصف
يطلبونَ استعادة أطرافهم التي طارت بعيدا،
يطلبونَ رفع الأحجارعن الأجساد، ونفض الغبارعن الوجوه،
ثم يلتفون حول المصوّر،
لمساعدته في بناءِ المشهدِ الأخير،
يصفون للمصورمَنْ كان بجوار مَنْ ،
مَن كان قادما من المطبخ بالعشاء القليل،
مَن كان ينظف الجرح لشيخ يئن، غارزا أسنانه في طرف الجلباب.
: خذني قليلا إلى جوار الحائط ، فقد كنت هناك، أهدّئ من روع الطفلة.
: وأنا كنت واقفا أوزع الماء الشحيح،
كيف ستمكنني من الوقوف في الصورة
وساقاى مبتورتان؟!
: أزيلوا التراب لتظهر الزجاجات الفارغة من الماء والحليب،
لتظهر علب الأدوية المنتهية الصلاحية،
وطاقم أسنان الجدة،
ونظارة الطفل الذى فقد النطق من غارة سابقة.
: كان القصف يقترب، كان الموت خلف الباب،
وكنت أحدّق في الأكره غائصا برأسي بين كتفيّ
أنتظر يده السوداء.
: هذا الطفل لم يكن هنا، يا إلهي ،
كيف طار كل هذه المسافة
: لا تُظهر البلل الذي أصاب البعض، لحظة القصف،
لا مانع من الدموع والدماء،
لا مانع من أن تمسك الأمهات بأذرع أطفالٍ طاروا،
لكن كن كريما ولا تظهر البلل.
والآن أرنا الصورة
: لا بأس.
: لا. لا. إنها خالية من الصوت
: نعم، أين الصراخ
و البكاء
والأنين
: أين الجلبة
: أين الانفجار؟!
: لا. لا،
حاول مرّة أخرى.
(6)
العجوزُ على كرسيها المتحرك،
العجوزُالتي تشربُ الشاي من إناءٍ عميق، كي لا ينسكب عليها،
تحدّقُ في شاشة التليفزيون،
حيث تبث القناة صور الضحايا من قصف قانا،
تتوقف فجأة
ويسقط الإناء من يدها،
تحرّكُ الكرسي نحو الشاشة وهي تصرخ
: ابني
ثم تذهب في إغماءة
(تصل خلالها الأصوات، وترى الأيدى وهى تخرجها من تحت الأنقاض، وحيدة بلا عائلة،
لا الزوج ولا البنات، ولا الطفل الذي لم يتجاوز الخامسة )
في عودتها من الغيبوبة تنتبه على وجوه تقترب منها
(محرّفة كوجوه تقترب من الكاميرا)
: ليس هذا ابنك، ابنك مات في قانا سابقة، اهدئى
لكنها تصرخ في هستيريا
: خذوني إليه
وتهمّ بالوقوف فتسقط في الغيبوبة مرة أخرى
(لتراه وسط الجثث أكبر بعشر سنوات عما كان!!
كيف يكبر الموتى،
ولماذا يكررون موتهم؟)
في الطريق إلى الناصرة قابلتْ السيّد،
وعدها بزيارة قانا،
وبأنه سيصلي من أجل لبنان،
فلماذا تأخر السيّد،
وهل سيكرر الشهداء موتهم حتى يجيء؟ّ!
(7)
هاهي الجرّافة،
تمضي بحركتها البطيئة،
لتكنسَ ما تبقى من البيوت:
الأحجار والشبابيك، مواسير المياه وقاعدة التواليت،
أسلاك الهاتف والكهرباء
بينما تحلق الذكريات فوق الفوضى كسحبٍ زرقاء صغيرة.
هاهي تمضي ببطء،
وخلفها يمضي المشاة المدرعون،
أيديهم على الزناد ورؤوسهم في كل الاتجاهات،
تظهر في الركام ساعة حائط ، تظهر بندقية أطفال ،
تتطاير الصور العائلية وكراريس المدارس،
تظهر فيروز
من أين يأتي الصوت؟!
يكتشف الجندي الراديو الصغير، فيسدد إليه دفعة من الرصاص!!
تمضي الجرافة ببطء صانعة طريقا وسط الخراب،
يتوقف جندي ويشعل سيجارة،
ثم يمدّ يده بالعلبة لجندي آخر،
لكن الرصاصة تعاجله فيسقط قبل أن يأخذها
يطلقُ الجنودُ الرصاص في كل الاتجاهات،
لكن أحدا لا يعرف من أين جاءت !!
تمضي الجرافة،
ويمضون خلفها مذعورين،
فلا أحد يعرف متى ستأتي الرصاصة التالية،
ولا أحد يعرف من أين ؟!!
(
مرّة أخرى
يكون علىّ أن أشرب القهوة،
وأمسح التليفزيون
من الدم الذي يُبثّه على الهواء
مر ّة أخرى آخذ الدواء وأنتظرالـ missed
الـ missed الذي يفاجئني خمس مرّات في اليوم
لا هو يتوقف
ولا يردّ
وما من سبيل لمعرفة من هو
ربما كانت سيدة وحيدة مثلي
وطاعنة في السن مثلي
وهذه حيلتها للتأكد من أن العالم يتربصُ خارجَ الغرفةِ
وأن شخصا ما
لا يزال على الطرف الآخر!!
بمقدورها أن تتخيله كما تشاء
تضع له اسما، وتنتقى ملامح وعمرا، ويكون سرّها
تطلبه عندما تريد وتفرح عندما يردّ
ربما لم تكن سيدة
ربما كان شخصا غامضا يتلاعب بي
ويريد أن أضيّع الوقت في تكهنات لا تنتهي.
أبحث بقدمي عن الخفّ وأذهب للحمّام
الحمام نفسه ،
بشبّاكه الذي هرّبتُ منه الخادمة
منذ سنين
قبل وصول الكارثة بثلاث دقائق . !!
أرتدي الروب القديم
وأتصفّح الجرائد ،
أضع دوائر حول أصدقائي في صفحة الوفيات
يختلط الأحمر بالأسود
وتتموّج الوجوه في هذا اللون الغريب
أمسح عيني بكمي وأنتظر
حتى تتوقف الغرفة عن التمدد والانكماش
فأنحي الجورنال وأمضغ ببطء .
ما الذي علىّ أن أفعله اليوم ، إنه الثلاثاء
ليلة الرعب في أفلام Mbc،
ولقاء المافيات الصغيرة في بولاق، والأتيليه، و زهرة البستان
ترى من سيأتي اليوم،
ومن من أصدقائي لديه ما يقوله.
(9)
الذين يقصّون الحكايات، يمدوّن فى عمرى،
إنهم كالذين يدحرجون أمامى بساطا
لأستمرَ فى التقدم طالما يستمرون
الحكايات التي تمتلئ بأفيال تطير كالمناطيد،
وتنقل شعوباً من قارة إلى أخرى بمجرد زر ،
الحكايات التي تجعل من الممكن رؤية الملائكة، وهى تستحم في بحيرة قارون،
أوتتشمس في صحراء الفيوم، حيث الخيام التي نصبت للحب،
وحيث يتلصصون على أكثر النساء صخبا، متسحبين بخفة الفهد .
هكذا يمكن لعبده جبير، أن يتحدث عن وطواط الماضي،
الذي يتدلى مقلوباً، ويسدّ الباب على الخارجين،
فيعودون إلى لفّ السجائر من جديد،
باحثين بين صفحات الكتب، عن المنسيّ من ورق البفره ،
ويشعرون من آن لآن
أن حفيفا سريعا يخدش المكان !!
لكنني لا أصدّقه عندما يقول :
إنهم أهل الكهف،
وإن الكلب رواية ٌ، والوطواط رواية ٌ أخرى .
لن أصدقه،
لأن ما يدسّه من مفرداتٍ تغرى بالتأويل،
لن تجعل من بضعةِ حشّاشين
أبطالاً كأبطال الموعظة.
(10)
صوتُها يأتي من المطبخ،
يتدحرج مثل عملةٍ معدنية
: الغداء جاهز يا بيبي
تلاحظ ُ المناديل الورقية ، المبقعة بالدم ، فتسألُ مرتاعة ً
: ما هذا ؟!
: اطمئني .
إنها ثلاث نشراتٍ من البث ّ المباشر !!
تمنيتُ أن تقوم المدنُ المنهارة من ركامها بحيلةٍ سينمائية،
هل يكفى إدارة ُ الشريط إلى الوراءِ لينتهي هذا الكابوس،
هل تصلحُ تعويذة ٌ لتنهضَ البيوت من جديد،
هل تصلح الذكريات كصدمةٍ كهربائيةٍ ،
فتقوم ،
ويقوم الموتى من موتهم .
(11)
ها هو ال missed الثاني،
وها هي الشمسُ تجلسُ على حجري مثل حفنةٍ من المشمش،
و السيدة ُ أمامي على مائدة الطعام
أغسلُ يدىّ
وأفكرُ في الشاعر،
الشاعر
الذي يتحدث عن خاطر ٍلا تمسكه الكلمات،
ثم يتنهد كبيتٍ يتداعى
: صعب . صعب
أفكّرُ
ربما فقد الشاعر حواسه ،
أو نسيها على حوض الغسيل
مع عدساته اللاصقة
وطاقم أسنانه .
تنهض لعمل الشاي والعودة بسرعة ،
إلى أصدقائها من قبيلةbloggers
(12)
هذه الطفلة النبوية ،
يرنّ هاتفها في الليل، وأسمعها تكلم الملائكة ،
ثم تعود مجهدة ،
تقول إن مكّة لم تعد مكّة،
وان الأنبياء يتململون مما يحدث.
أعرف أنها كانت هناك ،
لأن في شعرها الثقيل أشواكٌ من نبات العرعر.
عندما أرتني الشجرة،
عرفتُ أن السلالة تبدأ من غار حراء،
وأن السفن الشراعية التي ملأت القلزم بهم ،
كان بعضها يعرج إلى السماء،
وأن مطرسبتمبرالحار، ليس إلا دموع هؤلاء الذين رفعت مرساتهم ،
وظلوا هكذا
معلقين بين الماء والسماء !
(13)
هناك متعٌ لم نجرّبها ،
نحن الذين على وشك الموت
كأن تطلقَ النارَ على عدوك ،
كأن تتسلقَ جبلا،
وتتأملَ الهوة من تحتك
مطمئنا إلى الحبل ِ الذي يمنعكَ من السقوط ،
كأن ترتفعَ في الهواء،
وبجانبكَ السيدة الصغيرة تصفّقُ فرحا
وشعرها المتطاير يلسع وجهك بخصلاته .
هذه المتع ، وسأبتكر غيرها أيضا ،
ستكون أول ما أجرّبه في حياةٍ أخرى .
لن أكرّرما وقعت فيه من أخطاء
مثلا : سأعيد النظرَ في الشرفِ الثورىّ ،
وأعيد النظرَ في النساء،
فقد أخذوا من الوقتِ أكثر مما ينبغي ،
سأكون أنانياً بقدر ٍ أكبر،
وغنياً ٍ، لأجرب متعة أن أكون مهيبا
مثل ليبرالى ٍّ وقح
(14)
رأيتُ التروللي باص مقلوبا على ظهره ،
وعجلاته تدورُ في الهواء.
رأيته في الكيت كات،
مثل صرصار ٍمن المعدن والزجاج بطول عشرة أمتار.
رأيت أقسامَ البوليس ِ وهي تشتعل،
والجنود َ وهم يخلعون ستراتهم ويهربون
رأيتُ الذين أضرموا النار في الكازينو،
والحفاة َ وهم يركضون بالكراسي ،
والطاولات ،
و بصناديق كاملة من البلاك آند وايت .
ثم رأيتهم مرة أخرى، على الهواء في بغداد،
تتعقبهم الكاميرا
وتحميهم الدبابات !!
(15)
كانا يلعبان "الطاولة"،
"العشرة" بجنيه
امتلأتْ الغرفة ُ بالدّخان ِ والكلام،
امتلأتْ المطفأة ُ،
وتناثرت الأعقابُ على البلاط
الشاعرُ بأعقابه البيضاء، والناقدُ بأعقابه الصفراء.
على الترابيزة برّاد الشاى، والأكواب الفارغة فى كل مكان
النقود تتنقل من جيب إلى جيب
كما يتنقل الحديث بين الخيبات :
الشعر الذى ولّى
والماضى الذى ينسكب كساعةٍ رمليةٍ (تقلبها يدُ مجهول)،
فتبدأ من حيث انتهت !!
استمرا فى اللعب حتى الصباح
وحين خسر الناقدُ كل ما معه
لعب على بنطلونه الجديد
وعاد حافيا
ببنطلون صاحبه القديم !!
فصل
فى ما يراه النائم
(1)
هكذا في الحلم
أشرارٌ ما، ولأسبابٍ مجهولةٍ، يقيدونه مع حبيبته ،
ويلقونهما بالبراشوت في صحراء غامضة .
هكذا في الحلم
يتخيل نفسه آدم ، وتتخيل نفسها حواء،
وأن عليهما أمام وحشة الطبيعة، أن يلدا العالم من جديد .
هكذا في الحلم
كانا عاشقين، وكان بطنها يرتفع يوماً بعد يوم،
وحدث أن ماتت، ومات الجنين .
هكذا في الحلم
يحملها وقد بدأت في التحلل،
يعدو وغيمة من الطيورالجارحة تنتشُ لحمها
شيئا فشيئا،
كان يجأر ولايعرف كيف يتخلص من الجثة،
دون أن يفقد ذراعه .
هكذا في الحلم
كان هيكلٌ عظمىٌ ليدٍ لا يزال مربوطا ً في ذراعه،
وكان لا يزال في الصحراء ، يشعر انه يحلم،
وأنه سوف يستيقظ على صوت المنبّه،
لكنه لن ينهض إلاعلى صوت امرأته،
وقد أعدّت القهوة باللبن،
وهيّأت رقعة الشطرنج لتثأر منه!!
(2)
كنا ندخِّنُ في غرفةٍ
(جعلها المعلم " غرزة"
في بيته الريفي)
الكلوب معلّق على الحائط ، وأنا تحته تماماً،
كان صديقي يتكلم في الشعر،
وكان الضوء يتساقط كمسحوق الطباشير، ويغطي ظهري ،
(مثل نديف الثلج، في الفيلم ، حين غطّى القناص المتعب،
الذي أشرع بندقيته في انتظارالوعل)
قال صديقى : ما رأيك
لا أعرف ما الذي قلتُ، ولا لماذا كانوا يبتسمون !! .
رأيتُ كأنني في الخلاء،
أجلسُ على مصطبةٍ خارج البيت،
يبركُ أمامي جملٌ هائلٌ
( كأن ضوءَ النجوم ِ زميلٌ يقدّه من الظلام )
كان غريبا ً وكنت أرتعشُ من الخوف
ثم تذكرتُ الجبل، والشجرة التي تشتعلُ ولا تحترق،
فصحتُ : إنني متعبٌ .
لماذا تأخرتَ عليّ
(3)
سمع قرقعة َ الدراجاتِ النارية،
وتلفّتَ حتى وجدها هناك،
بين السحب .
أدرك أنه الموكبُ .
هرع إلى السطح،
ربما استطاع أن يراه وهو يلوّح بيديه،
وربما واتته الجرأة ليقول له
: احترس يا سيادة الرئيس
هناك كمائن أيضا ً
في السماء
هناك قناصة ٌ بين الغيوم !!
(4)
طفتُ خارجَ جسدي،
فرأيتك تنهبين السماواتِ في عربةٍ تجرّها الشياطين،
ورأيتُ عشاقكِ يسقطون، واحدًا واحدًا،
تحت العجلاتِ،
وهم يبتسمون!!
(5)
قالت العرّافة ُ
: ضعْ بصمتك على قعر الفنجان
وضعتُ،
ولعقتُ إبهامي من البنّ الطرىّ
قلبتْ الفنجان وراحتْ تتفرّسُ
: انظرْ
رأيت جملا ً بجناحين يحلّق قرب أذن الفنجان،
وحشودا ً تصعد من القاع ،
يتدافعون على الحافة
ثم يقفزون،
رأيت بين الحشود رجلا ً أعرفه،
سألته عما يحدث،
أشار فرأيتُ هاوية، ورأيت شخصا مهيبا ً،
ينظرُ إلى المتحلقين على الحافة من منظار بندقية،
فعرفت أنه الملاك
(6)
يا إلهي
ها أنا أستيقظ مرّة أخرى
وأكتشف أنني
لم أفارق الحياة بعد !!
كان حلما ًإذن
أن أتنقّل بين مدن ٍ لا أعرفها
وأتزوج بنساء ٍ أخريات.
أن أقطعَ وديانا من الثلج على زحافة ٍ بثمانية ِ كلاب
وأتكئ ُ فى بطن ِ الحوت أدخنُ
وأستعيد حيواتي
لقد رأيتُ ما سأفعل بعد سنوات
بل
ورأيتُ الذى يركبُ الباص
ويدبّرُ الكلام الذى سيقوله لى
عندما يصل بعد ساعة ٍ
ويدقّ علىّ الباب
(7)
قابلتُ ملائكة تائهين
كانوا صغارًا،
وكانوا خائفين من الإعلانات
في سقفِ المدينةِ
الإعلانات التي تُضاءُ وتطفأ ،
ولا يعرفون لماذا !!
(
امرأة ٌ بثديين مطّاطين
يستقرّان على فخذيها عندما تجلس ،
رجلٌ ينسى دائما سوسته بنطاله مفتوحة ً،
ويضّطرُ الجرسون إلى تنبيهه بأدب .
على طاولة ٍ في الجريون كانت تدخّنُ النرجيلة
و تحدثهُ عن زوجها الذي يتعلّق بأخرى
في عمر ابنته،
وعن الجحيم الذي تعيش فيه بعد رحيل الأولاد .
بينما كان يطاردُ الزيتون بشوكته ،
ويحدّثُ نفسه عن جدوى العازل الطبي ،
وعن مطلقته التي تخرج مع صديقه،
وتشرب حتى تتقيأ على الرصيف
مستندة ًعلى كتفيه
كخرقة مبللة.
أمرّ بهما فيمسكان بي ،لأشرب شيئا،
لكنني أعتذرُ،
متعللا ً بالذهاب إلى الحمام .
يا إلهي
متى رأيتُ هذا الكابوس ؟!
(9)
أخرجَ لسانه ولعقَ السيجارة بالطول ِثم قال :
كأنني كنتُ هنا
و ما إن أدخل غرفة ً حتى يُغلقُ البابُ من خلفي !
هكذا واحدة بعد أخرى
( الغرف كلها متشابهة
وأنا مدفوع ٌ للأمام
وما من سبيل إلى العودة)
وحين فتحتُ الباب الأخير
هالني أنني أمام صحراءٍ بيضاء
ولا شيء هناك
غير صقر ٍ ميتٍ
وثلاثةٍ من الغربان !!
(10)
باب القصيدة
الذي يتحشرج ويصرّ كلما دفعته
(وتقول إنه يحتاج إلى القليل من الزيت والكاز،
ثم تنسى)
الباب الذي يمتد أمامه ممرٌ نحيفٌ،
ما إن تعبره حتى ينفتحَ المكان فجأة،
وترى الشاعر
مائلا على النافذة مثل مظلة مقفولة .
: صباح الخير . ألازلت تحلم بالخلود أيها الشاعر
تراجع كمن يتفادى لكمة
: لا . أريد فقط أن يكون لحياتي معنى ،
انظر إن يدىّ لاتصلحان لزراعة وردةٍ
ولا يمكن، بأصابعي تلك،
أن أصلحَ واحدة من هذه الساعات .
كنت قريبا بما يكفى
لأرى الحشد الهائل من الساعات الغريبة،
الساعات التي تشير إلي أزمنة ٍ،
ولا تشير إلى الوقت !!
(11)
نظرتُ إلى عتبة الباب،
وجدتُ نملا حول جناح صرصور
وبابا غيرمدهون، منقوشا بتواريخ وتوقيعات.
تخيلتهم في الضوء الشحيح،
يعملون بهمة في لفّ السجائر،
القصّاص الناشىء يغنى بعد أربع علب من البيرة،
والمتربّص الذى يلاحق السيجارة
وهى تدور في المكان .
أفكر في الصبي الذي تركوه في الصحراء فعاد ملكا .
ينهض الأخوة وسط الدخان،
يقفون في انتظار قميصه،
ليروا ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر،
وليصافحوه دون أن يخطئوا اليد ،
التي تشبثت بالحافة،
واضطروا لقطعها ليسقط في البئر!!
أفكر
هل أحياه الله ليروا آيته
ثم يتحول إلى عمود من الرماد،
يهيل أمام أعينهم .
(12)
جلس القاتل المأجور يتناول طعامه
على صدر القتيل،
لم يعجبه أن ينظر إليه مندهشا هكذا
أخفى عينيه بنصفي ليمونة،
واستمر يمضغ ببطء.
لم يكن سعيدا بانتهاء المهمة
وراح يتأمل حياته، وهى تنخطف من أمامه،
كمن يركب عكس اتجاه القطار!!.
فصل
فى ما يراه بين اليقظة والمنام
(1)
كان مولعاً بالسينما،
وكنا كذلك
لكنه دوننا جميعا،
كان مغرماً بحكاية الفيلم لكل من يقابله،
حتى لنا نحن الذين شاهدناه.
وكان دائما ما يغيرالنهاية،
معدلاً في مصائرالأبطال، فإذا كلمناه في ذلك قال
: هذه رؤية المخرج، ونحن أحرارٌ يا أخي !
مصائر الناس ليست لعبة، كيف تموت فيفيان لي بهذا الشكل، هل هذا يرضيك
لا . لا . ولماذا تقع أودري هيبورن في غرام هذا السافل،
لا يا أخي هذا ليس عدلاً .
كان يجد نهايات مختلفة لكل فيلم،
والغريب أننا، نحن أصدقاءه،
عندما نلتقي بعد كل هذا الزمان، ونتكلم عن الأفلام،
نختلف على النهاية،
وأي هذه النهايات كانت للمخرج حقاً !!
(2)
أخذنا موقعا جيدا لمشاهدة الموكب،
ورحنا ننتظر.
مرّ خالى فقلت له تعال معنا،
لكنه أشاح بيديه ومضى ،
كان يكرهُ جمال ويتعاطف مع "الإخوان" من أهل زوجته
ثم مرّ الرئيس،
فى عربته السوداء المكشوفة،
بسمرته الرائقة، وعينيه النافذتين
فهتفنا وحدنا فجأة،
ولوحنا له، حتى انه التفت إلينا وابتسم .
مضى الموكب،
وانسكبت خلفه الجموع،
ورأيت خالى بينهم،
ورآنى
فتوقف محرجا وقال وهو يلهث
: هل رأيت عينيه يا محمد ؟!
(3)
فى الشتاءات القديمة
حيث تضربُ كراتُ الثلج الأسطحَ والنوافذ،
وتتقافزُ على الأرض بين صيحاتِ الأطفال،
كانت أنفاقُ السكة الحديد تمتلىء بالماء,
ويمتنع السير.
السياراتُ تطفو فى النفق الكبير
أما نفق المشاة الضيق،
فكان يعبره الذين يشمّرون سراويلهم إلى أعلى،
رافعين أحذيتهم،
ومحافظين على توازنهم، كأنهم يرقصون
أما المضطرون للذهاب إلى العمل،
من الموظفين ذوى الوقار،
فيحملهم بالأجر
هؤلاء الذين لا عمل لهم،
ويظهرون فى الأزمات
فجأة.
(4)
قالت إن بطنها مشوّهة من أثرعملية قيصرية
وأن كل شيء عدا ذلك،
جميل صدقنى،
حاول، لكنها امتنعت إلا بزواج "عرفي" على الأقل،
وعندما سايرها، قالت إن ثدييها كبيران ، وضحكت
لكننى جميلة صدقني.
استطاع أن يقنعها ، لدقائق ،
أن تحرر في الشمس شعرها المصبوغ،
استطاع أيضا أن يقبلها في هذا اليوم من شهر يونيو،
كانت أسنانها تصطك بأسنانه،
وترتجف يدها بين يديه،
قالت:
إن أحدا لم يلمسها منذ انفصلت عن زوجها،
وإنها ليست رخيصة لتقبل بنزوة .
ثم حدّقت فيه طويلا
: إنني جميلة صدقني
(5)
أهلا ً بك فى الجحيم،
حيث ما ان تنتهي من طعامك، حتى تبدأ في الصراخ
طالبا الطعام !!
وحيث تفقد مَنْ حولك، واحدا واحدا،
وأنت تلهث في برك النسيان !!
ها أنت على كرسيك المتحرك،
لا تتذكر
حتى المرأة التي تدفعك تحت الشمس
(المرأة التي عاشرتها ثلاثين عاما، وأنجبت لك الأبناء)
ها أنت على كرسيك
خائفا،
لا تعرف نوايا الذين يظهرون فجأة،
أو متى يقصفون رقبتك،
وهم يبتسمون في وجهك،
ويربّتون عليك بحنان !!
(6)
دَهنَ وجنتيه بالجبن،
وضع على عينيه نصفي زيتونة سوداء،
وحلقة من الطماطم على أنفه،
ثم أخذ وضع مدرس الفيزياء في الفصل
: من يعرف كيف يرانا الله
قالوا معا
: يرانا أجمل مخلوقاته
رفع نصفى الزيتونة وأدار فيهم عينيه
: لماذا إذن يتركنا في هذا الجحيم !!
قالوا معا
: رحمات .. رحمات
والتحقوا بالحشد الذي مضى لخمس صفحاتٍ كاملةٍ،
تحت قمر ٍعلى سمرقند !!
(7)
على ظهرها العاري،
رسمتْ بالحناء سعفة المهرجان،
وظلتْ تراقص الفتيان طول الليل،
مكتفية باحتكاكهم الحذر بصدرها وردفيها،
بينما تنتحى بهم بعيدا،
فى خيالها،
لتصورهم في أوضاع غريبة،
وهى تصرخ .
تذهب إلى الحمام،
ثم تعود إلى أصدقائها حول الطاولة،
تشعلُ سيجارة
وتتحدثُ قليلا ً،
ثم تتركُ سيجارتها مشتعلة،
وتعودُ إلى الرقص !
(
كلما ودّعتُها،
ولوّحتْ لي بيدها ، وهى تنطلق بالسيارة،
أشعرُ بالرضا .
لأنني أكثر حظا ًمن "زيفاجو" المسكين،
الذي لم يستطع أن يلحقَ بحبيبته
(بعد أن وجدها أخيرا ً)
إذ أنهتْ أزمة ٌ قلبية ٌ محاولاته،
وسقط خلفها بعشرين خطوة،
دون أن تدري !!
(9)
ياله من ساحر ٍ
الهوى الذي يمرّ على قلوبنا كمكواةٍ
ويجمعُنا
كطرفي سوسته !
(10)
متى سيمكننا
أن نصنعَ القصيدة َ
كما تصنعُ الطبيعة ُ
شجرة !
(11)
في صباى
كنت أعتقد أننا سنعيد تشكيل الوطن،
كقطعة ٍ من الصلصال،
انخرطنا في العمل السري
متذرعين بالصبر، والزهد، والحماسة.
وضعنا الرسوم والمخططات،
لتكون القرى جميلة ً كالكارت بوستال
والمدنَ بهية ً، كما لوكنا نصنعها في التو .
رسمنا أشكالا ً أخرى للناس،
غير تلك المهترئةِ مثل أوراق ِ العملة.
ثم وزّعنا النساء والنقود بالعدل،
ليبدأ الجميع من نقطة ٍ واحدة.
ولكن
لاتحمّل الأذى، ولا الصبرعلى المنافي،
أو تأجيل الحياة،
فعلَ شيئا
فقد ظلت الرسومُ في مكامنها تأكلُها الفئران،
وظلت التحليلات ثقيلة
كالطيورالداجنة .
كل ما حدث
أن بعضنا صار في الحكومةِ،
وبعضنا ظل يشكله ُ الوطن
كما لو كان قطعة من الصلصال !!
(12)
العجوزُ
بشعرهِ الأبيض،
بنظارتهِ السميكةِ، ويدهِ المصابةِ بالشلل الرعاش
كان بجواري
يشيرهنا وهناك ، ويكلم نفسه
سألته : هل تريد شيئا ً يا والدي
نظرَ في عينىّ ثم عاد يشيرُ إلى الحديقة وكأنه نسيني،
: هنا كانت محطة ُ التروماي، وهناك كانت قهوة متاتيا
كنت أجلس في كشك الموسيقى،
أشرب الشاى وأسمع فرقة البوليس،
ثم أنتظرُ تحت التمثال خروج البناتِ من كازينو صفيه.
مسحَ نظارته والتفتَ إلىّ فجأة
ثم قال هامسا ً
وكأنه يكلم شخصا ً آخر
: آه لقد اختفى الكازينو أيضا ً !!
(13)
ألتقي مصادفة ً بالموتى
فبالإضافة إلى الذين تأكلهم، مثلى، عثة السرطان،
أوالذين هاجمهم النمل الفارسىّ في السرير،
ولم يجدوا لهم أثرا ً في الصباح
بالإضافة إلى هؤلاء الذين يختفون فجأة ، أو شيئا فشيئا
كنت أرى المسكين الذي هرع إلى الشارع ،
وهو يصيح من الألم
ويهاجم السيارات، قبل أن ينجح أخيرا، فى التمدد
تحت عجلات سائق عجوز ٍ وهو يهمس
: لماذا لم تكن رحيما بى !
أو الرجل الذي امتصّ حصّة أصدقائهِ من الأفيون،
وجلسَ يهذى رافضا ًمغادرة المكان،
واضطرت الملائكة إلى ربطه بحبال الغسيل،
ليصعدوا به من بئر الأسانسير.
حتى الذين لم يعودوا مرئيين من الموتى
كنت أسمع نحنحتهم عند الأبواب،
أو صرختهم المفاجئة، عندما يلوون كاحلهم ،
متعثرين بالعتبات !!
(14)
ها هي شمس سبتمبر،
تتسلّق قدمي كقط كسول .
كنت صغيرا ً عندما صنعت جدّتي ساعتها الشمسية،
كنت عائدا للتو من المدرسة
ورأيتهم،
كانوا يرمّمون عتبة بابها،
وعندما انتهوا،
طبعتْ كفها على الأسمنت الطري،
هكذا لم تعد تسأل أحدا عن الوقت
كان يكفى أن ترى الشمسَ على أصابعها الغائرة،
لتقوم وتتوضأ ،
وما إن تنتهي حتى أسمع الأذان !
(15)
أستطيع أن أميّزَ الأموات،
حتى وإن تنكروا ،
أو اندسوا بين الأحياء.
أكتشفهم بسهولة ٍ،
وهم أيضا ً يناصبونني العداء
أعرفهم من عيونهم ،
من رنّة الصوتِ ،
من بكائهم ، الذي لا يميزه أحدٌ سواى،
حتى وهم يضحكون !
في حياتى ثلاثة ٌ من الموتى،
لن أسميهم ،
لأنهم أصدقائى
ولأن ذلك يذهب هذه البركة !!
(16)
أستطيع أن أراه في المطبخ
(بسرواله الداخلي الطويل)
مائلا يراقب غليان الحلبة
حاجباه خفيفان ،حتى تتوهم إنهما من غبار، يغري بمسحه
هذاالسبعيني النحيف ،
سائق الشاحنة ال BED FORDالصفراء
التي تنقل
(مع باقي أسطول الشركة)
غيطانا ًمن القطن إلى سفن ِ الميناء
أذكرُ كأنه الحلم
مصابيح الشاحنةِ وهى تضىءُ فى الليل
(القطن الذي نتشته الأغصان على الجانبين)
فكأننا في طريق ٍ مسقوفٍ بفقاعاتِ الزئبق.
أذكر دعاباته :
عندما كان صغيرا
ونهض من نومه بين الآلات،
ملتبسا عليه الوقت
فضغط َ صافرة المصنع
قبل موعدها،
لتنهمرَ الوردية ُ كالسيل ،
غير آبهةٍ بالحرّاس ِ
الذين حاولوا إعادتهم من جديد !
وفى شبابه
أغراه "صلاح أبو سيف" بدخول فرقة التمثيل
كان يضحكُ وهو يحكى
عن الذين كانوا يقومون بأدوار النساء ِ من أصدقائه،
وكيف كانوا يتحايلون
لتخليصهم من أيدي العمد ِ ومشايخ ِ الخفر،
في آخر الليل !
(17)
لماذا أتذكرهُ الآن
كان زميلي في ثانوية "طلعت حرب"
في البيت ، يطرحُ الكتب جانبا ويتعرّى
لأرى كيف تقبُّ عضلاته ،
ويأخذني إلى المصوّر مرّة كل شهر،
يدهنُ جسمه بالزيت،
ويأخذ أمام العدسة أوضاعا قاسية ً،
ثم ما ينفكّ يريني الصور،
ويغريني بالذهاب إلى التمرين.
لماذا أتذكرهُ الآن
الشاعرالذي يحفظ ُ الشابي وناجي،
الذي يأخذني في الليل ِ لنطوف ببيت ليلى ، بينما تنبح الكلاب ،
ويتنحنحُ المارون في الظلام .
كان يسرحُ بالساعاتِ ، ثم يحكي لي كيف تراوده خالته عن نفسه !!.
متّ قبله فلم أعرف
هل كان اسمها حقا، أم هو الذي أسماها ليلى،
ليمدّ في أجل ِ الأسطورة،
ويبعثَ الوحش من جديد ، ليقتل أحدهما بالجنون،
ويحيل الآخر إلى حجر.
لماذا أتذكرهُ الآن
متّ قبله فلم أعرف
هل أيقظته الخالة ُ من النوم ،
وحين حاول الهرب
وجد الباب مغلقا،
وهي تبتسم على السرير وتلوّح بالمفتاح !.
لم أر ليلى ، ولم أر خالته
ولا أعرفُ هل كان صادقا ، أم كانت هذه قصيدته
ولم يكذبْ علىّ !!
(18)
في الطريق إلى المدرسة
بمريلة ٍ مبقعة ٍ ، وشنطة ٍمن الخشب
أمضى إلى عمّ "شرامه"
فيلفّ لي سندوتشاتي ، ويسجلها على الحساب .
فى الطريق إلى المدرسة
أرى الرجال بعضلاتهم المفتولة ِ،
يعلقون "العسليّة" فى المسمار،
ويليّنونها بضربها في الحائط .
أرى الإسكافىّ يشمّعُ خيوطه، والصبىّ يجهّزُ إبرَهُ المقوّسة .
أرى الأمهاتِ المستحماتِ يتهامسنَ، ويضحكنَ ،
ويسقن أطفالهن كالدجاج إلى المدرسة .
أرى على الرصيف "بحبح العبيط" ،
بأسماله التي تظهرعورته ،
بصوتهِ الخشن ِ كالصنفرة ،
وكلامهِ الغامض عن عرابي وسعد زغلول .
أرى النساء يتشاجرن على "حنفية البلدية" ،
وتلاحقنى الصرخات و رنين الطسوت،
بينما أوسّع خطوتى لألحق الطابور .
(19)
العجوزالذي ينقشُ أحجار الطواحين ِ وهو يغني،
زينة ُ مجالس المزاج والطرب
الحكاء ُ الحكيم صاحبُ النوادر،
الخفيرُ على شون القطن،
الذى ينامُ مستنداعلى بندقيتهِ الفارغةِ، بعد أن يسد فوهتها بقطنة
الذى
يقطعُ الليل بالمواويل
والذى
إذا افتقده شيخ الخفر، ودقّ عليه الباب،
خرجَ مرتبكا،
ليموتَ الخفراءُ من الضحك
وهم يرون كرانيشَ سروال ٍ ملونة ً أسفل جلبابه !
كيف عاش هذا البهلوانُ الحكيم
كيف رحل بقبيلته إلى المحلة،
عندما كان المنادون يطوفون بالقرى ،
يدعون الناس للعمل
فى المصنع الكبير
(20)
أنا التلميذ ُ في الشتاء،
أنا الصبىّ في الصيف،
صبىّ الخياط والنجار، صبىّ الرسام وصانع البراويز.
أنا الذي حلمتُ باختراع ِ الأعجوبة ِ،
محركٌ تكفيه دفعة ٌ
ليبدأ ولا يتوقف !!.
أنا حفيدُ شيخ الجامع ، تأخذني أمي في رحلتها الأسبوعية،
مع خالتىّ
فنكنسُ الحصير، وننظفُ المنبر والمحراب،
ثم نختفي عن العيون في انتظار المصلين.
أنا الذي رأيتُ الملائكة تطيرُ في البللورالصافي،
أنا الذي تسللتُ إلى باب المئذنة , وصعدتُ سلمها الحلزونىّ،
أنا الذي رأيتُ السوق والبيوت والحواري كخرقة ٍ مبقعة.
أنا الذي رأيتُ بين السحب مدينة الرشيد ،
ورأيت عشّ يمامةٍ على الهلال.
أنا الذي أذنت للجمعة قبل موعد الأذان،
ومتّ من الخوف حين ارتبك العالمُ تحتي ،
سمعتُ هرولة الأقدام ،
وسمعتُ صوت جدي !!
أنا الذي خاب رجائي في الملائكة،
فبعد أن مسحتُ كل كريستالة من الغبار،
وجعلتها بيتا أنيقا لملاك ،
ها هي تنظر إلىّ ولا تحرّك ساكنا ،
وهم يعنفونني !!
(21)
ترى ما الذي فكرتْ فيه الجارة ُ،
وأنا أتسللُ حافيا،
ممسكا بحذائي في الظلام .
انطلقتُ كالسهم دون أن ألتفت،
ولم ألبس حذائي إلا بعد شارعين !! .
تركتْ الباب مفتوحا،
وصعدتُ إلى السطح كما اتفقنا،
لاشيء تحت ثوبها الخفيف سوى عجينها الخمران
فوقنا هلالٌ دقيق ،
يمكننا بالكاد،
من التعرف على أعضائنا
ثم ندّت عنها صرخة ُ فأر ٍمطعون ٍ،
وراحت تدفعني
: كفاية. انزل انزل
ورأيتُ الجارة
ترى مالذى فكرت فيه ،
وهل كانت موجودة حقا !!
(22)
كنا
نحن الذين لا عمل لنا،
سوى كنس ِ الدكان ورشهِ بالماء،
نتبارى في كل شيء .
كان الدكان لصناعة صناديقِ ِ الأفراح،
الصناديق ِ المبهجة ِ،
المزينة ِ برسوم طيور وطواويس وحوريات،
الصناديق ِ التي يأخذونها بعيدا،
على عرباتٍ مزدحمةٍ بنساء يطبّلن ويزغردن،
بينما نتعثر بالرجال ذوى الشوارب والجلابيب
(وهم يحاسبون المعلم)
لنلفت أنظارهم ، آملين في البقشيش !! .
لمرّة أو مرتين
(والمعلم في قيلولته)
تبارينا في الرسم ،
فتحنا علب الألوان السحرية ،
ورسمنا على أوراق ٍ مستعملة ٍ ما تراهنا عليه .
رسم أحدُهم طاووسا ،
ورسم الآخرُ حورية بثديين هائلين ،
أما أنا فرسمتُ بائعة السمك على الرصيف المقابل.
ومع أننا تخلصنا من الأوراق، وأغلقنا علب الألوان،
وأعدنا كل شيء إلى مكانه،
إلا أن ما تبقى على أيدينا
وشى بنا
فلم ننجُ من عصا الرسام !!
الرهان الأخير
أعادني إلى أمي مطرودا،
وغير مرغوب فىّ ،
لكنني لم أكن تعيسا
فقد احتفظت بالكائنات البديعة،
وكنتُ من حين ٍ لآخر
(عندما أكون وحدي)
أطلقها على الأوراق
وأتحدث معها !!
(23)
ابنة الشيخ وزوجة السائق الوسيم،
المحظوظة بين أخواتها،
فقد تنزهت معه فى القاهرة والإسكندرية،
عندما كان سائقا لأحد الخواجات .
وعندما عاد من الحرب ،
أحضر لها فواكه لاتعرفها،
وحكايا عن "الضبع الأسود"، وحصار الفالوجا،
وأضحكها طويلا
على العساكر الذين ينعسون فى نوباتجية الليل
ثم يطلقون النار فجأة
على أشباح التين الشوكى !! .
تنحنى على ماكينة الخياطة
(ماركة سينجر)
لتخيط لنا، وتساعد فى مصروف البيت .
رتّبتْ ليأتى الشيخ كل خميس،
فيقرأ ربعا أو ربعين،
بينما نتغامز نحن الصغار
على رقبته التى تنتفخ بالعروق، ووجهه الذى يصير بلون الطربوش.
ترفع صوتها فى الصلاة فجأة،
لأن أخا يحبو إلى وابور الكاز.
تعطينى قرشا لأقرأ لها (سورة الرحمن)،
ثم تقاطعنى، وهى الأمية، لتستغفروتصحح لى !!.
تلبس نظارة أبى ،
بإطارها الأسود، وزجاجها السميك،
لتدخل الخيط فى عين الإبرة ،
وإذا كلمتنى
حنتْ رأسها الفضى،
وتابعتنى ، من فوق النظارة ، بعينين كقشرالبندق.
حين أودّعهم ، تأخذنى إلى الخارج ،
بعيدا ً عن الأخوة ،
تمسح على شعرى وهى تتمتم ، ثم تدسّ فى يدى نقودا
فإذا اعترضتُ
ضغطت بأسنانها على شفتها السفلى تطلبُ الكتمان ،
توصلنى، وتحمل حقيبتى ،
ولاتغادرحتى يتحرك الأتوبيس!!.
مهما تأخرتُ خارج البيت،
تقوم من نومها لتحضّرالطعام لى،
ثم تتوضأ فى انتظارالفجر.
وإذا نفدت سجائرى ، تسللت واختلست من علبة أبى،
وهى تدعو الله أن يكرّهنى فيها.
هاهى ساجدة فى صلاتها،
بينما تصعد الملائكة ُ بروحها ،
حزينة ً على حفيدها الصغير،
الذى راح يهزّها لتعطيه عنقودا آخرمن العنب،
لكنها مالت ولم تكلمه،
فصعد السلالم غاضبا يشكو لأمه !!