الهامش الذي صار متناً أدونيس مقدمة ديوان الشعر العربى
1 – جائزة بريانسا
كان(1) هيجل يقول: «قراءة الجريدة صباحاً نوع من الصلاة الصباحية الواقعية». وفي تضادٍّ كاملٍ معه، كان بودلير يقول: «لا أتصوّر كيف أن يداً طاهرةً تلمس جريدةً دون أن ترتعش من الاشمئزاز».
أذكر هاتين العبارتين المتناقضتين في هذه المناسبة، لكي أشير الى دور الجريدة، رمزاً وواقعاً، في الحياة، وفي الثقافة، وفي القيم. فالجريدة مشروعٌ يتجدّد يومياً، كما لو أنها مختبرٌ متواصلٌ، لا للنظر وحده، وانما للممارسة كذلك. ولا للفكر، وحده، وانما للعمل أيضاً.
وهي، في هذا كله، مختبرٌ للمعرفة والحريّة والأخلاق.
هكذا ترسم الجريدة حركة التغيّر في أبعادها الشاملة، السياسية والاجتماعية والثقافية. وهي، بوصفها كذلك، بابٌ مفتوحٌ على الكون، يتيح لنا أن نعيش أحداثه يوماً يوماً، وأن نكتشفه لا في ضوء الخبير وحده، وانما كذلك في ضوء الأفكار، ولقائها، وتفاعُلِها. وليست وسائل الإعلام المرئي والإلكتروني إلا تحولاتٍ لمعنى الجريدة، أو امتدادات وتنويعات.
وفي معرفة المتحرّك، ومواكبة التاريخ اليومـــي وكتابته ونشره، إحاطةٌ بالعالــم حتــــى في أصقاعه البعيدة. ويمكن أن نتخيـــّل كم ستكون الأرض بدون ذلك محدودةً وغائبة، أو كيف سيكون البشر عائشين في انفصالٍ وعُزلة وظلام. وفي هذا الإطار تتجلّى لنا ظلاميّة الرقابة، وكيف أنها ليست حجباً للمعرفة وحدها، وانما هي كذلك حَجبٌ للإنسان نفسه.
هكذا يسرّني أن أتلقّى هذه الجائزة الأدبية الدولية، جائزة بريانسا الصحافية الإيطالية في أفق الصحافة التي تعمل على خلق ثقافة الانفتاح والتفاعل، والنظر الى الآخر بوصفه جزءاً من الذات، ثقافة التنوّع والتعدّد، ضد التبشير، وضدّ التعصّب.
2 – ديوان الشعر العربي
- 1 –
تُسعدني هذه الطبعة الجديدة (2) لـ «ديوان الشعر العربي»، وذلك لسببين رئيسين:
الأول ثقافيّ – اجتماعيّ يتمثّل في أن هذه الطبعة تتم بمبادرةٍ من أصدقاء، كتّابٍ وشعراء، أعتزّ بهم جميعاً – صداقةً، وشعراً، وكتابةً. وفي أنّ هذه المبادرة تهدف الى الربط أكثر فأكثر بين الشعر والناس، تأكيداً على أن الشعر، هو في الثقافة، الأفق الأكثر رحابةً، والهواء الأكثر نقاوةً. وعلى أنّه التعبير الأجملُ والأكمل على الهويّة. وهو هدفّ توفّر تحقيقه بساطة هذه الطبعة، مما يسهّل انتشار هذا الديوان، وامكان اقتنائه.
السبب الثاني فني – إبداعي. فقد أنجزت اختيار هذا الديوان في مناخ ثقافيٍّ، صراعيٌ، وخلافيّ، وحادّ، ولّدته تجربة الحداثة في الشعر العربي، وتحديداً كما تمثّلت في مجلة «شعر». وقد مَثّل نشر الديوان، آنذاك، بأجزائه الثلاثة، نوعاً من النقاش غير المباشر، حول بعض المشكلات، التي أثارتها هذه التجربة، في كل ما يتصل بالعلاقة مع التراث، والنظرة اليه، وكيفية فهمه، وبخاصة الشعر، وجماليته المرتبطة بخصوصية اللغة العربية.
ويذكر المعنيّون حدّة الهجوم على هذه التجربة، وكيف أنه تخطّى الحدود الشعرية – الفنيّة الى تجريح شعرائها، والتشهير بهم، والتحريــــض عليهم، واتهامهم سياسيّاً بالعمالة للأجنبيّ، وبهدم التراث، واللغة العربية، ويذكرون أيضاً كيف كانت السياسة عمياء بحيث شارك في هذا الهجوم والتقى فيه، صفّاً واحداً، كتّابٌ من اليمين وكتّابٌ من اليسار.
ومما يجب ذكره هنا، للاعتبار والفائــــــدة، أن القائمين بهذا الهجوم لم يكونـــوا يصـــدرون عن وعيٍ حقيقيّ بالشعر العربي، أو عن تمجيده والدفاع عنه، بل كانوا يصدرون عن «وعي» آخر، وإلاّ لكانوا دافعوا عنه، في المقام الأوّل، ضدّ الثقافة المؤسسية السائدة، في المدارس والجامعات والحياة العامة، فهذه الثقافة شَوّهت الشعر العربي بسطحية نظرتها، وابتذاليتها، وتقليديتها، مما ولّدَ هوةً كبيرةً بينه وبين الذائقة الفنّية عند الأجيال العربيّة الطّالعة.
- 2 –
كانت نقطة الارتكاز، بالنسبة إليّ، في هذا النقاش هي أن الحداثة الشعرية العربية ليست قطيعةً مع الشعرية العربيّة، أو التراث، وانما هي، على العكس، تنويعٌ يصل في بعض ظواهره، أحياناً، الى أن يكون شكلاً من أشكال الاستئناف، فالقطيعة مستحيلة: اذ كيف يمكن أن نلغي نهراً لا نزال نسبحُ في مائه؟ ولئن كنتُ قد تكلمت شخصياً على القطيعة مع الماضي، فإن ذلك جاءَ في سياقٍ مختلفٍ، وكانت له، تبعاً لذلك، دلالات مختلفة. فالماضي شيءٌ، والشعر شيءٌ آخر. الشعر لا يمضي، وانما هو حضورٌ دائم.
هكذا فَرَضت تجربة الحداثة أمرين:
1 – اعادة النظر في الشعر العربي، لفهمه فهماً حديثاً.
2 – اعادة النظر في أشكاله وطرائق تعبيـره، لابتكار أشكالٍ جديدة، وطرائقَ تعبيرٍ جديدة.
من الناحية الأولى، قَدّمت الشعر العربيّ في منظورٍ يشدّد على ما كان يُعَدّ هامشيّاً، وفي مرتبةٍ متأخرة، وأعني الشعر الذي انطلق من تجربة شخصيّة – حبّاً، أو حزناً، أو تمردّاً، أو تشرداً، أو استند أساسياً الى المخيلة، وعُنيَ بالعوالم الداخلية – النفسيّة والفكرية. وفي ذلك، أهملت الشعر الذي كان مقدّماً وفي الصدارة – الشعر القائم، جوهريّاً، على البلاغة اللغوية، تصادِياً مع «البلاغة السياسية – الاجتماعيّة»: شعر المدح، والفخر، والرثاء، والهجاء. الشعر الذي لا مكان فيه إلا للذاكرة الجماعيّة، أو للشَّأن العام، كأنه «ساحةٌ» أو «سُوقٌ» أو «نظامٌ».
هكذا تمّ انقلابٌ كامل في النظر الى الشعــــــر العربي، تترتب عليه، بالضرورة، علاقات جديدة معه، ثقافيّاً وفنّياً وكانت الناحــــية الثانية نتيجةً طبيعيّـــةً للأولــــى، وتتمثّل في تغيُّر مفهوم الشعر، وتبعاً لذلك في تغيّر طرق التعبير، وفي ارتياد آفاقٍ أخرى، وطَرح قضايا أخرى، وابتكار أشكالٍ فنية وطرق تعبيرية أخرى تفرضة طبيعة التجربة، وطبيعة المرحلة التاريخية، وطبيعة التغيّرات الإنسانيّة والحضاريّة.
- 3 –
اليوم، بعد مرور حوالى نصف قرن على صدور «ديوان الشعر العربي»، بأجزائهِ الثلاثة (تحديداً اثنين وأربعين عاماً. فقد صدر جزؤه الأول في العام 1964 عن دار المكتبة العصرية في بيروت)، فإنه يبدو بمثابة حَدٍّ فاصل: الشعر العربي قبله، والشعر العربيّ بعده. ولهذا يبدو كأنّه المرجعُ الفنيّ – الجماليّ الأوّل للشعر العربيّ. لا نقرأ فيه السّلطة، بل الإنسان. ولا نرى فيه المؤسّسةً، بل الفَرد. السياسة، بل الحريّة. ولا القبليّةً، بل التمرّد. ولا بلاغةَ المتَّبع، بل تجربة المبدع.
نرى فيه، باختصار، الشعر الذي يُحقّق الوحدة، كأيّ شعرٍ عظيم، بين العابر التاريخي، والأبَدّي الإنسانيَ. وهو، في ذلك، يمثل الينبوعَ الأوّل، والمادة الأولى، للحداثة الشعرية العربية. هكذا يُكتب شعر الحداثة، اليوم، باللغة نفسها التي كتبَ بها شاعرنا الأول، «قائدنا الى الجحيم»، امرؤ القيس. فلا تقدر الحداثة أن تبتكر جمالاً جديداً بلغةٍ تجهل جماليتها، وتاريخها الجماليّ.
(1) مقاطع من كلمة لأدونيس، لمناسبة منحه «جائزة بريانسا» الصحافية الدولية لأفضل كتابٍ أجنبيّ مترجم الى اللغة الايطالية في السنة 2006. والكتاب هو «المحيط الأسود» (لاخواندا، ميلانو)، وقد صدر عن دار الساقي، بيروت 2005، ومما يذكر للمناسبة، أن هذه الجائزة منحت سابقاً لكتابٍ وشعراء بينهم هارولد بنتر، وجام دوبان، واسماعيل كاراداي.
(2) مقدمة الطبعة الشعبية الجديدة الخاصة لـ «ديوان الشعر العربي»، في القاهرة، وقد صدر، هذا الشهر، بأجزائه الثلاثة عن هيئة قصور الثقافة.