منتخبات من أجمل ما كتب الشاعر عبد الوهاب البياتى
صلوات
إنني أستنشق الهواء العذب الخارج من فمك
وأتأمل كل يوم في جمالك
وأمنيتي هي أن أسمع صوتك الحبيب
الذي يشبه حفيف ريح الشمال
إن الحب سيُعيد الشباب إلى أطرافي
أعطني يدك التي تمسك بروحك
وسوف أحتضنها وأعيش بها
نادني باسمي مرة أخرى وإلى الأبد
لن يصدر نداؤك أبدًا بلا إجابة عنه
وقال لي
إنك ستحترق بنار صوتك
وستغدو رمادًا
مثل كريم
الذي احترق بحبه.
*صلوات وُجدت مكتوبة على لوح ذهبي تحت قدم مومياء, وقد أزيل اسم كاتبها
إلى رفائيل ألبرتي
آخر طفل في المنفى يبكي (مدريدَ)
يغني نار الشعراء الإسبان المنفيين الموتى
لوركا - ماشادو( * * * )
آخر عملاق في معطفه يبكي
تحت النجم القطبيِّ
وتحت الثلج
وقفنا بجوار عمود النور وكانت (روما تبحث عن روما)
ناديتك ألبرتي!
فأجاب الشعر
أضاء البرق الكامن في سحب كانت تمضي
نازفةً في ليل المنفى
كل عذابات الإسبانِ
أجابت روما
وأجابت موسيقى البحر الوحشية
كنا أطفالاً أوغلنا في الغابة
لكن الموسيقى هدأت والبحرُ توارى في كتب
كانت تحكي عن نور يأتي من داخل (توليدو)
عن نجم عربي يتحول في أوربا
وينام على بوابة (توليدو)(****)
كنا أطفالاً في الوطن - المنفى
نبني مدنًا للحب.
أجاب الشعر - البرق - الموسيقى
آخر عملاق في معطفه يبكي
ويجف المطرُ
الإسبانيُّ على أشجار الغابة
(ماشادو) في الفجر يموت مريضًا ووحيدًا
كل عذابات الإسبان تعود
لتولد منها هذي النار الزرقاء
الكتب - الموسيقى - الأشعار - اللوحاتُ
وقفنا ناديتك ألبرتي!
فأجاب الطفل - الرجل - الشعرُ
وكانت روما تبحث عن روما في منشور سريّ
أو عين امرأة تسبر أغوار سماء لم تمطر
أو كأس نبيذ لم يُشرب
كانت روما تنهض من تحت الأنقاضِ
وقفنا تحت عمود النور
رأينا نار الشعراء الإسبان المنفيين الموتى
لوركا - ماشادو
ورأينا العربيَّ القادمَ من (توليدو)
جدي السابع في معطفه الجلديِّ
يُساق إلى الموت أو المنفى
ناديتك ألبرتي!
فأجاب الشعرُ
وآخر طفل في المنفى يبكي الوطن الأمَّ
ويبكي مدريدْ.
( 2 )
روما موصدة الأبواب
خريف وحشيّ? يتستر ُ
خلف قناع الصمت المتفجر
بردًا وعويلاً وضراعات ملاك? في الأسمالْ.
( 3 )
شعري أورثني هذا الفقر القاتل, هذا
الحب اللهب: السيف القتَّالْ
سيُحَزُّ به عنقي يومًا من أجل الفقراءْ.
( 4 )
فليسقط شعراء ملوك العصر الحجريِّ الببغاواتْ
وليسقط شعراء الجنرالاتْ.
( 5 )
حبي دمرني
روما دمرها الزلزال.
( 6 )
قلت سلامًا للبحر الأبيضِ
قلت سلامًا للغاباتْ
لكن المنفيين الموتى كانوا في كل مكان بالمرصادْ.
( 7 )
روما نائمة وأنا أتنصت للفجر القادم من خلف الأبوابْ.
( 8 )
ناديتك ألبرتي!
فأجابت صيحات المنفيين الإسبان
في كل بقاع الأرض المحكوم بها بالموت على الإنسانْ
قراءة في كتاب الطواسين للحلاج
( 1 )
أصرخ في ليل القارات الست أُقرِّبُ وجهي من سور الصين، وفي نهر
النيل أموت غريقًا، كل متون الأهرامات معي، ومراثي المعبودات، أموت
وأطفو منتظرًا دقات الساعات الرملية في برج الليل المائل،
أبني وطنًا للشعر، أقرب وجهي من وجه البنّاء الأعظم، أسقط في فخ الكلمات
المنصوبة، يُبنى حولي سورٌ، يعلو السور ويعلو: كتبٌ ووصايا تلتف
حبالاً، أصرخ مذعورًا في أسفل قاعدة السور. لماذا يا أبتي أنفى في
هذا الملكوت؟ لماذا تأكل لحمي قطط الليل الحجريِّ الضارب في هذا
النصف المظلم من كوكبنا؟ ولماذا صمت البحر؟ الإنسان المفعم موتًا في
هذا المنفى؟ هذا عصر شهود الزور؟ وهذا عصر مسلات (...) أقرِّب
وجهي من وطن الشعر، أرى آلاف التعساء المنبوذين وراء الأسوار
الحجرية. في منتصف الليل يغيب النجم القطبي وينبح كلب قمر الموت
لماذا يا أبتي صمت الإنسان؟
( 2 )
من تحت مسلات طغاة العالمْ
من تحت رماد الأزمان
من خلف القضبان
أصرخ في ليل القارات،أقدم حبي قربانْ
للوحش الرابض في كل الأبواب.
( 3 )
أجيال وقوافلْ
أمم وممالكْ
أهلكها الطوفان.
( 4 )
واحدة بعد الأخرى، ترتفع الأيدي في وجه الطغيان
لكن سيوف السلطان
تقطعها، واحدة بعد الأخرى، في كل مكانْ.
( 5 )
فلماذا، يا أبتي، لم ترفع يدك السمحاء؟
( 6 )
ثورات الفقراءْ
يسرقها، في كل الأزمان، لصوص الثوراتْ.
( 7 )
(زاباتا) كان مثالاً ومئات الأسماء الأخرى
في قاموس القديسين الشهداءْ.
( 8 )
فلماذا يا أبتي صُلب الحلاج?
( 9 )
في أحواض الزهر وفي غابات طفولة حبي, كان الحلاج رفيقي في كل
الأسفار، وكنا نقتسم الخبز ونكتب أشعارًا عن رؤيا الفقراء المنبوذين
جياعًا في ملكوت البنّاء الأعظم عن سر تمرد هذا الإنسان المتحرق
شوقًا للنور، المحنيّ الرأس إلى السلطان الجائر. كان الحلاج يعود
مريضًا وينام سنينًا ويموت كثيرًا ويهز القضبان الحجريَّةَ في كل .
سجون العالم. قال الحلاج: (وداعًا) فاختفت الأحواض وداعًا! غابات
طفولة حبي، سيصير الماء دموعًا والموت رحيلاً في هذا المنفى.
هذا عصر شهود الزور (...) الدول الكبرى - الجنرالات - الآلات.
لماذا يا أبتي لم ترفع يدك السمحاء بوجه الشر القادم من كل الأبواب؟
لماذا تُُنفى الكلمات? يصير الحب عذابًا? والصمت عذابًا? في هذا
المنفى? وتصير الكلماتْ طوق نجاةْ.
للغرقى في هذا اليم المسكون بفوضى الأشياء?
( 10 )
كل الفقراء اجتمعوا حول الحلاج وحول النار
في هذا الليل المسكون بحمى شيءٍ ما, قد يأتي أو لا يأتي من خلف الأسوار
الموت والقنديل
( 1 )
صيحاتك كانت فأس الحطاب الموغل في
غابات اللغة العذراء, وكانت ملكًا أسطوريًّا
يحكم في مملكة العقل الباطن والأصقاع
الوثنية حيث الموسيقى والسحر الأسود
والجنس وحيث الثورة والموت . قناع الملك
الأسطوري الممتقع الوجه وراء زجاج نوافذ
قصر الصيف وكانت عربات الحرب
الآشورية تحت الأبراج المحروقة كانت
صيحاتك صوت نبيٍّ يبكي تحت الأسوار
المهدومة شعبًا مستلبًا مهزومًا كانت برقًا
أحمر في مدن العشق أضاء تماثيل الربات .
وقاع الآبار المهجورة كانت صيحاتك
صيحاتي وأنا أتسلق أسوار المدن الأرضية
أرحل تحت الثلج أواصل موتي (...) حيث
الموسيقى والثورة والحب وحيث الله.
( 2 )
لغة الأسطورةْ
تسكن في فأس الحطاب الموغل في غابات اللغة العذراء
فلماذا رحل الملك الأسطوريُّ الحطَّابْ?
( 3 )
مات مغني الأزهار البريةِ
مات مغني النار
مات مغني عربات الحرب الآشورية تحت الأسوار.
( 4 )
صيحاتك كانت صيحاتي
فلماذا نتبارى في هذا المضمار?
فسباق البشر الفانين, هنا, أتعبني
وصراع الأقدار.
( 5 )
كان الروم أمامي وسوى الروم ورائي,
وأنا كنتُ أميل على سيفي منتحرًا تحت الثلج,
وقبل أفول النجم القطبيِّ وراء الأبراجْ
فلماذا سيف الدولة ولَّى الأدبارْ?
( 6 )
ها أنذا عارٍ عُري سماء الصحراءِ
حزينٌ حزنَ حصانٍ غجريٍّ
مسكونٌ بالنارْ.
( 7 )
وطني المنفى
منفايَ الكلماتْ.
( 8 )
صار وجودي شكلاً
والشكل وجودًا في اللغة العذراءْ.
( 9 )
لغتي صارت قنديلاً في باب الله.
( 10 )
أرحل تحت الثلج, أواصل موتي في الأصقاعْ.
( 11 )
أيتها الأشجار القطبية, يا صوت نبي يبكي, يا رعدًا
في الزمن الأرضيِّ المتفجر حبّا, يا نار الإبداع.
لماذا رحل الملك الأسطوريُّ الحطاب ليترك هذي
الغابات طعامًا للنار? لماذا ترك الشعراء
خنادقهم? ولماذا سيف الدولة ولَّى الأدبار? الروم
أمامي كانوا وسوى الروم ورائي وأنا كنت أميل
على سيفي منتحرًا تحت الثلج وقبل أفول النجمِ
القطبيِّ وراء الأبراج. صرختُ: تعالوا!
لغتي صارت قنديلاً في باب الله, حياتي
فرت من بين يدي, صارت شكلاً والشكلُ
وجودًا. فخذوا تاج الشوك وسيفي
وخذوا راحلتي
قطراتِ المطر العالق في شَعْرِي
زهرةَ عباد الشمس الواضعةَ الخد على خدي
تذكارات طفولة حبي
كتبي, موتي
فسيبقى صوتي
قنديلاً في باب الله
من ديوان قمر شيراز
القصيدة الإغريقية
( 1 )
قالت: ما أقسى, حين يغيبُ النجم عذابَ العاشق أو حين يموت
البحر. انتظريني - قال المجنون - وظلي ميتة بين الموتى واقتربي من
ضوء الشمعة، إن الله يرانا ويرى وجهي الخائف مقتربًا من وجهك
محمومًا تحت نقاب الدمع اقتربي، فدموعك في شفتي ملح البحر
وطعم رغيف الخبز. انتظريني، قال المجنون
( 2 )
كانت أغصان السرو وأشجار الدفلى تُخفي عني مدنًا ونجومًا، تسبح في
عطر بنفسج ليلٍ يصعد من أغوار القلب الإنسانيِّ، وكانت امرأة عارية فوق
حصان تضحك في العاصفة. انتظريني! لكن البحر الميِّت غطاها بالأعشاب
وبالزبد المتطاير في الريح. اقتربي ناداها, لكن صهيل حصان البحر
الأسطوري تمزَّق فوق صخور الشاطئ، وانطلقت بضفائرها الذهبية, تعدو
عارية، آلهة الشعر المجنون إلى "دلفي" تبكي أقدار الشعراء.
( 3 )
كانت في الفجر تمشط شَعرَ الأمواج
وتداعب أوتار القيثار.
( 4 )
كانت بضفائرها الذهبية ترقص عارية تحت الأمطار.
( 5 )
دهمتني, وأنا في منتصف الدرب إلى (دلفي)
صاعقةٌ خضراء.
( 6 )
كنا أربعة: أنا والموسيقىُّ الأعمى
ودليلى
ومغني آلهة (الأولمب) الحكماء.
( 7 )
حملتني في البحر (الإيجيِّ) إلى (دلفي) أشرعة الفجر البيضاء.
( 8 )
وضعوني في باب المعبد أخرس مشلولاً
وضعوا فوق جبيني زهرة عباد الشمسِ
وغطوني بِردَاءْ.
( 9 )
قالوا انطق باسم الحبِّ
وباسم الله
وتكلَّمْ واقْرأْ هذا اللوح المحفوظ وراء المحرابْ.
( 10 )
شَقّ ملاكّ صدري
أخْرَجَ من قلبي حبةَ مسكٍ سوداءْ.
( 11 )
قال اقرأ, فقرأت وصايا آلهة الشعر المكتوبِ على الألواح
صَعَدَتْ كلماتي من بئر شقاء العشَّاق الشهداءْ.
( 12 )
كانت تستلقي بضفائرها الذهبية عارية فوق رمال الشاطئ تبكي عند
مغيب النجم حصان البحر الأسطوري وترسم في الأفق دوائرَ حمراءَ
وتهمس للريح: اشتعلى يا نار الحبِّ, وكُوني شارة هذا الليل الأبدي
القادم من أطلال المدن الإغريقية, كوني مغزل نار قميص الفجر
الشاحب, كوني مفتاح الباب المغلق واشتعلى حبّا يا قطرات المطر
المتساقط في كل الغاباتْ
كانت ترسم فوق الرمل عيونًا وشفاهْ
ويدًا تستجدي قطرات المطر الخضراءْ
قالت فلنرحل. قال المجنون انتظري, ظلِّي ميتة بين الموتى, واقتربي
من ضوء الشمعة, إن الله يرانا ويرى وجهي الخائف مقتربًا من وجهك
محمومًا تحت نقاب الدمع. انتظري, قال المجنون.
( 13 )
منحتني آلهة الشعر الصافي
وأنا في درب العودة من (دلفي) البركاتْ
البركاتْ
وسلاحَ الكلماتْ
حب تحت المطر
( 1 )
(واترلو) كان البدء, وكل جسور العالم كانت تمتد
لواترلو, لتعانقه, لترى مُغْتَربين التقيا تَحْتَ عمود النور,
ابتسما, وقفا وأشارا لوميض البرْق وقصْف السحب
الرعدية. عادا ينتظران, ابتسما, قالت عيناها: (من
أنت?) أجاب: (أنا! لا أدري) وبكى, اقتربتْ منه, وضعتْ
يدها في يده, سارا تحت المطر المتساقط, حتى الفجر,
وكانتْ كالطفل تغني, تقفز من فوق البرك المائيَّة, تعدو
هاربة وتعودُ. شوارعُ لندنَ كانت تتنهَّد في عمقٍ والفجر
على الأرصفة المبتلَّة في عينيها, يتخفى في أوراق
الأشجار. أجاب: (أنا, لا أدري) وبكى. قالت: (سأراك
غدًا), عانقها, قبّل عينيها تحت المطر المتساقط. كانت
كجليد الليل تذوب حنانًا تحت القبلاتْ.
( 2 )
عانقها ثانية وافترقا تحت سماء الفجر العارية السوداء.
( 3 )
كانت تبكي في داخله سنوات طفولته الضائعة العجفاء.
( 4 )
كان يراها في الحلم كثيرًا منذ سنين. كانت صورتها
تهرب منه إذا ما استيقظ أو ناداها في الحُلم. وكان
بحمى العاشق يبحث عنها في كل مكانٍ. كان يراها
في كل عيون نساء المدن الأرضية, بالأزهار مغطاة
وبأوراق الليمون الضارب للحمرة, تعدو حافية تحت
الأمطار, تشير إليه: (تعال ورائي)
يركض مجنونًا, يبكي سنوات المنفى وعذاب البحث
الخائب عنها والترحالْ.
( 5 )
كانت تنشب في داخله معركة بين المعبوداتْ:
واحدة ماتت قبل الحبِّ وأخرى بعد الحب وأخرى في
المابين وأخرى تحت الأنقاضْ
( 6 )
ثورة موتي كانت زلزالْ.
( 7 )
و(تعال ورائي) ظلت في لحم السنوات العاري
ودم الحب المُغتال
جرحًا لا يُشفى وحنينًا قتّالْ.
( 8 )
كان يراها في كل الأسفار ْ
في كل المدن الأرضية بين الناسْ
ويناديها في كل الأسماء.
( 9 )
كانت تتخفّى في أوراق الليمون وأزهار التفاحْ.
( 10 )
(واترلو) كان البدء وكل جسور العالم كانت تمتد
لواترلو, تسعى للقاء الغرباء.
( 11 )
تحت عمود النور التقيا, ابتسما, وقفَا وأشارَا
لوميض البرق وقصف السحب الرعدية, كانا يعتنقان.
( 12 )
كان يمارس سحرًا أسودَ في داخله: (تأتي أو لا تأتي?
من يدري?) مجنونًا كان.
( 13)
كانت في يده دمية شمعٍ يغرز فيها دبوسًا من نار ْ
(حبيني) قال لها, واتقدت عيناه
بشرارة حزن يصعد من قلب المأساة.
( 14 )
شاحبة كالوردة تحت عمود النور رآها. جاءت قبل
الموعد. كانت في معطفها المطري الأزرق. قبّلها من
فمها. سارا. قالت: (فلنسرع!) ضحكا دخلا بارًا,
طلبَا كأسين. اقتربت منه, وضعت يدها في يده. قالت
عيناه لها: (حبِّيني) غرقَا في حُلمٍ. فرآها ورأته. في
أرض أخرى تحرقها شمس الصحراء. ابتسما, عادا
من أرض الحلم. أراها صورته بلباس البدو الرُّحل
قالت: (من أنت?)
أجاب: (أنا لا أدري) وبكى. كانت صحراءٌ حمراءْ
تمتد وتمتدُّ إلى ما شاء الله
لتغطي خارطة الأشياء.
( 15 )
عانقها, قبّل عينيها. لندنُ كانت تتنهَّد في عمقٍ
والفجر على الأرصفة المبتلة في عينيها يتخفَّى في أوراق الأشجارْ.
( 16 )
(عائشة اسمي) قالت: (وأبي ملكًا أسطوريًّا كانْ يحكم
مملكة دمَّرها زلزال في الألف الثالث قبل الميلاد)
الموت في غرناطة
عائشةٌ تشقٌّ بطنَ الحوت
ترفع في الموج يديها
تفتح التابوت
تُزيح عن جبينها النقاب
تجتاز ألف باب
تنهض بعد الموت
عائدةً للبيت
ها أنذا أسمعها تقول لي لبَّيكْ
جاريةً أعود من مملكتي إليك
وعندما قبَّلتها بكيتْ
شعرت بالهزيمة
أمام هذي الزهرة اليتيمة
الحبُ, يا مليكتي, مغامرة
يخسر فيها رأسَهُ المهزوم
بكيتُ, فالنجومْ
غابتْ, وعدتُ خاسرًا مهزوم
أُسائلُ الأطلالَ والرسوم
عائشةٌ عادت, ولكني وُضعتُ, وأنا أموت
في ذلك التابوت
تَبادَلَ النهران
مجريهما, واحترقا تحت سماء الصيف في القيعان
وتركا جرحًا على شجيرة الرمان
وطائرًا ظمآن
ينوح في البستان
آه جناحي كسرته الريح
وصاح في غرناطة
معلم الصبيان
لوركا يموتُ, ماتْ
أعدمه الفاشست في الليل على الفرات
ومزقوا جثته, وسملوا العينين
لوركا بلا يدين
يبثّ نجواه الى العنقاء
والنورِ والتراب والهواء
وقطراتِ الماء
أيتها العذراء
ها أنذا انتهيتْ
مقدَّسٌ, باسمك, هذا الموت
وصمت هذا البيت
ها أنذا صلَّيت
لعودة الغائب من منفاه
لنور هذا العالم الأبيض, للموت الذي أراه
يفتح قبر عائشة
يُزيح عن جبينها النقاب
يجتاز ألف باب
آه جناحي كسرته الريح
من قاع نهر الموت, يا مليكتي, أصيح
جَفّتْ جذوري, قَطَعَ الحطّاب
رأسي وما استجاب
لهذه الصلاة
أرضٌ تدور في الفراغ ودمٌ يُراقْ
وَيحْي على العراق
تحت سماء صيفه الحمراء
من قبل ألفِ سنةٍ يرتفع البكاء
حزنًا على شهيد كربلاء
ولم يزل على الفرات دمه المُراق
يصبغ وجهَ الماء والنخيل في المساء
آه جناحي كسرته الريح
من قاع نهر الموت, يا مليكتي, أصيح
من ظلمة الضريح
أمدُّ للنهر يدي, فَتُمسك السراب
يدي على التراب
يا عالمًا يحكمه الذئاب
ليس لنا فيه سوى حقّ عبور هذه الجسور
نأتي ونمضي حاملين الفقر للقبور
يا صرخات النور
ها أنذا محاصرٌ مهجور
ها أنذا أموت
في ظلمة التابوت
يأكل لحمي ثعلب المقابر
تطعنني الخناجر
من بلد لبلد مهاجر
على جناح طائر
- أيتها العذراء
والنور والتراب والهواء
وقطرات الماء
ها أنذا انتهيت
مقدّسٌ, باسمك, هذا الموت
سأبوح بحبك للريح وللأشجار
( 1 )
تقبع في غرفتك الآن وحيدًا, تنهال التذكارات, فها هي ذي
الدنيا: جسد امرأة تتأوه تحتك, مغمضة عينيها, يسقط ثلج
أسودُ فوق الخدين, فتبكي في صمت, فسنابل قمح الجسد
العاري, تكسرها ريح مغيب, يتوغل في مدن لم تُولد. من أي
مدار شمسيٍّ تهبط فوق الأرض: العربات الذهبية حاملة للجسد
المنفي, بذور الإِبداع ونار الخلقِ الأولى? من أي السنوات
الضوئية, يأتي هذا الضيف الحجري بسلة أثمار الصيف?
فتبكي في صمت. من أي نهار ينبثق الفرح الباكي ويموت,
ليترك فوق الأوراق نجومًا وعصافيرْ
وإلى أين تسير?
هذي الدنيا بعباءتها في الريح?
امرأة حبلى في الشهر التاسع قرب البحر تصيح
تتشهَّى القمر الليموني النائم فوق سطوح الريف.
( 2 )
يا امرأة الهملايا وسفوح الأنديز
نامي في قاع محيط الروح
حتى ينفجر البركان ويعوي كلب الرؤيا المسعور.
( 3 )
ربات الأقدار
يرقصن على موسيقى الجاز
في صالة رقص الأمطار.
( 4 )
ها أنت تشد الأوتار وتبكي في أعقاب طقوس الإِخصاب لبذور الخلق الأولى, تحت رماد الأحقاب.
( 5 )
عاصفة تقتلع الأبواب
تلقي بخريطة هذي الدنيا فوق الأرض وتطفئ ضوء المصباح.
( 6 )
ها أنت تواجه نفسك في المرآة
بقميصك نار تشتعل الآن.
( 7 )
يتوغل في قلبك حزن الليل الإِسبانيِّ وثلج الغابات الروسيَّة,
تسقط من فوق الكرسيِّ مريضًا, تأكلك الحمى, تصرخ, لكن
الصرخات تضيع هباء. النجدة! إنسان يحترق الآن وحيدًا في
غرفته, يتشبث بالحبر وبالأوراق, بخارى بمآذنها الزرقاء تصلي
للأنهار الوحشية في أعماق الليل وتتلو آيات زرادشت
الأشجار, ربيع شعوب يولد من حبات القمح ومن صلوات
الريح, وأنت تصلي للشعب المأخوذ العاري من حد الماء إلى حد الماءْ.
ترسم خارطة لعيون المعبودات وربات الأقدار
تسقط من فوق الكرسي مريضًا فوق الخارطة البيضاء.
( 8 )
يا امرأة الهملايا وسفوح الأنديز, لماذا فوق سرير الأمطار تنام جبال الفيروز?
( 9 )
يموت الشاعر منفيًّا أو منتحرًا أو مجنونًا أو عبدًا أو خدَّامًا في
هذي البقع السوداء وفي تلك الأقفاص الذهبية, حيث الشعب
المأخوذ العاري من حد الماء إلى حد الماء يموتُ ببطء, تحت
سياط الإِرهاب, وحيدًا, معزولاً, منبوذًا, محرومًا قرب الأقفاص.
( 10 )
يا امرأة ستكون
سأبوح بحبك للريح وللأشجار
وأعيد كتابة تاريخك فوق الخارطة البيضاء
نصوص شرقية
مختارات
اليومَ,
حوّمت حول رأسي
سُحب من الكلمات
لكنني طردتها
وجلستُ بانتظارِك.
في حجرةِ (خوفو)
جلستْ تبكي
قالت: هل سيسرِقُنا
لصوصُ الآثار نحن أيضًا?
المرأة,
قادرة على الإحتفاظ
بحرارة جسدها,
وبطعم قُبَلِ عشاقها
وبرائحة الورد والياسمين
حتى بعد موتها.
الشمس تجلس على الشاطىء,
وعلى رأسها قبعة من القش
- لا أستطيع أن أكتب مثل هذا الكلام -
فالشمس قد أحرقت قدمي,
وأنا أتسلق هذا الجبل للوصول إليك.
سمَلوا عيني
وسرقوا خاتمي الذي يحمل اسمك,
وشقوا صدري
ليبْحثوا عنك في قلبي,
ابتسمتُ وقلت لهم:
انظروا إلى نجمة الصبح
فهي هناك.
رأيتكِ
وأنت ترقصين تحت قبة الفلك
قبل أن أصاب بالعمى,
الآن,
لا أراكِ إلاّ متّشحةً بالسواد
عرفتُ
لماذا سرق أمير بُخارى
حصاني.
أميرُ بخارى
سأل جاريته
ماذا يمتلك هذا العابر
ليجعلك تبتسمين دائمًا
وتتركيني وحيدًا?
قالت:
لأنَّه كان يمضى إلى نهر المجرة
ولا يملك خنجرًا أو حصانًا.
قالت: المغول قادمون
قلت: نعم
فلقد رأيتهم قبل سنوات بعيدة
يقتحمون أسوار المدينة
وها أنا
أراهم الآن,
يقتحمون أسوار بغداد من جديد.
عندما رأيتها تسبح
تذكرتُ (هاملت)
فهاملت لم يرها مثلي,
رآها ميتة
وفوق رأسها تاج من الطحالب!
قالت عائشة:
أنا لست حميراء
بل أنا حفيدة أميرٍ كردي
سملوا عينيه في غزوات المغول
فلماذا تنظر إليَّ هكذا?
أمراءُ الأكراد,
أكثر من عدد النجوم
فأين (خاني) و(كوران) و(بيه كس)
لنسألهم عن الأمير الوحيد,
الذي هو الشعب الكردي!
لماذا ثار الحدَّادُ
وترك لنا الاحتفال بعيد النوروز
لماذا لا ينهض من قبره
ليرى,
كم هي قبور الشهداء?
رجلٌ يمسك قلبه
ويتكئ على عمود النور
في شارع مظلم
مرت به امرأة
وسألته:
أين رأيتك قبل عشرين عامًا?
لم يجب.
وعندما اختفت
قال لنفسه: يظهر إنني مت
منذ زمن بعيد!
المجوس وحدهم
يعرفون لماذا تتوامض
النجوم في منتصف الليل وتبكي
أما أنا - ولست وحدي أعرف -
لماذا تصبح السماء حمراء
عندما يجوع الفقراء.
كنت أحبكِ
لكن طقوس المنفى
حرَّمت الصَّيْدَ بغابات النور.
حفيدتي (هناء) سألت,
لماذا استعمل العدسة المكبرة
عند القراءة?
قلت:
لأن النور هرب من عيوني
وعاد إلى جبال أجدادي البعيدة.
أقف الآن أمام قضاة التاريخ
فاشهد يا قلبي
كم حفر الحفارون لنا قبرًا
لكنَّا في حانات العالم
كنا نبني مملكة للشّعر
ونعشق ربات الأسطورة
نشعل نارًا في الهملايا
ونقدم في (باب الشيخ) نذورًا
لإمام الفقراء المعصوم.
يتساقط المطر فوق الحدائق الطاغورية
وأنا في سرير المطر
أرضع ثدي الغزالة
وأسمع نحيب امرأة يأتي من بعيد. أصدرَ القاضي حكمه بنفيك إلى (سمرقند)
أصدرَ القاضي حكمه بنفيك إلى (سمرقند)
فاحمل كتبك وارحل
قبل أن يسمل الجنود عينيك.
شبحي يتلصص عليَّ
يريد أن يعرف
أين جئت بهذه الزهور?
رحلتِ منذ مئات السنوات
دون أن توقظيني وتقولي لي: وداعًا سألتُ العرافة
سألتُ العرافة
فقالت إنك مدفونة في مقابر (نيسابور)
منذ مئات السنوات
وأنا أحاول - دون جدوى - الوصول إلى مزارك المقدس
خشية أن أموت
قبل أن أصل, إليك.
أحببتكِ في (دلهي)
قبَّلتك في المرآة
أحببت نساء الهند,
فدفء القبلة
أسرى بي,
صار حريقًا
في كل بيوت الحلوات
صارت دلهي بستانًا
نتبادلُ فيه القبلات.
(بورخيس) أعمى,
ولكنه أفضل مني
لأنه يقرأ الكتب المقدسة
وهو أقل حزنًا مني,
لأنه يعرف كل الأديان,
وأنا لا أعرف إلاّ دين الحب.
أودع (أبو تمام)
قصيدةَ لدى عطار في مدينة الموصل,
كان صديقه.
بعد أربعمائة سنة بحثت عن العطار
فلم أجد إلاّ حفيدًا له,
الحفيد قال:
إن بيت جده الأول أحرقته ساحرة
أما القصيدة فقد انتحلها شاعر
أحرقه المغول حيًّا,
عندما فتحوا بغداد.
بعد أربعمائة سنة أخرى مرت.
عثرت على القصيدة عند ورّاق
يبيع كتب السحر
كانت مكتوبة بماء الذهب
ومطلسمة بحروف غريبة مائلة
لم يستطع أحد فك طلاسمها.
بعد حرب الخليج
نهبت مكتبتي وسُرقت
فضاعت القصيدة من جديد.
كان يُحْتضَرُ منذ أسبوع
ولكنه كان يقاومُ الموت
ويؤجّله منتظرًا عودتي من السفر
دخلتُ الغرفة التي كان يحتضر فيها
فتح عينيه وابتسم
وقال ما يشبه إنه انتصر على الموت لكي يراني
اقتربتُ منه وقبَّلت يده
أحسست بأن شعلة الحياة
قد انطفأت في داخله
صرختْ أختي باكية:
لقد مات أبي
اهتزت الأرض تحت قدمي
فالمجرى الذي كان
يربط النهر بالينبوع
قد توقف عن الجريان.
في مكتبة (آشور بانيبال)
عُثِرَ على رقيم كتبه شاعر مجهول
يقول:
إذا ما التقينا غدًا في بستان الحب
فسأعرِّيكِ
وأغطي جسدك بالورود
وأقبّلكِ من موضع كل وردة.
خُبْزُ جسدها
ونبيذ دمها
جعلني أقاوم الموت
سبعين عامًا.
الخريف ترك كنوزه
في عتبة داري
ولكنني
لم أعد بحاجة إلى الكنوز.
صرخ مستنجدًا بالنور
وسقط مغشيًا عليه
أمامَ جمال سلطانة (قندهار)
طلبت السلطانة من وصيفاتها
أن يحملنه إلى الحرملك
وينعشنه بماء الورد والياسمين
تلك الأيام مضت
قبل أن يقتلني سلطان (قندهار)
ويعلق رأسي في باب المدينة.
بائعُ وردٍ دمشقي
أصيب بالذهول
عندما دخلت صبية حانوته
فأحنت الورود لها رؤوسها.
كم كانت غبية
لأنها لم تعرف أن الذي قبَّلها
وأهداها خاتمًا
كان هو إمام الفقراء.
زرت (نيسابور) مرة أخرى
فأذن لي (الخيام) هذه المرة,
أن أقضي ليلتين في مرصده الفلكي
بعد انقضاء الليلتين
وفي الصباح
أهدتني إحدى جواريه
ثلاث وردات
وقطعة نقد فضية
كانت هي أجرة سفري
إلى (خراسان).
يظهر أنني أصبت بشيء
من الخرف والجنون
لأنني لم أعد أتذكر
رحلتي مع (محي الدين بن عربي)
إلى (مكة) وطوافي معه حول (الكعبة)
ووقوعي معه في حب (عين الشمس)
وعودتي معه إلى (دمشق)
لكي أموت وأدفن إلى جواره.
ويظهر أن أحدًا ما
قد نبش قبري وأزاله
ودفنني في مكان آخر,
لا أعرف أين هو الآن!
قال المعريُّ لجارٍ له أعمى:
هل ذقت طعم السمَّ
قال: بلى, إنه بلا طعم
ولكنني لم أمت
فالعناية الإلهية كانت تحرسني
قال المعري:
أنا سأجرِّب طعمه ولكن بيد غيري
وأعرف بأنني سأموت!
غنى (النوى) و(الصَّبا) في ليل غربتهِ
فكاد, من طربِ, أن يرقص العودُ
(إذا أردتُ كميتَ اللون صافيةَ
وجدتُها وحبيتُ النفس مفقودُ
ماذا أريدُ من الدنيا وأعجبه
حتى بما أنا باكِ منه محسودُ)
ترصّدَ الموت أحبابي وغالهمو
وجدّ ونفيِ وتجويعِ وتشريدُ
داويت بالشعر أوجاعي فما شفيتْ ولم تعُد من منافيها أناهيدُ
ولم تعُد من منافيها أناهيدُ
كانت شفيعي ومولاتي وسيّدتي
إذا أدْلَهَمَّتْ ليالى غربتي السودُ.
كانت آخر مرة رأيتك فيها
قبل أن أصاب بالعمى
وأنت تستحمين عارية
في بحيرة (وان)
شفتاك تقطران عسلاً
ويدك اليمنى تبحث في جلبابي
عن محراث النجوم.
قالت أناهيد إني بعد عائشة
حبيبة لك, قالت لي أناهيدُ.
تحصَّنَ الحبُّ في شعري وغالبني
وعدُ كذوب وخانتني المواعيدُ
تَحَطَّمَتْ في بحار الحب أشرعتي
وأطفأت بصري تلك المواجيد
دمشق, أوائل تشرين الأول - أواخر تشرين الثاني 1998