ما هذا؟
أمة بكاملها تحل الكلمات المتقاطعة وتتابع المباريات الرياضية، أوتمثيليات السهرة، والبنادق الإسرائيلية مصوبة إلى جبينها وأرضها وكرامتها وبترولها.
كيف أوقظها من سباتها. وأقنعها بأن أحلام إسرائيل أطول من حدودها بكثير، وأن ظهورها أمام الرأي العام العالمي بهذا المظهر الفاتيكاني المسالم لا يعني أن جنوب لبنان هو نهاية المطاف.
فهي لو أعطيت جنوب لبنان طوعا واختيارا لطالبت غدا بشمال لبنان لحماية أمنها في جنوب لبنان
ولو أعطيت كل لبنان لطالبت بتركيا لحماية أمنها في لبنان
ولو أعطيت تركيا لطالبت ببلغاريا لحماية أمنها في تركيا
ولو أعطيت أوروبا الشرقية لطالبت بأوروبا الغربية لحماية أمنها في أوروبا الشرقية.
ولو أعطيت القطب الشمالي لطالبت بالقطب الجنوب لحماية أمنها في القطب الجنوبي
***
وملأت حقائبي بالخرائط والمستندات والرسوم التوضيحية ويممت شطر الوطن العربي أجوب أرجاءه مدينة مدينة وبيتا بيتا.
وحدثتهم كمؤرخ عن نوايا إسرائيل العدوانية وأطماعها التاريخية في أرضنا وأنهارنا ومياه شربنا. وعرضت عليهم كطبوغرافي الوثائق والمستندات السرية والعلنية وباللغات العربية والإنكليزية والتركية.. ولكن، لا أحد يبالي.
ثم تحدثت إليهم كفنان، وعرضت أمامهم أشهر اللوحات التشكيلية والرسوم الكاريكاتورية التي تصور إسرائيل كمخلب قط للاستعمار، كرأس جسر للإمبريالية، كأفعى تلتف، كعقرب يلسع، كحوت، كتنين، كدراكولا، كريا وسكنية، تقتل وتفتك وتتآمر.. ولا أحد يبالي.
ثم تحدثت إليهم كخبير طاقة. وحذرتهم من أن منابع النفط هي الهدف التالي لإسرائيل. وأننا كعرب، قد نعود إلى عصر الحطب في المضارب، ونفخ النار بالشفتين وطرف الجلابيات.. ولا أحد يبالي.
ثم تحدثت إليهم كطبيب. عن تسميم الطلاب في الضفة الغربية، والجثث المفخخة في مجازر صبرا وشاتيلا. وعن التنكيل المستمر بأهلنا في الأراضي المحتلة، ومصادرة البيوت وطرد السكان، وتحديد الإقامة، ومنع السفر، ومنع العودة، وإغلاق المدارس، وتغيير المجالس البلدية، وقمع المظاهرات، وإطلاق غاز الأعصاب، والقنابل المسيلة للدموع، المسيلة للتخلف.. ولا أحد يبالي.
ثم تحدثت إليه كأب. ونبهتهم إلى أن كل مدرسة في الوطن العربي قد تصبح مدرسة بحر البقر. وكل كاتب أو شاعر قد يصبح كمال ناصر أو غسان كنفاني، وكل رئيس بلدية أودائرة حكومية قد يعود إلى بيته على عكازبين كبسام الشكعة وكريم خلف.. ولا أحد يبالي.
ثم تحدثت إلى الفلاحين كفلاح. وإلى العمال كعامل. وإلى التجار كتاجر. وإلى اليمينيين كيميني، وإلى اليساريين كيساري، وإلى المزايدين كمزايد، وإلى المعتدلين كمعتدل، وإلى العجائز كعجوز، وإلى الأطفال كطفل. وقلت لهم أن اتفاق شولتزمثله مثل اتفاقيات كامب دايفيد واتفاق سيناء وكل الاتفاقات التي تمت من وراء ظهروكم فهومصنوع بدقة متناهية كابتسامة الجوكندا بحيث لا أحد يعرف إن كان يبتسم لنا أم يسخر منا. ولذلك فإن دولا عربية متخاصمة لم يكن يتصور أحد أنها يمكن أن تتصالح قد تصالحت بسببه. وأن دولا عربية أخرى صديقة لم يكن يتصور أحد أنها قد تختلف، قد اختلفت بسببه. ولكن للتحركات السياسية حدودا، وللجهود الدولية معايير لا يمكن الإخلال بها. وإن مؤتمر الشعب العربي الدائم وقضيته المركزيز فلسطين لا يستطيع أن يستمر في عقد جلساته الطارئة إلى مالا نهاية مالم يلق استجابة من هنا أو دعما من هناك.
وأن المقاومة الوطنية في لبنان مهما كانت باسلة لا تستطيع وحدها القضاء عليه ما لم تعمم هذه التجربة في كل بلد عربي.
وقصصت عليهم أحسن القصص عن البطولة والفداء والروعة في أن يكون الإنسان ثائرا من أجل وطنه ينصب الكمائن ويطارد الأعداء في شعاب الجبال، و في فترات الاستراحة يضم بندقيته إلى صدره ويقرأ على ضوء القمر الرسائل الواردة إليه من الوطن، إذ في كل صفحة خصلة شعر من خطيبة، أو ورقة يابسة من حبيب.
وقرأت عليهم بنبرة مؤثرة وغاضبة أجمل قصائد المقاومة والنضال لناظم حكمت ولوركا وهوشي منه ومحمود دوريش وسميح القاسم. ولا أحد يبالي.
الكل ينظر إلى تلك النظر الحزينة المنكسرة كغصن وينصرف متنهدا إلى عمله.
ماذا أفعل أكثر من ذلك لأثير نخوتهم وغضبهم ومخاوفهم؟
هل أضع على وجهي قناعا يمثل سني بيغن الأماميتين المشؤومتين؟ أم أضع عصابة سوداء على عيني مثل موش دايان وأقفز حول أسرة الأطفال في ظلام الليل؟
هل أعرض في الساحات العامة صورا شعاعية لما يعتمر في صدرموفازو شارون وبوش وساركوزى وبيريز وأرينز وإيتان وغيرهم من ضغينة وحقد على هذه الأمة وما يبيتون لها ولشعوبها من قهر وذل وجوع ودمار؟
هل فقدت الشعوب العربية إحساسها بالأرض والحرية والكرامة والانتماء إلى هذه الدرجة؟ أم أن الإرهاب العربي قد قهرها وجوعها وروعها وشردها سلفا أكثر بكثير مما فعلته وما قد تفعله إسرائيل في المستقبل؟