® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11575 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2012-08-30, 1:41 pm | | ليليّات نادلة في مديح الكؤوس
ميرنا زعيتر
في هذا العالم، عالمي، أصفُّ القناني، أرتّبها ترتيباً جميلاً تتغنى له العيون. الألوان تتلألأ في الزجاجات، وتشفّ في خجلٍ، وسط أضواء خافتة، عما تحتويه. ألمّع الأكواب، أرصفها بعضها فوق البعض، فتجتمع متآلفة كقبيلة من الزجاج. أنكبّ على حديقتي الخاصة، حديقة الفاكهة، أغسلها، أقطّعها في أشكال جميلة، فتختلط ألوانها عذبة رقيقة، لتزيين الكوكتيلات. لكل كوكتيل اطلالته البهية الأوريجينال التي تقول لكأس الويسكي: أيتها الكأس العادية المملة البشعة، أنظري الى تسريحتي، الى قبعتي الجميلة الطازجة، أيتها المملة البشعة. لا تردّ كأس الويسكي. بلونها الشاحب ولذعتها المريرة تظن أنها تنقل شاربها الى عالم من الإشراق تعبّر فيه الحواس عما تشاء. تظن أن الكوكتيلات المتباهية المتأنقة سخيفة منحطة، بلا عمق ولا إبداع، بل تخفي سخفها بزينتها وبطول كؤوسها الغبي خلف شريحة الحامض الدائرية، أو قطعة الأناناس العمودية، أو غصن النعناع المهمل. فهي إذ تخلو من هذه الزوائد تصير كئيبة باكية، خجلة من نفسها. أملأ المكان بالقناني الكثيرة، المختلفة الألوان والطعوم والتأثير، كصفّ طويل من جنود مختلفين. كل جندي من بلد: سكوتلندا، أميركا، إيرلندا، المكسيك، فرنسا، روسيا، انكلترا، البرازيل... ومن ديارنا. أهيئ المكان لهم، للزوار الساهرين المتهافتين الى عرضي الزجاجي المرتّب، الى اهتمامي بالجو المريح في أضواء ترخي الأعصاب وتدعو العيون الى الهدوء. الموسيقى تهتف للروح، تدعوها الى العودة الى الجسد بعد غيبتها عنه طوال النهار. هنا تعي الروح غيابها، فتعود حيّة كثيفة الحضور في جسدها، تصالحه راضيةً مرضية. من أحيائهم البعيدة يأتون غرباء، فتجمعهم إلفة حميمة. يتجالسون مستكينين، متهيئين للدعة، للعب، للاسترسال، للسكن في الأجساد، في اللذة والتجاور اللطيف، في الكلام المرح ورواية الحوادث وتبادل الافكار والمشاعر والرؤى. الكلمات رطبة في أفواه رطبة، فيغرق المكان في ألحان متداخلة وأصوات كثيرة. في كل صوت قصة، عنوان جديد، رواية جديدة، متعة جديدة. يتغيّر المكان، يمتلئ بالحياة، بعدما كان نائماً مستغرقاً في وحدته. ينقسم على نفسه، يحتويهم، يضمّهم بلطف عابر، خافت، خفيف. يغيّرهم، يبدّل سحناتهم، أشكالهم، كيمياء علاقاتهم العابرة، يخلطهم، يعيد ترتيبهم، فيصير لهم ومنهم، ويصيرون منه وله، في أوقاتٍ عابرة. *** ها هو يطل من الباب مسرعاً، ومسرعاً يلقي التحية، ويتناول قنينة البيرة من يدي. يجلس الى طاولته في الخارج، وأحياناً الى طاولته في الداخل. لنهار الخميس طاولته في هذا الجانب، ولنهار الاثنين طاولة في الجانب الآخر. يضع أغراضه على الطاولة، يرتّبها: علبة السجائر قريبة من يده اليسرى. القداحة قريبة من اليمنى. زجاجة البيرة، قبل كأس النبيذ، في الوسط لا تتحرك ولا تبدّل مكانها. يراقب المكان والناس، يبتسم لابتساماتهم، يومئ برأسه لتعليقاتهم. سحابة الكحول تحيي إشارات في يديه، صوراً أمام عينيه، يركّبها مشاهد في رأسه، مشاهد من مسرحية مرتقبة، من فيلم جديد ربما يخرجه يوماً ما. يراقب ناطور السنتر. يقول لي إنه يرى فيه رجلاً جباراً قوياً: وقفته الثابتة، نظراته الثاقبة المتنقلة في المكان، في السنتر كله، في لحظة واحدة. يرى في الرجل المسيطر على الوضع برمته، شخصية جديدة يرسم لها أدواراً في سيناريو متخيّل. بين وقت وآخر ينتبه إليّ، فيحييني مجدداً، يطلعني على نظرية جديدة اخترعها الآن، يتغنّى بها، يبتسم، يطلب مني كأساً أخرى من النبيذ الأبيض. ينتظرها أو لا ينتظرها. تأتي مبتسمة، تلقي التحيات على الحاضرين، ترحب بهم، بالكلام، بالموسيقى. ترمي عبارات لطيفة، تضحك، تستريح، تسرّح نظراتها الهادئة الرقيقة الى عالمها البعيد، تترنح مع كأسها، ترقص كأنها الرقص. تفرح كأنها الفرح. جميلة كأنها الجمال، يارا الجميلة. ها هو الضاحك الجميل يطل من الباب. فائض النشاط مبتسماً. فرحاً يلقي مزحة ويقول: جلبت لكِ الفواكه. يا للعيون اللامعة الواسعة في أرض خضراء. يا للرائحة الذكية العابقة بالحنان. يأخذ كأسه. يرتشف الرشفة الاولى، يتذوقها، يعطيها الوقت الكافي لتحديد ماهيتها ومصدرها. يؤمئ لها برأسه ويتابع. إنه عاشق الموسيقى، في داخلها ومن داخلها يرقص، كأنه بذراعيه يحملها، يرميها في الفضاء، يرسلها الى الآذان مفعمةً بالتبجيل. يسامر الحاضرين، يرحّب بوجودهم، يوزّع عليهم حصص محبته التي لا تنقسم ولا تتوزع. لا يكترث لمحبتهم. فهو لديه من المحبة الخاصة التي يعتني بها ويستمتع بمذاقها اللذيذ تحت لسانه. ينسى نفسه وأنه هنا في المكان، لأن هدفه تأمين الاحتياجات المشتركة. يصير مثل الحاضرين، ومن الحاضرين الآتين من دنياهم الغريبة البعيدة، غرباء يتهيأون للفرح واللعب. *** أصفُّ كؤوس النبيذ والمارتيني والمارغريتا. كؤوس جميلة باستداراتها الأنيقة، بكلاسيكيتها الراقية، بمحتواها السحري الرائع الألوان. تلتفت كأس المارتيني حولها مرحِّبةً برفاق السهرة. تقول لكأس الى جانبها: البارحة كانت المارغريتا برفقة سيدة جميلة تلامس الكأس بشفتيها الناعمتين المكللتين بأحمر الشفاه المفضل لديها. كستهما بتأنٍّ ورفق شديدين، مرّغت الكرز بالفريز، فأمست شفتاها مصابيح وردية. إليها وحدها يلتفت الناظرون. كانت المارغريتا ترندح مرحة، وهي تداعب الكأس بأصابعها، تحركها بطيئةً على زجاجها، ثم تمسكها بقوة، بشغف، تداعبها، كأنها طوق نجاتها الوحيد. المارغريتا كأس محظوظة تعيش سهرات عامرة. كأس النبيذ تردّ من الجانب الآخر، من وسط حشود الزجاج المرصوف على الرف: المارغريتا لم تكن محظوظة البتة. البارحة، في آخر السهرة، وقعت على الأرض كأسها، وصارت حطاماً. لقيت حتفها موتاً، وتناثرت تناثراً مفجعاً على البلاط الرمادي. لقد قذفتها الحسناء الجميلة الى الارض، بعدما أطاح شوط الفودكا رأسها، فتخلت عن المارغريتا التي أشعرتها بملل شديد، وقالت لصديقتها الى جانبها إن المارغريتا عادية جداً، لا تشعرها بشيء. *** تتجوّل عيناي بثبات في أرجاء المكان. من على منبري الكحولي أراقب الاشخاص وأحوالهم. في الزاوية رجل أبيض اللحية أحنى رأسه على يده، ناظراً الى خشب صامت لا يرفع عينيه عنه. كأنما الطاولة باتت لوحة كبيرة في نظره. يرى فيها عالماً مشوّقاً يسلب خياله، فلا يقوى على إبعاد بصره عنه، مستغرقاً في صوره. يحني رأسه الى الأمام أكثر فأكثر، فتخاله سيسقط من لوحته الغامضة. رجل اللحية البيضاء والشعر الستيني وحده الليلة. لا ترافقه سيدة أو سيدتان جميلتان تضحكان لنكاته وتهمسان في أذنيه. سيدتان تديران حوله حلقات من الأحاديث والأقاويل، تنظران اليه بحنان تستمدان الدفء الغريب من عينيه ولحيته البيضاء. يشرب الفودكا مع مشروب الطاقة، فأعلم انه وحيد هذه الليلة مع الطاولة التي ربما سيغفو عليها، هناك في الزاوية، كلما أتى وحده الى المكان. أنقّل بصري في المكان. أنظر الى الطاولة قبالتي. أرى امرأة جذابة وضعت عليها وشاحها الأسود، كما في كل ليلة. تطلب كأساً من النبيذ الاحمر. تحرص جيداً على مشاهدة النبيذ يمتلئ من زجاجة جديدة أفتحها لها وحدها. الكأس الأولى تذكّرها بأول عصرة عنب عصرها رجل بيدين صلبتين. رجال الكروم في بلاد مختلفة، بقاعية، فرنسية، اسبانية... يختار الشارب عصير كروم في أرض غريبة، ليشرب رحيقها. المرأة الجذابة يغلب عليها طابع أوروبي. تأخذ كأسها، ترشف من عصيرها الخمرية في الكروم الخمرية. تراقب حركتي خلف البار الذي أحرص على أن أرقص وأنا أعمل خلفه، كأنه شرفتي. أمسك كأساً قصيرة، أنتقي كأساً طويلة من المجموعات الزجاجية. أتوجه نحو أقراص الثلج، أقلبها، اختار الاقراص المتوازنة لكؤوس الويسكي القصيرة. أتلفت الى الامام. المرأة الجذابة لا تزال تراقبني. أملأ الكأس الطويلة بالثلج. انتقل الى المنصة. أملأ الكؤوس المناسبة بالمشروبات المناسبة. أرفع الزجاجة عالياً، كي ينحرف الخمر هاطلاً على الثلج في الأكواب المنتظرة بفارغ الصبر بلوغ اكتمالها السيّال.
_________________ حسن بلم | |
| |