من بين كل ماتبقي من تراث القصائد الصينية القديمة، لم يبرز سوي كتاب وشاعر؛ الكتاب هو "ديوان الشعر القديم" وهو مدونة شعرية شعبية لايُعرف صاحبها، أما الشاعر فهو "تشيوان" أنبل من أنجبت الصين في تاريخها، لكنه الرجل الذي عرف الناس عن تاريخه كسياسي وطني أكثر مما عرفوا عنه كشاعر عبقري؛ حتي صار من الممكن رصد دوره التاريخي، عبر السجلات الرسمية القديمة، دون المجازفة بتقدير مدي صحة ماينسب إليه من دواوين مشهورة في التراث الشعري. كان تشيوان (340-278 ق.م.) معاصرا للفترة التاريخية المعروفة بـ "زمن الدول المتحاربة" وهي الفترة التي تشكلت فيها ملامح الفكر والثقافة الصينية، بشكل حاسم تقريبا، وكان الشاعر قريبا من إدارة الصراع السياسي بوصفه مستشارا للملك "هواي" حاكم دويلة "تشو" إحدي الممالك المتصارعة مع دولة "تشين" الكبري، بل قد تجاوز دوره مجرد إبداء النظر إلي التفاوض بين دويلة تشو وحليفاتها، جاراتها الشقيقة، في مواجهة غطرسة "تشين" ومحاولتها فرض الهيمنة علي البرّ الصيني كله، وقد حظي بثقة الملك ودعمه
»تشيوان« شاعر الصين العظيم
كان الشاعر سليل أسرة ترتبط بصلات القربي مع البلاط الحاكم (قيل إن أحد أجداده هو المؤسس الحقيقي لدولة تشو)، وفي زمن مشحون بالانقلابات والثورات الفكرية والسياسية، فقد عُهد إلي تشيوان بوضع مواد قانونية ودستورية تلائم أوضاعا ثورية جديدة، قُدّر لها أن تصطدم بمصالح عدد من النبلاء الذين قاوموا الإصلاحات المنشودة، ومن جانبه فقد رأي الشاعر استبعادهم أو تقليص سلطاتهم، باعتماد سياسة تقوم علي مبادئ الحكم الرشيد، لكنهم كانوا هم الذين تمكنوا من إقصائه بعد أن كادوا له فأقنعوا الملك بسوء طويته، وأُبعد من القصر ليجوب في الآفاق شريدا مدة ثمانية عشر عاماً، كانت أحوال البلاد قد ساءت كثيرا أثناءها؛ إذ استطاعت تشين "رأس الأفعي" أن توقع بالملك "هواي" في أحابيلها فأخرجته من تحالفاته مع جيرانه ليتصالح معها، وهو ماكان يعارضه الشاعر بقوة، فلما انكشفت الأقنعة وافتضحت نوايا تشين العدوانية، أفاق القصر من غفلته، وأعاد الاعتبار للشاعر المطرود، ثم لم تلبث الفتن أن نهضت من عثراتها، وأرسلت تشين الدعوة إلي الملك المصدوم لزيارتها، تسوية للخلافات، واعترض الشاعر علي الزيارة، محذراً، لكن الآخرين جميعا وافقوا، بما فيهم الأمير ولي العهد، وكان أن ذهب الملك ولم يعد إلا جثة هامدة، وتولّي العرش زمرة من الخونة أصدروا علي تشيوان حكماً بالنفي والتشريد، فخرج، للمرة الثانية، هائمًا علي وجهه في البلاد، وآثر أن يعود إلي مسقط رأسه لكنه، وقد ضجّ بالأحوال والحياة جميعا، فقد قرر أن ينتهي نهاية مأثورة عن رجال السياسة ممن فشلوا في الحفاظ علي عروش ملوكهم فقرروا أن يدفنوا سوأة فشلهم بالوثوب إلي قيعان الأنهار، وبالفعل فقد قصد إلي شاطئ البحر، ذات صباح، وكان متهدل الملامح ذابل القسمات، وهو يتطوّح صائحا بالأشعار، وتعرّف عليه الصياد وسأله عما جاء به إلي تلك الناحية، فأجابه بأنه قد تطهّر من الدنس وأفاق من الخبال الذي وضع علي الدنيا والناس جميعا أوزاره، فآثر العزلة؛ فقال له محدثه إنه لاينبغي للحكيم أن يتميز من الكثرة الغالبة وأنه من الأصلح للمرء أن .."يصانع في أمور كثيرة"..ولاعيب أن نخوض في الأوحال، مع كثرة قانعة بالسير في الخبال..فاحتج تشيوان قائلا بأنه لايجوز لإنسان تنّقي من الأقذار أن يلوث نفسه، وإلا فالموت غرقاً في مياه جارية أفضل من حياة في طين راكد، وابتسم الصياد مبتعدا، يستدرك قائلا: "لكني كنت أغسل آنيتي في النهر وهو صاف، فإذا تكدّر ماؤه غمست في أقدامي." فما هو إلا أن ربط تشيوان جسده إلي أثقال وألقي بنفسه في الماء وغاص فيه، وهرعت لنجدته القوارب وألقي الناس في الماء بأوراق البامبو محشوة بالأرز عسي أن تتلهّي بها الأسماك عن الغريق، وصب البحارة أباريق الخمر في النهر حتي تسكر الحيتان (كذا قالوا في الحكايات) فلا تتكالب علي الرجل المسجّي في الأعماق..وكان اليوم، إذ ذاك، هو الخامس من الشهر الخامس في السنة القمرية..وبقي الموعد مناسبة تتكرر في كل عام، في الزمان والمكان نفسه، فيما أطلق عليه الناس "عيد قوارب التنين" وأصبحت المناسبة احتفالا شعبيا، باقيا حتي اليوم، لذكري الشاعر المنتحر تشيوان، الذي بقي مخلداً بمواقفه الوطنية وداووينه التي ظلت نسبة بعضها إليه محل شك، سوي قصيدة "الرحيل"؛ أما ديوان "يوانيو" (السفر البعيد) و"جيو كا" (الأغاني التسع) فيقول بعض من النقاد إنهما لايطابقان النمط الإبداعي المميز للشاعر. لكن أعظم ماخلفه تشيوان للإبداع في الصين هو ذلك اللون من الشعر الحر المسمي بـ "تشو تسي" الذي صار علامة علي أساليب كتابة الشعر الرومانسي في تاريخ الأدب الصيني، وهي كتابة قُدّر لها أن تكون ثورة علي الشعر التقليدي كما عرفته الصين منذ "كتاب الشعر"بقصائده القصيرة وإنشاده الجماعي، فجاء تشيوان ووضع خمسة وعشرين ديوانا أرست في الإبداع الشعري نهجا جديدا أتاح للشاعر أن يتغني بصوت فردي، عبر عشرات من الأبيات الطوال، بحب بلده وحبيبة قلبه، ومواكب الملائكة في السماء، وهو يخط في لوح الأساطير صور عذاباته ويستحضر شواهد التاريخ في أنشودة الألم، كأنه يؤرخ للبوح في هوامش الصفحات الرسمية؛ ليكتب ملحمة الأسي تحت عيون التاريخ (الشعر في الصين هو القانون وقواعد الحياة العادلة). بقي تشيوان أعظم شاعر صيني في الزمن القديم، لم تبتعثه الحداثة إلا مرتين؛ الأولي في أربعينيات القرن العشرين أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث استلهمت الصين أشعاره في المقاومة ضد اليابان؛ والمرة الثانية، كانت في موسكو عام 1953 م (بعد مرور أكثر من ألفين ومائتي عام علي وفاته) مع انعقاد مجلس السلام العالمي، إذ تقرر الاحتفال بذكري تشيوان، علي مستوي دولي؛ باعتباره أحد أهم أربع شخصيات ثقافية عالمية في تلك السنة. "الرحيل" تلك هي القصيدة التي استوعبت تجربة الشاعر وقد اكتملت في بناء فني من ذلك اللون الذي يسمي بـ "أشعار تشو تسي"، وتعد إلي جانب قصيدة "الأغاني التسع" (جيو كا) من أهم وأشهر الاعمال الشعرية، سواء في الأدب الصيني أو تراث الابداع العالمي، ومع أني اتخذت القصيدة كلها وحدة ترجمية متكاملة، لكن لم يكن مفر من بضع هوامش متفرقة، وكنت أفضل القول إن النقل الترجمي، هنا، ليس إلا محاولة لقراءة النص في لغته العربية؛ ذلك أن محاولة الترجمة الحقيقية ضرب من المحال؛ لغموض الدلالة وتباين التضمينات الأسطورية التي جعلت من فك رموز الكتابة الصينية شيئا يسيرا بجانب ذلك الحشد من الإحالات الثقافية التي يصعب إيجاد مكافئ لها في العربية، دعك من القصيدة وخذ العنوان نفسه في لغته الأصلية "ليساو"، فهو من الغموض بحيث يختلف في فهمه قارئان صينيان، أهو يعني: "مناظرة الأسي"، أم "مأساة الرحيل"، أم "اغتراب وأحزان" أم ماذا بالضبط؟ ولأنه لاتأويل بغير سند، فقد اخترت ترجمة المقطع الأول من العنوان، بدلالته المكثفة والموحية.."الرحيل" ..فهذه، إذن، محاولة للقراءة عبر اللغة الأصلية مباشرة، علي أمل أن يستوفي النقل مقداره الأوفي في ترجمات أخري أكثر وعياً وأقرب فهماً واستنارة؛ لأن تقاليد الكتابة الفنية والأدبية في الشعر الصيني القديم تلف المعاني بغطاء من أصداف أسطورية تستعصي علي المواربة وتتحدي التناولات المباشرة التي تتوسل بأوضح دروب الكشف وأقرب دوال لليقين.
»تشيوان« شاعر الصين العظيم
الرحـيـل
أنا ابن أباطرة الزمان أنا ابن الأب الأقدم "بويون" جئت إلي هذا العالم في اليوم الأول، من العام الأول، وكان مبتدأ العام ميمون الطالع، وأول الأيام نجم سعود كنت قد جئت في اليوم السابع ولمّا تطّلع الأب في وجه الوليد، وتأمّل الميقات والطالع وساعة الميلاد، ناداني بأجمل الأسماء، فكان اللقب: "تشنغ تسي" (المبدأ العادل) والكنية: "لين جــون" (ساحة البهاء) فكنت محبواً بأمجد الخصال، بيد أني آليت ألا أركن إلي مواهب السماء فاجتهدت في التخلّق بمجد الأمجاد، تلفّحت بعبق النسيم وعبير الورد، واشتملت بباقات زهور "شوليان" وكانت الأوقات تمضي كنهرٍ جارٍ، وخشيت أن يصير زماني الوقت الضائع فصرت أتحمّم بورود الفجر من حدائق "الليلك" وفي المساء أفترش زهور الليل باقات كانت زهرات ذهب عنها لحاء سيقانها زهرات تعرّت ولم تذبل طيلة الشتاء ومضت أقمار وراء شموس، دارت دوائر بغير انقطاع تعاقب ربيع من مخمل وراء خريف ذهبي، ولم ينقطع مدار الأزمان غير أني كلما طافت بي ذكري أوراق ذابلة، خشيت أن تهرم بك الأيام ياصاحب الوجه الجميل [..ياجلالة الملك] يامن أسرع المشيب إلي فوديه ألم يأن لك أن تزيل عنك الأوضار، وأنت بعد في سني شبابك؟ ألم يأن لك أن تنفض عنك كل تلك البقايا البالية، وأثقال التردد والحيرة؟ قُم إلي صهوة جوادك الجامح وارمح سريعاً، تعال؛ كي أقود بك المسير، وأشق بك من قلب الطرقات! ... ... أذكرُ بالعرفان أباطرة ثلاثة سطروا أذكي الصفحات وأعظم مآثر التاريخ كم طوّقت أعناقهم باقات من أطيب النفحات! كانت تلك أيام تسامقت فيها أكاليل الغار وتشابكت أغصان الورد مع أغصان تندّت، بشذا رياحين عطرة الأنفاس، كم توهّج سنا الملك الأقدس "ياو" في زمن "طانغ"، ولمع في سدة الحكم جلالة الامبراطور "شون"، وقد استقامت بهما السبل نحو آفاق وضّاءة بالنور وكم تغشّت الدروب ظلمة إبان حكم الطاغية "جيه" آل شيا واستبّدت بالأيام بشاعة الفتك والطغيان، في زمن الملك "تشو" آل شان، كلاهما حاد عن الدرب القويم وكان يظن أنه يسلك إلي أقرب طريق لكن المسار قاد إلي الهوان وتردّت في الحمأة الخطي آخر المطاف، كان ذلك مسلكاً أحقر من أن يطلبه الملوك ماكان أغناهم عن الانغماس في لذة الترف الأناني، قد سلكوا بالبلاد في طريق موحش بالظلمة دون أدني مبالاة كأن الضمير بضعة من حجر صوّان أتظنني أفْرَقُ من أن تحلّ بي النكبات؟ أتظنني أخشي من نازلة تتهددني؟ كلا، بل هو مصير دولة "تشو" مصير بلادك السائرة إلي حافة السقوط ذلك كل ماأخشاه! أتطلع إليك بأملٍ أن تتوثّب الخطي لتنهض بك بلادك من كبوتها عساك تقتفي أثر ملوك الزمان
وتلحق بمجد سبقك إليه الأباطرة كلّا، بل قد أغضيت عن مقالتي وصددت قلبك عن كلمة مخلصة فأصغيت إلي وشايات كاذبة وأعلنت عليّ سخطك وأرعدت فوق رأسي رعود غضبة مدويّة أعرف أن النصح مجلبة لسوء المصير وأن الإخلاص يجرّ علي رأس صاحبه الويلات حتي أغلقت دونك فمي..علي مضض، غير أني يعزّ عليّ أن تشتد بيننا الجفوة ويطول أمد الفراق وددت لو استطعت أن أستحلف السماء كي تشهد بصدق كلماتي إليك كل هذا لأجل خاطرك أيها النابه الجميل! .. (أما كان موعدنا أن نعقد قران الود وقت المغيب( (1) غير أن الخطي تحوّلت بك عن المسير وسط الطريق وكنت قد شققت لي عن صدر ناصع البياض .. )تكلّمت معي بكل صدق( لكنك نكصت عن وعدك وتنكّبت عن الطريق، فلا ضير أن تتقاطع بنا السبل ولن آسي إلا علي قلب حائر يتقلّب وسط الغفلة والتردد والهوان. ... ... بذرت حقول الربيع وروداً وتعهدتها برعايتي زرعت الزهرات السحلبية (ذكية الرائحة) في تسع أراضٍ فأثمرت بين الحقول أوراقاً فوّاحة العطر وجعلت أرقب الفصول أنتظر أوان طلوع الثمر، وكنت أري الأوراق ذابلة، وأقول لنفسي لا ضير إن مالت الغصون وسقطت الأوراق فسوف يأتي غد مزهر بالورد مونق الأغصان وافر الخضرة، لابأس إن ذبلت بضع زهرات مادامت الحدائق تعبق بالعبير مادامت الأفنان فوّاحة بالشذا والمدي كله نسرين وريحان والأفق عطر لايشوبه بخر الأنفاس وعطن الكَدَر ماأكثر النفوس الوضيعة التي
»تشيوان« شاعر الصين العظيم
راودها سعار الجشع والاستلاب فصارت تضرب في كل صوب ذاهبة وراء أطماعها ماأكثر من حملوا إصراً علي الناس وكانوا يسامحون أنفسهم وقد اشتعلت جوانحهم بغضاً وحسداً تكثّرت كثرتهم حتي صاروا قبيلاً تجمعهم أواصر الكراهية ويربطهم رباط من مكائد ذاك طريق لم أقصد إليه ذاك مبتغي عففت النفس عنه، لم يكن منال صولة الجاه عندي أملاً أصبو إليه، قد مرّت الأيام وأوشك أن ينقضي الأجل هذا أوان انقطاع أبهري، لست أحفل الآن إلا بأن أترك ورائي اسماً طيبا وذكري ومأثرة في مشرق النور، ألثم الزهر كي أرشف بقايا من ندي الفجر وفي آخر المساء أقضم بضع براعم ضئيلة نبتت بين أغصان الأقحوان ذاك هو مطعمي وشرابي ومادمت قد طويت علي النقاء كشحاً ومحّضت الإخلاص سريرة فما ضرّني لو عانيت سغباً واستحال الوجه مني صفرة؟ واستحال العنفوان هزالاً والإقدام ترددًا موصومًا بالخذلان، جمعت أهداب "الزنابق المغولية" وجعلتها سواراً من رياحين معطّرة بقطرات الندي وصنعت مئزري من أغصان ورود الـ "جيكوي" وقد حزمته بأوراق نباتات ذكية النسائم والشذا محوطة بأطواق من سداة الزهر وصرت أسلك طرق القديسين القدامي مقتدياً آثارهم حتي أنكرني عامة أهل هذا الزمان ولابأس إن تقطّعت بيني وبينهم السبل مادمت أقتفي أثر الفارس الأكرم النبيل "بنغ شيان"، ..(ذاك الذي انتحر غرقا، احتجاجا علي تجاهل الملك لنصائحه، حتي لاقت البلاد أسوأ مصير) > > > اعتصرني الحزن، وفاضت عيناي بحراً من أسي لما رأيت المحنة عاتية والبؤس شلالا جارفا يطوي الجموع قد عففت النفس وقصرت اليد عن مغنم وكنت أبذل لجلالته، مخلصاً، طوال النهار النصح والمشورة حتي إذا جاء المساء ألقي بي خارج القصر الملكي وطاردتني اللعنات ولامني اللائم أني اتخذت مئزري من غصن الرياحين وطعن فيّ الطاعن بأني أقطف الزهرات، هو ذا سبيل قويم لن أبدّله وشرف آليت ألا أبتذله ولست بنادم حتي لو انقضي العمر مائة ألف مرّة! لست آس إلا علي رجل ضعيف الرأي، رجلٍ تقلّد شارة الملك واعتلي صهوة الحكم وصارت إليه تصاريف أقدار الأوطان رجل لم يستقص أغوار النفوس ولم يحاول أن يتفهّم أحوال السخط الهادر طيّ الصدور لم يكن لي سوي وجه مليح هو الوجه الذي قيلت في ملامحه كل فرية؛ فأنا هو الرجل الذي أُلصقت به صنوف الفواحش ومنكرات الصفات فويل لي من شر الفتن السوداء! تلك ألسنة تلوك الأباطيل وأخلاط وشراذم تستمرئ الخوض في شتي الأقاويل، تسوقها أغراضها عبر كل الفرص السانحة مارقة عن معهود الأعراف المُثلي ترزح نفسي تحت وطأة الهم الثقيل وتتعثر بي الخطوات في دروب جامحة، إن ميتة تذهب بكياني بددا وتذوي بي كقطرة من ماء ذابت بغير أثر، أهون من أن أطل علي الدنيا بوجه وملامح باقية بين الأحياء، كم عافت النسور أن تجمعها وبغاث الطير سماء ذلك طبع معهود أبدا وليس كل الطبع سواء شتان مابين الدائرة والتربيع ومابين المربع والاستدارة كيف لقلوب في صدور من أغراض شتّي أن تتصالح؟ ليس سوي أن أصبر علي المحنة وألقي الذل وجهاً لوجه علي قارعة طريق ثم أمضي بقلب طاهر في دروب الاستقامة أترسّم خطي القديسين نادماً علي الطيش واقتحام الطرق المائلة هو ذا تتلبّث بي الخطوات ولاأملك، بعد أن طال بي الوقوف دهراً إلا الرجوع أستدير بأفراسي عائداً لعلي أهتدي نحو درب كنت ضللت اللجوء إليه منذ أمد غير بعيد أغذّ المسير إلي ضفاف النهر السابح وسط مروج من زهر "اللان تساو" وأركض حتي يلجئني الترحال إلي سفوح التلال التي عبقت أجواؤها بالرياحين، لم تجلب عليّ قصور الملك سوي اللوم والبغضاء وقد آن أوان أعود فيه إلي التجوال كأنني شريد مرتّق الأردية وضيع الأسمال أصنع من اللوتس مئزراً ومن الأغصان والأوراق أنسج ثياباً من ياسمين وقد ينكرني من يلمحني عندئذ قد تنكرني إذ تراني أنت في تلك الحال، لكني ماعدت أكترث لهذا مادام القلب ذكيًا والإخلاص محضًا كاليقين، سأرتدي قبعة عالية وأجعل مئزري كثيف الأحقاء قد يشوب الصفاء شيء من كدر ويختلط عبق الشذا بنفثات تتأذي منها الأنوف ..(ذلك هو المعهود في الطبائع) لكني سأحفظ بين جوانحي قلباً صافياً وروحاً طاهرة نقية، كنت لما تطلعت ورائي ونظرت فإذا الأفق فضاء مديد فآثرت أن أجوب الآفاق وأرتحل في المدي وقد أخذت للرحلة مؤنتها وأشرق البهاء وعبقت بالعطر الأجواء الناس في ألوان الهناءة سبل وطرائق ولست أري طريقاً تبتهج به النفس سوي النزوع إلي آفاق الأمل ذلك مسعي لا أحيد عنه وإن تبدد كياني، جاءتني أختي الكبري "نوشي" وجعلت تثرثر مبهورة الأنفاس كانت تلومني قائلة: .."حتي الملوك والأباطرة الذين بذلوا أنفسهم إخلاصاً للمبدأ ولمصلحة الناس ألقت بهم المقادير إلي البراري الموحشة إلي أن لاقوا حتفهم صرعي القفار (٢) لماذا تريد أنت الآخر أن تهلك نفسك؛ لأجل نصائح مخلصة؟ اذهب واقتل روحك، إذن مادمت تسجن نفسك في كهف من الإخلاص »تشيوان« شاعر الصين العظيم
قد سقطت أوراق ذابلة وامتلأت الأرض بكل صنوف الأغصان الفاسدة ولم يستنكف الناس أن يتخذوها زينة أزيان لكنك وحدك، لفرط سذاجتك تأبي أن تتجمّل بتلك الورود المتناثرة وتتخذ لك شارة من تلك الأغصان أيمكن أن تنزع سوء الفهم من باطن النفوس جميعاً بمجرد أن تهمس، بالصدق، في كل الآذان؟ وأنّي لنا بمن يقدّر حسن نوايانا ويبلغ خفايا الأفكار في طوايا الصدور ويحسن الفهم دون التباس؟ هم الناس، ياسيدي، وتلك أحوالهم يتحزبون ويتحالفون أشياعاً وفرقاً وفصائل يتملقون بعضهم بعضا نفاقاً وأنانية وهأنت وحدك والطريق مائل وتضرب عن قولي صفحاً؟".. علي نهج الحكماء مضيت واقتفيت أثر النبلاء من قديم لكن الطريق وعر والترحال أسي وضني وغوائل! كنت قد اجتزت بحر "يوان" وبحر "شيانجان" قاصداً أرض الجنوب أرتاد طريقاً يوصلني إلي الملكين القديسين: جلالة الملك "يو" والملك "شون"، كي أقص علي مسامعهما حكاية صادقة: .."كان خلفاء الملك "شيا" هم الذين استأثروا بأناشيد السماء (أنشودتي: "جيوبيان"، و"جيوكا") حتي تبدّلت الترا نيم السماوية علي أيديهم مباذل وملاهٍ فاجرة نكراء وصار آل "شيا".. .. الأبناء الخمسة الذين ورثوا الحكم عن أبيهم تتنازعهم أسباب الشقاق ولم تكن الغلبة، يومئذ، إلا لشقي جاء من أقصي الآفاق لكن الغالب لم يلبث أن وقعت في الحمأة رجلاه وارتد علي آثار الماجنين في مراتع الدعة والقصف وراح يطارد في الفلوات فرائس القنص من السبع والطير غير أن خاتمة المطاف لاتحلو لمن كان قد أفرغ في الكأس كل الأمسيات وكان أن احتاط به غريمه (أحد رجاله!) وأثخنه بالنصال واتخذ امرأته جارية له واستولدها ابنا قام من بعده ذا صولة وجرأة علي القتال وقد خالطه شيء من التبذّل والخبال حتي داخله من الصلف مدخلٌ أزاغ نفسه فقام إليه من أطاح برأسه وأوفي أمره إلي منتهاه ... ..
وكذلك اتخذ "شياجيه" طريقاً مائلاً عن جادة الصواب فأودي بالوطن وضيّع الآمال وكان الملك "جو" آل شانغ يلتهم ضميره كأنه يلقم جوفه قطعة لحم طاب مأكلها فأتخم حتي ذهل عن الملك وأطيح به عن سدة الحكم. وكان في سيرة الملكين "يو"، و"طانغ"، ما استقام به ميزان العدل وقد شهد التاريخ للملك "أونو" آل تشو بأبلغ شوهد الاستقامة وأسمي آيات الحلم فهؤلاء قد ارتقوا في مدارج النبالة واستوفوا مقدار الحكمة بتمامه كانت موازين السماء عادلة وشرعة ملك السماء ترفع إلي مصاف الحكم أقوم النبلاء لم تبارك السماء مكانة التشريف بالمُلك إلا لقديسين تحققوا بجلائل الخصال وقد طعنوا في السن وقاراً ورسخت في عراقة الدهور أقدارهم، تأمّلت سيرة الملوك الأقدمين وتفكّرت ملياً فيما ستؤول إليه عروش الأباطرة في السنين القادمة بعد أجيال وأجيال وعدت أنظر في أحوال الممالك الحاضرة في شئون الملك وأمور الناس فوجدت أن الأمر لم يستقم لمن لم يكن له العدل منهاجاً وأنه لاتفلح بين الناس سياسة إلا كان الخير رائدها قد آذنت ساعة الخطر وحان منّي الحين وأوشكت لحظة النهاية فعسي أن أستعيد ذكري الأماني ولاينتابني الندم ولاتلزمني كفّارة، لست أحمل حقداً أو مرارة لكن المسألة هي كيف يمكن أن تضع مفتاحاً مربعاً في فتحة قفل دائرية؟ كيف يمكن أن تضع المربّع داخل قناة أسطوانية؟! تلك هي العقبة التي انسحقت لها عظام القديسين في الزمن القديم
أنشج بغير دمع وينفطر القلب كمداً وأتحسّر علي زماني الذي لم يأت في أوانه ووجودي الذي لم يصادف مكانه أنزع عن الغصن ورقة ناعمة شفافة وأكفكف دموعاً تحدّرت في خطوط سائلة بللّت صداريتي ... ... ركعت فوق الرداء أتلو أسرار النجوي فرأيت ثمة طريقاً مستضيئاً بسبحات الوجود في خبايا كهوف الخاطر وقد تمثّلت لي العنقاء مركبة وكان التنين الأبيض هو الجواد المسوق والسائق فشددت الرسن محلقاً في ترحال لاتدركه البصائر كان بدء المعراج ساعة شروق الفجر منطلقاً كنت، من ذري تلال "تسانغو" ..(الأحراش الأسطورية) وفي المساء بلغت الرحلة أرض "شوانبو" الكائنة في بقاع تل "كونلون" وكم اشتقت أن يسنح لي الوقت, أنئذ، بالبقاء برهة والأرواح حاضرة والبقاع قدس أقداس تطوف به الملائكة والكروبيم غير أن الشمس كادت تسقط في بحر زوالها وقد صار المساء خلاء مديد الأنفاس فناديت الحوذي أن يتمهّل المسير لئلا يسبق بنا الترحال إلي حافة جبال الشمس حيث ينزل النهار إلي شاطئ المغيب كانت الرحلة بعيدة والطريق طويلاً والمدي يترامي في معراج الأعالي وأنا أبحث عن شمس الأحلام (وإذ طالت الرحلة..) أوردت الجواد/التنين أنهار الشفق فنهل من ساحل الغروب خمرا مصفّي كاليشب الرائق في سبائك جوهر أصيل عريق السنا، باهر الألق عقدت مقود الجواد في جذع أشجار الحور »تشيوان« شاعر الصين العظيم
وخصفت من الشجر بضعة من الأغصان والورق كي أحتمي من لفح النهار بظلٍ ظليل وأمكث، لبعض الوقت، راحة من عناء الترحال الطويل أوصيت نور القمر البازغ أن يرسل عيوناً علي الطرقات علّه يطوي العثرات من طريق السفر وأوفدت الملاك الموكّل بالريح إلي موكب القمر ومن كل عنقاء زوجين يرقبان الساحات ومكامن الخطر وأنبأني ملاك الرعود أن الليلة عاصفة والمسافر عرضة لأسوأ النكبات فأمرت العنقاء أن تشرع جناحيها وأن تطوي المسافات وتصبر الصبر الجميل وكان أن حشدت العواصف أرتالاً من سحابات ملونة فمضيت في موكب يتهادي فوق رفارف من قوس قزح وناديت حارس المعراج الأعلي أن يفتح لي بوابة السماء فجعل يتأملني طويلاً وهو واقف بالباب ثم أشاح وتجاهلني وكأن قد قام بيننا ألف حجاب فنظرت ورأيت عتمة الليل تزحف حثيثاً فوق الأنحاء فبقيت مكاني أعقد أغصان نباتات "اليولان" وأشبّك العناقيد بالأوراق وإذا الدنيا قد اختلطت فيها السخائم بأنقي الألوان وقد أبت العيون إلا أن تحسد مواطن الحسن وآلت الحجب إلا أن تخفي روعة الجلال ومواهب العبقرية والعنفوان ... ... مررت ساعة الشروق بعين ماء صافية في وادي جبل "كونلون" وقيّدت الجواد/ التنين في صخرة الجبل ثم التفتّ ودهمني الأسي إذ لم أجد أثرا لصبية حلوة وسط التلال فأسرعت الخطو تجاه قصر الربيع [القصر المسحور] وقطفت وردة من مزهرية اليشب السحرية فغرستها في عروة المئزر المجدول من عروق شجر "اليولان" وقلت في نفسي: "عسي أن أهبط بها وهي غضّة ندية فأهديها إلي البنت التي تهواها نفسي في دنيا العالم الأرضية ثم إني طلبت إلي "فنلون" [الملاك الموكّل بالسحاب] أن يسوق قطعان السحاب الموشّي ويدلني علي موطئ خفي هادئ أقامت به الأميرة "ميفي" (3) أميرة الدوامات الباطنية فحللت الزهرة من إزاري وأودعتها أسرار نجواي وتوسلت إلي "جيانشو" (أمين الوصايا) أن يقوم عني وكيلاً في إهداء الزهرة القلبية غير أن أميرة البحار الغارقة ازورّت عني وتجهّمت بوجه من جليد وفي هدأة الليل تسحّبت وقامت إلي فراش الفارس الأسطوري "هويي" ونهَضَت في الفجر إلي نهر "ويبان" فاستحمّت ونثرت شعرها في نور الشمس كانت مبتهجة بجمالها مستكبرة بفتنة أذيالها فسكبتْ فجورها علي من شاءت وهامت علي هواها في كل صوب وقد خلعت العذار، مدي الأيام في كل منحي وطريق كانت، بالحق، مليحة حسناء فاتنة القد حلوة القسائم لكن بغير حياء فتحوّلت عنها عسي أن أهيم بفتاة أخري، طفتُ في كل الأركان وتجولت في كل سماء (السماوات التسع) ومررت بكل قفر (الفلوات الثماني) وعدت آخر المطاف إلي عالم الناس والأشياء وصخب الأرض وزحام الدنيا ونظرت، فإذا أمامي قمة جبل "يوطاي" المهيب وفتاة حلوة من أرض "سونغ" كان اسمها "جيا ندي" لم أكن رأيت لشبهها مثيلاً في أي مكان فأوصيت طائر "الجن"(4) أن يخطب ودها ويطلب لي يدها فافتري كذباً، ووشي بي الوشايات وأفاض في التخرّص والبهتان وصار يحلّق في الأعالي وهو يثرثر وينشر في الأسماع أخباراً ملفقةً وراعني أنه لم يكن ذا فطنة ورزانة فعدلت عن الارتكان إلي نزاهة قلبه وداخلتني الريب والظنون فعزمت أن أنطق بكلام فمي وأفتح لديها طوايا نفسي كانت العنقاء قد مدّت جسور الود وأوصلت إليها الهدايا وهيّأت الطريق للخطو؛ قصْد أن يمضي السائرون لكني توجست من ملك الملوك "داي كو" وخلت أن النزاع بيني وبينه قائم لامحالة وفكرت أن أعتزل العالم في ركن قصي وخشيت أن تلفظني البقاع وتتأبّي عليّ الحنايا فجئت إلي هذي الأماكن أتهادي وأعبر في الأجواء مثل رفّة جناح هائمة في أركان الحكايا هي ذي فرصة قد حانت لايجود بمثلها الزمان؛ إذ تراجع الأمير "شاوكان" عن طلب يدي الأميرتين الجميلتين بأرض "يوي"(5)، قد جاء الأوان كي أتنسم هواء تلك البلاد البعيدة وأخطب ود ساكنيها لكن أين لي برسولٍ لاتعوزه الفصاحة أين بمن يفهم القصد والنوايا في زمن قد عزّت فيه المراسيل ونأت عنه عقول النبهاء، هذا أوان الانغماس والعكارة والدنس حيث يتواري النبل الجميل وتتسلّط عين الشر علي قلوب الناصحين الأوفياء هي ذي قصور الملك قد هدأت ساحاتها وتاهت في غفلات ليلها عقول النجباء ..(يامن تقيم بالقصر الهادئ، وقد وقعت رأسك في غياهب الغفلة، فإني..) برغم كل الإخلاص، فلن أصارحك ومع كل الوفاء، فسأكتم عنك البوح النبيل وأتساءل..هل سأظل أتعذب بالصمت هكذا، دوماً إلي الأبد؟ ... ... ذهبت إلي الفلكي قارئ الطلّسمات بأعشاب وصحائف سحرية ممهورة فوق أوراق البامبو عسي أن يحلل عقدة الحيرة ويكشف لي سر الفائت والآت وتساءل الشيخ دهشاً: .."هل يكون أساس عائلة طيبة إلا طرفين وثيقين أيكون ثمة فتاة مليحة ولاعاشق! هل بادت الأرض من الجمال »تشيوان« شاعر الصين العظيم
حتي تبحث عنه في هذه البقعة التي تحت أقدامك؟" وقال قارئ الفلك: .."عليك بطريق السفر، اصعد في الفضاء أو امض إلي آخر حدود الدنيا فالخير معقود لك أيمكن لقاصد الشرف العظيم أن يهملك؟ هل خلت الأرض من زهرة فواحة أو ريحانة غضة حتي تقيّد رأسك بحدود بلادك؟" هو ذا زمان تكاثفت فيه الظلمة وتداخلت فيه صورة الإنسان والشيطان فهل ثمة من يقدر علي التمييز بين تلبيس الجان وتجليات المَلَكْ؟ الناس في حظوظ الخير والشر حظوظ متفاوتة إلا رجال القصر الامبراطوري إذ تتباين هنالك أقدارهم عما هو معهود بين الناس يئتزرون بأحقاء مسربلة بالغموض وينعون علي الناس التجمّل بأكاليل من ريحان فهل يقدر، من كان يجهل تلك الأحوال، أن يعرف قدر الجوهر الكريم وسط كومة من رمل ونحاس؟ كلا، بل سيرتدون أحزمة من أديم وقطران؛ بزعم أن زهور "الديش" (ذكية الرائحة) لاتفوح بالعطر والشذا وأن للياسمين رائحة منتنة وللفلّ (هواجياو) عَرفٌ كريه يزكم الأنفاس! ... ... عزمت علي التصديق بما أوحاه لي العرّاف والنفس واجسة بالظنون وفي المساء، تجلّي لي الكاهن "شيان" وكأنما انفتحت طاقة في قلب السماء فتنزّل منها شيخ السحرة والعرافين فتقدمت إليه بتقدمة وقربان وتوسّلت مستجيراً بالأرواح القدسية وإذا بقبيل من الملائكة الأطهار من الملأ الأعلي يهبطون وتجلّي الموكب في الأفق المديد أجنحة مشرعة تحجب الشمس عن العيون وتطوي أجواز الفضاء وتقاطرت الصفوف لدي جبل "إيشان" وسط هالات تخفق بشعاع من نور وتفيض بنفحات من أسرار ملائكية وهتف شيخ العرافة والتنجيم بالبُشرَي زاعماً إن طريق الحظ السعيد مُمَهّد تحت أقدامي وأن الخير طافر فوق شاطئ الزمن الآتي وقال لي.. "إن الأماني إرادة ولست تبلغ القصد إلا بالاقتدار أرأيت مسافراً يطوي عثرات الطريق بغير رفاق! دونك سجلات التاريخ وسيرة الملوك والممالك فتأمّل، هل كان للأباطرة القديسين (من أمثال "شان طانغ"، و "شيا يوي" أن يقيما دعائم الملك إلا بمؤازرة سواعد مخلصة! (اعلم أنه) لولا رجال من أمثال: "آيين" و "قاو تو" ماكان للأباطرة أن يقيموا عروشاً مجللة بالزهوّ والفخار إن كنت تريد، حقاً، أن تنهج سبل النبالة والشرف فلماذا تبحث عن رسول يقوم عنك خاطباً للودّ ويحمل باسمك رسائل العشق وباقات معبقة بالمسك، مزهرة بالنوّار؟ ألم يكن "فو شو" عندما اختاره الملك "أودينغ" مساعداً له في شئون الحكم، مجرد نجّار بسيط؟ ألا تحكي لنا كتب التاريخ أن الملك "أون" لم يستنكف أن يضم إلي صفوف النبلاء "جيان تايكون" الذي عُرف وسط الناس بأنه ليس سوي قصّاب؟ لم تكن المواهب، يوماً، حكراً علي فئة ولا العبقرية وقفاً علي أصفياء حتي قيل إن الملك "هوانغ" قد اختار "نينغ تشي" رئيساً لوزرائه، ولم يخذله اختياره ولا خابت مشورته بل قويت به شوكة الممالك وهو، في الأصل، لم يكن إلا راعي أبقار! قُم، وأطلق العنان لمواهبك فمازلت في أول الصبا لم تنحطم فتوة شبابك ولا انحدرت في نهار أيامك شمس النهار واحذر أن يأتيك شروق الفجر بطائر زاعق وراء أستار اليوم البازغ )احذر أن يأتيك طائر الوقواق) فما أنحس يوم أطلّت تباشيره بصيحات جزع بائسة وماأتعس مزهريات ذبلت ورودها وانكفأت منها الأعناق تعالج سكرة الاحتضار." > > > لماذا ينكر الرائي وشاحاً مرصعاً باليشب اللامع (معدن الخلق الأصيل) فوق صداريتي لماذا تنكر العيون إكليلاً من الغار؟ هو الحسد، إذن، ونفوس مترعة بالكراهية ورغبة مكبوتة في انتزاع كل شارات المجد كي تهنأ العيون الوضيعة باختفاء الجوهر النفيس وراء الأستار هو ذا زمان الألف وجه الذي لا يثبت علي حال ففيم بقائي هنالك فيم أمكث وأتلكّأ ويطول بي التجوال؟ قد تبدّد شذا الوردة وصار الريحان حشيشة برّ كالحلفاء لِمَ صارت خمائل الورود المعطّرة حقولاً من أذفر الأغصان ؟ أهناك أسباب مخبأة طي الأسباب أم هي الدناءة والخسة والسقوط في رذائل الانحلال، كم حسبت أن بستان الورود ملاذ ومتكأ وقت اشتداد الأزمان فإذا هو لحاء كاذب يواري سوأة اللّباب وقد طرحت الأوراق نضارة المنبت وبهاء الألوان سابحة مع تيار الابتذال سادرة في موكب الزيف الكبير وقد خلع شجر الشوك العذار واختال تيهاً وتكّبراً وراح زهر "الجويو"(خبيث الرائحة) يزعم أنه فرع أصيل من عائلة الريحان فكيف يؤمل بأصالة غصن نَبَتَ من جذر المداهنة والرياء؟ أيمكن، حقاً، لرؤوس تمرّغت لدي أعتاب التزّلف الوضيع أن تنهض واثقة الأعناق طاهرة الجباه؟ أنا ماعدت أعجب للرياحين أن تبدّل عطرها وتنفر منها الأوراق ويزوّر العبير، هو ذا الياسمين والنّسرين قد أنتن ريحه وأبخرت منه النسمات لم يبق لي سوي ياقوتة في مخلاتي جوهرة صافية كعين ماء ناصعة البراءة كالجليد مترعة الصفاء سخية ككنوز وافرة ناعمة كالعطر فيّاضة كالسيل الدافق الغامر كل الأنحاء لم تتبدّل فيما سلف من الزمان باقية حتي يومي هذا كما كانت في كل الأوقات لم يبق إلا أن أحمل قلباً هادئاً
»تشيوان« شاعر الصين العظيم
وروحاً مطمئنة عبر ترحال بعيد أطوّف بحثاً عن فتاة ليست ككل الفتيات. تحت ضوء الياقوتة امتدّ النور في وهج الطرقات قلت لنفسي.. ..هذا أوان بدء الرحلة بين دروب الأرض ومعارج السماء > > > بشّرني الكاهن العرّاف أن الحظ في يمن الطالع وأن النجوم سعود اخترت في مواقيت الأيام يوماً ميمون الترحال تأهبت للسفر وأخذت مؤنة الطريق وملأت، بأشهي الطعام والأكسية، الرحال وصار التنين الطائر خيلي ومركبتي فأخذت بالأجنحة الملائكية مسرجة ولجام أفراس مزخرفة باليشب كانت، مطعمّة سيورها بالعاج سابحة في مواكب مطهّمة خضراء تطوف بي أقصي الأرجاء النائية حتي رأيتني بكنف العزلة سائراً في سبحات الوحدة وأنه ليس ثمة رفيق؛ لأن قلبين منشعبين لن يجتمعا في طريق فثنيت العنان صوب تلال "كونلون" وإذ طال بي السفر فقد جعلت أتأمل روعة المشاهد والرحلة تطوف بي شتّي الفضاءات والسحابات في مدارج الآفاق العلوية رايات تخفق في قلب التسع سماوات (أعلي سماء) والأجراس في عنق الخيل صلصلة ذهبية الصدي هذي رحلة انطلقت مع طلوع الفجر وبلغت تخوم الآفاق الغربية وقت حلول المساء، رحلة كانت تحوّم وراء السحب كعنقاء بأجنحة ملوّنة تخفق في الأفق الأعلي خفق الرايات ثم إذا بي علي ساحلٍ من رمال والرمل ناعم تغوص في الأقدام عند بحر من خمر مصفّي فأقمت لدي الشاطئ ألتمس هدأة الروح ورغد المقام عبرت بالتنين جسر المجرّة وإذ فاض النهر فقد طلبت إلي ملك الممالك الغربية أن ينقلني عبر الدوامات الفائرة فلما طالت الرحلة وتشعّب الطريق، وتوالت العثرات ناشدت الموكب أن يصمد للكرب ويطوي المشاق فما هو إلا أن اجتزنا جبال "بو جو" وحان لي الانعطاف إلي جهة الشمال ومررت ببحر "شيهاي" فبهرني منظر الموج المتقلّب في المدي والغمر لُجّي، والشطّ دون شاطئ كان الموكب صفوف خيل ومركبات وقعقعة سنابك ودوران عجلات هادرة في كل مركبة ثمانية أفراس مجنّحة تسوقها فوق كل فرس راية تنثني طي الرياح الخافقات في كل خفقةٍ جواد راكض بقلبي والبهجة في حنايا الروح أفراس جامحة في فلوات بيدي مقود لجام يكاد ينفلت والسعادة تجمح بي جموح خيل طافرة وكنت أغني "التسع أغنيات" (ألحان أسطورية) وجوقة الموكب تتراقص مع الصّدي وأنا أدق علي أبواب الزمان الحاضر أسأل أن يعيرني أسراب الفرحة الغامرة طوفان أفراس لاهية. أفراسٍ مجنّحة وجامحة بغير لجام أحثها أن تطوي المسافات ..هيّا، اركضن في الساحات واعرجن في ذروة الأعالي إلي المنتهي.. فما كدت أن أبلغ سماء الكون الزاهية حتي حانت مني إلي ورائي التفاتة فإذا بي لدي بلدتي وأرض الميلاد وكان الخادم مطرقاً في أسي والجواد يتعثر ويلتفت نحوي متردد الخطوات عائفاً عن الرحلة في فضاء الكون الفسيح منهزماً عن أن يطوي الطريق إلي آخر المدي المقـــطع الأخيـــر: ذاك هو الأمر الذي كان وانقضت المسألة! فما عاد وسط الممالك راغب في أن يستقصي حقيقة الأحوال وينصت ملء الآذان، ففيم مكابدة الشوق والحنين إلي تلك الأوطان؟ مادمت لم أجد يد النصرة تقيم للحكم الرشيد بناء مشيّد الأركان تصبوا إليه المواكب والأسفار، فلأمض، كما مضي "الرجل الذي انتهي مشواره"(6) وقد بلغ بي الشوط المدي وقاربت الخطي آخر المشوار ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهــــوامــــــش: (1) هكذا في الأصل. (2) الاشارة، هنا، إلي الامبراطور "كون" الذي نُفي إلي الأحراش لفشله في مقاومة الفيضانات. (3) أميرة أسطورية، قيل إنها ألقت بنفسها في النهر فصارت سيدة الأنهار. (4) طائر أسطوري، رمز الشر المستطير. (5) كان الأمير شاوقان قد فرّ من بلاده بعد اغتيال أبيه ولجأ إلي دولة "يوي" حيث أراد ملكها أن يزوجه ابنته لكنه آثر العودة إلي وطنه؛ طلباً للثأر وظل حتي استعاد الحكم ونال بغيته. (6) الاشارة إلي الوزير "بنغ شيان" الذي فشل في إقناع الملك بنصيحته، فانتحر غرقاً.