أحس الغلام بالرهبة، وجعل يصدع بالأمر وهو يختلس النظرات الوجلة إلى الأشخاص السبعة الذين انهمكوا في العمل.
سبعة أشخاص جمعت بينهم الجريمة، آلوا أن يسوموا الغلام ألواناً من الخسف! كانوا يزجرونه، ويزمجرون، ثم يطلقون أيديهم إلى رأسه بلطمة قاسية.
كان أبن العاشرة يئن، فلا ينفطر لأنينه كبد، ولا يرق لتوجعه فؤاد، بالرغم من وجود امرأتين مع الجماعة المجهولة الغاية و المقصد.
ولما انتهوا من حمل أثقالهم إلى السفينة، وصعدت المرأتان لآخر مرة، وهم الغلام باللحاق بهم، رفعه رجل من الرجال بخشونة، فألقاه أرضاً! وما هي إلا لحظة حتى رفع اللوح الخشبي الذي كان يصل المركب باليابسة.
وظل الغلام يحملق في الظلام فاغر الفم، لا يكاد يفهم شيئاً مما جرى.
و حاول أن يتكلم..حاول أن يعبر عن شعوره، بيد أن لسانه الجم فمه، فما نطق..إنما وجف قلبه ووجب، وشعر بالدوار .. والبوار!!
و شخص إلى قلوع السفينة المبتعدة! إنه وحيد-لم يعرف أحداً سواهم، مع أنه لم يشعر إلا بالنفور منهم! فما العمل؟ ليل مدلهم .. زمهرير .. وحدة مريعة .. جوع يضور !!
"اواه..." ندت الصرخة من صدره، وكأنه رجل يتضور من الشقاء ويتحرق على الرمضاء !!
ولم ير بدا مما ليس منه بد.. وأدار وجهه ومشى، وجعل يرقى الصخور ويتسلق المرتفعات..وهو كلما قطع شوطاً، خيل إليه أن الأرض تنبع من تحته!! وتعثر... فسقط ونهض، وأشرق بدمعة، ورقأ العبرات الهامية.
وترامت الأرض أمامه فجأة، والتفت خلفه فقيد لحظة قبس ضئيل يتراقص من بعيد-إنه ضوء المركب-ورفع يديه إلى السماء وهتف بصوت يقطع نياط القلوب: "أواه......"
وزأرت العاصفة، فاستأنف السرى، ومشى.. مشى...
********** كان أوروبا في القرن السابع عشر محصورة في إطار أغبر من الهمجية، وكانت الأحداث تملأ النفوس هلعاً، وقد اصطبغت إنكلترا بلون الدم، فسادتها الجريمة، وساهمت السلطة في البلبلة، فاتخذت من النكلة وسيلة لغاية، هي غاية الانتقام والاستعباد !!
وعرت ذوي القلوب هزة من الحزن، لما شاع من قيام العصابات بخطف الأطفال لقاء مبلغ من المال، وتشويه وجوههم، وتغيير أمائرهم بما يخضعون هذه التقاطيع لها من المسخ بالمشرط، ومن تمزيق أطراف العيون والأفواه، ومن جدع الأنوف والآذان.
كانوا يمثلون بالأطفال، حتى إذا ترعروا أمسوا كالمهرجين، يضحكون الناس بمنظرهم، ويبكون هم!!
وقد برع كثيرون في عملية التشويهـ ولجئوا إلى ضروب شيطانية.
في عهد الملك جيمس الثاني، نالت هذه الطغمة الشريرة الحظوة، فامتدت مشارطهم إلى وجوه طاهرة لا ذنب لها إلا نفور الملك وأعوانه من آبائهم..وقد طالما عبثت هذه المشارط في وجوه أطفال طمع زبانية البلاط في ثروة آبائهم، فعملوا على استئصال الوارث الوحيد !!
وكان الطفل متى نالت السكين وطرها من وجهه، تتغير معالم هذا الوجه !! والعجيب في الأمر أن الملك كان يعضدهم ويمنع أن يسيئ إليهم أحد. وكان هؤلاء الأطفال يفقدون الذاكرة مع فقدان المظهر....فكيف؟ ولم؟
ما أكثر ما كتب أصحاب الضمائر وقتذاك..ما أكثر ما كتبوا في ذم هذا ! ولكن .. ما أكثر ما فقد شجاع رأسه لأنه تجاسر فجهر بالحقيقة !!
كانت وحدة العمل تشج بينهم رغم تنوع أجناسهم، وتحث الواحد منهم على مظاهرة زميله، ولو ترتب على ذلك تعرضه للمعاطب..
فلما سقط جيمس الثاني وخلفه وليم الثالث في عام 1688، شهرها حربا عوانا على تجار الرقيق هؤلاء.. وطاردهم ونكل بهم، فتفرقوا شذر مذر، وهامو على وجوههم.
وكانت الشرذمة التي تركت الغلام وركبت متن البحر، إحدى هذه العصابات، فلما ضاقت في وجهها سبل العيش، وحاق بأفرادها الخطر، عمدت إلى الفرار مخلفة وراءها الفتى المسكين الذي شاهدناه يصارع الليل، ويقتحم الظلمة، ويخبط على غير هدى في تيه من الصخر والرمل والرد .... . . لتحميل الرواية كاملة أضف ردّا واضغط هنا