موعدنا في هذه السلسلة الطيبة مع أمهات المؤمنين، زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم..
نتعرف عليهنّ، نصل أرواحنا بهنّ..
ونعرف كيف ولماذا تزوجهن النبي، وما الحكمة من كل زيجة..
وأثناء مرورنا على ديار أمهاتنا، نتعلم كيف تكون الزوجة الصالحة مع زوجها، وكيف يقتدي الزوج الصالح برسول الله..
إنها دراسة لسيرة أهل البيت، نخرج منها بودّنا لهم وتعلّمنا منهم.. ولهذا ستجدنا مع كل سيرة
عطرة نستلهم العبرة ونستلهم العظة..
فهيا بنا معا نجلس في ظلال أطهر نساء الأرض.. أمهات المؤمنين.
نستكمل معاً بإذن الله ما بدأناه من سِيَر أمهات المؤمنين، وسنكون ضيوفاً هذه الحلقة على أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش..
هي زينب بنت جحشٍ أم المؤمنين، وأمها أميمة بنت عبد المطلب, عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وُلدت في مكة قبل البعثة بسبع عشرة سنة، وكانت من المهاجرات الأوليات، وتزوجت زيد بن حارثة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أن يطلّقها، ويتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، ولها من العمر وقتها خمس وثلاثون سنة.
قصة زواجها من زيد وطلاقها كما وردت في كتب السيرة
قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا}.. فالله عزّ وجل أَمَر النبي أن يتزوَّج زينب ابنة عمته ومطلّقة زيد بن حارثة، الذي كان يتبناه النبي؛ فأبطل الله عزّ وجل بها عادةً جاهليةً، وهي عادة التبني، وقد دفع النبي عليه الصلاة والسلام ثَمَن إبطال هذه العادة دفع غالياً؛ لأنه شيءٌ مألوف، شيءٌ دخل في صميم العادات والتقاليد، كيف يتزوَّج الإنسان زوجة ابنه المتبنى؟ شيءٌ لا يُحتمل، وهذا معنى قول الله عز وجل: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}.
أما عن قصة زواجه من زينب؛ فقد حكتها زينب نفسها..
قالت: "خَطَبَني عدة رجالٍ من قريش؛ فأرسلت أختي إلى رسول الله أستشيره.
فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: أين هي ممن يعلّمها كتاب الله وسنة نبيها؟
قالت: ومن هو يا رسول الله؟
فقال عليه الصلاة والسلام: زيد بن حارثة.
قال: فغضبَتْ أختها غضباً شديداً.
قالت: يا رسول الله! أَتُزَوّج ابنة عمتك لمولاك؟
فزينب من قريش، وقريش من أعظم قبائل العرب، تسكن في مكة، وهي سيدة القبائل، وهي بنت عمَّته، يزوجها لعبدٍ أسود؟! يزوجها لمولاه؟!
تقول زينب: وجاءتني أختي فأعلمتني؛ فغضبتُ أشد من غضبها, فقلت: أشدّ من قولها؛ فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.
عندئذ أرسلت إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ فقلت: إني أستغفر الله، وأطيع الله ورسوله، افعل يا رسول الله ما رأيت؛ فزوّجَني رسول الله زيداً.
ولكن هل استقامت الحياة؟
إن زينب ليست معصومة، ويبدو أنها ما تحمَّلت أن يكون زيدٌ زوجها؛ فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ}، في شأن زينب بنت جحش، جاء زيد يشكو؛ فهمّ بطلاقها؛ فاستأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلّم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك زوجك, واتّق اللّه".
تقول زينب: فطلّقني؛ فلما انقضَتْ عدّتي, لم أعلم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرني، كما جاء في الآية الكريمة: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا}.
فالنبي تنفيذاً لأمر الله عزّ وجل ذَكَرها، وبذلك تزوّج النبي امرأة زيدٍ بعده، وانتفى ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه, من أن الذي يتبنَّى غيره يصير ابنه؛ فجاءت الآيات بالتحريم، والانتهاء {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ}..
الوليمة التي قدّمها النبي في زواجه من زينب
كانت هذه السيدة المصون زينب, تفتخر أمام ضرَّاتها؛ فعن أَنس قال: "فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم, تقول: زوّجكن أهاليكن, وزوّجني الله تعالى من فوق سبع سماوات".
وكانت وليمة العرس حافلة؛ ذبح النبي صلى الله عليه وسلم شاةً، وأمر صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك أن يدعو الناس إلى الوليمة؛ فترادفوا أفواجاً أفواجاً, يأكل فوجٌ فيخرج، ثم يدخل فوجٌ آخر، حتى أكلوا كلهم، وجلس جماعةٌ منهم يتحدَّثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورسول الله جالسٌ؛ فلما فرغ النبي عليه الصلاة والسلام؛ أي أنهم فرغوا من الطعام، والصحابة مستأنسون، استمروا في جلوسهم, وحديثهم مع النبي؛ فقال الله عز وجل في هذا الموطن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}.
فالإنسان أحياناً يستأنس؛ لكن هذا الذي تستأنس به مُجهَد، مُتعب، أمضى ساعاتٍ طويلة في العمل المُضني، أنت مستأنس, أما هو فمتعب؛ فلا بد أن يلاحظ ذلك؛ فالإنسان الكامل ظله خفيف، هؤلاء مع رسول الله, وهو سيد الخلق؛ فاستأنسوا، وكان في حرج، والبيت ضيِّق، وزينب في مكان صعب؛ فلذلك قال تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}.
ونختتم حديثنا عن هذه السيدة الكريمة زينب بنت جحش، بأنها رضي الله عنها كانت أولى نسائه صلى الله عليه وسلم لحاقاً به إلى الرفيق الأعلى؛ حيث توفيت في عهد عمر بن الخطاب وصلى عليها. رضي الله عنها وعنه، وعن آل بيت المصطفى وصحابته أجمعين.
ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بآل بيت نبيه، وبسيرتهم العطرة ما حيينا؛ فالفضل كله بِيَد الله القادر على ذلك.. والحمد لله رب العالمين.. وإلى لقاء..