على منـْعَطف طُرُق ٍ وحُروب
إذا كان في عالَم الماعز تيسُ الطليعةِ يتقدّم القطيعَ ويكون بصرَه وبصيرتَه، وكذلك كائنات أخرى من بينها البشرُ، دائمًا هناك القائدُ والزعيم في المقدّمة والأمام. الأمر يختلف بالنسبة إلى الحُمُرِ الوحشية وهي تسلك طرقَها المتشعبةَ في متاهة الغابات والأنهار، حيث يكون القائد دائمًا في المؤخّرة والخلف، يشمل الجميع بعينه الشاسعة ورعايته.
لا أنسى ذلك المشهدَ الذي شاهدتُه صباحَ الأمس بفيلم تسجيليّ حين كان القطيع البَريُّ يمشي بمحاذاة النهر الأفريقي المندفع نحو الغيب، فجأة يقفز حمارٌ فتيٌّ مراهق إلى أعماق النهر وأمواجه المضطربة، لم يستطع أن يقطع إلى الضفّة الأخرى فجرفته المياه في مسيلها. قائد القطيع لم يستطع اقتحامَ النهر فقدَّرَ بلمح البصرِ المصيرَ الصعبَ الذي ينتظره ؛ لكنّه ظلّ يركض بمحاذاة النهر كي لا يغيب الحمار المراهق عن نظرته، رعايته ومحاولة إبعاده، حتى وصلا إلى منطقة في النهر أقل عنفًا واندفاعًا استطاع فيها الصبيّ أن يلوذ بالضفة المُعشبة حيث كان القائد في انتظار احتضانه ومعانقته، ذلك العناق الذي احتشد فيه كلُّ حنان الكائنات وهي ترى صغارها تنجو من محنة عصيبة أو من موت محقق.
جمعتُها كتابًا كتابًا في أكثرِ من مدينةٍ وزِقاق.
وزعتُها على الأرفف والفصول.
الفصولُ التي تُبحرُ في مسارها الفلكيِّ والكلماتُ تسافر في الأفئدةِ والمُخيّلات.
مسافاتٌ تقطعها الكلماتُ هاربةً من كَمينٍ هُنا وجيشٍ هناك، لِتحُطَّ على أشجار الأودية في البراري مستريحةً من سفر العصور، ممتصةً هواء الغاب والرّحيق، حالمةً بفجرٍ مُفعمٍ بأطفال وأناشيد،وحين يصعقُها الهلعُ في المنام، أسمع رعدًا تتداعى له الجدران، كما الجبالُ المجاورة.
مكتبتي التي توزعتْ على شتاتِ مُدن وقارّات، لم أستطع جمعَها من جديد، إلا في أحلامي المُصادَرةِ بدءَ انبلاجها
من شفافية العدم والضباب..
أشجارُ الغاباتِ العملاقة حين تموتُ بعد عقودٍ من الحياة المديدةِ المُزهرة، في بُرهة النهاية هذه تبعثُ باحتياطها الغذائيّ إلى جيرانها من الأشجار لتمدّها بأنساغٍ جديدة من الحيوية والاستمرار.
الأرقُ يحمل الجسدَ على موجِهِ المتلاطمِ في الآفاق مرتطمًا بالوجوه والأكماتِ مبعثرًا أوراقَه ووصاياهُ في الريح المُوَلْوِلَةِ في الكهوف
الأرقُ يحمل عِبْءَ ضحاياه مرتطمًا بسقف الفراغ
باللاشيء يهشّ غنمَهُ في براري العدمِ والغموض.
أضعنا كثيرًا من الأزمان بالتفكير في الشيء واللاشيء
بينما الحقيقةُ تسكنُ رأسَ هذه السمكة السّابحة في المحيط.
رائحة القهوة في الصباح تغسل بعضًا من كوابيس البارحة، وتجعل الظباء تسرح في الأرجاء
وحين يحضر الشاي الياباني يحملك بأجنحة الخيال إلى جبل فوجي متسلقًا سفحَه المترامي بالضباب نحو الذروة القدسيّة.
تحدّق في البحيرة الاصطناعيّة
وتسرح في براري الدّم
عيناها اللتان كانتا ولا أجمل
تبرقان بالأسى والندم
المرأة التي فقدت أبناءها في حروب همجيّة
لا تسمع – رغم صخب الأجنحة وهي ترتطم ببعضها – إلا صوتَ أعماقِها الجريحة
وهو يرتطم بأجنحة المغيب.
جَلس في الكرسيّ ذاته حين رحلت إلى بهو الغياب متقمّصًا نظراتها ومحدّقًا في البحيرة لكن من غير ندم ولا جراح
عدا الضياع في دوائر المياه والضباب وهي تتلاشى في المجهول والغياب
ناعسةً تسبح السمكةُ في الأكواريوم وبقفزةٍ رشيقةٍ تجدُ نفسَها في المحيط الهادئ.
شدو اليمام في الظهيرة الكاسرة
ليس إلا محضَ حنينٍ إلى الأحبّة والنبع.
نافورةٌ تضيءُ هذا الليلَ الموحشَ
كأنما نبعٌ جادتْ به الصحراء بعد طولِ جفاف
تُخفّفُ من هول الفقد
تُحيي الأملَ الغائم إلى قُبلة أو لقاء.
نظر إلى السماء
أمعن النّظر والتّحديق
لم تبادله المحبةَ بعد توسُّلٍ وخشوع
أحسَّ بنظرتها الغاضبة
أحس أنها ستتكسر شظايا على جسده السّابح في السديم
أدار وجهته نحو الصحراء المطرزة بأشجار الغاف والنخيل
أحسّ بالهدوء والحنان
بعيدًا عن سقفِ سماء خفيضة سينهار بعد قليل.
الصَبيّة، الطفلة حين نزلت الماء لأول مرة افترَّ ثغرُها العذبُ عن بهجةٍ وحبور
(إنها ليست لوليتا فليس مِن ملامح شبقٍ مبكّر بل براءة مطلقة).
ظلّتْ تسبح كتلك السمكة في الأكواريوم حتى اختطفها نسرُ الخيال محلّقًا بها إلى فضاءاته الشاسعة
توقفت الصبية الطفلة برهةً عن السباحة والحركة كمن يعود إلى ذاته البعيدة
حدّقت في أمها شجرتها الأرضية التي تلوذ بها من هجير الصحراء
في ذاتها البعيدة زائغةً كأنما تعود من أسفار نسرها السعيدة.
ألقى الصيّادون شباكهم على وجه اليابسة والرّمل
بعد أن غارتْ المياهُ في تضاريس الأعماق
اصطادوا رزقًا وفيرًا كعشاء أخير
قبل أن تلتحقَ الأسماكُ بأمّها الراحلة المياه
بأبيها الغائب البحر.
الجريحُ
يجمع أشلاء روحه
متذكّرًا أمّه
والغدير
فيطير على جناح العاصفة.
ظهيرة ضارية
لا يمامَ يشدو ولا عصفور يقفزُ فوق الأسلاك
سماء عاريةٌ من السحبِ والنجوم
محتقنةً
نذر انفجارِها يصل السّاكنةَ والجبال.
حطّتْ لتشربَ وتلتقطَ الحبّ المسفوح على حوافّ البركة
سليلة الشفافية والفجر
لمحتُ طوقها ساطعًا في ظلام الظهيرة
المطوقة لم تَنُحْ كما ناحت في باب الطوق وذرفت دموع العاشق المهجور
المطوقة التي ترشد البحارة إلى المنارة من غضب البحر
والعشاق من تيه الهواجس والكلمات
تستوطن المزارع والنخيل والجبال
كما المدن والثكنات
لتلطف ليل المكلومين والمحاربين قبل الذهاب إلى الحرب.
بالأمسِ لم أذهب إلى البحرِ
لإيقاظِ الأملِ الذي يُوشكُ على الرّحيل
القُبّراتُ تَنقرُ عَتبًا على نافذتي
والريح يصلُ نحيبُها إلى حوافّ المنزل
البارحة زارني البحرُ في نومي
بزبَده الهادر وموتاه
البحر الأسود في (فارنا)
أمْ بحر (صور) المُشرع على هذيان آسيا
حاولتُ شكرَه على الزيارة لكنّه تلاشى بسرعة الموت الصاعق والسّراب
والبارحة أيضًا جاءت الموجة المنفصلة عن بحرها
لتحيي أضرحة الحيّ البشريّ المتكتّل على حافة الهاوية
مطوفةً
في الحطام
هكذا
هكذا
حتى تلاشت في تدافع أمواج الأفق.
كانت الريح تعوي ذهابًا وإيابًا تحرث بحر العذيبة والساحل، كأنّما تروي قصص الرّاحلين منذ القدم
تحفر أسماءهم في الصّخور الغارقة في شَبْو الطحالب والماء
كانت السّاكنة تُصغي إلى الرّيح محدّقة في قمرٍ شاسعٍ في القلوب.
في ليالي بناتِ آوى الزاعقة
يهرعُ الموتى من أجداثهم نحوَ الضّفاف معانقين البحر والفضاء.
ثعالب الريح تُصغي إلى بشرٍ عابرين
صراخهم والصدى
بحارةً في القوارب
قراصنةً في السفن
بأسلحة وعزيمة
أشباح من عبروا في السراب.
ها أنا أعود إليكِ يا شجرة البيذام بعد غياب
لتقيني شمسَ الغضب القادمة من فجاجِ الصّخر
السماءُ الخضراء تسترخي على أغصانك بغزارةِ أحلامٍ شبِقة
والطيورُ تطوفُ وتقسم بظلال رأفتك الحانية
الليلُ يزحف بعتاده الثّقيل وأنت مستيقظة لينام ويهنأ الآخرون.
*إلى فاطمة قنديل*
تلك الذّبائح والأضحيات المعلقة من أرساغها في الأزقة والميادين العامة
الحيوانات الجاموسية الصغيرة والكبيرة (البتلو والكندوز)
الأكباش والماعز الجبلي الذي كان يتسلّق الذّرى والوهاد
البشرية المتدفّقة محدقةً في الذبيحة التي ما زال دمُها ينبضُ في العُروق
الذبائح أسئلة الوجود المُقلقة
الحقيقة المطمورة تحت الأقدام
وسطَ زوابعِ الزحمة والغبار.
في الساحل والماء
حفروا حفرةً لذويهم
شهداء اللقمة والبحر
مقبرة في المياه
بعد قليل
ستُبعث سارحةً في المحيط
مع حيوات (الغّبة) والقاع. تغدو وتذهب متعثرةً بحنينٍ إلى الأهل واليابسة.
ذئبٌ وحيد
في برّيّة الجبال
تتقاطر في نومه المؤرَّق المنازلُ
والدّيار
ديارُ الأحبة وقد عصفَت بها المنايا والخراب.
سربُ الوعول الذي كان يسرح في دمي ودم السلالة أحقابًا وسنين
يعبرُ في نومي تحتَ قصف الحَيرة متأمّلًا ذاته في مرايا الجبال
التي هجرتها شعوبُها وأضحت مسرحًا لليباب
متأمّلًا ذاتَه المكسورةَ في طَور الأُفولِ والمحاق.
ذئب حميد الهلالي
(وهو يقظان هاجعُ)
تلهثُ الفلواتُ والأعداءُ المُدجّجون في خياله
مثل رعودٍ قادمة من جهةِ الغيب وهو يقظانُ نائم بين أشداقِ الرّمال والعواصف المترحلة في السهوب.
أنا من أماكنَ متعددةٍ يا عزيزتي
من فرط ما أدمنتُ الرحيلَ بين المدن والمحطاتِ التي تحمل أحلامَها الصواعقُ إلى معترك المغيب والبحار
لكنّ ولادتي ذات حربٍ كانت في تلك القرية بين أضلاع الضّجر والأبديّة
قريبًا من برج (صَفِيّة) حيث يصْعَد القمرُ مشعًّا على أمداء المقابر المكشوفة والنّواح
هناك وُلِدتْ نجمةُ الصبح ثم هاجرتْ إلى الأقاصي المُستحيلة والضفاف
لم تكن هناك شهادةُ ميلاد لي ولا للبلاد
إلا ما كتبَ الأهلُ على عتبة الباب
على ضوء هذا القمر الدّائر في أفلاك الذّاكرة والمكان.
يحدّق الوعل مذعورًا في أعالي جبال (خَصبْ)
أو في أعماق غابة الأمازون
الوعلُ في وحدته المُضاءة بالرّهافة والعشب
والأعداء في جموح الغرائز والافتراس.
صباح الخير يا وعلةَ رؤوسِ الجبال والوهاد والسّفوح
يا امرأةً ولدت من شظية أو غيمةِ صحراء تحلمُ بالدنوّ من البحر
صباح الخير
يا رفيقةَ درب التائهين والنجوم
تويج الزهرة وهو يتفتح في ضياء الفجر
زهرة العدم والحب
عن أي معركةٍ وفي أيِّ بلد سيروي هذا المصور المتجوّل في غابات الحروب من العراق وسوريا واليمن وحتى سراييفو وأوكرانيا، ذاكرتُه المفعمةُ بالخطر والجراح، تعصف به مترنحًا في كوابيسِ الليل والنهار
أطفالٌ يرفسون في برك الدم، أشلاءٌ وجماجمُ وأيادٍ مقطوعةٌ تتبعثر في جنبات الشوارع في المدن والأرياف
أنينُ سماء عاريةٍ واحتضارُ أرضٍ مبقورةِ الأحشاء
عن أيّ فصلٍ سيروي من فصول حربِ البشر الأزلية ؟!
قطرة الدّم الأولى
نفحة الحياة حين انفجرت من رأس هابيل
استحالت إلى ينابيع وأنهار فبحار ما زالت تتدفق مزبدةً بالغضب والشّبق مُترحّلة في الأزمنة والمدائن والقرى الجبلية مندفعةً إلى غيب الجنان الموعودة والجحيم.
اليوم رحل الببغاء الذي جلبه (عزان) من (سوق السيب) إلى جوار ربه
حزن عليه (ناصر) أكثر وتحوّل البيت إلى طقس جنازاتٍ ومأساة
أقسمتُ أن لا يدخل البيتَ طيرٌ أليف أو حيوان
كلّ موتٍ وغيابٍ يستدعي البشرية والفناء
ونحن في وضعِ الغريقِ المتمسك بطحالب المياه والنجاة.
في القفص المُشرع على الأفق
لا تحسّ بذلك الغياب الذي يتركه طائرٌ أو إنسان.
لقد حلّ مكان الببغاء روح الملاك
ملأ الفراغ، ملأ بالعذوبة الجهات
رفيفُ أجنحة على أديم بحر عمان.
لم يبكِ الصبيّ لصدع الفراق
لقد أفعمتْ روحه طفولةُ الملاك.
أيّ مفارقةٍ ساخرة مبكية لدعاوى الإنسان المتفوّق والمُصطفى من بين حيواتِ الكون الشاسعِ القِدَم والأطراف، وكائناته؟
كان يحدق في الموج المتلاطم على صخور الشاطئ
فوق الزَّبَد تحلق طيور كاسرةٌ
وكأنّما ينظر إلى الربّ والملكوت
وبقفزة النهاية إلى العدم الأزرق
عانقَ الملكوتَ والخلاص.
هذه الطيورُ التي لا مرفأَ لها ولا جزيرة، تحلّقُ عاليًا في هباءِ المغيبِ حالمةً بالوصول إلى الوطنِ المستحيل
والمساء يطوي مراسِيهِ نحو الغروبِ الرمضانيّ
أتأملُ من نافذتي في الشجيرة الوحيدة في الفضاء الأجرد، في انبلاج النِّعمة بألوانها المُشعّة التي يغلبُ عليها النِّيليّ في هذا العصفور الصغير يتقافزُ مع قرينته بنشوة يصدح وكأنما سِرب بلابلَ وجنان يُحيل الفضاءَ المُكفَهِرِّ إلى دهشةٍ ونَغَم…
رسولُ الفرح يُحركُ الزمنَ الراكدَ
يَدلف الأعماق.
في هذا المساءِ الكئيب أتذكركَ يا خيري منصور، يا كلَّ من افتقدتُ نساءً ورجالًا ولدَتْهمُ النكبةُ ذاتَ مساءٍ على قارعة الطريق ورحلوا.
مزاجُكَ الأكثر حِدّةّ من بروقٍ غاضبةٍ
توحدتَ مع العزلة والليل وجافيتَ نهارَ القطيع.
عشتار زارتك في النوم فاختفى غضب الآلهة في سماواتها وأرعدت بالفرح،
تمضي في طرقاتِ عَمّانَ القديمة وحيدا حتى تصلَ إلى مكتبة (أبو علي) آخر حراس الورق والحبر.
تماما كما ألفَيْتُكَ في القاهرة، تتسكعُ في زحمة (مقتنيات وسط البلد) متذكّرًا سنوات التّلْمَذَة السعيدة حتى مقهى (ريش) حيث كنّا نجلس قريبًا من (أبو مجدي) صاحبِ المقهى العتيد، تُوَجّهُ دفّةَ الكلامِ الذي يتدافع زبَدُه نهرًا جريحا يتدفّقُ دمُهُ على راهنِ العالَم والتاريخ.
ثم نفترق على إيقاع المكان المُوحِش،
أنا إلى حيّ الدّقي أذهب
وأنت إلى شقّتكَ التي اخترتَها في الزقاق القريب.
كان مطرًا غزيرًا ذاك الذي تساقط على جسدي السائرِ في نومه وكأنّما على سطح البيت القديم بين آكام النخيل والضباب…
وبقفزةٍ ضوئيّة تترحّلُ الأحلامُ إلى مشاهدَ غريبة في أغوار الذاكرة، وادي (لوانقو) في أدغال أفريقيا ربما، أو قريبا من لهب البراكين في أيسلندا المتاخمة لجبال القطب المُثلج على مدار العام، حيث حيوان الرنّة والذئاب تتآخى في عزلتها مع بشرٍ غارقين في الزّمهرير.
على أبواب صيف عُمانَ والجزيرة تَكثرُ الأحلامُ السابحة في المطر والسديم.
لا ندم لا حزن لا إقامة ولا رحيل في الزمان والمكان
لا مستقبل ولا ماضيَ لا حبَّ لا كراهيةَ لا ظلامَ لا نورَ لا لا لا لا… إلخ
إنه الكائن وقد بلغَ به شطحُ النشوة المستحيلة خارجَ كينونة ذاته وخارج كينونة التاريخ.
في هذا المساءِ قبل صَيحة الإفطار التي يُطلقها مؤذنون وأطفال، أتذكر تصاعدَ الحركة في القاهرة.
انقضاضَ المهمشين على الموائد الرّمضانية بعد نهارٍ شاقّ (جرجس وفتحي ذهبا إليها ذات دهرٍ في حالة من جوع وترنّح).
أُلْفةَ البشر والحيوان في الفضاء الطلق والمُلبَّد بالسُّخَام.
جمالَ القاهرة في الحسين تحت جبل المُقَطَّم، ذلك الجمال الغارق في غموض المغيب.
بهجة الليل المقبل بالصخب والحنين.
المغادرة الشفافة والحزينة
أمارسها اللحظة باتّجاه سرور بين الفجاج والأودية التي أضحتْ جافّة عكس الأزمان الخوالي حيث الطفولة تسبح في السديم بين السماء والماء في ملاعب الأحلام والأبديّة.
في هذه اللحظة من مساءٍ بعيد، وكأنّما خارجَ الزّمن والذاكرة أحلمُ بتلك الجزيرة التي قذفَتْها خرائطُ الجغرافيا إلى ذلك الحِزام الناريّ في المحيط الهادي، كما قذفتني في هذا الصقْعِ الذي كَفَّ فيه الذئبُ عن التنزّه في فَيَافِيهِ الأثيرةِ، والثعالب انطفأتْ في أحداقها الرغبةُ والبريق.
الكمالُ والخلودُ من الصعوبة بمكانٍ إطلاقُهما على الصنيع البشريّ، ليس فيما يخصّ أعمال أمثالنا؛ وإنما تلك التي شطّت في أُفقِ العَظمة الملحميّة وغير الملحميّة.
هذا الصنيعُ الفاني المجبولُ من طينةِ العبورِ والزوالِ مهما بقيَ على وجهِ البسيطة وطال أَمدُه.
ربما ألمحُ أحيانا عَظَمةً ما بتفاصيلَ وحيواتٍ يومية غير مرئيّة تجود بها الطّبيعة والبشر أكثر مما أراها في صخب البطولات والملاحم الكبرى. وانعطافاتُ الأدب والفنّ والفلسفة في هذا المنحى كانت واضحة وحاسمة (على عكس الإعلام بصخبه الحَدَثيّ اللحظي) فلم تعدُ الكتابة العظيمة رَهنًا بتحقّق معجزاتِ الآلهة والأبطال الاستثنائيين في الحياة والتاريخ وإنما الأشياء والعناصر الهامشية التي بالكاد تسترعي التفاتًا وانتباهًا، تلعب نفس الأهمية وأكثر في الصنيع الإبداعي والجمالي الكبير.
صار النقصان لا الكمال لُحمة الإبداع وسُداه.
وصارت الهشاشةُ والضعفُ لا القوة والصلابة، وقودًا للفنّ والكتابة.
رحلتْ وفجرُ العالم يضطرمُ.
لن تعود ولن يعود ذلك الشغف ولا ذلك الاهتزازُ اللطيف في ذؤابات شعرها والشجر المحيط.
في مراحل الانحطاط القصوى مثل التي يعيشها العرب والشرق عامة تنعدم كليا الثقة وتتلاشى، ليس ثقةُ الأفرادِ والجماعات ببعضهم فحسب، وإنما ثقةُ الفرد بنفسه وثقته بالطبيعة بِصُعُدِ تجلياتها الروحيّة وسموها التي تشكل ملاذًا ومهربًا، حيث تتحول الغابة إلى مقبرة شاسعةِ الأفق، والبحرُ إلى أشلاءِ غرقى وأحلامٍ مجهضةٍ يتقاذفها عبثُ الموج وغضبُه… تحت وطأة الانهيارات القِيَميّة الكبرى: إنه الغروب النهائي للكائن المحطَّم يشبهُ الأثرَ الذي تُخلّفه حروبُ البشر والطبيعة العُنفيّة كالزلازل والفيضانات والأسلحة التدميريّة الكبرى، ومن غيرها أُنجزت بضراوةٍ مهمة اجتثاث جذور الكائن، فحوىً وروحًا وأحلامًا أذرتْها عواصفُ الاستبدادِ والفساد الهوجاء.
ابتسامتها الجذلى من خلف قناع كورونا لم تُبطئ سهامَها في سرعةِ الوصول إلى قلبي، كتلكَ الابتسامةِ الخجلى التي أرسلتْهَا بدويةٌ من خلف البرقع والتميمة قبل أزمانٍ وأحقاب، ووصلتْ بشفافيّةِ النهر إلى مصبّات الأعماق.
اغتيلتْ الصحفيّةُ الفلسطينيّة ورحلتْ إلى بارئها شهيدةً فانبرى ذلك الصنفُ من الأدباء العرب مدجّجين كالعادة بالخواء اللفظي وافتعال المشاعر، إلى ميدان المعركة المُلتهبة بوسائل التواصل والخطابات.
الاغتيال الصّهيوني سيكون مضاعفا تحت وقع هذه الأقلام التي احترفت المزايدة الشعاراتية على القضية والعدالة المنكوبة منذ أربعينيّات القرن الماضي وما قبلها وبعدها، حيث قطارُ المآسي العربية برؤوسها المتعددة لا يلوح بنهاياته طيفُ محطاتٍ قادمة.
اليمامة الوحيدة
التي حطّت لتشرب من ماء البركة أعطت للمكان الموحش بهاءه
ما إن حدّقت بها العيونُ البشريّة فرّت مذعورةً نحو البعيد
ربما إلى حقلٍ أو غابة.
دمعتْ عينُ الطائر المهاجر
حين تطاولت عليه المسافة وامتدّت إلى اللانهائي المفزع خلف الآفاق والسراب.
القَدم التي طوت أصقاعًا وقارّات
شوارع وأزقةً وأرخبيلات
تتأمل مسيرتها في ضوء الغروب البحري
أو قبله بقليل.
إلى الوالد محمد بن سعيد المخلدي
رحلتَ أخيرًا بعد عُمرٍ طويلٍ من الشِّعرِ والذاكرةِ التي تلمعُ في ليل الغرباء
من ركنِ المكتبة العامة بقَطَر إلى جبال سرور حين كان العمانيون يتعجّلون الخُطى إلى المنفى والهروب، وكنتَ تقرأُ الأملَ على منحدرات مصائرَ شاقّة.
والكتبُ وهي تُؤنسُ مَسراكَ في اليقظةِ والنوم
كانت رفيقتكَ المُثلى في الدروب والعَتمات
في ليالي الوادي بِقريتكَ الأثيرةِ
كان صوتُكَ يعبُر العصورَ مترحّلًا بين ضفاف الأدبِ والروحِ العطشى إلى الكشفِ والنور
روح الطفولة التي غادرناها إلى الأبد كما غادَرْتَنا البارحةَ في (الحبيك) التي شَهِدتْ ميلادَ البهاءِ والنيازك
لا أقول وداعًا
أيها المتجدّدُ دائما في ذاكرةِ الأفلاجِ والجِبال.
على سفح جبل (مونمارتر) حيث كنيسةُ القلب المقدس وبوهيميّة الفن والحريّة، تلامس أبراجَ السماء
يمتد حيُّ (بيغال) الذي تكتسحُه أفواجُ الصاخبين وقد طوّح بهم الخدر إلى الأقاصي والهاويات
(مولا روج) بمراوح الأسطورة يتسلّقها سكارى وعاهرات
سيركُ المتعة والأرواح الشريدة باحثة عن العزاء والإله
ويمكنك من شارع الشهداء حيث كنّا نسكن أن تسمع غناء المساء والليل وتصغي إلى أنين المركبات معبأةً بالأجساد والفروج
الزهورُ تنبت حتى في المزابل محتفظةً بأريجها والرحيق.
الطقس غائمٌ وحنونٌ على غير العادة في حمأة هذا الصيف القاسي
لأنّ نظرتك التي خلعت على الكائنات بهاءها الزاهي
يشبه خصرك المتماهي مع الحديقة المفصولة بجدول المغيب.
أتضور حنينًا إليك
يا فاتنتي
رحيلك أبهظَ كاهلي بحمولة الغياب
ونجمة الصبح التي كنّا نتأملها من الشرفة في ليالي الربيع المزهر
لم تعد في مدارها
لقد اختفت
واختفى الصبح والمدار.
أحرارًا كنّا
لسنا أولياء أمور أحد
الحب وحده وليُّ نعمتنا
والشُهب تسَّاقط في ليل المغدورين على الأبواب الملكيّة.