® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11575 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2021-01-18, 2:13 pm | | @hassanbalam #سيف_الرحبى
نحو سماء الجبل الأخضر {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ، قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ}. (سورة هود الآية (43)
أرقب غيمة تتشكل في سماء الجبل الأخضر أرقب بدء ولادتها الأولى، وهي تمتطي سماء مشمسة زرقاء تشبه سماء المتوسط، بأشكال مختلفة، تتشكل حيوانات ووجوهاً بشرية عائمة في شعاع الأفق، بألوانه المتداخلة في هذه الظهيرة التي ستكون غائمة على الأرجح بشمس محجوبة تائهة في عباب السحب والألوان وربما ثمة أمطار قادمة ستعصف برؤوس الجبل وواحاته المعلّقة في المدرجات الحجرية، وبطاحه وسيوحه. الغيمة التي أرقبها وهي تولد وتتشكل على هذا النحو الجمالي، في هذه الهنيهة التي تكتسب فرادتها إثر صعودي قبل ساعات من العاصمة مسقط البالغة الحرارة والرطوبة المصحوبة بتيارات الغربي اللافح. من النادر أن ترى في هذه البرهة من الصيف الكوروني قطعة سحابة تائهة في السماء المقفرة، وإذا دفعت عواصف الصدفة غيوماً وسحباً في ذلك الفضاء، فتنعقد ألويتها على شكل غبار من الحرارة والرطوبة، حتى يضيع أصل السحب والغيوم في خضمها المستبد. أرقب أمام ساحة البيت المستأجر، بفرح غامض، الغيوم المتدفقة والمنذرة بالودْق في واقع المساء القادم وفي الخيال المترحل دوماً والأحلام، بينما قطيع ماعز وخراف جبلي يتابع خط سيره متسلقاً تلالاً وشعاباً، يقضم الشجيرات المتناثرة في الدرب والعشب، متوجها من غير انحراف عن الطريق كمن يعرف هدفه المتجه مباشرة إليه.
أطلق سراح النظر إلى آخر المدى السديمي للقمم والتلال والأكمات، متناسلة في مجاهل الغيوب والكهوف.. أرى قطيع الماعز يتسلق التلال المجاورة قريباً من ذروة النهاية التي يمتطيها تيس الطليعة بقرونه الكبيرة، دائراً رأسه في الجهات الأربع كمن يستكشف مجهول الخطر والمفترسات التي تختبئ متربصة في الكهوف والمغاور حتى وصول الفريسة التي ستقاوم برهة من الزمن حتى تستسلم مُرغمة لظلمة الأنياب والأشداق. التيس القائد الفحل، لابد، أن يعطي إشارات خفيّة لقطيعه بأمان الوصول وضمانه أو العودة والهروب إلى السفح من جديد..
في جو هذا الهدوء المسالم من غير ريبة، كما يتجلى، ينبلج فيلق غيوم متشحٍ بسواد كثيف، ينقض على سهل (الفياضيّة) متسارعاً ينزل حمولات ودْقه وبَرَد حصاه على تلك القرية الصغيرة الوادعة، ولا يصل إلى السهل الذي نعيش، إلا الشآبيب والفيضان الأقل غزارة من مركز نزول النعمة الراعدة. وبالفجأة ذاتها يتبعثر (الفيلق) في جنبات السماء وينجلي عن قطيع ماعز يتقدمه التيس بقرونه الكبيرة الراسخة في الجسد والمكان.
مشيت خطوات حافياً على الأرض التي تتخللها برك المياه والأعشاب، مغيراً مكان المراقبة البريئة، من ساحة البيت، إلى ظلال شجرة علعلان (عرعر) وسط السيح الذي يكثر فيه هذا النوع من الأشجار المترحلة عبر العصور، أشجار قديمة تحدّرت من ذلك الزمن البعيد الموغل في بعده حين كانت الأنهار تجري والبشر والحيوانات يعيشون النعمة بتعاقب الفصول والأحلام. جلست محدّقاً إلى الأعلى، في مرور السُحب والحيوات في أنحاء سماء ما زالت شآبيب المطر تتدلى من بين الغيوم وخيوط الشمس الحنونة كعناقيد ناضجة تتدّلى من كروم الأساطير. وثمة غيمة تشكلت على هيئة وحش غائم الملامح والقسمات، تنقض على سحابة بيضاء تشكلت هي الأخرى على هيئة فريسة تنتظر، مسلّمة أمرها لقدر البلع والالتهام.
بدأت الغيوم هذا اليوم في الولادة والتشكل، لكنها لا تشبه غيوم الأمس الجامحة، إنها كسولة بطيئة، لكن ربما أحلام البشر والشجر والحيوانات المضروبة بأشباح الجفاف والأوبئة تجعلها تفذّ الخطى مثل أحصنة بريّة، صوب حلبة التكاثف والنضج والاسوداد الراعد المسبوق ببروق خاطفة صاعقة، لتنزل حمولات مطرها المتخلص مع دنوّ المساء ونزول الليل بسكينته الجنائزية التي تمزّقها جمال أنغام الديمة المدرار السكوب.
كم كان ذلك اليوم، ذلك الشهر، وتلك الأعوام، نضِرةً مزهرةً في المشاعر والذاكرة، حين كانت العائلة تجتمع على الموقد في الفضاء الطلق، وقد التأم شملها بأفراح وضحكات عقب طول غياب بسبب الفتن والحروب: يتذكر الشيخ الجبلي الوحيد، بعد أن طاله البلى وعبثتْ به والمكان السنون.
رعدُ الذاكرة يهمهم في أعماق الشيخ أكثر علواً من رعد سماء توشك على الوّدق والانهيار.. والبروق في جنبات ضلوعه أكثر حرقة من تلك البروق الأزلية والرعود.. إنها النهاية التي لا تقبل العزاء، ولا يخطئها حدس المجرّب العجوز.
فرس النبي، التي كنا نسميها في طفولاتنا البعيدة بعُمان (الشمبعانة) تمشي الهوينى في فمها الفريسة تتسلّق بها الجدران والأعمدة، تسلّي وحدتها بأنس الكائن الصغير المعّذب، قبل الإجهاز النهائي عليه، كي لا تسقط في فراغ ما بعد الافتراس. سُميت أيضا بـ(الناسك) بجسدها المستطيل، وقائمتيها الطويلتين، بما يشبه الخشوع في حركتها الأقرب إلى التأمل والعزلة. المفارقة تكمن في أنها كائن عنفي لاحم، الأنثى خاصة، فحين يعاشرها الذكر في موسم اللقاح، فعلى الأرجح لا يستطيع الهروب الغريزي، حيث تفترسه بلمحة البرق، فلا عزاء ولا فكاك.
أمشي أمام البيت في الطريق المؤدي إلى منحدر أودية وصدوع لا مياه فيها، لكن نضارة الأشجار والعشب تشي بحدوث تساقط الأمطار ونماء المكان. أصوات صادحة للعصافير والبلابل الصغيرة، ترف على الأشجار البريّة، مثل البوت، والعلعلان و«الشخر» الذي يُعتصر في الأزمنة الآفلة، لاستخراج الأدوية والعلاجات لأمراض بعينها، مثله مثل الشوع والحنظل الشديد المرارة، والحرمل، يستخرج منه الأدوية والترياقات ذات الفاعلية الأكيدة بحكم التجارب المتراكمة في غياب البدائل التي جاءت بها السنوات اللاحقة. أمشي نحو الوادي المسترسل بصدوعه وهاوياته التي لا سقف لها ولا قرار، أتطلّع إلى السحب القادمة من مرتفعات (حيل المسبت) هناك في الأعالي حيث تزمجر الريح وتعوي ذئاب أوشكت على الانقراض. في الطريق الوعر الذي تتسلقه السيارات، ذات الدفع الرباعي، نحو الجبل الأخضر والجبال المحيطة، حين أشرفنا على نهايته ليلاً، وبدأنا في منبسطات الجبل وسفوحه، شاهدنا قنفذاً مشعاً يقطع الطريق بشعره الكثيف، ويختفي في الظلام. مما خلق هذياناً يومياً لدى (عزّان) في البحث عن القنافذ بين الصخور والأشجار والأكمات. وكان الأهالي في القرى النائية في المكان والذاكرة يتصيدون القنافذ في ضواحي النخيل من جحورها، لابسين قفّازات لتفادي الأشواك الجارحة. تلك الأشجار التي شكلت في زمن ما، مرجعيّة الدواء والعلاج والترياق، ربما لا يزال بعضها لو التفت اليه أطباء الحضارة وعلماؤها، صالحاً لصنع الترياق اللازم لدحر وباء (كوفيد19) الذي ما زال يدير رأس العالم والعلم وكل منجزات الحداثة الرهيبة، ويطوح بها إلى الحيرة والهلع والمرض والموت. لكن أليست الأدوية الحديثة جميعها مصدرها الطبيعة وتجلياتها وأسماؤها المختلفة؟!
أقرأ متابعة للصديقة غالية قباني، حول المخرج السينمائي (مارتن سكورسيزي) الذي أخرج فيلماً قصيراً حول الوباء المستجد، والذي يرى أن الوباء وعزلته القسرية، غير المثمرة ولا عادتْ محطة تأمل وإثراء بعد أن طالت على هذا النحو القاسي وإنها أجلت مشاريعه السينمائية قاذفة إياه أمام النافذة، مع كاميراته وسيناريوهاته الواقعيّة والمتخيّلة. من تلك المشاريع كان الشروع في فيلمه (الجديد) أول فيلم (كاوبوي) ينجزه في هذا السياق، بمعيّة نجمه المفضل (روبرت دي نيرو) لكن هذه المرة مع نجم من جيل مزاج آخر (دي كابيريو) وليس آل باتشينو وجون بيشي). ولا يعطي وزناً مخرج (سائق التاكسي) و(الثور الهائج)، لا يعطي الآراء القائلة بأن الطبيعة تصحح وتطهّر نفسها، وأن غضبها على انتهاكات الانسان واعتدائه على حرماتها وفضائها، جعلها ترسل هذا النذير التدميري المرعب الذي أوقف حركة الحياة الحديثة، ومظاهرها اليومية، من طائرات وقطارات ومصانع ومشاريع لا حصر لها ولا حدود… الخ. المخرج الشهير الذي يقترب من ثمانينياته، يرى أن الوقت ينفد منه ويتلاشى أمام هذه الجائحة التي اجتاحت العالم على نحو غير مسبوق، وأنه حزين، لأجل ذلك يتداركُ ما يمكن تداركه في خط العمل والإنجاز الذي أدمن عليه نظراً وسلوكاً في مواجهة التاريخ وهروب الأيام. رغم اعجاب اسكورسيزي بجيل أسلافه الكبار، من ديسيكا وفيلليني وانطونيوني، حتى صاحب (الامبراطور الأخير) برتلوتشي، الذي تذكّرته مساء الأمس وأنا أشرب الشاي في برية (حيل المسبت)، عبر فيلم (شاي الصحراء) المقتبس من رواية بول بولس (تحت سقف سماء واقية). نحا في عمله السينمائي منحىً آخر، برؤية وأدوات وتصورات مختلفة، ربما تلائم برهة العصر المعاشة التي تتناهبها الميديا الجهنمية ورأس المال المتوحش أكثر من ذي قبل بما لا يقاس. حين قدم (فيلليني) استشرافه للقادم عبر (جنيجر وفريد) وهيمنة التلفزيون وأنماط المجتمع الاستهلاكي المشهدي المبتذل على كل مفاصل حياة البشر وتفاصيلها. رغم ثراء خيال المخرج الكبير وشطحه الذي لا تحده حدود وعلامات، حين يقارب مراحل الانهيار والانحطاط في التاريخ كما في (ساتركون) لم يصل حدساً ونبوءة إلى حجم البرهة الراهنة في التحلل من القيم والأبعاد الروحية، عبر ميديا العولمة والتكنولوجيا ونظمها المحكمة التي حولت البشر إلى قطعان آلية ملحقة بآلة ضخمة شبه ميتافيزيقية لكن من غير أبعاد روحية أخلاقية بل على النقيض، هي المستبد الفعلي.
كان الذي تجلّى بألوان الغيوب، وبجلال الموت وغموض المتعالي، يوشَّح السفوح المنبسطة بين رواسي الجبال المحيطة، الغسق الجبلي، الغسق القطبي وذلك الذي كنا نشاهده قبل حلول الفجر، في الصحراء المترامية… بتجليات روح الخلود المتشظي في فسيح الأكوان بأفلاكها وبلدانها الكثيرة، وتلك النجوم الظاهرة منها والخفيّة. الغسق الجبلي ذلك الهلام من أشلاء قتلى وآلهة جريحة.
في مرايا الجبال والعُزلات التي تسرح فيها الوعول بقرونها الطويلة الملتوية، خط دفاعها الأول ضد أعدائها المدججين وتسرح فيها ضواري العصور الأولى حين كان الكوكب تحت سلطتها الوحشية الحنونة مقارنة بالقفزات العضوية اللاحقة في سلاسل الفقرات والخلايا والمنحنيات، التي أفضت إلى «عبقرية» العقل والذكاء البشريين، حيث تكرست أولاً في أقاليم العنف والعدوان والهيمنة أكثر تحققها على أرض السلام والانسانية المشتركة بين سكان الأرض، والطمأنينة والرخاء لهؤلاء العابرين حتماً إلى احتمالات المصائر الغامضة والمآل. في مرايا العزلات هذه، تندلع نيران وجوه كالحة، وجوه عدوة للحياة والفن والجمال، تلاحق الكائن الهارب من جلبة الظلم والقبح إلى واحات قصيّة، يظنها ملجأً وملاذاً، ستظل تلاحقه قطعانها الضارية، من المهد إلى اللحد، هذه ضراوة القبح والانحطاط بكافة صُعُده، أين منها تلك الضراوة الغريزية لحيوانات الكوكب الأولى؟
تبدأ الكثير من السرود والأشعار والتأملات ذات الطابع والنزوع الفلسفي، من خلف النافذة أو إزاء النافذة. خلف نافذة المنزل المستأجر أو المملوك، نافذة الفندق أو الموتيل، نافذة السجن والزنزانة نافذة الطائرة أو القطار، لو جرى نوع من الاستقصاء للأعمال التي وُلدت أو تشكلت كما تتشكل السُحب والغيوم في عرين الفضاءات المقفر، لكانت هناك كتب ومجلدات وأجيال وعصور مختلفة. منذ بداية الجائحة، مررت في قراءتي لأكثر من كاتب ومقال تبدأ انطلاقاً من ذلك الحيز المتاح في هذه الفترة الاستثنائية التي تتوّحد فيها أرض البشر جمعاء، عبر هذه العزلة القسْرية. وعلى النمط نفسه، المساجين الموزّعون على مساحة الكون بمستويات وظروف متفاوتة. ويندرج أيضا راكبو الطائرات والقطارات والعربات على صعيد الحيّز المكاني المتاح وإن لم يندرجوا في القدريّة العمياء للقسْر والإكراه. ها هو مارتن سكورسيزي آخر في سياق متابعاتي المحدقين عبر النافذة، من مدينته الكبيرة (نيويورك) مدينة المدن وعاصمة العالم كما يحلو للبعض نعتها، عبر نافذة شقته، منزله أو مكتبه، إلى فضاء المدينة التي انسحبت من صخبها الكبير إلى هدوء العزلات وسكينة المقابر يتأملها عبر الكاميرا وعبر العين المجردة التي تغذي خيالاته ومشاريعه التي لا يهدأ صخبها واحتمالاتها لأمثاله إلا بالموت وغياب العزلة الأخيرة. ربما تخيل استيقاظها الجديد من هجعتها المؤقتة، في فيلم أو أفلام قادمة. وهناك الآلاف من المبدعين في كافة المجالات عبر أنحاء العالم، يحدقون من النوافذ والأبواب، تحركهم الأحلام والخيالات حول القيامة البشرية القادمة. إزاء النافذة. تبدأ أعمال الخيال والتأمل والكتابة حتى هذه الصفحات العجلى، بدأت بعد أسبوعين من اكتساح الجائحة. من النافذة التي تطل على شجرة أو شجيرات الظل التي لم أكن أعرف اسمها في البلقع الأجرد، وكانت الطيور في طليعتها عصافير الدوري والغربان الآسيوية تحط عليها وتأوي. وحتى لو لم تكن هناك الجائحة، فحتى في غلواء حرارة الصيف الموصوفة، في جزيرة العرب خاصة إذْ لا بد من اللجوء إلى الداخل المكيّف كي تستمر الحياة، فتكون النافذة في هذا الخضّم الغاضب للطبيعة، هي المنفذ الوحيد للطبيعة والخيال.
بعد النافذة في المدن خاصة الكبيرة والصغيرة، تأتي (الشرفة) التي تلعب دوراً مفصلياً في مسار حياة البشر، عاداتهم ومشاعرهم. شرفة الرومانسية والغزل والأحلام، خاصة في مطالع العمر، شرفة التأمل والقراءة والكتابة. شرفة الترحيب، والوداع، حين تسرْح النظرات الأخيرة للراحلين إلى المعلوم والمجهول. الشرفة التي تنعقد حولها الغيوم والضباب. خلال كارثة الوباء المستجد، لعبت الشرفة دور الحيّز الكرنفالي لحياة أراد لها القدر أن تكون داخلية محبوسة ومعلبة وكئيبة. تشاهد القوم عبر الشاشات، في روما وباريس ومدريد وغيرها الكثير من مدن العالم المحاصرة من عدوان لا مرئي هذه المرة، كأنما جيوش التاريخ الغازيّة أودعت روح الذعر والهلع، في هذا الكائن المجهري. ترى المدن والبلدات، تخرج إلى الشرفات يتبادل أهلها التحايا والابتسامات والأنخاب، يحرضون الأمل الغامض في النفوس، التي أوشكت على الانطفاء والإنهاك. يحيّون الأطقم الطبية المرابطة على الخطوط الأمامية في المعركة لدحر الخطر والموت. بسرعة اكتسبت اللغات البشرية، مفردات وقواميس الحروب المتراكمة، في مواجهة خطر الفيروس المستجد. فلم يتعبها النحتُ والبحث، إذ العدّة وطبيعتها اللفظية العنفية جاهزة. وهل هناك في تاريخ الكائن البشري، أكثر ثراء وغزارة من قواميس وأحداث الحروب والصدامات؟! العدة التعبيرية للإعلام جاهزة ما عدا ما يكتشفه الأطباء والمختصون استنباطاً واستنتاجاً من خلال مواجهتهم اليوميّة واللحظية ضمن المعركة المحتدمة، والمتعلق بالحقول العلمية والطبية. إذ تتسرب مفردات ومصطلحات غير معهودة تأخذ طريقها إلى ألفة الاستخدام والتداول. الآن في هذه الفسحة الهاربة من براثن الحرارة في محافظة مسقط، أجلس في سفح من سفوح الجبل الأخضر. الطقس رائع، غائم أحياناً وممطر في أخرى. أغيّر مرصد الرؤية من النافذة التي يتطلع منها أبطال الروايات والأشعار، إلى مذبحة العالم والتاريخ، كما يتطلع منها نفر وحيدون يتامى تخبط خيوط الضوء المتسلل، هيئاتهم الشبحيّة المرتجفة. أغير النافذة نحو الشرفة والحديقة الملحقة بالمنزل وحتى إلى الفضاء البري الذي لا تكاد تلحظ فيه كائناً بشرياً أو حيوانياً إلا ما ندر، بعد إغلاق الجبل أمام الزائرين الجدد. أشهر الصيف الطويلة في مسقط والمناطق الأكثر حرارة ورطوبة ورياحاً (غربية) محت عادات وتقاليد الجلوس في الشرفة، حتى في الأشهر التي يكون فيها الطقس معتدلاً ورائعاً للجلوس في الشرفات والأحلام.. استعاد بعض الأهالي عادة الجلوس قبل اشتداد الحرارة، أثناء عزلة الإكراه الفيروسي، وصاروا يلتزمون بنداءات (اللجنة العليا) في إطلاق التحيات والدعوات للطواقم الطبية الساهرة، والدعوة إلى رفع الفجائع والأوبئة.. من لا يتذكر، في تلك المحطة المبكرة من العمر الهارب، تلك الجلسات الحالمة الحميمية الهامسة التي تشبه برهة من الفردوس المستحيل، في القاهرة وبيروت ودمشق وحلب وشرفات طنجة المطلة على الجزر الايبيريّة واصلة أفريقيا وبلاد المغرب العربي بأوروبا، عبر حلقات من الغزو والحضارة والاجتماع. الشرفات، منصات اجتماع وتواصل بتجليات مختلفة، وهي أيضاً، تدفع إلى تأمل أليم، في أوضاع الذات والمحيط، بأبعادها التاريخية والوجودية كما في هذا المقطع الذي كتبته منذ أربعين عاماً في دمشق.
(شرفة دمشقية) الليلُ أسماكُهُ تسبحُ في دَمي أسماكُ هذا الليلِ الشَّرِسَةِ مثلُ عرباتٍ عتيقةٍ. هكذا من غيرِ استئذانٍ هذه المرةَ نبحتْ أساطيلُهُ /مناراتُهُ/ قوةُ حضورِهِ في دِماغِ الحَجَرِ. وحيدٌ أنا أدخلُ غرفتي الأشبهَ بفُوَّهَةِ مسدَّسٍ يبحثُ عنْ وليمةٍ ربما أكونُ أنا أو صديقي. مرَّتِ البواخرُ يحملنَ الموانئ والدهور الطويلة. تقلَّبتُ قليلاً في فِراشي / الشاحناتُ تُلامسُ الأعضاءَ بلطفٍ حريريٍّ ربما لستُ الوحيدَ الحاملَ همَّ هذا العالمِ هناكَ آخرونَ يُقيمونَ خيامَهُمْ في جَسَدي لكنْ لا مانعَ أنْ أقولَ إني وحيدٌ ومقيمٌ في رَحمِ الأشياءِ السريعةِ الزوالِ. منْ شُرفَتي الدمشقيَّةِ أُطِلَّ على جحيمِ أيامي الناعمِ مثلَ ذكرى بعيدةٍ أسمعُ الأخبارَ العربيةَ وأسمحُ لنفسي بالتخيُّلِ: ها هوَ الفضاءُ مشنقةٌ بحجمِ الإنسانِ المرتدي سلطةَ الحُلمِ أينَ يُمكِنُ للعصافيرِ والنُّسورِ أنْ تُحلِّقَ خارجَ جحيمي أنا الرجلُ المنذورُ للعذابِ أحدِّقُ في مرايا نفسٍ مقعَّرةٍ جماجمُ وعِظامٌ وحطامُ أجيالٍ كئيبةٍ يسكُنونَ القاعَ ونسوةٌ يَنتحبْنَ في ثيابِ الحدادِ كأنما العالمُ يجترُّ حطامَ أيامِهِ الأخيرةِ في قلبي j h j الهواء عاصف صباح هذا اليوم في الجبل، على نحو من غبار. لا غيوم في الأفق البعيد أو القريب. مساء البارحة في مرتفعات (جبل المسبت) أشرب الشاي، واقرأ عبر جهاز الهاتف، محدقاً في هذا الفضاء المضطرب بجمال العزلة تحفه أرواح أسلاف آفلين. شجر العلعلان (العرعر) يكثر في المنطقة التي هي ربما الأكثر ارتفاعاً من بين قمم الجبل ومنحدراته وهضابه. منحوتات الصخور التي تتجلى أحياناً أكثر جمالاً من صنائع الفنون البشريّة، تجثم في هذا الخلاء الموحش منذ ملايين السنين مطلة على قنوات الأودية التي حفرتها الأزمنة والسيول متدفقة بمياه الذكرى حتى ضفاف الغيب.
في (حيل المسبت) الأشباح تحتضن الفضاء بدم الأسطورة. لكن لا ظباء ولا وعول تعدو في البرية الفسيحة. عواء الماضي كالنيازك، يسّاقط على الهضاب والأكمات.
هذا الغروب الجبلي يحمل بين حناياه جنازة العالم مُكفنّة بالأوراد والظِلال.
حين تصحو في الثالثة والنصف تفتح الباب، نحو فناء الدار، ثم تتقدم خطوات في البرية المضاءة بالسكينة والنجوم، تشاهد ما لم تره منذ أزمان وسط ضجيج المدينة وأضوائها. تلك الجزر التي تشكل ذلك السديم النجمي العذب والموحش. لا صوت إنسان أو حيوان، الليل وحيواته يغمر ويساوي بعدالة بين جميع الكائنات، وحدها السماء تفصح عن ذاتها بمثل هذا الحضور الجمالي المرهف الذي يحيلك إلى طفولات طوتها المسافات والزمان. في حركتها، النجوم، إضاءة وانطفاء، نعاساً وترحّلاً كأنما تخاطب نفسها، عائلاتها وشعوبها المقيمة في الأزل نجوم الآفاق ودروب الممرات اللانهائية. تحدق بانخطاف كأنما تخاطبك أيضاً وسط الصمت والعزلة التي تغذي الروح العطشى بعد كراهيات ويباس. تحدق في جزائر السماء النشوى، أنت الذي لم تبرح مكانك زمناً تخاله عصوراً، ترى ممر طيران من الشرق إلى الغرب ثم ينعطف إلى اليمين مجيئاً ورواحاً، الطائرات تضيء كالحشرات وسط النجوم والسديم الذي يمطر صحواً، متجهة إلى مقاصدها ومحطاتها الأخيرة. فكرت أن حركة السفر والترحّل بين أقطار العالم بدأت بعد حبس وحجر منزلي، في التدفق والانهمار. هذا الكم من الطائرات خلال ساعة، تأخذ سبيلها في هذه المطارح التي يظنها العابر، نائية أيما نأي، أو حتى منسيّة من خرائط الكون. أخذتني الطائرات من انخطافي وتوحدي مع النجوم والسديم البدئي، صرت أحدق بحنين إلى الطائرات والنجوم، النجوم التي قريباً، سأفتقدها، وسيكون تعويض حضورها كما باقي أركان الطبيعة الخالقة والمخلوقة، في اللغة والأدب، في الخيال والذاكرة. سأعرف كقدر حتمي مثل الموت والغياب، مثل الحب، والأوبئة، في أضواء «المدينة» أو «الحضارة» التي لم أنتمِ إليها في يوم من الزمن الممتد منذ الولادة حتى النهاية، إلا خارجياً وسطحياً بقدر ما انتميت في العمق المعتم، إلى الذاكرة البدئية، إلى هذا الفضاء الوحشي المزدحم بأرواح السالفين، والجوارح والحنين. هذه المرة حين صعدنا من (بركة الموز) ووادي المعيدن، تلك النازلة القدرية لإحدى الجغرافيات الأكثر غرابة وقسوة، بحيث أن ذات مرة حين صعدنا مع الصديقين الجزائريين أمين الزاوي وربيعة الجلطي المتحدرين من عهود الصداقة المزهرة لبلاد الشام،. حين أشرفنا على الوادي وأخذت السيارة تقطع مجراه الصخري الخالي من المياه التفت إلى أمين الزاوي قائلا: من مثل هذه المناطق المحتدمة بالهواجس والأسئلة والفراغ، يأتي الأنبياء والأئمة والزهّاد… وإلا كيف يستطيعون حمل رسالة إصلاح عالم فاسد في أصله وفصله. طاقة الصبر اللامحدود لتحمل الأذية، شظف العيش والتنكيل ؟ حين صعدنا هذه المرة متسلّقين سلالم الصخور والأزمنة باتجاه هضبة من هضاب الجبل الأخضر التي ترتفع إلى ما يناهز ثلاثة آلاف متر فوق سطح البحر. كانت ثمة غيوم متفرقة في شعاع المغيب الأصفر، وكان الليل بمراسيه الثقيلة يوشك على النزول. السيارة تزفر عبر الطريق الصعب، ولم نلحظ أي كائن أو حيوان مثلما لاحظنا في المرة السابقة ذلك القنفذ مُستنفَرا يقطع الشارع الإسمنتي باتجاه الأجمة المجاورة، لكن قريباً من النهاية وعلى مفترق طرق رأينا في الضوء الكاشف ثعلبا وقد دهسته العربات حتى تحول إلى أشلاء وحطام، عدا الذنب الطويل الزاهي (الفريخة) كأنها الروح محمية بعناية المشيئة والخلود. كان الليل قد دثّر المكان وكائناته الخبيئة بردائه الأسود الحالك.. ليل الجبال والقرى النائية والسهوب. حمار وحيد يأكل العشب المتاح ثم يتحرك باتجاه ربوة من الأشجار الجبلية، يتبعه ثعلب بسرعة البرق يقطع المسافة، كي لا يلقى مصير سابقه، حتى يختفي بين الشجيرات في الظلام الدامس. يعود الأرق بهيئات وأشكال مختلفة على شكل وجوه تتوافد من سديم الفضاء الكوني المفتوح على فراغ الأبدية، على هيئة مدن، تنتفض ضباع ليلها في قفار الرجل الوحيد بعزلته (القسرية أو الاختيارية) وهو يحاول نوما عصيا وبعيد المنال. على شكل أرياف موحشة وقرى محمولة على عواء جريح، ورجال مدججين يحيطون بالأسرى وقد اخترقت أجسادهم الهزيلة السهام والطلقات. يعود الأرق على شكل جيش كاسر من الكراهية والانتقام، على شكل بيت مهجور بعد انتحار الأرملة مع صغارها، وبعد بلوغ الجائحة الذروة والهاوية. يعود الأرق، تعود الأيام والسنون بهذياناتها الثقيلة، وحيد القرن، بنات آوى ينتحبن في المغاور والكهوف. يعود التاريخ مضرّجاً، تعود المجزرة في مخيال رجل وحيد يحاول النوم والمغفرة. j h j تلك الصخرة الساهرة في وادي سرور بظلال الأسطورة تسبح في المياه تحرس الموتى في القبور المجاورة كما رعاة الفجر والنجوم الآفلة تحرس الطيور في أعشاشها تهم بالصحيان، حمير القرية والديكة الصادحة في نومها وتحرس الأزل المتثائب في رؤوس الجبال تلك الصخرة السابحة في بحر سرور (كان الوادي يشبه البحر) وكانت الأعمار والأسماك تكبر على الحواف المليئة بالطحالب أصوات القطا تزنر الوادي شحيج أتان j h j شدو يمام في هدئة الظهيرة يشبه نوح ملائكة جريحة في مضيق
البارحة حاولت في منتصف الليل، أن أخرج من الجانب الآخر من البيت كي أستأنس بمشاهدة النجوم المتلألئة في أعماق سماء بعيدة، لكني أخطأت التقدير، فهناك أضواء الشارع ممتدة إلى الجانب الآخر من أحياء الجبل الأخضر ومنازله التي بدأت تكثر فيها الفلل الفاخرة والقصور بجانب فنادق يتجاوز تصنيفها الخمسة نجوم مثل (انتارا) و(أليلا). ويمكنك أن تشاهد من أحد المنحدرات الجبلية القريبة منه قصر الأمير القطري الباذخ. ومسار تغيير خارطة الجبل البشرية والعمرانية البسيطة باتجاه مستقبل مبني على الحركة والسياحة، نراه في المباني والمنشآت المشرعة في أكثر من مكان. أخطأت تقدير الخروج من المنزل، فقد كانت الأضواء المدينية تبتلع هيئات النجوم ولمعانها المرسل كهدايا أعياد الطفولة والميلاد، إلى أرض البشر التي تسحقها الأوبئة والجفاف.. وقفت وحيدا… «وما في الموت شك لواقف» لكنه ليس الموت البطولي المتفاخر به لدى المتنبي، انه موت من نوع آخر لا صلة له بالمديح والفخر والبطولات التي ترتفع إلى مستوى الأسطورة. الموت كهاجس وجودي لدى الفرد المغمور منذ بدايات كينونته الغضة بنزوعات الفناء والتلاشي والزوال. نزوع وهاجس يحاصره ويطبق عليه الفسحةَ والخناق، في اليقظة والنوم، في الحركة والسكون، حتى في لحظة الالتحام العضوي والوجداني مع المرأة المتوهجة بالمشاعر والجمال، لا يغيب شبح الموت والفناء القادم خاصة في هذه البرهة التي يرحل فيها الأصدقاء والأهل واحداً تلو الآخر، مخلفين جراحات من العمق والقسوة بحيث لن تلتئم وتتلاشى مهما حاولنا الهروب والمراوغة إلا باللحاق بهم، إن التأمت، وربما تترحل جراحات ذلك الغياب القدري العاتي إلى رحاب الأبدية ذاتها. إلحاح شعور الخطر والموت، ينمو ويزداد بداهة لدى الجماعات في غمرة الحروب والأوبئة الكاسحة. أخطأت تقدير جهة الخروج من البيت، فبقيت واقفاً أُحدّق في مشهد سماء ابتلعت الأضواء نجومها ومجرّاتها، أسمع صوت الطيران العابر من غير أن أرى أثره بين الكواكب والنجوم، وكأنما أسمع رجع أصداء الحنين. j h j الحُمُر البرية، الحُمُر رفيقة طفولتنا وحاملتها إلى أقاصي الوادي والنبع، إلى أقاصي الجبال والأحلام، الحمر الحمير أو ما تبقى منها تسرح في غَبش الفجر والأحراش، تبحث عن الرزق الذي شحّ والألفة بعد أن تمزقت أوصال الجماعات التي كانت تسرح قطعاناً، ذكورا وإناثا نراها مفردة تبحث عن الشريك أو بمعيته، وقلما تجد جماعة التأم شملها كما في الأيام الخوالي، حين كانت تسرح، تجفل، تنهق بفرح أو حزن كأنما تنادي غائباً أو مجهولاً ما… مساء البارحة على منحدر حيل اليمن رأيت حمارا وحيدا يقف مسمراً أذنيه، مستنفراً كأنما ثمة خطر قادم. أخذنا في الانحدار إلى الوادي المؤدي نحوه، لكنه وجه خطمه المشرئب الغاضب نحونا. أطلق ما يشبه التحذير والنفير وتحرك قليلا مع نفرةٍ تبعتها صرخة، يريد أن يبادرنا بالهجوم والانقضاض بعد إحساسه الأكيد بالخطر القادم. حمار وحيد في برية شاسعة موحشة جرداء، أخذنا طريقاً آخر يسلك مرتفعاً بعيداً عنه وواصلنا السير. بين الصخور والأكمات التي بللها مطر قريب. كنت وأنا أحدّق إلى غضبه المزبد أحاول أن أتذكر شيئا قرأته أو شاهدته عن سلوك هذا الحيوان سواء طور وحشيته او طور استئناسه ورفقته الحميمة المفيدة للإنسان، إلى أن انبثقت تلك الذكرى البعيدة لحمير القرية التي وُلدتُ ونشأت فيها في داخلية عُمان…تذكّرت جارنا في أحد أصياف قريتنا اللاهبة القادم من بندر مطرح لقضاء الصيف وسط أشجار النخيل والمياه. ذات مساء والأهالي مأخوذين بتفاصيل حياتهم اليومية سمعنا جلبة وصراخاً حاداً ينبعث من الجهة الحدرية لوادي القرية الغزير حين تدافع الأهالي من كل حدب وصوب نحو مصدر الصراخ، حتى التموا متدافعين وفي أيديهم السكاكين والخناجر والبنادق، حول الحدث الدموي الذي لم يكن (ضرابة) او شجاراً بين بشر وإنما هجوم حمار هائج هياجا تدميريا، في انقضاضه على «سالم بن سعيد» الذي كانت ذراعه مقدمة لافتراس أو الجسد ربما بالكامل. كانت فكاه القويتان تطبقان على ذراع الرجل والدم ينبثق يمنة ويسرة حين أخذ الموجودون بتخليص اليد والرجل من حتف أكيد.. ولكن ما الذي يدفع حيواناً مستأنساً بمثابة أداة من أدوات السكان في تسيير حياتهم اليومية، وحيواناً نباتياً، إلى افتراس كائن بشري ربما كان مالكه؟!. ما الذي غيّر، ليس السلوك التفصيلي فحسب، بل وأظهر الغريزة البرية لهذا الحيوان، ثمة نوع من التحول النوعي المتطرف والفريد. هل هو الاضطهاد والإذلال اليومي والتنكيل، هل هنالك أسباب أخرى؟ الحمير البريئة المسالمة التي لم تكن يوماً مصدراً للأوبئة، يمكن أن تكون لحظة كبرياء وغضب خطيرة ومفترسة. j h j في غبش الفجر الجبلي قبل انبلاج أصوات المؤذنين الذي سيغمر الأرجاء والهضاب والمنحدرات المسننة التي تقودك إلى القرى الثاوية إلى مدرجّاتها الحجرية السحيقة. أصوات ديكة تتوزع بنبرات وألحان مختلفة العلو والانخفاض، ونغمة الصداح الذي كان دليل المسافرين في ليل القرى والواحات المبعثرة في التضاريس الغامضة في الجغرافيا العمانية. كانت أضواء الشارع مفتوحة، لكن وجود القمر الذي ترافقُ دربهُ نجمةٌ واضحة المعالم بكينونتها المستقلة، خفف من سطوة الأضواء الاصطناعية التي تحجب السماء والنجوم والحيوات الأخرى، ليتجلى منها جزء لا بأس به وإن كان لا يشبع فضول رعاة النجوم، والعين المتأملة بضراعة في تجليات هذه الأفلاك والأجرام الراسخة والعابرة. حشرات الليل الساهرة وصوت ضفادع من برك موحلة، خلفتها أمطار الأيام الماضية، تتصادى مع هسيس النجوم والكواكب في علياء سمائها، نصف المضاءة مثل كهوف القدماء ومنازلهم الممتدة في الطبيعة والجذور… أسمع صوت طائرة أحدق نحوها تعبر الأفق بعلو منخفض، لكن لا أستطيع تبين أي علامة او جناح عدا الهيكل المضاء في المقدمة والجوانب، بينما طائرة أخرى تعبر في الاتجاه المغاير على علو ربما يبلغ الخمسة آلاف قدم كما كنا نسمع نشرة المضيفة وقت الإقلاع ووقت الهبوط. أزف انسحابي إلى داخل البيت لأكمل نومي من جديد. نظرت إلى جهة الشرق مودعا لاحظت كوكب الزهرة وضَّاحاً بنوره، يخاله البعض نجمة فيدعونه نجمة الصباح، لفرط حضوره ربما من بين محيط الأجرام المتناثرة في منازلها.. هل ما زال على قوة نفوذه الميثولوجي الأنثوي المُغوي كونه يسعف الجرحى والذين ألمَّت بهم النكبات والحروب.
| |
| |