كنت أسير فى شارع وسط البلد متلفّعا بغموضى
وغير عابئ بالفوضى ولا بالزحام
ولا بالبيوت المتراصّة بتورياتها وإيهاماتها على الجانبين
كان هناك عمّال يحفرون فى المنتصف
بدأ الغبار يصّاعد من رئة الشارع كما لو كان زفيرا وتنهّدا مكتوما
لم يكن غبار عاديا كعفر الرماد اليومىّ الذى يعلو ويهبط ويعلق بحذائى وثوبى
كانت للغبار رائحة أخرى
رائحة شدّت روحى من تلابيبها
وجرّتنى إلى الذكرى
ذكرى لازالت مختزنة فى سراديب ذاكرتى
إنّها الرائحة نفسها التى تنشقتها منذ أكثر من خمسة عشر عاما تعود الآن
وتعرض الذكرى أمامى كشريط مصوّر
يومها كنت تلميذا فى صفى الخامس الابتدائى
وبينما أنا عائد من مدرستى حاملا حقيبتى على ظهرى كما لو كانت أوزارا
لمحت جرّارا والناس يتجمّعون حوله على غير العادة
شرع الجرار يفرغ حمولته بجوار محوّل الكهرباء المقام على الناصية
نظرت إليه بشغف طفل وحاولت الاختباء بجسمى الصغير وسط الرجال الواقفين
وماكادت المقطورة تنفتح حتّى لمحت هياكل وجماجم وبقايا أكفان ورفات ورميمَ عظامِ وشعرِ ملبّد وزبد وأعمار مهترئة و وسبخ دهنىّ
وبقايا أوراق مدسوسة و مثقوبة ومخطوط بها طلاسم حمراء !!
نظرت وكادت عيناى تنزلق من محجريهما لفرط اتساعهما من الرهبة والخوف
جاء بعض العجائز والشيوخ وفى أيديهم شكائر وأكياس كبيرة
وبدؤوا يجمعون فيها ما تلتقطه أيديهم من الجماجم والعظام
ليعيدوا دفنها مرة أخرى فى مقابر جديدة!!!
....
هكذا استعرضت الرائحة الذكرى!
مشيت ونظرت إلى حذائى وخجلت ولولا الحياء لسرت حافيا
ولصرخت فى السائرين المسرعين
خفّفوا الوطأ وسيروا خفافا على رفات أجدادكم!