|
| | نبش فى اللغة وألفاظها معجم بسمة عبد العزيز |
| | ® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11570 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2020-08-27, 7:37 am | | #بسمة_عبد_العزيز @hassanbalam
العَرَبِيَّة في ذِكرَاها السَّنَوِيَّة
مُنذ سَنوات طِوال وقضايا تغريبِ اللغةِ العربية تشغل بالَ المُهتمين بها والمُتتَبّعين لمصيرها. مِن بين هذه القضايا مَسألة تعريب العلوم المختلفة، وتلك قضيةٌ تحمِلُ ولا شكَّ وجاهَتَها؛ فالتفكيرَ باللغةِ الأم أكثر مَنطقية من التفكير بلُغة أخرى، وأكثر عمقًا واقترابًا مِن جَوْهرِ الأشياء. يحتفل العلماءُ والباحثون ونفرٌ مِن المُحبين في ديسمبر مِن كل عام؛ بيوم جُعِلَ خصيصًا للغة العربية، وبهذه المُناسبة يُقيم المَجمع المصري احتفالية سنوية، عادة ما تُطرَح القضايا التي تخصُّ العربية فيها؛ فيتجاوب معها جُمهور الحاضرين، وتأتي وعودٌ برَّاقة مِن المسئولين، ثم يمُر العامُ ويلتقي الزملاءُ من جديد ليجتروا المَواجِعَ، ويعيدوا ما قِيل في أعوامٍ فائتة، دونما تغيير. حضرت هذا العام نقاشًا استجلب مِن الشجن- كما اعتدت- الكثير. لا تلقى فكرة الحفاظ على اللغة العربية ترحيبًا مِن الدولة على ما يبدو؛ إذ هي أول من يجافي الأحرفَ ويضطهدها. تستخدم الدولةُ في إعلاناتِها وعناوين مشروعاتِها وعلى لسانِ كبارها؛ ألفاظًا أجنبية، أغلبها مِن قاموس الإنجليزية، بينما تبالغ في استبعاد العربية وتعمَد إلى إقصائها عن المجال العام؛ وكأنها عارٌ ينبغي مَحوه. نجد مُسمَّيات بغير لغتنا الرسمية على رأس المُجمَّعات الاستهلاكية، والأسواقِ التجارية، كما نجد ألفاظًا مِن الإيطالية والفرنسية لمُنتجعات ترفيهية ولعديد المدن الجديدة؛ وكلها تخضع بصورة مُباشرة للدولة. على صعيد أكثر إيلامًا؛ ينتهي شبابٌ كُثر مِن دراستهم الثانوية وأحيانًا الجامعية، ويرتكبون مِن الأخطاءِ الإملائية ما يُهين، واللومُ لا يقع عليهم إنما على مَنظُومة ضحلة؛ تختلط فيها الأولويات وينزلق الرأس منها مكان الذيل. مَنظومةٌ تُولي اهتمامَها على سبيل المثال لا الحصر لجهازٍ أصمّ، وتظُنّ فيه الكفاية، وتعلنه آية مِن آيات التقدُّم والتطوير، وتتناسى أن العقلَ الذي لا يعرف بأي لغة يفكر، عصيب عليه إنتاج مَعرفة حقة مَهما اكتسب مِن مهارات التكنولوجيا الحديثة. على مَدار دورات ومُؤتمرات مَجمَعية مُتعدّدة؛ تحدَّث أساتذةٌ ومُتخصصون عن إنشاء مراكز للتعريب داخل الجامعات، هدفها تقديم المادة العلمية مترجمة إلى العربية، بالتوازي مع اللغة الانجليزية؛ لكن هذا الحديث لم يلق صدى، بل لم يلق القبولَ لدى مَن طُرِقَت أبوابُهم في سبيل الحصول على موافقة رسميَّة. تلوح مسألةُ التعريب على الرغم مِن أهميتها وبساطتها؛ مُقِضَّة للمضاجع، مُقلقة، يتهرب مِنها كُلُّ مَسؤول وقد يرفضها علانية، والأسباب ليست واضحة ولا مُقنِعة. قوانين عِدَّة تصدر في لمْح البَصَر رغم خطورة مُحتواها وجِدية تبعاتها، أما قانون حمايةُ اللغة العربية الذي أعدَّه المَجمَع المِصريّ؛ فباقٍ في قرارٍ مَكين. أدراجٌ تحتويه لا يُعرفُ عمق قيعانها، ولا يخرج منها ما يدخلها. لم يخضع القانونُ لمداولة مُوسَّعة في نطاق المُجتمع، ولا لمناقشة هي بالتأكيد مُستحَقَّة، ولم تُفرَد له مساحات إعلامية مَقبولة توفيه أهميته، بينما اللغةُ في انحدار مُستمِر والعداءُ مُستَحكم اتجاهها، واستخدام الأجنبيّ مِن الكلمات صار عند العوام قاعدةً لا استثناء. تمتلئ قاعةُ المَجمع في الاحتفالِ السنويّ بأشخاصٍ كثيرين؛ أغلبهم زوار يعرفون المَكان، بعض الصحافيين ونفر مِن مُراسلي القنوات التلفزيونية؛ يستمعون إلى كلماتٍ تتكرر وأفكارٍ تتوالى، وما مِن مُجيب، ولسان حالهم يقول إن اللغةَ ليست مِن السِلع الرائجةِ كي تحظى بالاهتمامِ الوَاجب مِن أصحابِ المَناصب، بل تكاد تشبه بضاعةً مَعطوبة؛ لا يريد أحدٌ أن يبتاعَها. تكليفاتٌ تصدُر وتعليماتٌ تُطَبَّق، وليس مِن بينها ما يحفظ اللسان العربي بل والمصري أيضًا؛ فالمصرية نفسُها تتدهور وبدلاً مِن اشتقاقِ مُفردات جديدة وابتكار أخرى مِن صُلبِ اللغة ونسيجِها، تقتحم مُفرداتٌ أجنبية لا أول لها ولا آخر أحاديثِنا، رغم أن العربيةَ الفصحى والعامّيةَ المِصرِيَّة شديدتا المُرونة، مُترامِيتا الإمكانات، قادرتان على التفاعُل والتجَدُّد بغيرِ حدود. في كُلّ احتفالية يقول قائلٌ مِن الحاضرين أن اللغةَ وعاءُ الفِكر، وأنها لسانُ حالِ الأُمَّة، وأن الشعوبَ التي تفقد لغتَها لا تفقد فقط أداةَ التعبيرِ الرئيسةِ عن نفسِها، بل وتفقد القُدرةَ على التفكيرِ السَّليم، وعلى إحرازِ تقدم مأمُول. تفقد أيضًا قدرتها على صوغ طلباتها واحتياجاتها، ونقش أحلامها، والإعراب عن اعتراضها واستيائها. كثير الزعماء الذين تركوا أثرًا كانوا فصحاء، يملكون قوة البيان وسلامته، أما اليوم فنادر مَن لا يخطئ إذا قرأ مِن وَرقة، وأكثر نُدرة مَن يرتجلُ فلا يسقُط في فاحشِ العَثرات. أحد أركانِ الجُملة دومًا غائبٌ عن لسان المُتكلّم، والمَعنى بالتبعيةِ شائهٌ مَنقوص.
في إهمال اللغة ما يُشين وفي الاعتداء عليها ما يستَوجِب الحِساب، وقد سبقتنا إلى إقرار ضوابط الحماية دولٌ عديدة تدرك أهمية؛ منها الأوروبيّ، ومنها أيضًا جيران في الموقع الجغرافي. لم يشعر أحد هؤلاء بأن في الاحتفاظ بلسانه قويًا عفيًا طليقًا، إساءة أو إهانة؛ فالعكس هو الصحيح، وعَجز المُتكلمين عن النُطق السَّليم واستعانةُ البعض بكلماتٍ مِن لُغة أخرى؛ ليس دلالةً على المُستوى الطبقيّ الرفيع، بل على فكر سطحيّ ومَظهريّ، يتنصل صاحبه مِن الجِذر ويتمَسَّح بالآخر، فيما يحترم هذا الآخرُ لسانَه، ويُوليه ما يستحق مِن عناية وتقدير.
_________
حُـرِّيَة
في إحدى الدراسات المُثيرة؛ اكتشف الباحثون أن الببغاواتَ التي يقتنيها الناسُ، ويستمتِعون بمُشاهدتِها وهي تُرَدّد النغماتِ وتحاكي الأصواتَ؛ دون أن تفهم بطبيعة الحال معناها؛ تستاءُ مِن القيدِ إلى درجةٍ تدفعها إلى نَتف ريشِها ما بقيَت أسيرة. رغم توفير الطعام والدفيء والرعاية، ورغم أن هذه الطيورَ لا تملك وظائفَ مَعرفية عليا تسمح لها بإدراك حقيقةِ وضعِها؛ يظلُّ غيابُ الحريَّة عنها مُؤَرقًا. *** الحُريَّةُ في أبسطِ تعريفاتِها هي القُدرةُ على الفِعل، وكذلك على الامتناعِ عن الفِعل ما أراد المَرء. يُقالُ إن حُريَّة الفَرد تنتهي لدى الحدّ الذي يبدأ عنده انتهاكُ حُريَة الآخر؛ أمرٌ في ظاهِره بسيطٌ، لا يحمل التباسًا ولا خلطًا؛ لكن التطبيقَ قد يتعثر في تعقيدات لا نهاية لها، وتغدو الحدودُ مُشَوَّشة. *** الحُرِّيَة في قواميس اللغة العربية هي الخلُوص من الشَّوائب؛ هي حال كائن حيّ لا يخضع لقهر أو قيد أو غلبة، ويتصرّف طبقًا لإرادته وطبيعته. الحُرُّ خلاف العبد وحرر العبد أي أعتقه، وحرر الوطن أي طرد المحتل، أما حرر رسالة فبمعنى كتبها. إذا تصرف المرء بلا تكلُّف أو احتراس؛ فقد تصرَّف بحُرِّية، وإذا تَحرَّر ذاتيًا مِن كُل ما يُكبِّل التصَرُّفات والأفعال ويُعطِّل الاختيارات؛ فقد مُنيَ بالاطمئنان والسلام الداخليّ. *** اضطلاع المرءِ بمسئولية ما لابد وأن يقترن بتمتعه بالحرية والإرادة الكاملتين، وليس لسُلطة تنزع عن الناسِ حُريتَهم وتُنكر عليهم مواطنتَهم؛ أن تُطالبَهم بالالتزام تجاهها وصِيانة العقدِ الاجتماعيّ. ليس لسُلطةٍ تسلِب الفردَ حقوقَه الأصيلةَ، أن تُجبِرَه مثلًا على دَفع الضرائبِ أو التبرعات. *** أهدت فرنسا تمثالَ الحُريَّة إلى الولاياتِ المُتحدة الأمريكية عام ألف وثمانمائة وستة وثمانين، بمناسبة الذكرى المئوية للثورة الأمريكية. التمثال في الأصل يجسد فلاحةً مصرية بيدها مشعل، وكان مُقررًا وضعه في مدخل قناة السويس، ثم اعتذر الخديو اسماعيل بسبب ارتفاع التكاليف، ومِن ثمَّ استقرَّ التمثالُ على خليج نيويورك، كما استقرَّت القيود تحت قدميّ حاملة المشعل رمزًا للتحرُّر. *** ”سبارتاكوس“ أحد الأفلام المَلحمية التي خلَّدت معنى الحُرِّيَة، ووقوف الرجال المَغلولين بأصفاد الحديد؛ ليزعق كلٌّ منهم في وجه السادة الباحثين عن قائد التمرد: "أنا سبارتاكوس"، مَشهدٌ يعلن حجم التضحيات اللازمة. أخرج العملَ ستانلي كوبريك مَطلع الستينيات، وقام ببطولته كيرك دوجلاس ولورانس أوليفييه، وقد استلهَم هوارد فاست أحداثَ روايته التي بُنِيَ عليها الفيلم مِن ثورة العبيد الثالثة التي قامت في عهد الإمبراطورية الرومانية، وقُورِنَت هذه الثورةُ بثورةِ الزنج التي قادها عبد الله بن علي إبان الخلافة العباسية، طامحًا بدوره إلى تحرير العبيد؛ المَجلوبين قسرًا مِن أفريقيا إلى العراق. أخفق القائدان في سعيهما نحو الحُرِّيَة، لكنهما تركا بذرتَها في سواعدِ مَن أتوا لاحقًا. *** ربما يكون كتابُ "عن الحُرِّيَة" لجون ستيوارت ميل، مِن أشهر الأعمال الفكرية في هذا الصدد. ما إن يأتي حديث عن الحرية ومَفهومِها؛ حتى يقفز الكتابُ إلى الذاكرة رغم مرور عقود على إصداره. ثمَّة حرياتٌ مدنيَّة تتعلق بحقوق الفرد الأساسية؛ منها حرية التّعبير والمُعتَقد. يحمي القانونُ هذه الحُرِّيَات في الأحوالِ العادية ضدّ أي تدخُّلات، سواء كانت مِن المُجتمعِ أو مِن السُلطة، أما في أزمنةِ الانحطاط، فيصبح القانون ذاته أداة بطش. *** أُنشئ مَقهى الحُرِّيَة في ثلاثينيات القرن الماضي بباب اللوق على أيدي يوسف وميخائيل ونيقولا، وحظي بشهرة واسعة مع توافد الجاليات الأجنبية والجنود الانجليز، فحقق أرباحًا كبيرة، ويُقال إن بعضَ الضُباط الأحرار كانوا ضِمن روَّاده، إضافة لعددٍ مِن الفنانين مثل زكريا أحمد، ورشدي أباظة، وشكري سرحان. ظلَّت أسعار المَقهى في مُتناول الطبقةِ المُتوسطة بتنوعاتها، وبقي المكانُ المُمَيَّز بصالته الواسعة؛ عامرًا بالزبائن لفترات طويلة، كما جذب صُنَّاع الأفلام على مَرِّ السنوات؛ فظهر على سبيل المثال في فيلم ”فوزية البرجوازية“ بمنتصف الثمانينيات؛ ملاذًا لليسار. *** لمُفردة "الحُرِّيَة" جاذبيةٌ هائلة، لمسةٌ واحدةٌ تكفي ليأتي الفضاءُ الإلكترونيّ بما لا يُحصَى مِن نتائج البحث؛ أقوال عن الحُرِّيَة مِن الشرق والغرب، وأشعار وحِكَم ومأثورات. ثمَّة كلماتٌ دُوِّنَت عن مارتن لوثر كينغ تقول: "لا يستطيع أحد أن يمتطي ظهرك إلا إذا انحنيت". العاقبةُ للحَقِّ وَخيمة؛ فانحناءة ومطية وانكسار، ليست إلا مُرادفات للإذلال والهَوان والعبُودية. يُعطي كينج بُعدًا إضافيًا للحرية: "لست فقط مُحاسبًا على ما تقول، أنت مُحاسَب أيضًا على ما لم تقُل؛ حيث لزمَ أن تقول". الحُرِّيَة قول ما وَجَب في وقتِه؛ لا بعد فوات الأوان؛ لكن كثيرَنا يلتزم الصَّمتَ في عسيرِ المَواقف وكأنه لا يرى ولا يسمَع، ويُشيح بوجهِه مُتصوِّرًا أن الامتناعَ عن إبداءِ الرأي يكفي. كثيرنا ينسى أن قَولةَ حَقٍّ في وَجه سُلطان جائر لها أكبر الأثر؛ ولو لم تُسفِر عن تغيير فَوريّ، ولا غرابة أن يقولَ كينج أيضًا: "في النهاية لن نذكر كلماتِ أعدائِنا، بل صَمتِ أصدقائنا". أظننا جميعًا سوف نذكر كليهما؛ الصَّمتَ والكلامَ، فبصماتهما مطبوعة على صفحاتِ تاريخِنا الشخصيّ والجَمعيّ؛ الأصدقاءُ بتقاعُسِهم وتخاذلهم، والأعداءُ بانتقامِهم وتماديهم وصغائرهم. ناضل كينج لإنهاء التمييز العنصريّ ضد أصحاب البشرةِ السمراء، ونال أرفعَ التقديرات، واغتيل بنهاية الستينيات؛ فيما عاشت كلماتُه حُرَّة. *** يقول أحمد شوقي في بيته الشهير: "وللحُرِّيَة الحمراءِ بابٌ بكُلِّ يَد مُضرجة يُدَقُ". البيتُ يُعارض هتافاتَ لا أوَّل لها ولا آخر؛ انبثقَت مِن أفواهِ الثُّوَار إذ هم يَصيحون في مُواجهةِ جَحافلِ الطُغاة المُدجَّجَين بالسلاح: سِلميَّة. ثَورَةٌ سِلميَّةٌ قد تكون؛ لكن شوقي يُقدَّم الحُرِّيَة في ثَوبٍ هو أبعد ما يكُون عن الوداعةِ والمُسالمَة، والحَقُّ أن البيتَ يستدعي إلى الذاكرةِ لوحةَ "الحُرِّيَة تقود الشعبَ" التي رَسَمها دو لا كروا مُجَسِّدًا زَحفَ الشَّعبَ المَقهور لاسترداد حُرِّيَته وكَرامته. اللوحةُ الآن مِن مُقتنيات مَتحف اللوفر، والمرأة التي ترمُز إلى الثورةِ الفرنسية ترفع الرايةَ بيدّ وتُمسِك بندقيةً بالأخرى، بينما ثيابها مُمَزقة ومِن حولِها تدور رحى المَعركة. *** في قصيدتِه "أنت في وَطن ديمُقراطي"، وضعَ أحمد فؤاد نجم شرطًا صارت الحُرِّيَةُ به مَجروحةً: "أنت بتنعم بالحُرِّيَة بسّ بشرط تكون مِطاطي". الشرطُ مُضحِك مُبكٍ؛ فمَن طأطأَ رأسُه لا يُمكن أن يكونَ حُرًّا، وأكم مِن شُروطٍ جَرَّدَت قيمًا كُبرى مِن جَوهرِها، وتركتها باليةً جَرداء. *** دَرجنا على الحديثِ عن هَوامِشٍ للحُرِّيَة، تضاءَلت واحدًا وراءَ واحدٍ حتى تلاشَت؛ فلا هامش ولا رُكن ولا ثَغرة، ولا مَفَرّ مِن الاعترافِ بأن حُرِّيَةً مَنقوصَةً لا يُعَوَّل عليها في إحرازِ أيِّ نَصر.
____
بَصِيرَة
طالما سَمِعت مِن جَدَّتي وصفًا لا أسلاه؛ إذ اعتادت أن تقولَ عمَن غابت عنه حقائقُ الحياة، وضلَّ عما بدا جليًّا للآخرين: هو أعمى القَلبِ والنَّظر. العَماء المُضاعَف وَبال تستعصي مداواته؛ فذاك امرئ عجزت عيناه عن رؤية ما وقع أمامه، مثلما عجز قلبُه وتاه حدسُه وخابت مشاعرُه، وغدا مُجرَّدًا مِن البَصر والبَصِيرة معًا. القلبُ المُبصِر عند مَن أوتوا بعضًا مِن الحِكمة ومِثقالاً مِن خِبرة السنين؛ يأتي قبلَ العَين، وفي مأثورات الأولين وأقوالِهم ما يؤكد هذا المعنى ويُعضِّده. *** يبدو الفارقُ بين فِعليّ الإبصار والاستبصار شاسعًا؛ الأول له طابعٌ مَاديٌّ، أما الثاني فذو دلالةِ مَعنوية، الأول يُمكِن قياسُه بأجهزةٍ خاصةٍ وأدوات، والثاني لا يخضع أبدًا لمقاييس مَلمُوسة. لا يحتاج المُستَبصِر إلى عينين سليمتين ونظرٍ ثاقبٍ، إنما تلزمه قدرةٌ داخليةٌ على الإدراك. *** تقول مَعاجمُ اللُّغةِ العربية؛ أَبْصَرْتُ الشيءَ أي رأيته، وإذا قِيل باصَرْتُه؛ فالمعنى رأيته مِن بعيد، وتَباصَرَ القومُ أي رأوا بعضَهم بعضًا، والمُبصِر نقيضُ الضَّرير. التَّبصير بالشيء هو إِيضاحه والتوعية به؛ البَصِير بالأَشياء هو العالم بخباياها والكاشف لبواطنها، والقيام بالأمر عن بَصِيرَة أَي أداؤه عن عِلم وعَمْد، أما قضاؤه على غير بَصِيرَة؛ فعن جَهلٍ وقِلَّة مَعرفة، ويُقال إن البَصَرَ نَفاذٌ في القلب، ومنه أن التَّبَصُّرَ تَّأَمُّلٌ وتَّعَرُّف. البَصِيرَةُ هي إذًا عقيدةُ القلبِ وفِطنة المَرء؛ فمَن عَميت بصيرتُه غابت عنه الفراسةُ وتوارَت الحِكمة. *** أفصَحت بعضُ الدراسات الحديثة عن أن القلبَ قد يُمارس دورًا عَرفه الأقدمون وأدرجوه في سردياتِهم؛ لكنهم لم يثبتوه بالوسائلِ العِلمية. هذا الدور أبعد مِن ضَخِّ الدماءِ النقيَّة في أنحاء الجَسد واستقبالها مرة أخرى؛ إذ يتعلَّق بالخلايا العَصَبية وخصائصها العليا التي تتدخَّل في المشاعر والأحاسيس وربما الأفكار. القلبُ الأسودُ والقلبُ الأبيضُ وكذلك القلبُ الكبير؛ قد لا تبقى مُجرَّد تعبيراتٍ مَجازية، بل تتحولُ في المُستقبل القريب إلى مُصطلحاتٍ دقيقة؛ لها تعريفات يتوافق عليها العلماء. *** وضع الشيخُ الطوسي كتابَ "الاستبصار فيما اختلف من الأخبار“ ويُعدُّ أحدُ الكُتُب الشيعيةِ المَرجِعية؛ الجامِعة للأحاديث. هدفُ الكتابِ التحقيقُ فيما تَعارَض مِن رِوايات، وإرشاد المُبتدئين في طريقِهم وإزالة ما التَبَس عليهم، والعنوانُ بالتالي خير اختيار؛ فالاستبصار كشفٌ للأمورِ وتبيين واستجلاء. *** مِن أشهر الشخصيات المَسرحية التي ظهرت في القرن الماضي؛ سرحان عبد البَصير. الشابُ المِثاليُّ حَدَّ السذاجة، العاجز عن مُجاراة الآخرين في مَسالكهم وأفعالِهم؛ لا يفهم التلميحَ ولا يستوعِب في الوقت ذاته التصريحَ، يُعبِّر اسمُه الأول عما فُطِر عليه مِن حال، فيما لقبُه مَقرون رغم المُفارقةِ بالبَصيرة. جَسَّد الفنانُ عادل إمام دور سَرحان في "شاهد ما شافش حاجة"، لتحتلَّ الشخصيةُ بتناقُضَاتِها البريئة ما بين غفلةِ البراءة وسلامةِ النية ومَلكَة الاستبصَار؛ مساحةً باقيةً في ذاكرةِ الجماهير. *** تقول العرَّافةُ التي تنبَّأت بسوءِ المَصير: بَصَّرت ونجَّمت كثيرًا.. لكني لم أقرأ أبدًا فنجانًا يُشبِه فِنجانك.. بَصَّرت ونجَّمت كثيرًا.. لكني لم أعرف أبدًا أحزانًا تُشبِه أحزانَك. تلك النبوءة التي استشرَفَت الآتي خرجَت على ما يبدو من جَدارِ فِنجان القهوة؛ وسيلة استبيانِ الطالع واستطلاع المَخفيِّ، والحقيقةُ أن مَعرِفةً وافيةً بمُعطيات الحاضر لا تحتاج في العادة إلى فناجين؛ إذ تقود البَصيرة السليمة إلى استنتاجاتٍ دَقيقةٍ وتوَقُّعاتٍ لا تَخيب. *** ثمَّة حِكَمٌ وأشعارٌ كثيرةٌ تتحدَّث عن البَصرِ والبَصيرةِ وما بينهما مِن فارق أصيل. يُقال على سبيل المثال إن الكَشفَ مُوكَلٌ إلى النُّور، أما الحُكمَ فمُوكَلٌّ إلى البَصيرةِ، وفي الإطارِ ذاتِه يُقال: البَصَر للآفاقِ والبَصيرة للأعماقِ. القولان مُتكامِلان بل ومُتقاربِان إلى حدٍّ بعيد؛ فالرؤيةُ تستَوجِب وجودَ الضَّوءِ، أما القضاءُ برأيٍ فيتَطَلَّب ما هو أكثر؛ دِراية ومَعرفة ورَشاد. تلعَبُ البَصيرةُ دورَها في إبعاد الناسَ عن ارتكابِ الأخطاءِ؛ فإن قَصُرت بَصائِرُهُم تكفَّل الزَّمنُ بتعليمِهم وجاد عليهم مِن دروسِه بسَخاء. *** يقول بشَّار بن بُرد وهو مِن أعظم شعراء زمَنه: يا قَومِ، أُذْنِي لِبَعضِ الحيِّ عَاشِقةٌ.. والأُذنُ تَعْشقُ قبلَ العَينِ أحيانًا.. قالوا: بِمَنْ لا تَرى تَهْذي؟ فقلتُ لهُم:.. الأُذنُ كالعَينِ تُوفي القَلبَ ما كانَا. تجاوزت الأبياتُ عِلَّةَ العَمى التي ابتُلِيَ بها الشاعر وتَخَطَّت المَواجِعَ؛ إذ العِشق لا يُمَيِّز بين مُبصر وكَفيف، ورؤية المَحبوب تكون بالحَواسِّ جميعها لا بالنظرِ وحده، والفؤادُ يحدس ما قد تغفل عنه العَين؛ وفي هذا يُنشد أيضًا بشَّار عن امرأة أحبَّها: فقلت دَعوا قَلبي وما اختار وارتضى.. فبالقلبِ لا بالعَينِ يُبصِر ذو الحُب.. فما تُبصِر العَينان في مَوضِع الهَوى.. ولا تسمع الأذنان إلا مِن القَلب. *** تعمَى البَصِيرةُ تمامًا كما يَعمى النظرُ؛ وأغلب الظَّن أن عَماءَها أخطرُ وعواقبَ فقدانها أليمة. إذا عَمِيت البصائرُ؛ رأى الناسُ الغيَّ عدلًا والتفاهَة حِكمَةً والزيفَ حقًا، بل وصدَّقوا في الكَذِب، ورفعوا الباغيَ فيهم على الأعناق، ونكَّلوا بمَن لم تُصَب بصائرُهُم بعد بالأعطاب. إذا عَمِيت البَصائرُ كانت الحاجةُ ماسةً لإغلاقِ الأعيُن؛ لعلَّ الظلامَ يُوقِظ ما خبا في القلوبِ ويدفع العِميان لاستِبصَار الحقيقة.
_____
بـَـهَاء منذ أعوام خَلت، بل كادت تُتمّم عقدًا من الزمن؛ اكتست الشوارع برحابةٍ غير مَعهودة، وبَدت أكبر طولًا وعرضًا. مَرَّت أيامٌ أرى الناسَ تزين وجوهَهم الابتساماتُ، ويعلو قسماتهم ضوءٌ يُضفي عليها حسنًا وبهاء. لم يكُن سببُ تألُّق السائرين سوى كبرياء عاد بعد طول غياب، ولم يكُن لاتساع الشوارع تفسير سوى اكتسائها ببهاءِ الانتصار. تظهر الشوارعُ اليومَ مُكتظَّة رغم الهدم والردم والتوسيع، كما يلوح الأفقُ شديدَ الضيق.
*** تقول مَعاجمُ اللغة العربية أن البَهاءَ هو حُسن المَنْظَر وجماله؛ بقدر يملأ الأعيُنَ ويُشبعها. بهاءُ المُلكِ هو مَجده، وتَباهَوا أَي تفاخروا، ومِن الفعلِ أن المُباهاةَ مُفاخرةٌ، وقد دَرَجَ الأقدمون على الحديث عما عظُم مِن أمرهم وعلا قائلين: إنّ هذا لَبُهْيَانا؛ أَي هو مما نتَباهَى به أمامَ الناس. تُورِد الشروح والقواميسُ القديمة بيتًا للأَعشى في الإطار ذاته يقول: وفي الحَيِّ مَن يَهْوَى هَوانا ويَبْتَهِي، وآخرُ قد أَبْدَى الكآبَة مُغْضَبا، والمُراد تبيين ما للهوى من أثر يجعله مصدرًا للتباهي. تُوصَف المرأةُ بأنها بَهِيَّة؛ أي جميلة الطلعة، وللرجل الصفة المذكرة؛ بهيّ. يُسمَّى البيتُ المُقدَّمُ أَمام البيوت "البَهْو"، وهي مُفردة تُطلَق على كُلِّ واسع مِن الأَمكنة، كما يمكن استخدامها كمجاز؛ فمن كان في بَهْو من العيش، فرغد ووفرة وثراء.
*** يقول المُتنبّي: وَمَا سَلّمْتُ فَوْقَك للثّريّا.. وَلا سَلّمْتُ فَوْقَك للسّماءِ.. وَقد أوحَشْتَ أرضَ الشامِ.. حَتّى سَلبْتَ رُبُوعَها ثَوبَ البهَاءِ. ذاع صيتُ المُتنبي بين الأرجاءِ، وأجاد كما لم يُجِد من قَبله كثيرُ الشعراء، والمعنى في أبياته هذه أن سيفَ الدولة الحمدانيّ الذي تمدحه الكلماتُ، يحظى بمرتبةٍ أعلى من السماء ومِن الكواكب التي تسكُنها، حتى إن خروجَه مِن الشام قد سَلبَها مَحاسِنها وذهب بجمالِها ومَفاتنها، وأزال عنها بهاءَها المَعهود. كَتبَ المُتنبّي هجاءً مثلما كتب الثناءَ، ولم يكُن أيهما مُستندًا إلى حقيقةٍ مُحايدةٍ بل مُبالغة وادعاءات؛ والمَشهود أن مَسالكَ المُتنبيين في يومنا هذا مُتشعّبة، وطرائقَهم في نوالِ العطايا والهِبات، وإرساءِ المَصالح وإشباعِ الأطماع والتطلُّعات؛ لا تُعدُّ ولا تُحصى؛ إنما يكمُن الفارقُ بين هذا وذاك في مُستوى الجَّودة، واكتمال الميزانِ والحرفة. على كل حال للحقائق مهما قست بهاؤها، وللزيف دنو مهما كان بريقه.
*** يحظى أناسٌ ببهاء الطَّلَّة، فيما يُمنى أخرون بقتامةٍ لا يُبدّل مِنها أمرٌ؛ تتعاقب عليهم المُفرِحات كما تفعل الرزايا، ولا تُغيّر هذه أو تلك مِن حالِهم الثابتة. لا يقتصر استخدامُ المُفردةِ على البشر، فاللغةُ تُوصَف في أوْجِ تألُّقِها بالبَهاء، ويتمتع بالصِفةِ كذلك ما ارتفع شأنُه واستقام مِن القصائدِ والأشعار، وكثيرًا ما يَرد في مَعرضِ الحديث تعبير: "بهاء القصيد".
*** لم أعرف في حياتي سوى أشخاصٍ مَعدودين لا يتجاوزون أصابعَ اليدّ الواحدةِ، مِمَن حملوا أسماءَ بَهاءَ وبهيَّ، وبالمثل؛ قليلات هُنَّ مَن حَمَلن اسمَ بهيَّة. رغم طزاجةَ الاسم وجَمَال مُشتقَّاتِه، فإنه لا يَجْد بين السوادِ الأعظَم مِن الناسِ إقبالًا وانتشارًا؛ ولو على سبيل الاستبشارِ بالطالعِ ومُناوشةِ الآتي.
*** اندرجَ اسمُ بَهيَّة في أشعار غِنائية مُتعدّدة مِنها "يا بهية وخبريني يا بوي ع اللي قتل ياسين"، وهي أغنية تحمل حكايةً مِن التاريخ ذات وَجهين؛ أولهما يُوحي ببطولةِ ياسين في تحديه السُلطة ومُقاومته طُغيانها، والثاني يُقدّمه قاتلًا تَستَوْجِب جرائمُه العِقابَ، وما بين النقيضين أحداثٌ تَستحِقُّ أن تُروَى، وتداولٌ شعبيٌّ يَحضُّ على البَحثِ والدراسة. على كل حال، أدى هذه الأغنيةَ أكثر مِن مُطرِب، وحَفِظ الناسُ كلماتَها، ولا تزال تتردَّد حتى اليوم، دون أن تكون الحكايتان المُتباينتان حاضرتين في الأذهان. بدوره؛ غنَّى محمد العزبيّ: "رُدّي البيبان يا بهية"؛ فكانت مِن أكثر أعماله شُهرةٌ وأوسعَها انتشارًا. كتب كلماتها مُحمد حمزة، ووضع ألحانَها بليغ حمدي، ويُقال إنها خَرجت إلى الوجود بطلبٍ مُباشر مِن المَلك الحَسن الثاني، وأداها العِزبيّ للمرةِ الأولى في حُضورِه.
*** أشهر بَهِيَّة في الدراما هي الجميلة مُحسِنة توفيق؛ الرمزُ المُتجاوز للأحقاد والصغائرِ، والذي لم يختلف عليه أغلبُ الناس. إذا أطَلَّت مُحسنةُ مِن الشاشة في أي مِن أدوارِها؛ استدعى حضورُها إلى الذاكرةِ الوَطَنَ، واقشعرَّ البَدن، وجاشت النفسُ بمشاعرٍ جَمَّة؛ يُزكّيها بؤسُ الواقع، ويُضفي عليها عميقَ المَرارة والأسى.
*** غنَّى الشيخُ إمام: "مصر يا مه يا بهية" دافعًا بها أمامَ الزَّمن؛ يَشيخُ ولا تَشيخ، يمضي وتمكُث، يَمُّر ويَبلى فيما تبقى على حالها، بل وتزداد بمرور الوَقتِ أصالةً وبَهاءً. كثيرًا ما تُكنى مصر ببَهِيّة؛ لا يُخطئ تفسيرَ الكِنيةِ واحدٌ مِن أهلِها بل ومِن جِيرانها. تعارف الناسُ على جمالِ واديها وحُسنه مُنذ قديم الأزل؛ فنهر مُعتدلٌ رَحيب، وسماءٌ طالما تجلَّتَ صَافيةً للناظرين، وطَقسُ رائِقٌ تحاكَينا فيما مَضى باعتدالِه، وحفِظنا كأسمائِنا تَوصِيفه. تضافَرت تلك العواملُ لتجعلَ مصر بَهِيًّة، لكن العاملَ الرئيسَ الذي صاغَ روعتَها وأقرَّ بهاءَها ليس جمادًا؛ بل شعب ضاربةٌ جذورُه في التاريخ، ينهضُ مِن رَماد الأرضِ المُحترقة، فيُعيد لها ما فَقَدَت على يدِّ الطُغاة، ولو طالَ به الرقاد، ولو ظنُّوا ألا قَومَة في وجودِهم ولا نُهوض. لا أظنُ كلماتَ أحمد فؤاد نجم قد أخطأت الطريقَ أو حادت عن الحقيقة.
مَـصِير
في أواخر التسعينيات عَرَضَ يوسف شاهين فيلمَه المَصير؛ مُستعيدًا تلك المعركةَ الفكريَّة الكُبرى التي قامت بين قُطبين مُتناقضين، وأحرقت بمقتضاها كتب أحدهما؛ الفيلسوف الأندلسيّ ابن رشد. مثلما أضاء الفيلم مصباحًا حول مصير ابن رشد؛ فقد أشار إلى ما ينتظر كُلَّ قادم جديد، يحمل في رأسه مفاتيحَ الحرية، وبين يديه مشعلٌ يُضيء الطريق. *** ثمة محاولات مُتطورة وحديثة لاستنساخ المَصير؛ فالمَحرقة التي تعرَّضت لها كُتُبُ الفيلسوف بغية القضاء على مِيراثه الفكريِّ المُتفرِّد؛ يتعرَّض لها- مع حِفظ المراتب والألقاب واحترام المسافات- أصحابُ الفِكر في يومنا هذا؛ لكن الفعلَ الغاشم الذي طالَ الأوراقَ وأحالها في زمنٍ ولَّى إلى رماد، لم يعُد مُجديًا الآن؛ فثمَّة فضاءٌ إلكترونيٌّ رَحب، يحتَضِن النصوصَ ويحميها. المَحرقةُ الجديدةُ مَنصوبةٌ، لكنها تنالُ مِن الكاتب بشخصِه؛ جسدًا وعقلًا. مِن أصحاب القلم مَن يُزجُّ بهم بين جُدران صامِتة مُعتِمة، ومَن يُهدَّدون بالإيذاء الماديّ المُباشر، ومَن تُرَوَّع عائلاتُهم ويُتَّخذ أفرادُها رهائن. هناك أيضًا مَن يُمنع مِن النشر، ومَن ينشُر فتتعرَّض كتاباتُه لألوان مِن المُصادرة؛ وتلك أقلّ الأضرار التي باتت مُتوقَّعة. في بلدان كالصين وكوريا الشمالية؛ سُجناءُ فِكر ورأي، وفي روسيا مثلهم، وما أكثرهم مُعتقلين في ربوع البلدان العربية لا يُستثنى مِن أقطارها تقريبًا قُطر. *** يُقالُ إن كُلَّ حَيِّ مَصيره الفناء، والحقُّ أن الفناءَ حَتمِيٌّ؛ لكن الأثرَ يبقى ويستَمِر. البعضُ يترك خلفَه سيرةً يذكُرها اللاحقون بفائضِ التبجيل، وبعضٌ آخر يترك الناسَ مِن بعده مُبتهجين؛ إذ شهدوا برحيله انزياح الغُمَّةِ واستفاقةَ الأُمَّة. *** تعكس المَصائِر المُتشابهةُ في العادةِ بداياتٍ واحدة؛ لكن طُغاةً كُثر لا ينظرون الدَّرسَ، ولا يستفيدون مِن تجرِبة السابقين؛ يظنون أنهم الأذكى والأحوط والأدهى، ولا يكفيهم ما جمعت الأرضُ مِن صِيغ التفضيل. قد يحاولون تَجَنُّب أخطاءِ السَّلف في مَسيرتِهم، لكنهم يتناسون أن الهدفَ واحدٌ مُشترك؛ لا تغيّره التفصيلاتُ الصغيرةُ ولا يُبدله حذر. تسوقُهم المَطامع إلى المَصيرِ المَعلوم وكأنهم عميانٌ؛ لا يُبصِرون سوى أحذيتِهم الثقيلة. *** المَصِيرُ في معاجم الُّلغةِ العربية هو مآلُ الأشياءِ ومُنتهاها؛ هو المَوضِع الذي تمضي باتجاهِه المِياه، وهو الأمعاءُ التي ينتقل إليها الطعامُ حيث تكتمل عملياتُ الامتصاصِ والهَضم. المَصير هو المَرجِع؛ فإذا قِيل صِرت إلى فلان، يكون المَعنى؛ رَجِعت إليه، ويُقال أيضًا صار الأمرُ إلى ما هو عليه، وصيَّرت أنا الأمرَ أي؛ جعلته في صورتِه المَنظورة. *** "بِئسَ المَصير" تعبير شائع لأصوله الدينية؛ والمُراد به إشارة لسوءِ الفعيل وما سيقود إليه لا مَحالة مِن هلاك. في الذاكرة الشعبية ما يُترجم التعبيرَ المُختَصَر بتوصِيفٍ طَريف؛ فقد اعتاد الناس قولة: ”مَصيره أسوَد مِن قرنِ الخَرُّوب“، والخَرُّوب الذي به يُضرَب به المَثَل، نباتٌ فيه فوائد مُتعدّدَة وعظيمة، ولونه داكنُ السُمرة، والعادة جرت على اصطفاءِ الفواتح وازدراءِ السواد ووَصمِه بالمَصائِب. *** للأُمَمِ بطبيعةِ الحال أن تُحدد مَصائرَها، وتصنع بأيديها مُستقبلها، وتقرر ما تفعل بحاضرِها، وما يعني لها ماضيها. تقرير المَصير حقٌّ للشُعوبِ كافة بلا استثناء؛ لا تخضع فيه لسُلطةٍ خارجية، ولا تتلقى بشأنه إملاءات، ولا تقبل أية تهديدات بغيةَ السيطرة على مُقدارتها والتَحكُّم في قيادها. الحالُ ليست دومًا على هذا المِنوال؛ فتدابير شتَّى تستلِبُ مِن الشُعوبِ حقُوقها، وتتلاعب بمصائرها، ويتواطأ على إهدار استقلاليتها حكامُها. *** قدَّمت ماجدة الرومي في فيلم "عودة الابن الضال" أغنيةً مِن أجمَل أعمالها؛ آدي اللي كان، وآدي القدر وآدي المصير.. نودع الماضي.. وحلمه الكبير.. نودع الأفراح... نودع الأشباح.. راح إللي راح ومعدش فاضل كتير. إلى آخر الكلمات التي وضعها صلاح جاهين وصاغ لها اللحنَ كمال الطويل، وقد أخرج يوسف شاهين الفيلم عام ألف وتسعمائة وستة وسبعين؛ والمصير المقصود ها هنا، لا يتوقف عند الهزيمة المريرة التي تلقاها الناس عام سبعة وستين، بل يتخطاها مُتطلعًا إلى الآتي. *** كثيرًا ما تتقاطع الكلمتان: "مَسير" و"مَصير"، الفرق بينهما حرف وحيد، وقد يغدو معناهما متقاربًا وقد يحدث بينهما تكامُل؛ فالمسير في طريق ما سيؤدي تلقائيًا إلى ملاقاة المصير. يقول المَثلُ الشعبِيّ: "مسير الحَيّ يتلاقى" أو ربما هي "مَصير" الحَيّ يتلاقى، والمعنى أن الناسَ في حركتِهم الدائمة يجدون بعضَهم لا مَحالة، والدنيا في الحِكمة المأثورة جَدٌّ صَغيرة، يكفُل صغرُها التقاءَ عابريها؛ مهما تباعدوا وتفرَّقت بهم السُبُل. لا مَهرَب لأحد مِن مَصيره في اتساع الأرض وتراميها. *** يقول شوقي في قصيدته مصائر الأيام: حَياةٌ يُغامِرُ فيها امرُؤٌ.. تَسلَّحَ بالنابِ والمِخلَب.. وقد ذَهبَ المُمتلي صِحَّةً.. وصَحَّ السَقيمُ فَلَم يَذهَب. تلك مَصائرٌ تُخالفُ التوقعاتَ؛ فعِلِّة لم تُودِ بصاحبِها وتركته يحيا، وسليمٌ مَضى وترك الحياة، والعبرة بما أنجز كلٌ مِنهما في مسعاه؛ فثمَّة مَن عاش لحظاته حرًا كريمًا، ومَن عاش دهرًا مطأطئ الرأسِ ذليلا.
صحوة
يقول الناسُ عمَن تبلَّدت مشاعره وتكلَّست أن قلبَه مَيت. القلبُ المَيّت يعكس غلظةً وقسوةً وجفافًا؛ إذ لا يختلج أمام عِشقٍ ولا ينخلع في فاجعةٍ، ولا يضطرب تجاه ما يهزُّ الآخرين. صَحوةُ القلبِ بعد طول رقاد تضُخُّ الدماءَ في الشرايين، وتُحيي المشاعرَ وتنقِّيها.
*** تذكُر مَعاجمُ اللغة العربية أن الصَّحوةَ هي المرةُ الواحدةُ مِن الفعل صحا، والصَّحو هو نقيض السُّكْر، ويُقال صحا السَّكْرانُ بمعنى أفاق، وإذا لم يكُن مِن سُكْرٍ فالصَّحو يعني تَركَ الباطل. الصَّحو كذلك هو غيابُ الغَيمِ والبرد؛ تُوصَف السماءُ بأنها صَحوٌ ما تركتها السُحُبُ وتبدَّت شمسُها مُشرقةً دافئة. إذا غادر المرء حال الوله والعشق فقد صحا منه؛ قال جرير: أَتَصحُو أَم فؤَادُكَ غيرُ صاحِ؟ والمعنى أنه سكران مِن الحُب، مَفتون به عما دونه، أما في حقلِ الفلسفة الصوفية؛ فتشير الصَّحوةُ إلى رجوع العارفُ إلى الإحساس بعد غيبته.
*** إذا تحسَّن مريضٌ تحسُّنًا ملحوظًا وبدا في تعاف من مرض عضال؛ قيل هي صحوة الموت. محاولة أخيرة يشحذ فيها الجسد ما تبقى له من طاقة ويخرجها مرة واحدة؛ وغالبًا أخيرة.
*** اقترنت مفردة الصحوة بصفة "الإِسلاميةُ"؛ والقصد يَقظَة مِن بعد خُمول، ونشاط فازدهار يعقبان أفول. كثيرةٌ هي الصَحوات المرغوبة التي تظهر بين الحين والحين في الكتابات والأحاديث، بينما تقطع الأدلةُ الملموسة بأنها مَحضُ وَهم. تحتل الصحوةُ العربية موقعها على رأس القائمة؛ فالواقع يعكس خيبة كبرى، ومواتًا غير مَسبوق. ما من يقظة لمسئول واحدٍ تبعث الأمل في الناس، وما مِن صَحوةٍ تبثُّ الحماسةَ في العروق. تتطلَّب الصَّحوةُ المَنشودةُ مُراجعةً للذات، وإعادةَ نظرٍ في ما كان مِن إخفاق ورسوب؛ وقفة تتحرى الحقائقَ وتُسمّي الأشياءَ بأسمائِها؛ لا تُزيّن الواقعَ ولا تُجمّل وُجُوهَ الأنظمة البائسة أو تخلع عليها صفات مُقدَّسة.
*** قد تظل العواملُ المُؤديةُ إلى صَحوة الغافل خافيةً مُستَتِرة، لا تظهر على السطح ولا يدري بها أحد، بل يتساءل الناسُ عما جرى، وأفضى إلى الصحيان والانتباه بلا سابق تمهيد. أمثلة كثيرة أفاق فيها شخصٌ مِن غفوة ثقيلة؛ هادمًا توقعات المحيطين به، مغيرًا من حاله، مثيرًا للأقاويل.
*** جذب كتابُ ”عودة الوعي" لتوفيق الحكيم انتباهَ كثيرِ الكُتَّاب والساسةِ والمُثقفين؛ فصحوة مُتأخرة وإدراك، ثم استدراك لما كان. نالت الحكيم اتهاماتٌ عدة بسبب الكتاب، ففد عُدَّ مُقربًا من عبد الناصر في حينه، لكنه راح ينتقد عهدَه ويُعدِّد مَساوئه بعد الرحيل. قام الجدلُ حول ما طرأ على مَوقف الحكيم مِن تغيير، والأسباب التي أدت إلى تبدُّل حاله، ونحا النقاش إلى تقييم نُصوص الكتاب على مقياس الصدق والاتساق. ربما أجاب السياقُ عن بعض التساؤلات؛ فالخوف وإيثار السلامة قد يصنعان الكثير.
*** ربما تكون صحوة الضمير بعد خدر طويل؛ إيذانًا برد الحقوق إلى أصحابها وكفّ المظالم عن المقهورين؛ لكن تلك الصحوةَ تحديدًا بمنزلة استثناء لا قاعدة؛ فضمائر يابسة لا يُؤمَل في الأغلب أن تفيق، وإن أفاقت فبعد فوات الأوان.
*** كتب كامل الشناوي من بين ما كتب: قدر أحمق الخطى سحقت هامتي خطاه.. دمعتي ذاب جفنها.. بسمتي مالها شفاه.. صحوة الموت ما أرى أم أرى غفوة الحياة.. أنا في الظل اصطلي لفحة النار والهجير.. ومصيري يشدني لهوى ماله مصير. غنى عبد الحليم الأبيات في الستينيات، وهوجم لأسباب عدة تتعلق بالمحتوى والمعنى، فقد عده بعض من نصبوا أنفسهم حراسًا على عقول الناس؛ مجترئًا على الدين. يجذب التضاد بين مفردتي "صحوة" و"غفوة" الانتباه؛ خاصة في اقترانه بالتضاد بين الموت والحياة، إذ تغدو المحصلة خالية من المتناقضات؛ فإذا حضر الموت ونشط؛ تكاسلت الحياة وخبت علاماتها.
*** نشأت بالعراق كيانات مؤلفة من تجمعات عشائرية؛ عرفت بمجالس الإسناد والإنقاذ، هدفها المعلن مواجهة تنظيم القاعدة ووقف الفتنة الطائفية، وقد أطلق على هذه المجالس مسمى "الصحوة". هذه الصحوة تلقت من قوات الاحتلال الأميركي أموالا وأسلحة، بعض المرات بطريق مباشرة، وبعضها الآخر من خلال الحكومة العراقية. ادعى الطرفان وحدة أهدافهما، لكن النتيجة التي أحرزتها الصحوة لم تكن على الإطلاق مُرضية؛ فكأنها كانت موتة لا أكثر.
*** صحوة الشعوب والأمم في أرجاء المعمورة مدهشة للمتابعين؛ فثورة هنا وأخرى هناك؛ حركة تولد من سبات وفعل ينبلج من جمود ويحرض على المزيد، والمد يتنقل بين القارات دون الحاجة إلى إذن بالعبور أو تصريح، فيما الروابط التي تجمع الناس تتعاظم وتشتد. الصحوة استفاقة العقل؛ إدراك لاحق لما غاب وتوارى، طال الزمن أو قصر.
| |
| | | | ® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11570 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2020-08-27, 7:41 am | | اختلال
بين الحينِ والآخر تُعلِن وسائلُ الإعلام عن مُختَلٍّ قامَ بفعلٍ جذب الأنظار، وأدهش الناسَ أو أفزعهم. جرت العادةُ بأن يُساء استخدامُ الكلمة ويُعاد توجيهُها؛ بما يجعل الوصمَة التي تطال مَن خَفَّت ركائزُ عقولِهم لعلَّة من العِلل، تنال في الوقت ذاته مِن عاقلين؛ حادوا عن مَسارات المُجتمع الجامدة، واخترقوا المَحظور. يُصدِر الناسُ أحكامًا مُسبَقة بشأن المَوصومين؛ لا يهتمون بمعرفة الأسباب، ولا ينتظرون اتضاحَ التفاصيل، واستبيان ما خفيَ مِن دواعي الاختلال. مَررت بكثير "المُختلِّين" مِمَن يتمتعون بنظرةٍ ثاقبةٍ مُتزنة ورأيٍ سديد؛ لم تكُن رجاحةُ العقل لشديد الأسف عونًا لهم على احتمالِ سوءِ العَيش، ولا كانت البصيرةُ حمايةً مِن عتمَة المصير.
*** ثمَّة أشخاصٌ يأبون الاندماجَ في أجواءٍ تَزكُم بعطنِها الأنوفَ، يحاولون تطهيرها مِن الغثاءِ فينتفض مُريدوه، ومع كُل واقعة كاشفة؛ تفضح بُؤسَ الصورة، يظهر اختلالُ العقل كدافعٍ لا يجوز رَدَّه؛ فيغدو إجابةً لسؤالِ المُشاهدين، وأداةً لإرضاءِ المُرتابين وإطفاءِ شكوكهم. الأفعالُ المُربكة لا حدَّ لها ولا دليل لمنعها، والعقلُ المُختلُّ مُبرِّرٌ كافٍ عند أغلب الناس؛ يُخفِّف مِن دهشتهم إزاء أية واقِعة، ويُسوغ ما جرى وما قد يجري مُستقبلًا، بل ويضعه في إطار القدر المَحتوم.
*** اختلالُ الشيء في مَعاجم الُّلغة العربية يُشير إلى عُطبٍ شابه، بينما المُفردةُ في قديم القواميس تعني اتخاذَ الخَلَّ مِن عصير العنب والتمر. خَلَلُ الفعلِ هو فساده وقِلَّة إحكامه، والأمرُ المُختَلُّ هو الأمر الواهن، أما مَوطِن الخَلَل؛ فهو مَحلُّ الاضطراب والضَعف. إذا وُصِف الثوبُ بأنه خَلٌّ؛ فالمعنى أنه بالٍ مُهلهَل، وإذا قيل عن شخص إن جسدَه مُختلٌ؛ فالقصد أنه نحيفٌ هَزيل. أخلَّ بالشيء أي أجحفه حقَّه ولم يستوفِه، وأخلَّ بمركزِه أي غاب عنه وتركَه، وقديمًا كان يُقال إن الوالي ”أخَلَّ بالثغور“؛ إذا خَفضَ عددَ الجُند بها وعرَّضها لبطشِ الأعداء.
*** بعضُ المرات يكُون الاختلالُ حِسيًا ملموسًا، وفي مراتٍ أخرى يكون معنويًا؛ لا يشعر به أحدٌ، ولا يراه رؤيَ العين سوى مَن يُعانيه. تختلُّ عضلةُ القلب ويضطرب عملها، تمامًا مثلما تختلُّ المشاعرُ وتختلط على أصحابها؛ كلاهما مُوجع في ذاته مُخيف، والحال أنهما قد لا ينفصلان؛ إذ يغذي أحدهما الآخرَ ويُفاقمه. يقول الشاعر العباسيّ القديم: لا يهُن عندك اختلالٌ بجسمي .. فقوامُ الأرواحِ بالأجسامِ. كذلك يصلح مَعنى البيت إن انعكست الأدوار ويستقيم؛ فالصِلةُ القائمةُ بين الجَسد والروح، لا تقتصر على اتجاه واحد.
*** حديثُ البيئة والطَّقس وما اعتراهما مِن تغيُّر مَلحوظ، وتبدُّل، فاختلال عميق؛ يحتلُّ موقعًا رئيسًا مِن وسائل الإعلام الأجنبية، بينما يظهر على استحياءٍ في المنطقة العربية، ويكاد يغيب عن كثير الساحات. أشاهد يوميًا في الذهاب والإياب؛ اقتلاعَ الأشجار وغرسَ الخرسانات، ودكَّ الحدائق لصالح جسور وشوارع إسفلتية؛ لا تخلو ضفافُها مِن أكوام النفايات. يتباكى المَسئولون صباحًا على احتضار الأخضر، ويضربون معاولهم مساءً لدفنِ ما تبقى منه.
*** إذا طاردت النعامةُ أسدًا؛ كان صنيعها علامةٍ على اختلالِ المَوازين، كذلك إذا صعد مَن لا يستحقُّ الدَرَجَ، وتربَّع على عَرشٍ من العروش، وهانَ مَن يفوقونه قيمةً ومَكانة. المَوازين التي يُصيبها الخلل هاهنا؛ تعطُّل عدالة التقييم وتقلب الأحوال رأسًا على عَقب، فلا يعود المرءُ على ثقة مِن أمره أو من أمر غيره.
*** يسير لاعبُ الأكروبات على حبلٍ رفيع، يُمسك بمُنتصف العصا المُمتدة تحاشيًا للسقوط، فإذا اختلَّ توازنُها بين يديه، ولم يكُن في مُتناوله بديل؛ سقط مِن علٍ. بعضُ الأشخاص يتراقصون على الحبالِ؛ لا عصا في حوزتِهم ولا هم يهتمون بحفظ توازنِهم، قد يواصلون لعبتَهم ردحًا مِن الزمان؛ لكن خسارتَها قاضيةٌ وأكيدة.
*** الاختلالُ حَدَثٌ ذاتيّ، أما الإِخلالُ ففعلٌ إراديّ؛ فإذا أخلَّ الفردُ بنظامٍ ما، عُوقب مِن قِبل واضعيه. بات الإخلالُ بالأمنِ العام تهُمة جاهزةً مَصكوكة؛ لا يدري أحدٌ كنهَها ولا يُدرك سبيلَ اتقائِها. الأمنُ حال مَرغوبة ولا شكّ؛ لكن مُتعلقاتها غائمة، وضوابطَها قابلةٌ للتمدُّد والثني والتطويع؛ ما قد يراه واحدٌ إخلالًا بمُقتضيات الأمن الواجبة، يجده الآخر حقًا طبيعيًا مشروعًا.
*** يقول المثلُ الشعبيّ: "خُدْ مِنِ التَّل يِخْتَل"، والمعنى أن التبذيرَ وسفه الإنفاق قادران على تَبديد الثرواتِ مَهما تضاعفت وبَلغ حجمُها، والحقُّ أن التلَّ القائمَ في الجوار قد أصابه الاختلالُ مِن كثرة ما فقد، وصار مشرفًا على الاختفاء؛ فما يُؤخذ منه لا يُرد، وما يُنتقص لا يتم تعويضُه.
*** إذا اختلَّ المَقودُ في يدِّ مَن يُمسِك به، اعوَجَّ المسارُ وبات الاصطدامُ وشيكًا، وإذا اختلَّت الرؤيا وغامَت، وتَضَبَّب الإدراكُ، وأفسد القدرةَ على استجلاء الآتي؛ توجَّب البحثُ عن بدائل.
خِزي
إذا ارتكب واحدٌ فعلًا قبيحًا، قِيل له "يخزيك"؛ دعاءٌ مُباشر بأن يتعرَّضَ للفَضح وأن ينكشِفَ أمام الناس؛ فيصبح في مَوقًف مُخجِل مُهين، لا يتمناه أحد.
*** الخِزْيُ في معاجم اللغة العربية هو الهَوان، وخَزِيَ المرءُ بمعنى هان، أو وقع في بَليَّة وشَرٍّ أورداه مَورِد الإذلال. أَخْزَيْته أَي فَضَحته، والخِزْيُ بمنزلة الفَضيحة، ويُقال خَزِيَ الرجلُ إِذا افْتَضَح أمره وتَحيَّر، ويشير الخِزي أيضًا إلى الندامةِ والأسفِ على ما وقع، بينما تأتي الخَزايةً مِن الاستحياء؛ فإذا خَزيت فلانًا فقد اسْتَحييت منه.
*** بعضُ المَرات تقسو الظروفُ وتُجبِر الناسَ على قبول ما لا يريدون، وتجعلهم في حالٍ مِن الخَجَل والضِّيق؛ لا يستطيعون منها فكاكًا. رأيت مَن يؤدي عملًا لا يُلائم وضعَه الذي يستحقُّ، ولا يتناسب مع ما أتقنَ مِن مَهارات، ولا يليق بتعريفِه في بطاقةِ الهُوية وتَوصِيفه، وما يُفترَض أن يضطلعَ به مِن مَهام وأدوار؛ لا لخيبة ذاتية أو فشل حقَّقَه بيديه، بل لأن ثمَّة مَن يَفرض عليه هذا العملَ وما دونه. الخزيُ يُكلِّل النظراتِ، والذُلُّ في لُغةِ الجَسد المُستكينِ واضحٌ لكُل ذي عينين.
*** كثيرًا ما تساءَلت، ترى أي مَهانة تنال باحثٌ أو خريجٌ جامعيّ؛ يجلس القرفصاءَ أمام أقفاص الخضروات مُنتظرًا المتسوقين؟ أي خزي ينال مِن نفسه ويقوض عزمه؟ يُقال إن كُلَّ عملٍ شريف وسامٌ على الصدر، لكنها قَولة حقّ يُراد بها باطل ولا شكّ، فمِن الناس مَن بذل جهدًا عظيمًا للوصول إلي مَرتبةٍ بعينها، ومَن صبر في سبيلِها صبرًا طويلًا، وتجرَّع الحلقمَ كي يَجدَ في نهاية المَشقَّة ما يُرطِّب الريقَ؛ لكن انعدام الرؤية عند المسئولين يُزيِّن القبيحَ مِن الأفكار ويُثمِّن فاسدَها، ويهدر سنواتِ العمر.
*** يقول ميخائيل نعيمة: أخي! من نحن؟ لا وطن ولا أهل ولا جار إذا نمنا، فإذا قمنا؛ رِدانا الخزي والعارُ. يصير الهوان بعض الأحيان ملازمًا للمرء لا يتخلى عنه، مثله مثل ردائه، يلبسه في صحوه ويتحرك به ويمارس حياته في وجوده؛ وكأنه صار جزء أصيلا منه. الكلمات شارحة نفسها، موفية حقها، والحال تستدعيها وتصور أحرفها بلا نقصان، بل وتزيد عليها ألمًا فوق الألم وذلًا بلا نهاية.
*** تحمل مُفردة الخِزي ما تقارب مِن المَعاني وامتزج؛ فالمَهانة والذُل والفَضح والنَدامة، تندرج جميعُها في إطار واحد، تُسلِّم كُل مِنها لرفيقتها وتؤدي إليها؛ سواءً عن طريقٍ مُباشرة أو فرعية. كثيرةٌ هي الأفعالُ المُخزية التي تضُمُّ بين جنباتها المَعاني السابقة كافة؛ فخطاباتٌ مُلونة بالكذِب، واستهتار بحيواتِ البَشر، وإراقةٌ لكل جَميل، ثم إسرافٌ في غير مَحلِّه واستهتار؛ أرضٌ تُهدر ومَوارد لا تُصان، وبؤسٌ مَصنوع بجدارة. كثيرون هم مَن حَفظَ التاريخُ أسماءَهم وأعمالَهم؛ تلازمُها صفةُ الخِزي ويلاحقُها العار. ثمَّة مَن ينهض بالغارق، ومَن يُغرِق الطافيَ ويصنع ما يُخزيه في صحوه فيُرافقه لما بعد المَمَات.
*** رغم هذا؛ لا يَصِف الخِزيُ حالًا سلبيةً على الدوام، فأحيانًا ما تُستَخدَم الكلمةُ في أغراضِ المديح، وقديمًا كان الناسُ يتحادثون عن أشعر مَن فيهم قائلين: أخزاه اللهُ، أي أهانه. القولُ هنا إشارةُ استحسانٍ لقوةِ البيان؛ فما أتى به الشاعرُ المُتمكِّن يستحقُ كَيلَ الثناء وينتزع آيات التبجيل، ويَتَطلَّب وقايته من الحسد، وفي السياقِ ذاتِه؛ كانت القصائدُ المُتفرِّدة في مَتانة أسلوبها وقوتها، تُوصَف بأنها مُخزِية؛ دلالة على مكانة مُنشِدِها.
*** "يَخزي العَين" بمعنى يدرأ شرَّها ويُحبِط الحَسَدَ النابعَ منها ويَمنعه. التعبيرُ مُستخدَم بكثرة في الثقافة الشعبيَّة، وهناك مَن لا يزال يرفع كَفَّه في حَضرةِ آخرين؛ بمُواجهتِهم أو مِن وراءِ ظُهورهم؛ درءًا لنظراتٍ مُؤذية تحملُ السُّوء. هناك أيضًا مَن يلجأ لادعاء المَرَض كي يَخزي الأعيُنَ عنه بعد تحقيق نجاحٍ مَشهود، وهناك مَن يُؤمن بالرقية مِن شرورِ الحاسدين وصنائعهم، ومَن يُخوزق عينيّ عروس مِن الورق بالإبر ليخزيَ الأعداءَ ويُحبِط المكائدَ التي يحوكون. في هذا الإطار؛ قد تمنع الأمُ أبناءَها عن التباهي بما أنجزوا، وتَصِفهم بما ليس حقيقيًا فيهم، وتحكي عنهم ما يجافي أمرَهم بل ويُناقضه. تلجأ عن قَصدٍ وتدبير إلى رَسمِ صورةٍ أقلَّ بهاءً ونجاحًا؛ مُتيقِّنة مِن أنها تحميهم وتخزي الأعيُنَ المُتحفِّزة تجاههم، وتقيهم أثرَها.
*** مصدر الخِزي في العادة مَوقِفٌ وعِر عَصيب؛ والجَهرُ به وإعلانه بين الناس يضاعفان وقعَه. تتواتر في الصُحف أخبارٌ عن انتحار أشخاص مِن مَراحل سنِّية مُتباينة. القاسمُ المُشترك بين كثيرهم إحساسٌ هائلٌ بالخِزي والهوان؛ مَنبعه الاحتياج وعدم القُدرة على توفير مَعيشة مَقبولة؛ خاصة في وجود عائلةٍ ومَسئوليات. تتفاقم الحالُ وتتعاظم كُلما فكَّر واحدٌ مِن هؤلاء بحجم الإهانةِ التي يتلقاها يوميًا ويعجز عن تجنُّبِها أو ردِّها. إهانةٌ تدفع الإنسانَ إلى إنهاءِ وجوده؛ فغيابٌ تام خير مِن خِزيان دائم.
*** يقول أبو تمام: رأيت الحُرَّ يجتنب المخازي.. ويحميه عن الغدر الوفاءُ. الحُرُّ عند أبي تمام قادر على الاختيار، واختياراته تنحو إلى ما يصون الكرامة ويعززها، لا إلى ما يستجلب الخزي والهوان. ثمة استثناء من هذه القاعدة؛ فبعض من يتمتعون بالحرية ظاهرًا، يتخيرون بإرادتهم ما فيه إراقة للكرامة وهدر للكبرياء، لا تغريهم حريتهم بمحاولة استعمالها واختبارها، إنما بجعلها أداة زينة تلوكها الأفواه وتعجز عن تجسيدها الأفعال.
وَهَج في بعض الوجوه وَهجٌ ينبُع من روح لم تُفقِدها السنواتُ نضارتَها، وفي وجوه أخرى أفول وخواء. ثمة نظرات متوهجة يحمل أصحابها أملًا لا يتهاوى، وأخرى تنعدم فيها كل رغبة، وتكاد تشي بفقدان علامات الحياة. *** الوَهجُ كلمةٌ قليلة الاستخدام، ربما كان حظها في الكتابة أعلى مِن حظها في استخدامنا اليومي لمختلف المفردات، بل وربما كان حظها في النصوص الأدبية على وجه التحديد؛ أوفر منه في كتابات الصحافة وعناوين الأخبار ومتون الدراسات والأبحاث؛ لا يشفع لها أنها كلمة قليلة الأحرف، سلسة، مُعبّرة وغنيّة. *** كثيرةٌ هي الأشياء التي لها وَهج؛ المعادِن النفيسة، الأحجار واللآلئ، قطع الأثاثِ القديمة، اسطوانات المُوسيقى، الأمكِنة العتيقة التي لا تزال تحمل رحيقَ الماضي وبصماتِ مَن عاشوا فيها. الحياةُ نفسُها لها وَهجٌ مهما قَسَت ودالت، لا ينفكُّ العابرون ينجذبون إليها؛ رغم ما تحمل إليهم كُلّ لحظة مِن أوجاع ومُعاناة، وفي هذا يقول أبو القاسم الشابي: سَأَظلُّ أمشي رغْمَ ذلك، عازفاً.. قيثارتي، مُترنِّما بغنائي.. أمشي بروحٍ حالمٍ، متَوَهِّجٍ.. في ظُلمة الآلامِ والأدواءِ، والحال أن العِلَلَ والخطوبَ في أوجِها، لا تمحو الوهجَ الأصيلَ، ولا تطمس أثرَه في النفوس. *** الوَهَجُ في معاجم اللغة العربية هو حرارة الشمس التي تُستَشعَر مِن بُعد. توهَّجَت المَعركةُ أي استعر لهيبُها؛ إذا اتَّقدت النار قيل إنها قد توهَّجت، وبالمثل يُحكى عن وَهجَان الجَمر واضطرامه، أما الليلة الوَهِجة فهي شديدةُ الحرّ. توهَّجت النجوم أي اشتد بريقها وظهرت جليًا للناظرين، وتوهَّج الجوهر أي تلألأ ولمع، أما وَهَجُ الطِّيب؛ فانتشارُ رائحته وسريانها في الأجواء، وكذلك وَهجُ البحر. *** تتوَهَّج أعيُن القطط ليلًا؛ ويُقال إن توهُّجَها العنيف فيه حمايةٌ لها مِن المَخاطر المُحيقة، قد لا يلمح السائرون أجسادَها لكنهم قطعًا يرون البريق. على جانبيِّ بعض الطُرق؛ تنغرس عينُ قطٍّ مَعدنية في صفّ ممتد، تبرق هي الأخرى لتنبِّه الغافلين إلى المَسار، وترسم الحدودَ التي لا ينبغي تجاوزها بدقَّةٍ وصرامة. *** يقول عنترةُ بن شدَّاد في عِشقِه عبلة: أشاقكَ مِنْ عَبلَ الخَيالُ المُبَهَّجُ… فقلبكَ فيه لاعجٌ يتوهجُ… فقَدْتَ التي بانَتْ فبتَّ مُعذَّبا… وتلكَ احتواها عنكَ للبينِ هودجُ. اللعجُ في الصدر مثل اختلاجُه، والقصد أن عبلةَ فارَقَت مَحبوبَها واختفَت عنه، وخلفَت في قلبِه خفقانَ الشَّوق ووَهجَه الحارَ واضطرابَه. *** مِن الذِّكريَات ما يذهَبُ أدراجَ الرياح؛ وكأن لم يكُن في يومٍ من الأيام، ومنها أيضًا ما يحمل وهجًا مَهما تقادَم، ومهما تراكمَت عليه الأتربةُ وغطاه الغُبار؛ لقاءٌ عابر قد يجعل المَرءَ في حالٍ عجيبةٍ مِن التَوهُّج والإشراق؛ حبيب، صديق، زميل دراسةٍ أو جار قديم، وبالمثل؛ خبر يبدو تافهًا قد يضيء الملامِحَ ويبسط القسمات ويرسم خطوطَ الوجه وتجاعيده من جديد، وحدثٌ غير مُتوَقَّع قد يُحي في القلب جزلًا خبا، ويضخ فيه دفئًا وحرارة، وحماسة كتلك التي تعتري الأطفال؛ ما صادفوا لُعبةً يهوونها. *** بعضُ الأفكار لها وَهجُها الذي لا ينطفئ أبدًا ولا يتلاشى؛ وإن جَلَبت المَتاعبَ وأثارت المَخاوفَ وأربكَت الحسابات. للثورةِ على سبيل المثال ذاك الوَهجُ ما ذُكِرَت بمجلسٍ. *** للثورات المُندلعة شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، سخونتُها وألقُها وطلاوتُها، ولكلٍّ منها وَهجٌ خاص؛ عَكَست صِحَّةً أو وَشَت بمرضٍ، أفصحت عن جوع وفقرٍ أو أعلنت غضبًا، صاغت ما شاءت مِن عبارات، ورفعت ما عَنَّ لها مِن كلمات؛ هي بنهاية الأمر فعل يجُبُّ ما سبق، يكسح بعنفوانِه الرُكُودَ، ويغسل الشوارع والميادين من أدرانِها.
رَتابَة بعضُ الناس يملِكون حياةً رتيبةً؛ يتحركون فيها على وتيرةٍ واحدة. يتنقَّلون بين رَتابةِ العقلٍ الذي يُفكِّر داخلَ حدودٍ لا يتخطَّاها، ورَتابةِ الأداءِ الذي يتبع نمطًا واحدًا لا يتبدَّل، ثم رَتابة الروح التي تعيش سأمًا متواصلًا؛ لا تتُوق لمشاعرٍ جديدة، ولا تبحث عن خبرةٍ أو تجربةٍ مغايرة. *** الرَتابةُ في مَعاجم اللغةِ العربيةِ هي حالٌ مِن التَّعب؛ تُصيبُ الإنسانَ نتيجة تعرُّضِه لمؤثِّر له خاصية التواتر المُنتظِم؛ كدقَّات مُتتالية تفصلُ بينها مَسافات زمنيَّة شِبه مُتساوية. رتَب المَوقفُ أو الشَّيءُ أي؛ ثبَت ولم يتحرّك، ورَتَبَ الرَّجُلُ أي؛ اِستقرَّ فِي مكانِه، وإذا قِيل رَتَب بالمَدينةِ؛ فالمعنى أنه أقامَ بها. ترتيبُ الأغراضِ هو تنظيمُها وتنسيقُها، وترَتيب الأُمُورِ يعادل إقرارَها وتسويتَها، وإذا صِيغ مِعيارٌ لتصنيفِ جَمعٍ مُتباينِ مِن الناس؛ احتلوا وِفقًا لخصائِصهم وقدراتِهم مَراتِبَ مُختلفة عليه. *** بعضُ الأنهارِ رتيبٌ في سَرَيانه رائقُ الطَّبع، فيما البعضُ الآخر فائرٌ غليظ، يُنافِس في جَرَيانِه وعنفوانِه بِحارًا هائِجة. يتهادى النيلُ إذ يقتربُ مِن المَصَبِّ، لا يُشبه قوَّتَه عِند المَنبَع ولا يُماثِل في نهايةِ رِحلتِه أنهارًا أخرى ثائرة. مِن الناس مَن يعشقُ حَمَاسةَ النهر، ومِنهم مَن يُحبُّ السريانَ المُتأنّي؛ تيارٌ خفيفٌ باعثٌ على التأمُّل، حاضِنٌ للشُرود. على كُلّ حال؛ مع ازدياد المَوَانع التي تعوق المَسارَ وتُعرقِل الاندفاعَ، وتختزن الفيضَ الغزير؛ قد يصبح المَجرى عما قريب مُوحشًا كسولًا. *** مِن المعاني ما يُوصَفُ بالرَتابةِ؛ عباراتٌ تُكتَبُ أو تُقال لا تحملُ جَديدًا ولا تُضيفُ وصفًا أو مَعلومَةً؛ وكأنها لم تُوجَد. بعضُ البَرامِج الحِوارية رَتيبٌ؛ لا يجذبُ إليه المُتابعينَ، ولا يشدُّ الآذانَ أو يُثير الفُضولَ، وأكثرها فظّ مُتدنّي المُحتوى والقالب، يُنفِّر المُشاهدين ويبعدهم عن الشاشة. المُحصِّلةُ النهائِيةُ غيابُ ما يُشجِّع على التفاعُل ويَفرِضُ الاحترامَ، ويُحرِّض على التَّفكير. *** رَتيبةُ اسمُ فاعلٍ مِن رَتَبَ؛ لا تحمِله فيمَن نعرف إلا نساءٌ قليلات، مِنهن الرائعة رتيبة الحفني التي تآلَّقت بفنِّها، وأعطت مِن شغفِها وحبِّها وعِلمها للنغماتِ ما شحَّ وجوده في وقتنا هذا. ثمَّة لحنٌ رَتيبٌ فاقد للروح، لا يمَسَّ الوِجدانَ ولا يُشجِيه، ولحنٌ هادئٌ يترقرقُ في الأجواءِ، ويتغلغلُ بصفائِه في القلوب ويُوقظ بريقًا مَدفونًا؛ سوناتا ضوء القمر ومقطوعة قصة حب وفالس الدانوب الأزرق؛ كلها وأضعاف مثلها؛ مقطوعات تميَّزت برهافة حسٍّ لا تُضَاهى، ولا يُغادر الأروقةَ صداها ما قرأها العازفون. راتبٌ اسمُ فاعلٍ هو الآخر لكنه أقلَّ نُدرة مِن مَثيله؛ هناك أحمد راتب وجميل راتب، وكلاهما مِن أعظم الفنانين وأقدرهم، وأعلاهم حساسيةً في الأداء، هناك أيضًا عقيلة راتب التي بدأت حياتَها مُغنِّية ذات صوتٍ جميل، ثم قدَّمت أعمالًا درامية مُتعدِّدة ما بين السينما والمسرح. *** الرَاتبُ؛ هو القيمةُ المَاديةُ التي يتقاضاها المَرءُ مُقابِلَ عَمَله المُنتظِم، وربما كان مَبعثُ التسمِية هنا هو الاستقرار والدوام؛ فمُهِمَّات مُحدَّدة يتكرَّر إنجازُها، ومَبلغٌ ثابتٌ يُعطى لقاءها. تزداد الأسعار ويتضاءل الرَاتبُ؛ وبتضاؤلِه تُصبِح الحياةُ مُوجِعةً ورَتيبة، فأقل وسيلةِ ترفيهٍ تُكلِّف عائلةً صغيرةً مَبلغًا طائلًا. *** اتسمَت الحياةُ قبل عقدٍ تقريبًا برَتابةٍ مَلحوظةٍ، صباحاتٌ مُتشابهةٌ وأُمسياتٌ سَقيمةٌ، كلماتٌ مُعادةٌ، وساعاتٌ تمضي بلا حَدَثٍ يجعل لها طعمًا أو رحيقًا. انقَضَت الرَتابةُ إذ فجأة واستحالت نشاطًا عنيفًا؛ فِعلٌ يندفع وراءَ آخر حتى لا يجد المَرءُ فُرصةً للتأمُل أو حتى للإلمامِ بالتفاصيل. انتقالٌ مِن حالِ الوَخم والخُمول إلى حالِ الفوران المُتواصِل الذي يُخفي الفائتَ لصالح الآني، ويُخفي الآني لصالح التالي، ويَمحو مَفهومَ الرتابةِ مِن الوُجود. *** ثمَّة شَخصٌ "مُرتَّب" يضع فردتيّ الحذاءِ مُتوازيتين والجوربَ في مكانه، ويعلم جيدًا مكانَ أدواته، ويجد ملابسَه بسهولة في الصوان. يظُن الناسُ في ذاك الشخص أنه سعيدٌ مُسترخٍ، رغم أنه يعيش في العادة متوترًا مُرهَق الأعصاب؛ وكأنه كائنٌ قادمٌ مِن مَجرَّة أخرى، إذ مِن حوله الفَوضى ضاربةٌ، عميقةُ الجُذور. *** قد يَجلبُ الإيقاعُ الرتيبُ سأمًا ومَلَلًا؛ لكنه بعض الأحيان يَقود إلى الجُنون؛ فقطرةُ مياهٍ يُفلِتها صُنبور مَعطوب لتطرُقَ سطحًا صلبًا، وتُحدِثَ صَوتًا مُحايدًا لَحوحًا بلا نهاية؛ تُصبِح وسيلةَ تعذيبٍ مؤثرة، قد تدفع للانهيار. *** في الأفلام القديمة؛ يُداوي الطبيبُ النفسيُّ زبائنَه بالتنويم المَغناطيسيّ؛ يُمسِك ببندولٍ مُتأرجِح ذي حركةٍ ثقيلةٍ ورتيبة؛ دقائق قليلة ثم تسقط الجفونُ مُغلقَة، ويغرق العقلُ في سُبات. ليس المشهدُ بكامِلِه هزلًا ففيه بعضُ الحقيقة؛ رتابةُ الأداة التي تروح وتجيء كأنها أبديةَ الوُجود؛ قد تعبث بمُستوى اليقظةِ وتبعثُ الخِدرَ في تلافيف الجسد المُنتبِه لها. *** تَراتُب الطبَقَاتِ الاجتماعية تعبيرٌ شائع؛ يشير إلى اصطفافِ الناسِ في درجاتٍ تعلو بعضَها البعض؛ فطبقةٌ دنيا ووسطى ثم عليا، الأولى تقع تحت خطوطِ الحياة، والأخيرةُ ترفل في مَباهِجها. كما جَرَت العادةُ، يسعى قاطنوا الأولى لاستبقاء التراتُبيةِ المَقيتة، فيما ينسَحِق الآخرون.
أَوَان يُقال دومًا أن لكُلّ شيءٍ أوانه؛ وقته المَعلوم الذي يكون فيه على أفضل صورةٍ وبأحسن حال. ما ظَهَر مِن فاكهةٍ أو خُضرواتٍ في غير أوانِه يفتقر في العادة إلى طيبِ المَذاق؛ والسبب أنه لم يَحظ مُدة كافيةً بعوامِل البيئة المُناسبة التي تُنضِجه وتُغنِيه وتُكسِبه رونقه، لم يأخُذ فرصَتَه في الأرضِ ولم يتشَبَّع بخيرِها ولا تَرَك عليه الزمانُ بصمَتَه؛ أما ما بدا ناضِجًا على الأقفاصِ وبين يديّ التُجار، فبوسائلٍ فيها تحايُل وخِداع، والطعمُ لها كاشف. *** تُحدّد الأشهر القبطية أوانَ غرسِ البُذور وريّها، وساعةَ استواءَ النبتةِ ومَوعدَ حصادِها؛ إذ ارتبط التقويمُ منذ قديمِ الأزل بطبِيعة الحياة؛ الأرض والمَاء والنَبات. *** ليس الحَصادُ وحدُه ولا الحَيُّ مِن المَوجودات فقط؛ هو ما يرتبطُ بمُرورِ الزَّمن ارتباطًا وثيقًا؛ فبناءٌ يُشيَّد لا بُدَّ وأن تجفَّ أساساتُه وتشتدُّ أعمدتُه، وأن يأخذ وقتَه ويعلو في أوَانِه، بلا عَجَلة تؤثر في تماسُكِه، وبلا تسرُّع واستخفاف يُؤذيان صلابتَه؛ وإلا انهار. تَكمُن المَهارةُ في اختيار اللَّحظةِ المُناسبة؛ لا في استجلابِها عنوة، واصطناعِها بلا تروٍّ ولا تخطيط. ***
الأَوَانُ في مَعاجِم اللغة العربية هو الوَقت والزمانُ، يُقال هذا أَوانُ البَردِ؛ أيّ فَصلُه، وكذلك أَوانَ الحَجّاج. إذا قِيل وَصَلَ بَعدَ فَوَاتِ الأوَان، فالمعنى أنه لم يَلحق بأمرٍ مُهِم مِن الأمور، والسابِق لأوانِه هو المُتجاوِز زمَنَه، والقول قد يأتي مَجازًا ليصِفَ الحذقَ مُنذ نعومة الأظفار. يُعرَف الأوانُ كذلك بأنه الحينُ؛ آن أوَانُه أي حان وَقتُه، ولا أشهر مِن كلمةِ الحجَّاج بن يوسف الثقفيّ؛ الطاغية الأعظم: والله إني لأرى رؤوسًا قد أينَعَت وحانَ قطافُها وإني لصاحبها. الرؤوسُ في تشبيهه ثمارٌ؛ جاءَ أوَانُ جنيِها مِن على الأعناق، لكنَّ هذا الأوانَ لم يكُن اختيارَ أصحابِها بكُل تأكيد. *** ثمَّة أوانٌ للصَمت وأوانٌ للقَول وآخرٌ للحركة؛ فإذا اختلطَت المَواقيتُ وحلَّ فعلٌ محَلَّ الآخر، أفسد المَوقِفَ وأربكَه؛ ربَّ كلمة تخرج في وقتِها الصَّحيح فتغدو بمنزلَةِ السِّحر، وأخرى تُخطِئ أوَانَها فتصبح كطلقةِ رصاص. قِيل قديمًا؛ مِن الحصافةِ أن يعرفَ المَرءُ متى ينطقُ ومتى يسكُت، فكثير الناسِ يجهلون الحدودَ؛ حتى يضجَّ السامعُ أو يمَلَّ مَن ينتظرُ الحديث. *** غنَّى الشيخُ إمام: هِلّي يا شمس البشاير طابت وآن الأوَان.. إلى آخر الأغنية: مصر الشباب العزيزة قامت، وكان اللي كان. هذا "الذي "كان" ارتبط بحلولِ ساعةٍ مُرتقَبة، لا يتقدَّمُ عليها ولا يتأخرُ عنها، وهذا الذي "سيكون"؛ مَرهونٌ بطبيعةِ الظروف وتطوُّراتِها ومدى مُلائمتِها؛ فإذا اجتمَعت الأسبابُ وتهيأت الأجواءُ، طلَعَت الشَّمسُ ولم يُمكن لأحدٍ إخفاؤها. *** أعرف كُتابًا قادرين على صياغةِ نُصوصِهم في كُلّ أوانٍ ومكان، أعرف أيضًا مَن ينتظرون حضورَ لحظةِ وَحيٍ؛ تنطلق فيها الكلماتُ بلا جَهد، وتصطَفُّ المعاني سلسةً واضحة. أعرف قسمًا ثالثًا يكتُب، ثم يترك ما كتَبَ ليعود في وقتٍ مَعلوم؛ فيراجع الفكرةَ ويُعيد اختبارَها ويتأكد مِن صلاحيتِها. ربما لا يَفضُل أحدُ هؤلاء الآخرَ فلكلّ عاداته وطبيعته، ولكلِّ نصٍّ أوَان اختماره. *** إذا تأخر واحدٌ عن فِعلٍ وَجَبَ عليه أداؤه، قِيل عند حُصوله: لسَّه فاكر؟! في السؤال ما لا يُمكِن تجاهُله مِن سُخريةٍ واستِهجان، والقَصد أن التأخيرَ مَحا الاحتياجَ وجعله طيَّ النسيان. كُلُّ ما جاء بعد فواتِ أوَانِه؛ فقد جزءًا عظيمًا مِن قوتِه وبَهت وقعُه وتلاشى؛ فغوثٌ بعد نجاة مَلهوف، أو غضبٌ بعد انقضاءِ السبب، أو إجابةٌ بعد زوالِ السؤال، أو حتى احتفالٌ بعد انتهاءِ المناسبة؛ جميعها أفعال ذات أصداءٍ خابيةٍ ضعيفة، مَرَّ وقتُها فصارت بلا مَعنى ولا أثر. *** ثمَّة أشياءٌ تحدث في أوقاتٍ ثابتة؛ يمكن التنبوء بساعتِها وتاريخِها، وكثيرها مِن عملِ الطبيعة لا البشر؛ فدورةُ شمسٍ أو قمر أو نوَّةٌ عاصِفةٌ، تصدُق في العادة وتصِلُ في موعدها بدقَّة مَشهودة. ثمَّة ما يأتي على حين غُرة، يحلُّ دون أن يحسبَ الناسُ حسابَه ويعدُّون له العدَّة، يُفاجئ الوادعين المُستكينين لحالهم، ويُنزِل بهم صدمةً، ويترك لهم أسئلةَ الدهشة؛ حَدثٌ قد يبدو في غَير أوَانِه، لكن هناك دومًا ترتيبات لا تُرى في وقتِها، بل تُدرَك بعد حين. *** كَتَب أحمد فؤاد نجم مَوَّاله الشهير "الأولة بلدي" في أوجِ الازدهار، وقد أداه إلى جانبِ رفيقِ رحلتِه أكثرُ مِن مُطرِب ذي مَكانةٍ على مَدار سنوات طوال، وفي مَطلعه يقول: الأولة بلدي باسلطن جو موالي ودا الموصوف دوا العيان.. والثانية بلدي باقول الكلمة بالعالي وع المكشوف وف المليان.. والثالثة بلدي ياكنزي وعزوتي ومالي وملو الشوف آوانك آن. بقيت الكلماتُ صامدةً مُنذ خرجت إلى السامعين؛ فالأوان الذي استشرفته لا يزال مُنتظَرًا.
| |
| | | | ® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11570 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2020-08-27, 7:44 am | | غَضَـب ثمَّة غَضَبٌ يظهر على السطحِ فوَّارًا عنيفًا؛ لكنه سرعان ما يزول ويتلاشى كالزَّبَد، وآخر يختمِر وقتًا قبل الظهور؛ فإذا انفجر قَلَبَ الأعماقَ ورجَّ الأسطُحِ ودامت تبعاتُه ردحًا مِن الزمن، وفي الأخير يقولُ المَأثور: اتَّقِ شَرَّ الحليمِ إذا غَضبَ؛ فإذ يغضَب أصحابُ الطِباع الهادئة الوَدود، يكون الأثر مُضاعفًا وتأتي العواقبُ صارمة. *** الغَضَبُ في مَعاجِم اللُّغة العربية انفعال به ميل للاعتداء، وانتفض غضبًا بمعنى هَاجَ. يُنعَت الرجلُ بأنه غَضِبٌ وغَضُوبٌ، بينما تُنعَت المرأةُ بأنها غَضْبَى، أما الغَضْبانُ فتشير المَعاجمُ إلى أنه الشخصُ سريع الغضَب أو شديده، ويُقال إن كُلَّ سريعٍ في الغضَب طيبُ القلبِ، يعجَز عن إخفاءِ أحاسيسِه ولا يُضمِر سوءًا في دواخِله. الرجُلُ الغُضَابٌ هو غَلِـيظُ الجِلْدِ، أما الغَضْبة فهي الصَّخْرةُ الصُّلْبةُ في الجَبلِ. *** حين يَصِف الناسُ شخصًا في طلَّته همٌّ بيِّن وعبُوسٌ مُقيم، يقولون: على وِشُّه غَضب ربنا. يشي الوصفُ بخليط من السُخط والحنق والضيق الشديد؛ يظهر جليًا ولا يحتاج إلى كلام. غَضب ربنا يعكس مَبلغَ ما تنطق به الملامحُ مِن جَهامة؛ لا يُصدَّق أن مَبعثها بَشر. ***
عُرِضَ فيلم "أيام الغضب" بنهاية الثمانينيات، وقام ببطولته نور الشريف فيما أخرجه منير راضي. تدور القصةُ حول ابراهيم الذي يتعرض لخديعة تحصل بها زوجتُه السابقة على شقته، وتتزوج بآخر يُدخِله مَصحَّة نفسية؛ حيث يقاسي أنواعًا مِن الاضطهاد وصنوفًا مِن العذاب. الغَضبُ لا ينبُع مِن الخيانةِ وحدِها، ولا مِن فُقدان أموالِه وأملاكِه، بل مما وَصَلَ إليه مُجتَمعٌ بأسرِه، فالفساد لم يعُد شخصيًا بل مَسلكًا عامًا مُستشرِيًا، واستحالت الخسارةُ جامعة. *** يُوصَفُ الغَضبُ مرات بأنه كاسحٌ؛ يدفع أمامَه كُلَّ ثابتٍ ويخلْخِلُ الرَواسخَ وينتزعها مِن الأرض انتزاعًا. يُوصَف كذلك بأنه هادر، والهَدر صوت الرعد ما تخلَّق في السماء. إذا كشفت الطبيعةُ عن قدرتها الكامنة؛ وصفها الناسُ بأنها غاضبةٌ، وغضبها مِن القسوَةِ بعضَ الأحيان بما لا يصمد أمامَه أحد؛ غُضبة واحدةٌ تحرِم مئات وآلاف أمنَهم وبيوتَهم، وتؤكد ضآلتهم في مواجهتها. ***
اهتم الكاتبُ أنيس منصور بالغَضب؛ فأصدر كتابَ "مُذكّرات شاب غاضب"، وكذلك "مُذكّرات شابة غاضبة". الغضبُ مُلازِم لمَرحلة الشباب، فإذا شاخَ المَرءُ تهافَت غَضبُه وخَفَّ، وصار أكثرَ قُبولًا لمُنغّصات الحياة، وأقلَّ مَيلًا للاعتراض عليها ومناطحتِها. *** ثمَّة رواية شهيرة للكاتب الأمريكي جون شتاينبك كُتِبَت في نهاية الثلاثينيات تقريبًا، تحكي حياةَ عائلةٍ ينتمي أفرادُها للطبقة العاملة. العائلة غارقة في الفقر، مَطرودة إلى الهامش، تعاني شظفَ العَيْشِ والهَوان، واسم الرواية: "عناقيد الغضب". بعد مرور أكثر مِن نصف قرن؛ اعتدى جيشُ الاحتلال الإسرائيليّ ضمن اعتداءاته على العنوان؛ فأطلقه على عمليةٍ عسكريةٍ وحشية، استهدفت أرض لبنان؛ وبذا صارت للغضب وعناقيده في الذاكرة علامتان؛ تحملان بؤسًا ومرارة. *** يقول قائلٌ يوشك على فقدان هدوء أعصابه: "اللهم طوِّلك يا روح"، والقصد طلب الصَّبر، والاستعانة بسِعة الصدر، على ما يستفزُّ الغَضبَ ويُحرِّكه؛ فإذا لم تَطُل الروحُ وضاق الصدر، قيل: "نفدَ الصَّبر"، وبنفاده تتكسر القيود وتتحرَّر المشاعر. كثير الناس يرتكبون في غَضبِهم حماقات؛ يتمنون لو لم تحدث بعد زوال الانفعال، وقلَّة تُمسِك عن الوقوع في الخطأ وتكظِم الغَضب، وفي بيت الشعر القديم: ولم أرَ فضلًا تمَّ إلا بشيمةٍ .. ولم أرَ عقلًا صحَّ إلا على الأدبِ .. ولـم أرَ في الأعـداءِ حين اختبرتـهـم .. عدوًّا لعقلِ المرءِ أعدَى مِن الغَضَبِ. قد يكون الغَضبُ عدوًا لكنه بعض الأحيان يغدو المَنجى؛ فرُبَّ غاضبٍ شَحَذَ الغَضبُ هِمَّتَه، وأورثه جرأةً على إنجاز ما استعصى. *** إذا حُبِسَ الغَضبُ في الأحشاء أَكَلَها، وإذا لم يجد له مُتنفسًا ألحَقَ بالغاضبِ ضَررًا بالغًا. عزا المَوروثُ الشعبيّ القديم كثيرَ الأعراضِ والأمراضِ إلى نوم الشخصِ غاضبًا مُستاءً؛ جلطات الأوعية الدموية بالدماغ والشلل التالي لها، وأمراض الضغط والسكر، قد يُسهِم في ظهورِها أو مُفاقَمتِها غَضبٌ مُزمِن؛ يعيش به المَرءُ فترات مِن عمره. يُقال في تبرير وَعكةٍ مُفاجئة "أصله نام زعلان"؛ أثبت العِلمُ صِدقَ الاعتقاد، فمواد كيميائية ذات طبيعة خاصة؛ يفرزها الجسدُ الغاضبُ، تدور في شرايينه وأوردته وتفعل أفاعيلَها بأعضائه، وتتسبَّب ما تَوَاصَل إفرازُها في أزماتٍ صحية. *** لا أنفك أسترجع مشاهدَ مِن فيلم "التعامل مع الغضب" للعبقريّ جاك نيكلسون. يقدم الفيلم رجلًا مُتحفزًا طيلة الوقت، يقف على شفا الغضب؛ لكنه لا يدري بغضبِه ولا يستَبصِر سبَبَه، ينفعل بحِدَّة لأبسط المَوَاقف، ويأتي بردودِ أفعالٍ عنيفةٍ مُفاجئة ومُبَالَغ فيها. حين تنكشف جُذور غَضَبِه الدائم؛ يدرك أنه عانى الاضطهادَ في الصغر، فيسعى للعثور على مَن اضطهده ويُخرج غَضَبَه المُدَّخر ليتغيَّر مَسارَ حياته رويدًا. *** عادة ما يُسألُ الغاضبُ عن أسبابِ غَضبِه، أما في الشِعرِ فيُسألُ المَرءُ عن سِرّ اختفاءِ غَضبِه. يقول محمود درويش: الصوتُ في شفتيكَ لا يُطربْ والنار في رئتيكَ لا تُغلبْ وأبو أبيك على حذاء مُهاجرٍ يُصلبْ وشفاهُها تعطي سواكَ، ونهدُها يُحلبْ فعلام لا تغضبْ ؟
غَـفلَة يحكَى أن وراء المَقُولة الشهيرة "القانون لا يحمي المُغفَّلين" رجلًا فقيرًا، أراد أن يُثري، فنشر إعلانًا يطلُب مِمَن أراد مثله الثراءَ، أن يُرسل إليه دولارًا واحدًا. انهالت عليه الملايين، وبعد فترة نشر قصَّتَه فاغتاظ ضحاياه واتجهوا لمُقاضاتِه، لكنهم لم يستطيعوا حياله شيئًا. أكَّدت المَحكمةُ أنهم كانوا مُغَفَّلين، وأن القانونَ لا يمكنه حمايتَهم ولا استعادة ما ضاع مِنهم. هناك أناسٌ غافلون عن أنفُسِهم، أو غافلون عما يحدُث حولهم، وهناك الغافلون عن مسارات أطماعِهم، وعن أطماعِ الآخرين. *** غَفلَةُ المَرءِ في مَعاجم اللُغةِ العربيةِ هي غَيْبَةُ الأمورِ عَنْ بَالِه، فإذا قيل غَفَل عن شيء؛ فقد تركه وسها عنه، والمُغَفَّلُ هو مَن لا فِطْنة له، وهو كذلك مَن لا يُرجى خَيره ولا يُخشى شرُّه. يُوصَم الرجلُ بأنه غُفْل إذا لم يَدرِ بما عِنده، وإذا كانت تجربتُه في الحياةِ ضحلةً ضئيلة. يُقال عن الشاعر أنه غُفْل إذا جَهَلَه الناسُ، ويُوصَف الشِعْر نفسُه بالغُفْل إذا لم لا يُعرَف قائله، أما الأَرضُ الغُفْل؛ فتلك التي لم تُمْطَر ولم يمسّها ماء. إذا تَحَيَّن واحدٌ غَفلةَ الآخر قِيل إنه استغفَلَه، وإذا صاح به: بتستغفلني؟ فالمُراد مِن السؤال غَضَب واستنكار إذ لا تنطلي مُحاولَةُ الخِداع، ومبعثُ الاستياءِ ليس الخُدعةَ في حدِّ ذاتها، بل الظنّ في غَفلَة وحُمق المَقصودِ بها. *** إذا غابَ واحدٌ عمَّا حَوله بُرهة قال: "عيني غَفّلت"، والمَعنى أن النومَ غَلَبه عن غير قَصد، وأوقعه في حبائلِه. العَينُ هي المُتَّهمةُ بينما العقلُ أصدَرَ الأمرَ، ولا قدرة لعضو آخر على العِصيان. ***
يَحفَل كتابُ "أخبار الحَمقى والمُغفَّلين" لأبي الفَرجِ بن الجَوزِي؛ بنوادرٍ وطُرف عُرِف أبطالُها بالاسم والكِنية، واشتهروا في أزمانِهم لفرط ما ارتكبوا مِن حَماقاتٍ مُدهشة. إذا نظر المَرءُ مِن حَولِه الآن، لرأى مادةً تصنع مُجلَّداتَ على غرارِ هذا الكتاب؛ فقد صَارَ الواقعُ أرضًا خصبة، تجمع حكاياتِ المُغفَّلين وأفعالَ الحَمقى. *** يُستخدَم تعبيرُ "المُغَفَّل المُفيد" في حَقلِ السياسة حاملًا السُخريةَ والإهانة؛ إذ يَصِفُ شخصًا جرى استغلاله مِن قِبل حركةٍ سياسيةٍ ما، دون أن يُدرك بدقَّة طبيعتَها وأهدافَها، بل وربما ضَحَّى في غَفلَته مِن أجلِها. يُقال إن هذا التوصِيف ظَهَر في فترةِ الحَرب الباردة، ويَنسِبه بعضُ المؤرخين إلى لينين، أما وقد مَرَّ على صكّه تاريخٌ طويل؛ فالحاجةُ إلى استعمالِه لم تَخبُ بعد؛ إذ المُغفَّلون المُفيدون في هذا العصر كُثر. *** ثمَّة أناسٌ يبدون مُغفَّلين؛ لكنهم في حقيقةِ الأمرِ على درَجةٍ عاليةٍ مِن الذكاء، يتخفُّون وراءَ ستار الغَفلَة، ويمارسون ما حلا مِن ألاعيب، يُغيِّرون العالمَ فيما يَحار أمامَ تصرُّفاتِهم الآخرون. عُدَّ جُحا مِن المُغفَّلين فيما المَروي عنه يَشِي بحنكَةٍ ونَباهَة، ويبدو أن خُصومَه ألصقوا به التُهمَة، ووصموه بالغَفلةِ وهو مِنها بريء. *** حين احتلَّ رجلُ الأعمالِ الشهير مَوقعَ رئيسِ الولايات المُتحدة، سَخَر مِنه كثيرون إذ رأوه أدنى شأنًا من المَنصِب، وأقلَّ حصَافةً مِن حَملِ المَسئولية، وقد ترجَمَت أفعالُه الظُنونَ، وكَشَفَ خطابُه عن غَفلَةٍ بالقواعد المُتَّبعة والأصولِ المَرعية، لكنه رغم هذا وذاك؛ يُرسِّخ يومًا بعد يومٍ أقدامَه، ويَمضي غير عابئٍ بما تدهَسُ في الطريق. ***
أحيانًا ما يَتغافَل المَرءُ ويَصطَنِع الجَهلَ وعدم الدِراية؛ مُعطيًا المُحيطين به فُرصةَ إصلاحِ وَضعٍ خاطئ. يَغُضُّ البَصَرَ عمّا رأى ويُغلِق أذُنيه عمّا سمع، ويُفسِح المَجالَ للتراجُع؛ لكن تَغافُله لا يعني ضعفًا ولا يعكس عجزًا، بل حلمًا وإيمانًا بقُدرتِه على تصحيحِ الأمُورِ ما أَوشَكَت على الإفلات. *** يحدث أَمرٌ في سرعةٍ غير مُتوقَّعه وقبل أن ينتبه له أحدٌ؛ فيُقال إنه وَقَع في غَفلَةٍ مِن الزَّمن. ينطبق القولُ على ما يجري في حيِّ مِصر الجَديدة؛ حيث الأرضُ تُهان، والأشجار العتيقة تُهدَر، وقضبان المترو ذات التاريخ الطويل تُجتَثُّ مِن مُستقرِّها، والشوارع تكتسبُ أبعادًا قبيحة. مَحوُ الأثَرِ ليس بعبقريَّةٍ أو إبداع، فقديمُ العواصِم والمُدن في شتَّى البلدان تكتسِبُ قيمةً بمُرور الوقت، وتجدُ مَن يُحافِظ عليها ومَن يُدافِع عن أدَقِّ حصاةٍ وأصَغر حَجَر. قد يَغفَل الزَّمنُ لبرهة عن سَفيه الأفعال؛ لكن الذاكرةَ تبقى عَصيَّةً على الإزالة. *** عُرِضَ فيلم "المُغَفَّلون" في النِصف الثاني مِن التسعينيات، وقَدَّم مُخرجُه لارس فون ترير مَجموعةً مِن الأفراد الموسرين غريبي الأطوار؛ الذين يجدون فرصةً للتَحرُّر النفسيّ مِن عِلَلهم عبر مُمَارسة سلوكيات حَمقاء غَير مَقبولة، يَكُفُّون عنها بعد فترة، ويرفضون دَمجَها في تفاصيلِ حيواتِهم اليَومية؛ عدا امرأة واحدة تأخُذ الأمرَ على مَحمَلِ الجِدِّية؛ ففي الغَفلةِ التي اختبرتها مَعهم خلاصٌ مِن حياتِها الشاقة وصدماتِها الحقيقية، في الغَفلَة راحةٌ وقتية. *** نقع رغم التزامِ الحَذَر في مَآزِق مُتكرِّرة، ونَتَّهم أنفُسَنا بالغَفلَة؛ فبعضُ الأشياءِ تبدو في ظاهرِها لامعةً جميلةً، فيما باطنها عَطِنٌ كريه. غَفلَةُ العقلِ واردةٌ، لكن بعضَ الناسِ يتغافلون عمدًا عن إدراك مَصائبهم، يُدافعون عن سلامِهم النفسيّ بإنكارها؛ وعند الإفاقةِ يكتشفون أن تَغافلَهم قد فاقم مآسيهم وزادها، وأن المُواجهةَ وإن صَعبَت في حينها، فنتائجها أهون على المدى البعيد.
| |
| | | | ® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11570 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2020-11-27, 7:04 am | | سؤالفي حواراتِنا اليوميَّة وأحاديثنا التي تدور في تلقائية، نسأل أسئلةً هي إذا ما تريثنا أمامها؛ أسئلة عجائبية. بعضُها نعرف منذ البداية إجابته، وبعضُها ندرك أن إجابته ليست عند مَن نخاطب، والبعض الثالث لا يستقيم مَنطقه وبناؤه. يخرج شخصٌ مِن دورة المياه فيجد أمامه مَن يسأل: "كنت فين؟"، أو يصلُ شخصٌ بيتَه فيجد مِن الأهل مَن يسأله لحظة دخوله مِن الباب: "كنت بره؟". *** أحيانًا ما يكون هدفُ السؤال مجرد التواصل مع الآخر، فتح البابِ لتفاعُل مباشر، ومدّ حبالِ الكلام، واستدراجه لردٍّ؛ لا يُهمُّ أن يضيفَ شيئًا، أو أن يجيب علامةَ الاستفهام؛ المهم أن يخلقَ فعلًا تشاركيًا حميمًا قوامه أكثر مِن فرد: أنت هنا، أنا أراك وأسمعك، وأحفل بما تقول، وسوف أقول بدوري. *** نعرف أن للسؤالِ في البلاغة أغراضًا؛ ثمَّة أسئلة للاستنكار وأخرى للنفي والإنكار، وأسئلة يطرحها السائلُ لإظهار الصدمةِ أو إبداء الدهشةِ والانبهار. السؤالُ الخالصُ الذي لا يحملُ أهدافًا مُبطنة، وينتظر إجابةً مُناسبة، يبدو أقل الأنواع شيوعًا على ألسنتنا. أحيانًا ما نسأل وتأتي الإجابةُ غريبة، لا رابط بينها وبين السؤال؛ إذ ربما لم يفهم المَسؤول ما قيل، أو فهم ولم يعرف الردَّ المناسب، أو أنه فهم وعرف لكنه لا يريد في الحقيقة أن يجيب. التهرُّب مِن السؤال فنٌّ يُجيده المُحنَّكون؛ يحاورون في مهارة، وقد ينتزعون آهات الاستحسان بمناوراتهم الكلامية؛ فيما لا يقدمون جديدًا ولا يضيفون شيئًا للجمهور. *** مِن كبار المسئولين الذين يقضون أوقاتًا طويلة في الإدلاء بتصريحات وإجراء مُقابلات ومُحادثات، ويظهرون أمام الشاشات والميكروفونات، مَن لا يُتقن فنَّ التعامُل مع الأسئلة، ولا يجد في جعبته مِن اللباقةِ واللياقةِ ما يمنحه خروجًا آمنًا؛ متى جاء السؤال مُحرجًا، أو مبشرًا بعواقب سيِّئة. بعضُ الأحيان تطولُ فترةُ الصَّمت، وحين ينطق المَسئولُ يقول الناسُ في السرِّ والعلانية: ليته ما نطق. *** السؤالُ عن شيء يعني الاستفسار بشأنه. "السائل" هو الفاعل، أما "المَسئول" فمفعول به؛ هذا ما تورده معاجمُ اللغة العربية دون مُواربة أو التباس؛ لكن الحالَ على أرض الواقع تُفصِح عن مَعنى آخر؛ إذ "المَسؤول" يعمل دومًا عملَ الفاعل لا المَفعول؛ فيتخذ القراراتَ، ويُحدِّد ما يجوز وما لا يجوز، ويُنحِّي خلال عمله كُلُّ مَن يُعارضه، ويُنكِلُّ بمَن يُجافي رغباتَه ومقاصدَه، فلا يسأله واحد عن إنجاز أو إخفاق، ولا يراجعه الآخرون مِن زمرة المفعول بهم. المُسائلة هي المُحاسبة؛ عملُ المرء في ميزان التقييم. يُفتَرَض بطبيعة الحال أن يكون صاحبُ المَنصب في مَوضع المُسائلة أمام الجماهير، وأن يخضع للمُحاسبة، وأن يعاتبه الناسُ على صنيعه أو يكيلون له المديح. يُفترَض أيضًا أن يجد الردودَ المناسبة، وأن يُشفيَ غليلَ السائلين، ويفيهم حقوقَ الفهم والمعرفة، لكن افتراضات كتلك لمثالية نادرة؛ إذ لا يملك كثير المَسئولين على اختلاف مواقعهم، الإجاباتِ المَرجوة، فالأمر ليس بأيديهم إنما بيد عمرو. *** ثمَّة تساؤلاتٌ وجوديةٌ مُعلقة؛ يدور الفلاسفةُ حولها، أو يتعمقون في جوهرها ويُفتشون في صُلبها، يضعون بشأنها النظريات ويسردون الحلول والاحتمالات، لكن علاماتِ الاستفهام لا تُحسَم رغم الجهود المُضنية، وتبقى الاستفهاماتُ في الأذهان حية مُؤرقة؛ تستدعي بين الحين والآخر مزيدًا من المحاولات. *** إذا قيل ”سؤالٌ“ قفزت إلى الذهن أيامُ الدراسة وأوقات الامتحانات. تلك الورقةُ التي تتراصُ فيها الأسئلة المُحكَمَة؛ يتلقفها المتنافسون على حَصد الدرجات بلهفة، بينما تبثُّ الخوفَ في نفوس مَن يأملون فقط في النجاح، واجتياز العقبة بسلام. يتابع المُراقبُ الأيدي تجيب؛ بعضَها بطيء وأقلَّها سريع، أسئلة تستوفي حقها في عبارات وفقرات مُطوَّلة، وأخرى تظلُّ عاريةً بلا حرف يسترها. *** إذا طلب واحد من آخر مُساعدةً ما، استهلَّ طلبه أو ختمه بالدعاء: "يكفيك شرّ السؤال". السؤال هنا نابع من الحاجة؛ فاقة وعَوَز يدفعان المرءَ لمدّ اليدّ واستدرار التعاطُف والإشفاق. عمَّت حالُ الاحتياج. تصاعدت أعدادُ مَن يسألون، وتراجع بعضُ مَن يُعطون بدافع مِن بُؤس الأوضاع الاقتصادية وترديها، حتى صار شرًّ السؤالِ قاعدةً لا استثناء. *** مِن الأسئلة ما هو إجباريٌ وما هو اختيار. الإجبار دومًا مُقلِق، مُقِض لراحة البال، فيما الاختيار باعث على الهدوء والاسترخاء، والحقُّ أن صوغَ الأسئلةِ سواء كانت مِن هذا النوع أو ذاك، خير مِن صكِّ الإجابات، فالسؤالُ مُقدِّمة للتفكير، والتفكير يعني إعمالَ العقل، ورفض المُعلبات الجاهزة التي تحوي مادةً ضارة في أغلب الأحوال. *** أسئلةٌ كثيرةٌ مَطروحة على الطريق؛ أغلبها عَصيٌّ على التفكير إذ المُعطيات شحيحة، والأضواءُ باهتة، والأفق مُعتِم؛ تتكاثف فيه الغيومُ وتحجبُ الآتي. لكُل عامٍ جديدٍ سؤال، وسؤالُ العام عصيبٌ؛ فالاختيار مِن مُتعدِّد، والمُتعدِّدات لا تزال غائبةً عن أوراق الإجابة وأذهان المُجيبين.
| |
| | | | | نبش فى اللغة وألفاظها معجم بسمة عبد العزيز | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
|
|