عرض كتاب ( إغراء السلطة المُطلقة )
اتسمت العلاقة بين الشرطة والمواطن على مر العصور بقدر كبير من الحساسية؛ نظراً لما تمثله الشرطة من تعبير صارخ عن السلطة التي تمسك بزمام الأمور في الدولة، وما تملكه من أدوات الردع والعقاب، وتتوقف هذه العلاقة إلى حد كبير على مدى ما يتمتع به المجتمع من استقرار وتوازن في الحقوق والواجبات، وما يتميز به من احترام للقانون والعدالة والحفاظ على مبادئ الديمقراطية والمساواة.. ذلك هو ما يتناوله كتاب “إغراء السلطة المطلقة” متتبعاً مسار العنف في هذه العلاقة المعقدة؛ فهذا المسار لم يشهد وتيرة تصاعدية كالتي شهدها خلال السنوات الأخيرة.
تنتطلق الكاتبة من أطروحة مفادها أن فصول القمع تتوالى باستمرار على مدى مراحل التاريخ، قد تتوارى في فترة وتشتد في أخرى لكنها دائماً حاضرة طالما حضرت السلطة المطلقة وغياب الناس عن المشاركة؛ ولذلك عرضت الكاتبة مسار العنف كما لو كان مشهداً واحداً متصلاً عبر التاريخ، رغم أن هذا الأمر قد يلاقي اعتراضات كثيرة من جانب أن الحقب الاريخية التي مرت بها مصر خلال آلاف الأعوام شديدة التنوع والثراء وشديدة الاختلاف؛ إذ لا يمكن اعتبارها أحداثاُ تتعاقب في خط واحد متجانس، أو حتى في عدد من الخطوط المتشعبة، لكن من يربط بينها جميعاً هو وجود البشر في المكان، هم الحلقة الثابتة في سلسلة طويلة من الصراعات والمتغيرات.
وفي نظرة بانورامية على مراحل التاريخ المصري تستعرض “بسمة عبد العزيز” الصور التي اتخذتها الأجهزة أو الكيانات المكلفة بحفظ الأمن؛ فمثلاُ في عهد زوسر.. حين مثلت الأرض ونظم الري والزراعة المحور الرئيسي للحياة؛عرف رئيس الشرطة باسم “مرشد الأرض”. وفي عهد عمر بن الخطاب، ظهر العسس وكانت وظيفتهم الأساسية هي تعقب الفاسدين، وتشير كلمة “عسس” لغوياً إلى هؤلاء (الذين يطوفون بالمكان ليلاً للكشف عن أهل الريبة)، وفي العصر البيزنطي تذكر بعض الدراسات التاريخية “الحامي” باعتباره شخصاً كانت وظيفته هي حماية الفقراء من جور أصحاب الأملاك الأغنياء.
أما في أثناء حكم الدولة العثمانية التي اشتهرت بكثرة المكائد والدسائس تم إنشاء جهاز أمن سري مرادف لما يعرف اليوم بجهاز “مباحث أمن الدولة”، وسمي العاملون فيه “البصاصين”..
مع بداية الوجود العربي الإسلامي في مصر تراجع الفصل بين المناصب والمهام والأجهزة المختلفة، ففي أحيان كثيرة جمع رئيس أو “صاحب” الشرطة ـ كما كان يسمى في ذلك الوقت ـ بين سلطته وبين السلطة القضائية، والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد اختص صاحب الشرطة في العصر المملوكي بتطبيق الحدود القرآنية من دون الحاجة لأمر قضائي، ووصلت سلطاته حد الحكم بالإعدام على من يرى إنزال تلك العقوبة به دون مشاورة، بل وكان له تنفيذ هذا الحكم بنفسه.
وفي منتصف الأعوام السبعين التي خضعت فيها مصر للاحتلال البريطاني؛ شهد جهاز الشرطة إضافة مهمة حددت بعض مهامه العرفية وقتها، إذ اكون جهاز أمني مخصوص سمي “البوليس السياسي”، وجاء القرار الرسمي بإنشاء هذا الجهاز في العام 1922، وعمل البوليس السياسي على تولي أمر معارضي الاحتلال البريطاني ومقاوميه، وكان بمثابة نواة لملاحقة المشتغلين في حقل السياسة فيما بعد.
وفي عهد عبد الناصر، وعلى الرغم من التحسن الملحوظ في علاقة المواطن العادي بالشرطة، فقد انصب هجوم أمني شديد الوطأة على رأس معارضي الثورة والنظام، إذ طال العنف كل من له رأي مخالف أفصح به وأخرجه من حيز الأفكار ليصبح مسموعاً أو مرئياً، وصارت ممارسة السياسة أو حتى الحديث عنها مرادفاً للفساد والإفساد؛ ولا تكاد تخلو المذكرات الشخصية أو السير الذاتية للسياسيين المعارضين في هذه الفترة من إشارة أو تفصيل لوقائع التعذيب والعنف التي تعرضوا لها.
ثم في عهد السادات كان العنف الأمني الموجه ضد الخصوم السياسيين قد تراجع؛ إذ اقتصر على بعض حوادث لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، فقد ظهرت بوادر ممارسة العنف تجاه المواطن العادي، وهو عنف لم يكن مرتبطاً بانتماء ضحاياه لفصيل سياسي معين أو تبنيهم وجهة نظر مغايرة ومناوئة للنظام، فقد طال أفراداً بعيدين تماماً عن أيه إشكاليات أو مناورات سياسية، وربما شكل ذلك إرهاصات مبكرة للعنف المنهجي الذي أخذت الشرطة تمارسه تجاه المواطنين كافة فيما بعد.
وتضع الكاتبة “بسمة عبد العزيز” تصوراً عن الإطار النفسي والاجتماعي لممارسة العنف المنهجي في عصر مبارك، حتى يتعلم طالب كلية الشرطة أن ممارسة العنف سوف تصبح جزءاً أصيلاً من عمله المستقبلي، مروراً بالتغيرات التي تطرأ على سلوكه خلال العمل، والتحولات التي تشهدها شخصيته، والمبررات التي تساق إليه والتي يجنح للاقتناع بها كي يضفي صبغة الشرعية على ما يقوم به من عنف من دون أن يتعرض لتردد أو ارتباك نفسي، ويصل إلى يقين كامل لكونه يعمل لصالح الوطن ولفرض النظام والأمن والاستقرار، ومن ثم تصبح ممارسة العنف والتعذيب ضد كل من يرغب في زعزعة المفردات السابقة أمراً واجباً ومشروعاً لحماية الآخرين، ولنا أن نتصور أن عمل الشرطة بات يتلخص في حماية النظام من المجتمع بدلاً من حماية المجتمع ذاته.
وحول موقف المجتمع المصري من العنف، ترى الكاتبة أن المصريين بشكل عام يميلون إلى قبول العنف وسيلة للعقاب والردع والتأديب، وهي عادة متجذرة لدى المجتمعات الأبوية التي تبسط وصايتها على سلوكيات الأفراد وتعطي نفسها حق التدخل في الشؤون الخاصة وفرض العقاب، الطفل يتعرض للضرب من أبويه في المنزل ومن معلميه في المدرسة، من دون أن يكون الأمر مستنكراً، الثقافة الدينية المنتشرة أيضاً تبيح ممارسة العنف، فالمجتمع يؤمن بأن من حق الرجل أن يضرب زوجته، والتقاليد والأعراف تؤيده، وشكوى الزوجة لا يعتد بها، والقانون يمتلئ بالثغرات التي تكفل ممارسة العنف الأسري دون حساب، العنف اللفظي بدوره ليس بأمر مستنكر، تحف الشوارع ووسائل المواصلات بعبارات السباب.. يتنادى الناس فيما بينهم بمفردات مسيئة من دون أن يشكل ذلك إهانة يغضبون لها إلا نادراً.
الصمت عن الصور البسيطة من العنف وإيجاد المبررات لقبولها أديا إلى التمادي في ممارستها وتطورها، ووضع السلطة في محل الأب الذي له حق تأديب الأبناء جعل الأفراد يخضعون لها مهما ارتكبت من أخطاء ويغفرون لها الإساءات.
بناءً على ذلك فإن المناخ العام في مصر يوصف بأنه غير صحي، في غمرة التشوش وسوء الأحوال وتنحية المواطن عن المشاركة على جميع المستويات، يصبح طبيعياً أن تتربع الأجهزة الأمنية على العرش، وأن تنحي جانباً مهامها العامة وأن تستبدل بها اهتمامات ومصالح فردية، وأن تتبني منطق القوة السائد، وأن تحيل تهميش القانون إلى غياب كامل، لم تعد الشرطة تمثل آداة القانون التنفيذية، بل أصبحت طرفاً معتدياً يحتاج إلى من يدرأ أذاه وشره، وصار المواطن الآمن من العدوان هو فقط ذلك الذي يتحالف معها، أو الذي يمتلك القوة المكافئة لها أو المتفوقة عليها.
الكتاب
بحث في الذاكرة الشعبية التي تحتفظ بمفردات القهر والعنف مهما طال الزمن، وتأريخ للأجهزة الأمنية وشكل العنف الذي مارسته في بعض الفترات، ورصد لتجربة العنف المنهجي؛ ومحاولة لفهم صورة الشرطي التي تكونت في وعي المواطن على مدار سنوات من القمع المتواصل، وصرخة احتجاج من الأجيال الجديدة تشير بوضوح إلى ما آل إليه العقد الاجتماعي في بداية الألفية الثالثة وما أصابه من شروخ في جهات متعددة..
الكاتبة:
”بسمة عبد العزيز”: طبيبة وفنانة تشكيلية وأديبة وناشطة. تخرجت في كلية الطب جامعة عين شمس 2000، وحصلت على ماجستير الأمراض النفسية والعصبية 2005، واقامت الكثير من المعارض الخاصة والجماعية في الفترة من 1997 إلى 2011، صدرت لها مجموعتان قصصيتان ودراسة نفسية؛ تكتب في صفحة الرأي بجريدة “الشروق”. فازت بجائزة ساويرس للأدب عام 2008، فاز كتابها “إغراء السلطة المطلقة” بجائزة أحمد بهاء الدين للباحثين الشباب 2009.
—————————————————
الكتاب: إغراء السلطة المطلقة.
تأليف: بسمة عبد العزيز.
جهة النشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة.
سنة النشر: 2012.
عدد الصفحات: 127 صفحة من القطع المتوسط.
التحميل
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]