شيء من أوصافه
أخبرني أحمد بن عمر بن موسى بن زكويه القطان إجازةً قال حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال أخبرني عبد الجبار بن سليمان بن نوفل بن مساحقٍ عن أبيه عن جده قال: أنا رأيت مجنون بني عامر، وكان جميل الوجه أبيض اللون قد علاه شحوبٌ، واستنشدته فأنشدني قصيدته التي يقول فيها:
تذكرت ليلى والسنين الخوالـيا
وأيام لا أعدي على اللهو عادياً
أخبرني محمد بن الحسن الكندي خطيب مسجد القادسية قال حدثنا الرياشي قال: سمعت أبا عثمان المازني يقول: سمعت معاذاً وبشر بن المفضل جميعاً ينشدان هذين البيتين وينسبانهما لمجنون بني عامر:
طمعت بليلى أن تريع وإنمـا
تقطع أعناق الرجال المطامع
ودانيت ليلى في خلاءٍ ولم يكن
شهودٌ على ليلى عدولٌ مقانع
وحدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أبو خليفة “الفضل بن الحباب” عن ابن سلام قال: قضى عبيد الله الحسن بن الحصين بن أبي الحر العنبري على رجل من قومه قضيةً أوجبها الحكم عليه، وظن العنبري أنه تحامل عليه وانصرف مغضباً، ثم لقيه في طريق، فأخذ بلجام بغلته وكان شديداً أيداً، ثم قال له: إيه يا عبيد الله!
طمعت بليلى أن تريع وإنمـا
تقطع أعناق الرجل المطامع
فقال عبيد الله:
وبايعت ليلى في خلاءٍ ولم يكن
شهودٌ عدولٌ عند ليلى مقانـع
خل عن البغلة. قال الصولي في خبره هذا: والبيتان للبعيث هكذا، قال: فلا أدري أمن قوله هو أم حكاية عن أبي خليفة!.
سبب تسميته المجنون واختلاف الرواة في ذلك
أخبرني الحسن بن علي “قال حدثنا محمد بن طاهر” القرشي عن ابن عائشة قال: إنما سمي المجنون بقوله:
ما بال قلبك يا مجنون قد خـلـعـا
في حب من لا ترى في نيله طمعا
الحب والود نيطا بالـفـؤاد لـهـا
فأصبحا في فؤادي ثابتـين مـعـا
حدثنا وكيعٌ عن ابن يونس قال قال الأصمعي: لم يكن المجنون، إنما جننه العشق، وأنشد له:
يسمونني المجنون حين يرونني
نعم بي من ليلى الغداة جنـون
ليالي يزهى بي شبابٌ وشـرةٌ
وإذ بي من خفض المعيشة لين
أخبرني محمد بن المرزبان عن إسحاق بن محمد بن أبان قال حدثني علي بن سهل عن المدائني: أنه ذكر عنده مجنون بني عامر فقال: لم يكن مجنوناً، وإنما قيل له المجنون بقوله:
وإني لمجنونٌ بلـيلـى مـوكـلٌ
ولست عزوفاً عن هواها ولا جلدا
إذا ذكرت ليلى بكـيت صـبـابةً
لتذكارها حتى يبل البكا الـخـدا
أخبرني عمر بن جميلٍ العتكي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عون بن عبد الله العامري أنه قال: ما كان والله المجنون الذي تعزونه إلينا مجنوناً، إنما كانت به لوثةٌ وسهوٌ أحدثهما به حب ليلى، وأنشد له:
وبي من هوى ليلى الذي لو أبـثـه
جماعة أعدائي بكت لي عيونـهـا
أرى النفس عن ليلى أبت أن تطيعني
فقد جن من وجدي بليلى جنونـهـا
أخبرني ابن المرزبان قال قال العتبي: إنما سمي المجنون بقوله:
يقول أناسٌ عل مجنـون عـامـرٍ
يروم سلواً قلت أنى لـمـا بـيا
وقد لامني في حب ليلى أقاربـي
أخي وابن عمي وابن خالي وخاليا
يقولون ليلى أهـل بـيت عـداوةٍ
بنفسي ليلى من عـدو ومـالـيا
ولو كان في ليلى شذاً من خصومةٍ
للويت أعناق المطي الـمـلاويا
أخبرني هاشم “بن محمد” الخزاعي عن عيسى بن إسماعيل قال قال ابن سلام: لو حلفت أن مجنون بني عامرٍ لم يكن مجنوناً لصدقت، ولكن توله لما زوجت ليلى وأيقن اليأس منها، ألم تسمع إلى قوله:
أيا ويح من أمسى تخلس عقلـه
فأصبح مذهوباً به كل مذهـب
خليعاً من الخلان إلا مجـامـلا
يساعدني من كان يهوى تجنبي
إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت
عوزاب قلبي من هوىً متشعب
“أخبرني به الحسن بن علي عن دينار بن عامر التغلبي عن مسعود بن سعد عن ابن سلام ونحوه.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أنشدني صالح بن سعيد قال أنشدني يعقوب بن السكيت للمجنون.
يسمونني المجنون حين يرونني
نعم بي من ليلى الغداة جنون”
قال: وأنشدنا له أيضاً:
صوت
وشغلت عن فهم الحديث سوى
ما كان فيك فإنه شـغـلـي
وأديم لحظ محـدثـي لـيرى
أن قد فهمت وعندكم عقلـي
جنونه بليلى وهيامه على وجهه من أجلها
أخبرني هاشمٌ الخزاعي عن “العباس بن الفرج” الرياشي قال: ذكر العتبي عن أبيه قال: كان المجنون في بدء أمره يرى ليلى ويألفها ويأنس بها ثم غيبت عن ناظره، فكان أهله يعزونه عنها ويقولون: نزوجك أنفس جاريةٍ في عشيرتك، فيأبى إلا ليلى ويهذي بها ويذكرها “فكان ربما استراح إلى أمانيهم وركن إلى قولهم”، وكان ربما هاج عليه الحزن والهم فلا يملك مما هو فيه أن يهيم على وجهه، وذلك قبل أن يتوحش مع البهائم في القفار، فكان قومه يلومونه ويعذلونه، فأكثروا عليه في الملامة والعذل يوماً فقال:
صوت
يا للرجال لهـمٍّ بـت يعـرونـي
مستطرفٍ وقديمٍ كان يعـنـينـي
على غريم مليء غـير ذي عـدم
يأبى فيمطلني دينـي ويلـوينـي
لا يذكر البعض من ديني فينكـره
ولا يحدثني أن سوف يقضـينـي
وما كشكري شكرٌ لو يوافـقـنـي
ولا منىً كمـنـاه إذ يمـنـينـي
أطعته وعصيت النـاس كـلـهـم
في أمره ثم يأبى فهو يعصـينـي
خيري لمن يبتغي خيري ويأمـلـه
من دون شري وشري غير مأمون
وما أشارك في رأيي أخاً ضعـفٍ
ولا أقول أخي مـن لا يواتـينـي
في هذه الأبيات هزجٌ طنبوري للمسدود من جامعه.
وقال أبو عمرو الشيباني: حدثني رباح العامري قال: كان المجنون أول ما علق ليلى كثير الذكر لها والإتيان بالليل إليها، والعرب ترى ذلك غير منكرٍ أن يتحدث الفتيان إلى الفتيات، فلما علم أهلها بعشقه لها منعوه من إتيانها وتقدموا إليه، فذهب لذلك عقله ويئس منه قومه واعتنوا بأمره، واجتمعوا إليه ولاموه وعذلوه على ما يصنع بنفسه، وقالوا: والله ما هي لك بهذه الحال، فلو تناسيتها رجونا أن تسلو قليلاً، فقال لما سمع مقالتهم وقد غلب عليه البكاء:
صوت
فواكبدا من حب من لا يحبنـي
ومن زفراتٍ ما لهـن فـنـاء
أريتك إن لم أعطك الحب عن يدٍ
ولم يك عنـدي إذ أبـيت إبـاء
أتاركتي للموت أنـت فـمـيتٌ
وما للنفوس الخائفـات بـقـاء
ثم أقبل على القوم فقال: إن الذي بي ليس بهينٍ، فاقلوا من ملامكم فلست بسامعٍ فيها ولا مطيعٍ لقول قائلٍ.
قصة حبه ليلى برواية رباح العامري أخبرني عمي ومحمد بن حبيب وابن المرزبان عن عبد الله بن أبي سعد عن عبد العزيز صالح عن أبيه عن ابن دأبٍ عن رباح بن حبيب العامري: أنه سأله عن حال المجنون وليلى، فقال: كانت ليلى من بني الحريش وهي بنت مهدي بن سعيد بن مهدي بن ربيعة بن الحريش، وكانت من أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن جسماً وعقلاً وأفضلهن أدباً وأملحهن شكلاً، وكان المجنون كلفاً بمحادثة النساء صباً بهن، فبلغه خبرها ونعتت له، فصبا إليها وعزم على زيارتها، فتأهب لذلك ولبس أفضل ثيابه ورجل جمته ومس طيباً كان عنده، وارتحل ناقةً له كريمةً برحلٍ حسنٍ وتقلد سيفه وأتاها، فسلم فردت عليه السلام وتحفت في المسئلة، وجلس إليها فحادثته وحادثها فأكثرا، وكل واحد منهما مقبلٌ على صاحبه معجبٌ به، فلم يزالا كذلك حتى أمسيا، فانصرف إلى أهله فبات بأطول ليلةٍ شوقاً إليها، حتى إذا أصبح عاد إليها فلم يزل عندها حتى أمسى، ثم انصرف إلى أهله فبات بأطول من ليلته الأولى واجتهد أن يغمض فلم يقدر على ذلك، فأنشأ يقول:
نهاري نهار الناس حتى إذا بـدا
لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى
ويجمعني والهم بالليل جامـع
لقد ثبتت في القلب منك محـبةٌ
كما ثبتت في الراحتين الأصابع
– عروضه من الطويل، والغناء لإبراهيم الموصلي رملٌ بالوسطى عن عمرو – قال: وأدام زيارتها وترك من يأتيه فيتحدث إليه غيرها، وكان يأتيها في كل يوم فلا يزال عندها نهاره أجمع حتى إذا أمسى انصرف، فخرج ذات يومٍ يريد زيارتها فلما قرب من منزلها لقيته جاريةٌ عسراء فتطير منها، وأنشأ يقول:
وكيف يرجى وصل ليلى وقد جـرى
بجد القوى والوصل أعسر حاسـر
صديع العصا صعب المرام إذا انتحى
لوصل امرىءٍ جدت عليه الأواصر
ثم سار إليها في غدٍ فحدثها بقصته وطيرته ممن لقيه، وأنه يخاف تغير عهدها وانتكاثه وبكى، فقالت: لا ترع، حاش لله من تغير عهدي، لا يكون والله ذلك أبداً إن شاء الله، فلم يزل عندها يحادثها بقية يومه، ووقع له في قلبها مثل ما وقع لها في قلبه، فجاءها يوماً كما كان يجيء، وأقبل يحدثها فأعرضت عنه، وأقبلت على غيره بحديثها، تريد بذلك محنته وأن تعلم ما في قلبه، فلما رأى ذلك جزع جزعاً شديداً حتى بان في وجهه وعرف فيه، فلما خافت عليه أقبلت عليه كالمسرة إليه فقالت:
كلانا مظهرٌ للناس بغضنا
وكل عند صاحبه مكين
فسري عنه وعلم ما في قلبها، فقالت له: إنما أردت أن أمتحنك والذي لك عندي أكثر من الذي لي عندك، وأعطي الله عهداً إن جالست بعد يومي هذا رجلاً سواك حتى أذوق الموت إلا أن أكره على ذلك، قال: فانصرفت عنه وهو من أشد الناس سروراً وأقرهم عيناً، وقال:
أظن هواها تاركي بـمـضـلةٍ
من الأرض لا مالٌ لدي ولا أهل
ولا أحدٌ أفضي إلـيه وصـيتـي
ولا صاحبٌ إلا المطية والرحل
محا حبها حب الألى كن قبلـهـا
وحلت مكاناً لم يكن حل من قبل
شعره بعد أن تزوجت وأيس منها أخبرني جعفر بن قدامة عن أبي العيناء عن العتبي قال: لما حجبت ليلى عن المجنون خطبها جماعةٌ فلم يرضهم أهلها، وخطبها رجل من ثقيف موسرٌ فزوجوه وأخفوا ذلك عن المجنون ثم نمي إليه طرفٌ منه لم يتحققه، فقال:
دعوت إلهي دعوةً ما جهلتـهـا
وربي بما تخفي الصدور بصير
لئن كنت تهدي برد أنيابها العـلا
لأفقر مني إنـنـي لـفـقـيرٌ
فقد شاعت الأخبار أن قد تزوجت
فهل يأتيني بالطـلاق بـشـير
وقال أيضاً:
ألا تلك ليلى العامرية أصبـحـت
تقطع إلا من ثقيفٍ حـبـالـهـا
هم حبسوها محبس البدن وابتغـى
بها المال أقوامٌ ألا قل مـالـهـا
إذا التفتت والعيس صعرٌ من البرى
بنخلة جلت عبرة العين حالـهـا
قال: وجعل يمر بيتها فلا يسأل عنها ولا يلتفت إليه، ويقول إذا جاوزه:
صوت
ألا أيها البيت الـذي لا أزوره
وإن حله شخصٌ إلي حبـيب
هجرتك إشفاقاً وزرتك خائفـاً
وفيك علي الدهر منك رقيب
سأستعتب الأيام فيك لعلـهـا
بيوم سرورٍ في الزمان تؤوب
الغناء لعريب ثاني ثقيلٍ بالوسطى. قال: وبلغه أن أهلها يريدون نقلها إلى الثقفي فقال:
صوت
كأن القلب ليلة قيل يغدى
بليلى العامرية أو يراح
قطاةٌ عزها شركٌ فباتت
تجاذبه وقد علق الجناح
– عروضه من الوافر. الغناء لابن المكي خفيفٌ ثقيلٍ “أول” بالوسطى في مجراها عن إسحاق، وفيه خفيف ثقيلٍ آخر لسليمان مطلقٌ في مجرى البنصر، وفيه لإبراهيم رملٌ بالوسطى في مجراها عن الهشامي – قال: فلما نقلت “ليلى” إلى الثقفي قال:
قصيدته العينية
طربت وشاقتك الحمول الـدوافـع
غداة دعا بالبـين أسـفـع نـازع
شحا فاه نعباً بـالـفـراق كـأنـه
حريبٌ سليبٌ نازح الـدار جـازع
فقلت ألا قد بين الأمر فانـصـرف
فقد راعنا بالبـين قـبـلـك رائع
سقيت سموماً من غراب فأنـنـي
تبينت ما خبرت مـذ أنـت واقـع
ألم تر أنـي لا مـحـب ألـومـه
ولا ببديلٍ بعـدهـم أنـا قـانـع
“ألم تر دار الحي في رونق الضحى
بحيث انحنت للهضبتين الأجـارع”
وقد يتناءى الإلف من بـعـد ألـفةٍ
ويصدع ما بين الخليطـين صـادع
وكم من هوى أو جيرةٍ قد ألفتـهـم
زماناً فلم يمنعهم الـبـين مـانـع
كأني غداة الـبـين مـيت جـوبةٍ
أخو ظمأ سدت عليه المـشـارع
تخلس من أوشـال مـاءٍ صـبـابةً
فلا الشرب مبذولٌ ولا هو نـاقـع
وبيضٍ تطلى بالعـبـير كـأنـهـا
نعاج الملا جيبت عليها البـراقـع
تحملن من وادي الأراك فأومضـت
لهن بأطراف العيون الـمـدامـع
فما رمن ربع الدار حتى تشابهـت
هجائنها والجون منها الخـواضـع
وحتى حلمن الحور من كل جانـب
وخاضت سدول الرقم منها الأكارع
فلما استوت تحت الخدور وقد جرى
عبيرٌ ومسكٌ بالـعـرانـين رادع
أشرن بأن حثوا الجمال فـقـد بـدا
من الصيف يومٌ لافحٌ الحر ماتـع
فلما لحقنا بالحمـول تـبـاشـرت
بنا مقصراتٌ غاب عنها المطامـع
يعرضن بالدل الـمـلـيح وإن يرد
جناهن مشغوفٌ فهـن مـوانـع
فقلت لأصحابي ودمعي مـسـبـلٌ
وقد صدع الشمل المشتت صـادع
أليلى بأبواب الخدور تـعـرضـت
لعيني أم قرنٌ من الشمس طالـع
سبب ذهاب عقله: أخبرني عمي عن “عبد الله” بن شبيب عن هارون بن موسى الفروي عن موسى بن جعفر بن أبي كثير قال: لما قال المجنون:
خليلي لا واللـه لا أمـلـك الـذي
قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا
قضاها لغيري وابتلاني بحـبـهـا
فهلا بشيءٍ غير ليلى ابـتـلانـيا
سلب عقله.
وحدثني جحظة عن ميمون بن هارون عن إسحاق الموصلي أنه لما قالهما برص.
خبر شيخ من بني مرة لقيه ميتاً في واد:
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال ذكر الهيثم ابن عدي عن عثمان بن عمارة، وأخبرني عثمان عن الكراني عن العمري عن لقيط، وحدثنا إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم قال ذكر الهيثم بن عدي عن عثمان بن عمارة، وذكر أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي وأبو مسلم المستملي عن ابن الأعرابي – يزيد بعضهم على بعض -أن عثمان بن عمارة المري أخبرهم أن شيخاً منهم من بني مرة حدثه أنه خرج إلى أرض بني عامر ليلقى المجنون، قال: فدللت على محلته فأتيتها، فإذا أبوه شيخ كبيرٌ وإخوةٌ له رجال، وإذا نعمٌ كثيرٌ وخيرٌ ظاهرٌ، فسألتهم عنه فاستعبروا جميعاً، وقال الشيخ: والله لهو كان آثر في نفسي من هؤلاء وأحبهم إلي! وإنه هوي امرأةً من قومه، والله ما كانت تطمع في مثله، فلما أن فشا أمره وأمرها كره أبوها أن يزوجها منه بعد ظهور الخبر فزوجها من غيره، فذهب عقل ابني ولحقه خبلٌ وهام في الفيافي وجداً عليها، فحبسناه وقيدناه، فجعل يعض لسانه وشفتيه حتى خفنا “عليه” أن يقطعها فخلينا سبيله، فهو يهيم في “هذه” الفيافي مع الوحوش يذهب إليه كل يوم بطعامه فيوضع له حيث يراه، فإذا تنموا عنه جاء فأكل منه. قال: فسألتهم أن يدلوني عليه، فدلوني على فتىً من الحي صديقاً له وقالوا: إنه لا يأنس إلا به ولا يأخذ أشعاره عنه غيره، فأتيته فسألته أن يدلني عليه؛ فقال: إن كنت تريد شعره فكل شعرٍ قاله إلى أمس عندي، وأنا ذاهبٌ إليه غداً فإن قال شيئاً أتيتك به؛ فقلت: بل “أريد أن” تدلني عليه لآتيه؛ فقال لي: إنه إن نفر منك نفر مني فيذهب شعره، فأبيت إلا أن يدلني عليه؛ فقال اطلبه في هذه الصحاري “إذا رأيته” فادن “منه” مستأنساً ولا تره أنك تهابه، فإنه يتهددك ويتوعدك أن يرميك بشيء، فلا يروعنك واجلس صارفاً بصرك عنه والحظه أحياناً، فإذا رأيته قد سكن من نفاره فأنشده شعراً غزلاً، وإن كنت تروي من شعر قيس بن ذريح شيئاً فأنشده إياه فإنه معجبٌ به؛ فخرجت فطلبته يومي إلى العصر فوجدته جالساً على رمل قد خط فيه بأصبعه خطوطاً، فدنوت منه غير منقبضٍ، فنفر مني نفور الوحش من الإنس، وإلى جانبه أحجارٌ فتناول حجراً فأعرضت عنه، فمكث ساعةً كأنه نافرٌ يريد القيام، فلما طال جلوسي سكن وأقبل يخط بأصبعه، فأقبلت عليه وقلت: أحسن والله قيس بن ذريحٍ حيث يقول:
ألا يا غراب البين ويحك نبني
بعلمك في لبنى وأنت خبير
فإن أنت لم تخبر بشيءٍ لمته
فلا طرت إلا والجناح كسير
ودرت بأعداءٍ حبيبك فـيهـم
كما قد تراني بالحبيب أدور
فأقبل علي وهو يبكي فقال: أحسن والله، وأنا أحسن منه قولاً حيث أقول:
كأن القلب ليلة قيل يغدى
بليلى العامرية أو يراح
قطاةٌ عزها شركٌ فباتت
تجاذبه وقد علق الجناح
فأمسكت عنه هنيهةً، ثم أقبلت عليه فقلت: وأحسن الله قيس بن ذريح حيث يقول:
وإني لمفنٍ دمع عيني بالبـكـا
حذاراً لما قد كان أو هو كائن
وقالوا غداً أو بعد ذاك بـلـيلةٍ
فراق حبيبٍ لم يبن وهو بـائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي
بكفيك إلا أن من حان حـائن
قال: فبكى – والله – حتى ظننت أن نفسه قد فاضت، وقد رأيت دموعه قد بلت الرمل الذي بين يديه، ثم قال: أحسن لعمر الله، وأنا والله أشعر منه حيث أقول:
صوت
وأدنيتني حتى إذا ما سبيتـنـي
بقولٍ يحل العصم سهل الأباطح
تناءيت عني حين لا لي حـيلةٌ
وخلفت ما خلفت بين الجوانـح
– ويروى: “وغادرت ما غادرت…” – ثم سنحت له ظبيةٌ فوثب يعدو خلفها حتى غاب عني وانصرفت، وعدت من غدٍ فطلبته فلم أجده، وجاءت امرأةٌ كانت تصنع له طعامه إلى الطعام فوجدته بحاله، فلما كان في اليوم الثالث غدوت وجاء أهله معي فطلبناه يومنا فلم نجده، وغدونا في اليوم الرابع نستقري أثره حتى وجدناه في وادٍ كثير الحجارة خشنٍ، وهو ميتٌ بين تلك الحجارة، فاحتمله أهله فغسلوه وكفنوه ودفنوه.
ندم أبي ليلى على عدم تزويجه بها
قال الهيثم: فحدثني جماعةٌ من بني عامر: أنه لم تبق فتاةٌ من بني جعدة ولا بني الحريش إلا خرجت حاسرةً صارخةً عليه تندبه؛ واجتمع فتيان الحي يبكون عليه أحر بكاء، وينشجون عليه أشد نشيج، وحضرهم حي ليلى معزين وأبوها معهم فكان أشد القوم جزعاً وبكاءً عليه، وجعل يقول: ما علمنا أن الأمر يبلغ كل هذا، ولكني كنت امرأ عربياً أخاف من العار وقبح الأحدوثة ما يخافه مثلي، فزوجتها وخرجت عن يدي، ولو علمت أن أمره يجري على هذا ما أخرجتها عن يده ولا احتملت ما كان علي في ذلك. قال: فما رئي يومٌ كان أكثر باكيةً وباكياً على ميتٍ من يومئذٍ.
نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني منها الصوت الذي أوله:
ألا يا غراب البين ويحك نبني
بعلمك في لبنى وأنت خبير
الغناء لابن محرز ثقيلٌ أول بالوسطى عن الهشامي، وذكر إبراهيم أن فيه لحناً لحكمٍ. وفي رواية ابن الأعرابي أنه أنشده مكان:
ألا يا عراب البين ويحك نبني
بعلمك في لبنى وأنت خبير
صوت
ألا يا غراب البين هل أنت مخبـري
بخيرٍ كما خبرت بالنـأي والـشـر
وخبرت أن قد جد بـينٌ وقـربـوا
جمالاً لبينٍ مثقلاتٍ مـن الـغـدر
وهجت قذى عينٍ بلبنـى مـريضةٍ
إذا ذكرت فاضت مدامعها تجـري
وقلت كذاك الدهر مازال فاجـعـاً
صدقت وهل شيءٌ بباقٍ على الدهر
الشعر لقيس بن ذريح، والغناء لابن جامع، ثقيلٌ أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لبحرٍ ثقيلٌ أول بالوسطى عن عمرو. وفيه لدحمان ثاني ثقيل عن الهشامي وعبد الله بن موسى.
ومنها الصوت الذي أوله.
كأن القلب ليلة قيل يغدى
بليلي العامرية أو يراح
ومنها الصوت الذي أوله:
وأدنيتني حتى إذا ما سبيتـنـي
شيء من أوصافه
أخبرني أحمد بن عمر بن موسى بن زكويه القطان إجازةً قال حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال أخبرني عبد الجبار بن سليمان بن نوفل بن مساحقٍ عن أبيه عن جده قال: أنا رأيت مجنون بني عامر، وكان جميل الوجه أبيض اللون قد علاه شحوبٌ، واستنشدته فأنشدني قصيدته التي يقول فيها:
تذكرت ليلى والسنين الخوالـيا
وأيام لا أعدي على اللهو عادياً
أخبرني محمد بن الحسن الكندي خطيب مسجد القادسية قال حدثنا الرياشي قال: سمعت أبا عثمان المازني يقول: سمعت معاذاً وبشر بن المفضل جميعاً ينشدان هذين البيتين وينسبانهما لمجنون بني عامر:
طمعت بليلى أن تريع وإنمـا
تقطع أعناق الرجال المطامع
ودانيت ليلى في خلاءٍ ولم يكن
شهودٌ على ليلى عدولٌ مقانع
وحدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أبو خليفة “الفضل بن الحباب” عن ابن سلام قال: قضى عبيد الله الحسن بن الحصين بن أبي الحر العنبري على رجل من قومه قضيةً أوجبها الحكم عليه، وظن العنبري أنه تحامل عليه وانصرف مغضباً، ثم لقيه في طريق، فأخذ بلجام بغلته وكان شديداً أيداً، ثم قال له: إيه يا عبيد الله!
طمعت بليلى أن تريع وإنمـا
تقطع أعناق الرجل المطامع
فقال عبيد الله:
وبايعت ليلى في خلاءٍ ولم يكن
شهودٌ عدولٌ عند ليلى مقانـع
خل عن البغلة. قال الصولي في خبره هذا: والبيتان للبعيث هكذا، قال: فلا أدري أمن قوله هو أم حكاية عن أبي خليفة!.
سبب تسميته المجنون واختلاف الرواة في ذلك
أخبرني الحسن بن علي “قال حدثنا محمد بن طاهر” القرشي عن ابن عائشة قال: إنما سمي المجنون بقوله:
ما بال قلبك يا مجنون قد خـلـعـا
في حب من لا ترى في نيله طمعا
الحب والود نيطا بالـفـؤاد لـهـا
فأصبحا في فؤادي ثابتـين مـعـا
حدثنا وكيعٌ عن ابن يونس قال قال الأصمعي: لم يكن المجنون، إنما جننه العشق، وأنشد له:
يسمونني المجنون حين يرونني
نعم بي من ليلى الغداة جنـون
ليالي يزهى بي شبابٌ وشـرةٌ
وإذ بي من خفض المعيشة لين
أخبرني محمد بن المرزبان عن إسحاق بن محمد بن أبان قال حدثني علي بن سهل عن المدائني: أنه ذكر عنده مجنون بني عامر فقال: لم يكن مجنوناً، وإنما قيل له المجنون بقوله:
وإني لمجنونٌ بلـيلـى مـوكـلٌ
ولست عزوفاً عن هواها ولا جلدا
إذا ذكرت ليلى بكـيت صـبـابةً
لتذكارها حتى يبل البكا الـخـدا
أخبرني عمر بن جميلٍ العتكي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عون بن عبد الله العامري أنه قال: ما كان والله المجنون الذي تعزونه إلينا مجنوناً، إنما كانت به لوثةٌ وسهوٌ أحدثهما به حب ليلى، وأنشد له:
وبي من هوى ليلى الذي لو أبـثـه
جماعة أعدائي بكت لي عيونـهـا
أرى النفس عن ليلى أبت أن تطيعني
فقد جن من وجدي بليلى جنونـهـا
أخبرني ابن المرزبان قال قال العتبي: إنما سمي المجنون بقوله:
يقول أناسٌ عل مجنـون عـامـرٍ
يروم سلواً قلت أنى لـمـا بـيا
وقد لامني في حب ليلى أقاربـي
أخي وابن عمي وابن خالي وخاليا
يقولون ليلى أهـل بـيت عـداوةٍ
بنفسي ليلى من عـدو ومـالـيا
ولو كان في ليلى شذاً من خصومةٍ
للويت أعناق المطي الـمـلاويا
أخبرني هاشم “بن محمد” الخزاعي عن عيسى بن إسماعيل قال قال ابن سلام: لو حلفت أن مجنون بني عامرٍ لم يكن مجنوناً لصدقت، ولكن توله لما زوجت ليلى وأيقن اليأس منها، ألم تسمع إلى قوله:
أيا ويح من أمسى تخلس عقلـه
فأصبح مذهوباً به كل مذهـب
خليعاً من الخلان إلا مجـامـلا
يساعدني من كان يهوى تجنبي
إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت
عوزاب قلبي من هوىً متشعب
“أخبرني به الحسن بن علي عن دينار بن عامر التغلبي عن مسعود بن سعد عن ابن سلام ونحوه.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أنشدني صالح بن سعيد قال أنشدني يعقوب بن السكيت للمجنون.
يسمونني المجنون حين يرونني
نعم بي من ليلى الغداة جنون”
قال: وأنشدنا له أيضاً:
صوت
وشغلت عن فهم الحديث سوى
ما كان فيك فإنه شـغـلـي
وأديم لحظ محـدثـي لـيرى
أن قد فهمت وعندكم عقلـي
جنونه بليلى وهيامه على وجهه من أجلها
أخبرني هاشمٌ الخزاعي عن “العباس بن الفرج” الرياشي قال: ذكر العتبي عن أبيه قال: كان المجنون في بدء أمره يرى ليلى ويألفها ويأنس بها ثم غيبت عن ناظره، فكان أهله يعزونه عنها ويقولون: نزوجك أنفس جاريةٍ في عشيرتك، فيأبى إلا ليلى ويهذي بها ويذكرها “فكان ربما استراح إلى أمانيهم وركن إلى قولهم”، وكان ربما هاج عليه الحزن والهم فلا يملك مما هو فيه أن يهيم على وجهه، وذلك قبل أن يتوحش مع البهائم في القفار، فكان قومه يلومونه ويعذلونه، فأكثروا عليه في الملامة والعذل يوماً فقال:
صوت
يا للرجال لهـمٍّ بـت يعـرونـي
مستطرفٍ وقديمٍ كان يعـنـينـي
على غريم مليء غـير ذي عـدم
يأبى فيمطلني دينـي ويلـوينـي
لا يذكر البعض من ديني فينكـره
ولا يحدثني أن سوف يقضـينـي
وما كشكري شكرٌ لو يوافـقـنـي
ولا منىً كمـنـاه إذ يمـنـينـي
أطعته وعصيت النـاس كـلـهـم
في أمره ثم يأبى فهو يعصـينـي
خيري لمن يبتغي خيري ويأمـلـه
من دون شري وشري غير مأمون
وما أشارك في رأيي أخاً ضعـفٍ
ولا أقول أخي مـن لا يواتـينـي
في هذه الأبيات هزجٌ طنبوري للمسدود من جامعه.
وقال أبو عمرو الشيباني: حدثني رباح العامري قال: كان المجنون أول ما علق ليلى كثير الذكر لها والإتيان بالليل إليها، والعرب ترى ذلك غير منكرٍ أن يتحدث الفتيان إلى الفتيات، فلما علم أهلها بعشقه لها منعوه من إتيانها وتقدموا إليه، فذهب لذلك عقله ويئس منه قومه واعتنوا بأمره، واجتمعوا إليه ولاموه وعذلوه على ما يصنع بنفسه، وقالوا: والله ما هي لك بهذه الحال، فلو تناسيتها رجونا أن تسلو قليلاً، فقال لما سمع مقالتهم وقد غلب عليه البكاء:
صوت
فواكبدا من حب من لا يحبنـي
ومن زفراتٍ ما لهـن فـنـاء
أريتك إن لم أعطك الحب عن يدٍ
ولم يك عنـدي إذ أبـيت إبـاء
أتاركتي للموت أنـت فـمـيتٌ
وما للنفوس الخائفـات بـقـاء
ثم أقبل على القوم فقال: إن الذي بي ليس بهينٍ، فاقلوا من ملامكم فلست بسامعٍ فيها ولا مطيعٍ لقول قائلٍ.
قصة حبه ليلى برواية رباح العامري أخبرني عمي ومحمد بن حبيب وابن المرزبان عن عبد الله بن أبي سعد عن عبد العزيز صالح عن أبيه عن ابن دأبٍ عن رباح بن حبيب العامري: أنه سأله عن حال المجنون وليلى، فقال: كانت ليلى من بني الحريش وهي بنت مهدي بن سعيد بن مهدي بن ربيعة بن الحريش، وكانت من أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن جسماً وعقلاً وأفضلهن أدباً وأملحهن شكلاً، وكان المجنون كلفاً بمحادثة النساء صباً بهن، فبلغه خبرها ونعتت له، فصبا إليها وعزم على زيارتها، فتأهب لذلك ولبس أفضل ثيابه ورجل جمته ومس طيباً كان عنده، وارتحل ناقةً له كريمةً برحلٍ حسنٍ وتقلد سيفه وأتاها، فسلم فردت عليه السلام وتحفت في المسئلة، وجلس إليها فحادثته وحادثها فأكثرا، وكل واحد منهما مقبلٌ على صاحبه معجبٌ به، فلم يزالا كذلك حتى أمسيا، فانصرف إلى أهله فبات بأطول ليلةٍ شوقاً إليها، حتى إذا أصبح عاد إليها فلم يزل عندها حتى أمسى، ثم انصرف إلى أهله فبات بأطول من ليلته الأولى واجتهد أن يغمض فلم يقدر على ذلك، فأنشأ يقول:
نهاري نهار الناس حتى إذا بـدا
لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى
ويجمعني والهم بالليل جامـع
لقد ثبتت في القلب منك محـبةٌ
كما ثبتت في الراحتين الأصابع
– عروضه من الطويل، والغناء لإبراهيم الموصلي رملٌ بالوسطى عن عمرو – قال: وأدام زيارتها وترك من يأتيه فيتحدث إليه غيرها، وكان يأتيها في كل يوم فلا يزال عندها نهاره أجمع حتى إذا أمسى انصرف، فخرج ذات يومٍ يريد زيارتها فلما قرب من منزلها لقيته جاريةٌ عسراء فتطير منها، وأنشأ يقول:
وكيف يرجى وصل ليلى وقد جـرى
بجد القوى والوصل أعسر حاسـر
صديع العصا صعب المرام إذا انتحى
لوصل امرىءٍ جدت عليه الأواصر
ثم سار إليها في غدٍ فحدثها بقصته وطيرته ممن لقيه، وأنه يخاف تغير عهدها وانتكاثه وبكى، فقالت: لا ترع، حاش لله من تغير عهدي، لا يكون والله ذلك أبداً إن شاء الله، فلم يزل عندها يحادثها بقية يومه، ووقع له في قلبها مثل ما وقع لها في قلبه، فجاءها يوماً كما كان يجيء، وأقبل يحدثها فأعرضت عنه، وأقبلت على غيره بحديثها، تريد بذلك محنته وأن تعلم ما في قلبه، فلما رأى ذلك جزع جزعاً شديداً حتى بان في وجهه وعرف فيه، فلما خافت عليه أقبلت عليه كالمسرة إليه فقالت:
كلانا مظهرٌ للناس بغضنا
وكل عند صاحبه مكين
فسري عنه وعلم ما في قلبها، فقالت له: إنما أردت أن أمتحنك والذي لك عندي أكثر من الذي لي عندك، وأعطي الله عهداً إن جالست بعد يومي هذا رجلاً سواك حتى أذوق الموت إلا أن أكره على ذلك، قال: فانصرفت عنه وهو من أشد الناس سروراً وأقرهم عيناً، وقال:
أظن هواها تاركي بـمـضـلةٍ
من الأرض لا مالٌ لدي ولا أهل
ولا أحدٌ أفضي إلـيه وصـيتـي
ولا صاحبٌ إلا المطية والرحل
محا حبها حب الألى كن قبلـهـا
وحلت مكاناً لم يكن حل من قبل
شعره بعد أن تزوجت وأيس منها أخبرني جعفر بن قدامة عن أبي العيناء عن العتبي قال: لما حجبت ليلى عن المجنون خطبها جماعةٌ فلم يرضهم أهلها، وخطبها رجل من ثقيف موسرٌ فزوجوه وأخفوا ذلك عن المجنون ثم نمي إليه طرفٌ منه لم يتحققه، فقال:
دعوت إلهي دعوةً ما جهلتـهـا
وربي بما تخفي الصدور بصير
لئن كنت تهدي برد أنيابها العـلا
لأفقر مني إنـنـي لـفـقـيرٌ
فقد شاعت الأخبار أن قد تزوجت
فهل يأتيني بالطـلاق بـشـير
وقال أيضاً:
ألا تلك ليلى العامرية أصبـحـت
تقطع إلا من ثقيفٍ حـبـالـهـا
هم حبسوها محبس البدن وابتغـى
بها المال أقوامٌ ألا قل مـالـهـا
إذا التفتت والعيس صعرٌ من البرى
بنخلة جلت عبرة العين حالـهـا
قال: وجعل يمر بيتها فلا يسأل عنها ولا يلتفت إليه، ويقول إذا جاوزه:
صوت
ألا أيها البيت الـذي لا أزوره
وإن حله شخصٌ إلي حبـيب
هجرتك إشفاقاً وزرتك خائفـاً
وفيك علي الدهر منك رقيب
سأستعتب الأيام فيك لعلـهـا
بيوم سرورٍ في الزمان تؤوب
الغناء لعريب ثاني ثقيلٍ بالوسطى. قال: وبلغه أن أهلها يريدون نقلها إلى الثقفي فقال:
صوت
كأن القلب ليلة قيل يغدى
بليلى العامرية أو يراح
قطاةٌ عزها شركٌ فباتت
تجاذبه وقد علق الجناح
– عروضه من الوافر. الغناء لابن المكي خفيفٌ ثقيلٍ “أول” بالوسطى في مجراها عن إسحاق، وفيه خفيف ثقيلٍ آخر لسليمان مطلقٌ في مجرى البنصر، وفيه لإبراهيم رملٌ بالوسطى في مجراها عن الهشامي – قال: فلما نقلت “ليلى” إلى الثقفي قال:
قصيدته العينية
طربت وشاقتك الحمول الـدوافـع
غداة دعا بالبـين أسـفـع نـازع
شحا فاه نعباً بـالـفـراق كـأنـه
حريبٌ سليبٌ نازح الـدار جـازع
فقلت ألا قد بين الأمر فانـصـرف
فقد راعنا بالبـين قـبـلـك رائع
سقيت سموماً من غراب فأنـنـي
تبينت ما خبرت مـذ أنـت واقـع
ألم تر أنـي لا مـحـب ألـومـه
ولا ببديلٍ بعـدهـم أنـا قـانـع
“ألم تر دار الحي في رونق الضحى
بحيث انحنت للهضبتين الأجـارع”
وقد يتناءى الإلف من بـعـد ألـفةٍ
ويصدع ما بين الخليطـين صـادع
وكم من هوى أو جيرةٍ قد ألفتـهـم
زماناً فلم يمنعهم الـبـين مـانـع
كأني غداة الـبـين مـيت جـوبةٍ
أخو ظمأ سدت عليه المـشـارع
تخلس من أوشـال مـاءٍ صـبـابةً
فلا الشرب مبذولٌ ولا هو نـاقـع
وبيضٍ تطلى بالعـبـير كـأنـهـا
نعاج الملا جيبت عليها البـراقـع
تحملن من وادي الأراك فأومضـت
لهن بأطراف العيون الـمـدامـع
فما رمن ربع الدار حتى تشابهـت
هجائنها والجون منها الخـواضـع
وحتى حلمن الحور من كل جانـب
وخاضت سدول الرقم منها الأكارع
فلما استوت تحت الخدور وقد جرى
عبيرٌ ومسكٌ بالـعـرانـين رادع
أشرن بأن حثوا الجمال فـقـد بـدا
من الصيف يومٌ لافحٌ الحر ماتـع
فلما لحقنا بالحمـول تـبـاشـرت
بنا مقصراتٌ غاب عنها المطامـع
يعرضن بالدل الـمـلـيح وإن يرد
جناهن مشغوفٌ فهـن مـوانـع
فقلت لأصحابي ودمعي مـسـبـلٌ
وقد صدع الشمل المشتت صـادع
أليلى بأبواب الخدور تـعـرضـت
لعيني أم قرنٌ من الشمس طالـع
سبب ذهاب عقله: أخبرني عمي عن “عبد الله” بن شبيب عن هارون بن موسى الفروي عن موسى بن جعفر بن أبي كثير قال: لما قال المجنون:
خليلي لا واللـه لا أمـلـك الـذي
قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا
قضاها لغيري وابتلاني بحـبـهـا
فهلا بشيءٍ غير ليلى ابـتـلانـيا
سلب عقله.
وحدثني جحظة عن ميمون بن هارون عن إسحاق الموصلي أنه لما قالهما برص.
خبر شيخ من بني مرة لقيه ميتاً في واد:
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال ذكر الهيثم ابن عدي عن عثمان بن عمارة، وأخبرني عثمان عن الكراني عن العمري عن لقيط، وحدثنا إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم قال ذكر الهيثم بن عدي عن عثمان بن عمارة، وذكر أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي وأبو مسلم المستملي عن ابن الأعرابي – يزيد بعضهم على بعض -أن عثمان بن عمارة المري أخبرهم أن شيخاً منهم من بني مرة حدثه أنه خرج إلى أرض بني عامر ليلقى المجنون، قال: فدللت على محلته فأتيتها، فإذا أبوه شيخ كبيرٌ وإخوةٌ له رجال، وإذا نعمٌ كثيرٌ وخيرٌ ظاهرٌ، فسألتهم عنه فاستعبروا جميعاً، وقال الشيخ: والله لهو كان آثر في نفسي من هؤلاء وأحبهم إلي! وإنه هوي امرأةً من قومه، والله ما كانت تطمع في مثله، فلما أن فشا أمره وأمرها كره أبوها أن يزوجها منه بعد ظهور الخبر فزوجها من غيره، فذهب عقل ابني ولحقه خبلٌ وهام في الفيافي وجداً عليها، فحبسناه وقيدناه، فجعل يعض لسانه وشفتيه حتى خفنا “عليه” أن يقطعها فخلينا سبيله، فهو يهيم في “هذه” الفيافي مع الوحوش يذهب إليه كل يوم بطعامه فيوضع له حيث يراه، فإذا تنموا عنه جاء فأكل منه. قال: فسألتهم أن يدلوني عليه، فدلوني على فتىً من الحي صديقاً له وقالوا: إنه لا يأنس إلا به ولا يأخذ أشعاره عنه غيره، فأتيته فسألته أن يدلني عليه؛ فقال: إن كنت تريد شعره فكل شعرٍ قاله إلى أمس عندي، وأنا ذاهبٌ إليه غداً فإن قال شيئاً أتيتك به؛ فقلت: بل “أريد أن” تدلني عليه لآتيه؛ فقال لي: إنه إن نفر منك نفر مني فيذهب شعره، فأبيت إلا أن يدلني عليه؛ فقال اطلبه في هذه الصحاري “إذا رأيته” فادن “منه” مستأنساً ولا تره أنك تهابه، فإنه يتهددك ويتوعدك أن يرميك بشيء، فلا يروعنك واجلس صارفاً بصرك عنه والحظه أحياناً، فإذا رأيته قد سكن من نفاره فأنشده شعراً غزلاً، وإن كنت تروي من شعر قيس بن ذريح شيئاً فأنشده إياه فإنه معجبٌ به؛ فخرجت فطلبته يومي إلى العصر فوجدته جالساً على رمل قد خط فيه بأصبعه خطوطاً، فدنوت منه غير منقبضٍ، فنفر مني نفور الوحش من الإنس، وإلى جانبه أحجارٌ فتناول حجراً فأعرضت عنه، فمكث ساعةً كأنه نافرٌ يريد القيام، فلما طال جلوسي سكن وأقبل يخط بأصبعه، فأقبلت عليه وقلت: أحسن والله قيس بن ذريحٍ حيث يقول:
ألا يا غراب البين ويحك نبني
بعلمك في لبنى وأنت خبير
فإن أنت لم تخبر بشيءٍ لمته
فلا طرت إلا والجناح كسير
ودرت بأعداءٍ حبيبك فـيهـم
كما قد تراني بالحبيب أدور
فأقبل علي وهو يبكي فقال: أحسن والله، وأنا أحسن منه قولاً حيث أقول:
كأن القلب ليلة قيل يغدى
بليلى العامرية أو يراح
قطاةٌ عزها شركٌ فباتت
تجاذبه وقد علق الجناح
فأمسكت عنه هنيهةً، ثم أقبلت عليه فقلت: وأحسن الله قيس بن ذريح حيث يقول:
وإني لمفنٍ دمع عيني بالبـكـا
حذاراً لما قد كان أو هو كائن
وقالوا غداً أو بعد ذاك بـلـيلةٍ
فراق حبيبٍ لم يبن وهو بـائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي
بكفيك إلا أن من حان حـائن
قال: فبكى – والله – حتى ظننت أن نفسه قد فاضت، وقد رأيت دموعه قد بلت الرمل الذي بين يديه، ثم قال: أحسن لعمر الله، وأنا والله أشعر منه حيث أقول:
صوت
وأدنيتني حتى إذا ما سبيتـنـي
بقولٍ يحل العصم سهل الأباطح
تناءيت عني حين لا لي حـيلةٌ
وخلفت ما خلفت بين الجوانـح
– ويروى: “وغادرت ما غادرت…” – ثم سنحت له ظبيةٌ فوثب يعدو خلفها حتى غاب عني وانصرفت، وعدت من غدٍ فطلبته فلم أجده، وجاءت امرأةٌ كانت تصنع له طعامه إلى الطعام فوجدته بحاله، فلما كان في اليوم الثالث غدوت وجاء أهله معي فطلبناه يومنا فلم نجده، وغدونا في اليوم الرابع نستقري أثره حتى وجدناه في وادٍ كثير الحجارة خشنٍ، وهو ميتٌ بين تلك الحجارة، فاحتمله أهله فغسلوه وكفنوه ودفنوه.
ندم أبي ليلى على عدم تزويجه بها
قال الهيثم: فحدثني جماعةٌ من بني عامر: أنه لم تبق فتاةٌ من بني جعدة ولا بني الحريش إلا خرجت حاسرةً صارخةً عليه تندبه؛ واجتمع فتيان الحي يبكون عليه أحر بكاء، وينشجون عليه أشد نشيج، وحضرهم حي ليلى معزين وأبوها معهم فكان أشد القوم جزعاً وبكاءً عليه، وجعل يقول: ما علمنا أن الأمر يبلغ كل هذا، ولكني كنت امرأ عربياً أخاف من العار وقبح الأحدوثة ما يخافه مثلي، فزوجتها وخرجت عن يدي، ولو علمت أن أمره يجري على هذا ما أخرجتها عن يده ولا احتملت ما كان علي في ذلك. قال: فما رئي يومٌ كان أكثر باكيةً وباكياً على ميتٍ من يومئذٍ.
نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني منها الصوت الذي أوله:
ألا يا غراب البين ويحك نبني
بعلمك في لبنى وأنت خبير
الغناء لابن محرز ثقيلٌ أول بالوسطى عن الهشامي، وذكر إبراهيم أن فيه لحناً لحكمٍ. وفي رواية ابن الأعرابي أنه أنشده مكان:
ألا يا عراب البين ويحك نبني
بعلمك في لبنى وأنت خبير
صوت
ألا يا غراب البين هل أنت مخبـري
بخيرٍ كما خبرت بالنـأي والـشـر
وخبرت أن قد جد بـينٌ وقـربـوا
جمالاً لبينٍ مثقلاتٍ مـن الـغـدر
وهجت قذى عينٍ بلبنـى مـريضةٍ
إذا ذكرت فاضت مدامعها تجـري
وقلت كذاك الدهر مازال فاجـعـاً
صدقت وهل شيءٌ بباقٍ على الدهر
الشعر لقيس بن ذريح، والغناء لابن جامع، ثقيلٌ أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لبحرٍ ثقيلٌ أول بالوسطى عن عمرو. وفيه لدحمان ثاني ثقيل عن الهشامي وعبد الله بن موسى.
ومنها الصوت الذي أوله.
كأن القلب ليلة قيل يغدى
بليلي العامرية أو يراح
ومنها الصوت الذي أوله:
وأدنيتني حتى إذا ما سبيتـنـي
بقولٍ يحل العصم سهل الأباطح
الغناء لإبراهيم، خفيف ثقيلٍ بالوسطى عن الهشامي.
المرجع: كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهانى
بقولٍ يحل العصم سهل الأباطح
الغناء لإبراهيم، خفيف ثقيلٍ بالوسطى عن الهشامي.
المرجع: كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهانى