® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11575 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2020-11-03, 9:51 am | | @hassanbalam #أنجاريتى
يا إخوتي: قصائد مختارة من شعر أنجاريتيعبد الغفار مكاوي «سيَعرفُ القارئُ منَ النظرةِ الأُولى أنَّ أشعارَ «أنجاريتي» تتميَّزُ بالتركيزِ البرقيِّ التَّام، وأنَّها أشبهُ بشَذراتٍ وألحانٍ لم تَتم. الكلمةُ عندَه شقٌّ أو صَدْعٌ قصيرٌ للصَّمت، تقفُ وحيدةً مُرتعِشةً داخلَ عالَمِ الأسرارِ الذي لا تكادُ تَلمسُه إلا مِن بَعيد.»
يُمثِّلُ «أنجاريتي» نقطةَ تحوُّلٍ بارزةً في الشِّعرِ الإيطاليِّ الحَديث، فقدْ خرَجَ من بينِ أفكارِه وأفكارِ زُملائِه وتلامِيذِه مِن بَعدِه الرُّوحُ التجديديَّةُ الثائرةُ على الشكلِ التقليديِّ للقَصيدةِ ذاتِ الإيقاعِ المتجانسِ، والتراكيبِ المُكتمِلةِ والمَعاني المفهومةِ واللغةِ البليغةِ الرنَّانة؛ فقد اتُّهِمَ في الأربعينياتِ بتكوينِ مدرسةِ «الهيرميتزم» أو الغُموضِ والإلغاز؛ وهكذا الْتَصقَ بشِعرِ «أنجاريتي» طابعُ الغُموض. وغُموضُ شِعرِ «أنجاريتي» لم يكُنْ عَجزًا في اللُّغةِ أو المَوهبةِ لدَيه، وهُو لا يَعني التعقيدَ إلى حَدِّ السُّخْف؛ فالغُموضُ الأَصيلُ له سِحرُه، وله عِندَ الشاعرِ الحَقيقيِّ ما يُبرِّرُه في البَوحِ أو الصَّمتِ في الصُّورةِ أو الرُّؤية، وفي الفِكرةِ الشعريةِ قبلَ تجسيدِها في كَلِمة. وقد انتَخبَ لنا الدكتورُ «عبد الغفار مكاوي» أكثرَ مِن ستينَ قصيدةً للشاعرِ الإيطاليِّ المَرموق، ويُلقِي الضوءَ على شِعرِه وقصةِ حياتِه في مِصر.
تقديم(١) جوسيبي أنجاريتي (ولد بالإسكندرية في ١٨٨٨/٢/١٠م ومات في ميلانو في ١٩٧٠/٦/١م).
هذا الشاعر الكبير الذي يُعدُّ رائدَ التجديد في الشعر الإيطالي في القرن العشرين، ومؤسس اتجاه أو مدرسة كاملة — مع زميله أويجينو مونتاله وغيره — سُمِّيتْ خطأً أو صوابًا بمدرسة الغموض أو الإبهام والإلغاز (الهرميتيزم).١ هذا الشاعر الذي رأتْ عيناه النورَ في الإسكندرية — جميلةِ جميلات مُدننا ولؤلؤةِ البحر الأبيض وعروسِه، والشاهد الحي على تاريخه وحضارتِه — وقضَى فيها طفولتَه وصِباه وشبابَه الباكرَ قبل سفره إلى روما، ومِنها إلى باريسَ لاستكمالِ دراسته، ثم التطوع في الحربِ العالمية الأولى التي تركت آثارَ تجاربِها الدامية على أروع مجموعاتِ قصائده، وهي «فرحة الغرقى» (١٩١٩م)، وختمَتْها بخاتمها الذي جعلَ شعرَه ونثره كلَّه بعد ذلك قصةَ «حياة إنسان» وتجاربه الأليمة التي عبَّرتْ عنها لغة الشعر الجوهرية، فارتفعتْ بها إلى آفاقِها الصافيةِ المتعالية.
هذا الشاعر الذي كانت مصرُ — بنِيلِها وريفِها وناسِها وعَراقة ثَغْرها المبتسم الحَبيب — هي على حدِّ تعبيرِه حلمُه المألوف، وسرَتْ أسرارُ روحِها وهديرُ وهمسُ بحرِها وغموضُ صحاريها في شعره الصارم البسيط الذي يشبه شذراتٍ مبتورةً يتخلَّلُها من الصمتِ والسرِّ والكتمان والأصداء أكثرُ مما يُسمع منها من الأصواتِ والأنغام.
هل آن الأوانُ لأنْ نتذكَّر هذا الشاعرَ ونقرأَه، ونحاولَ التعرُّفَ إلى تأثير لؤلؤتنا وعروسِنا الخالدة عليه بعدَ أن طالَ نسيانُنا وإهمالنا له، ولم ينشغلْ به — على مبلغِ عِلمي — أحدٌ من إخواننا المجيدين للغة الإيطالية والعارفين بآدَابها؟ أقول: هل آن الأوانُ لِإنصافِه أو بالأحرى لإنصاف أنفُسنا بالاقترابِ من عالمه وتجربتِه الشعرية المؤثِّرة على الشعرِ الإيطالي والأوروبيِّ كلِّه، والتعرف إلى تجربة حياته التي عكَستْها مرآةُ شعره وصفَّتْها؟
فلنُحاولْ في البداية أن نتابعَ طريقَ حياته خطوةً خطوةً، قبل أن ننظرَ بصورةٍ مؤقتةٍ وعاجلة في تجربة حياته التي لم تخرج تجربته الشعرية عن أن تكون مجردَ انعكاساتٍ لحظية خاطفةٍ لها، وشديدة التركيز والتكثيفِ على مرآة لغتِه الجديدة والوَحيدة.
(٢) ولد أنجاريتي في العاشر من شهر فبراير، سنة ١٨٨٨م في الإسكندرية، لأبوين هاجرَا إليها من مدينة «لوكا» في منطقة توسكانيا مع الأعدادِ الغفيرة من المهاجرين الأوروبيين الذين ازدحمت بهم المدينة منذ أواخرِ القرنِ التاسعَ عشر — في حِمى الاحتلال البريطاني — أوائلَ القرن العشرين. كم يؤسفني غايةَ الأسف ألا تساعد المراجع الشحيحةُ التي تحتَ يدي على معرفة شيءٍ عن تفصيلاتِ حياته وتجربةِ طفولته وصباه؛ الحي الذي نشأ فيه، والشارع والبيت الذي ولد فيه ولعب على أعتابِه، والمدارس التي تعلَّمَ فيها، والثقافة التي حصلها وربما التقطَ من شجرتها بعض الزهورِ والثمرات، التي تختزن عبق التاريخ السَّكَندري، وإشراق أنواره العلمية والباطنية منذ العصر الزاهي لمدرسةِ الإسكندرية والكتابات الهرمسية في القرون الأولى بعد المسيحيَّةِ حتى الفتح العربي الإسلامي، وما جاء بعده من تاريخها الوسيط والحديث.٢ يؤسفني هذا كما قلت ويضطرني — ولو إلى حين — لمتابعةِ الخطوات الأساسية على دَربِ حياته الذي امتلأ بحُفر الحرب ومَآسيها، وتركتْ على مواقف الوحدة والقلَق والغربة، وفقد الأحباب ولواعج الشوق اللاغب إلى المطلق واللا محدود؛ آثارَ جراحها الدامية.
عاش أنجاريتي مع عائلته في الإسكندرية، ولم يتركها على أرجح الاحتمالاتِ قبل بلوغِه الثالثة والعشرين من عُمره، وسافر حوالي سنة ١٩١١م إلى روما لاستكمالِ تعليمه، ثم لم يلبثْ أن اتَّجه إلى باريس التي أقام بها لأولِ مرة ما يقرُب من ثلاثةِ أعوام (١٩١٢–١٩١٥م)، كانت من أخصبِ أعوام حياته وأشدِّها تأثيرًا على وجدانه وعقله وعلى طُموحه، إلى تجديدِ لغتِه وشعرِه تجديدًا جذريًّا بوحيٍ من الصراعات والمنازعات والمحاورات التي كانت تدور وتصطخب في باريس بين التقليديين من جهة، والمجددين والمستقبليين والحداثيين في الفنون الجميلة وفي الشعر والأدب من جهة أخرى. هنا تعرَّف إلى الجديد الذي سيكتسحُ كلَّ الحواجز والعقَبات التي وقفتْ في وجهِ الأدب والفن الأوروبي، وهنا سيتاحُ له أن يقرأ نيتشه وبودلير ومالا رميه (الذي لا أشكُّ لحظةً واحدة في تأثيرِه الطاغي عليه …) وأن يستمعَ إلى محاضرات برجسون، ويستوعب ما فيها من حديثٍ عذبٍ متدفق عن «الديمومة» والشعور المباشر، والتطور الخالق والدَّفَعات والانبثاقات الرُّوحية التي تنتصر على المادة، وتتحرَّرُ منها وسوف تؤثر كلُّها بطرقٍ غير مباشرة على الشاعر الشابِّ والشيخِ أيضًا. وهنا أخيرًا تعرَّفَ إلى عددٍ من الشعراء والمصورين الذين انعقدَتْ بينه وبينَ بعضِهم أواصرُ صداقةٍ ومحبة عميقة. يكفي أن نذكر منهم الشاعرَينِ: جيوم أبو للينير، وماكس جاكوب، والفنانين المصورين بيكاسو وبراك ومود يلياني. كل هذا بجانب قراءته لعددٍ كبير من الشعراء الذي سيشتهر بترجماتِه الرائعة لهم بما لا يقلُّ عن شهرته الكبيرة بعد ذلك في الثلاثينياتِ كشاعر مجدِّدٍ يصدم أذواق الجماهير، وتُؤسَّسُ المجلات خصيصًا للهجوم عليه، أو للدِّفاع عنه وشرحِ قصائده. من هؤلاء الذين كان له الفضل في ترجمتهم بعد ذلك بودلير ومالارميه — وهما قطبا التجديد اللذان سبَق ذكرُهما — وبول فاليري وسان — جون — بيرس، الذين أضاف إليهم بعد ذلك ترجماتٍ يشاد بها إلى اليوم عن شكسبير وراسين وشارل بيجي ووليم بليك.
كان المستقبَليون بزعامة مارينيتي يُثيرون في ذلك الوقتِ ضجةً شديدة حول دعواتهم الصارخة للثورة على القديم، وللتجديد في بناءِ لغة الرسم ولغةِ الشِّعر، وأخذَه أصدقاؤه الإيطاليون الذين كانوا يعيشون في باريس — وهم الأدباء والنقاد بالأتزيسكي وسوفيتشي وبابيني — لزيارة أحد المعارضِ الهامَّة للوحاتِ المستقبليين، ولفتوا انتباهَه إلى مجلتهم «لاتشيريا»،٣ التي نشر فيها بعضَ قصائدِه الباكرة … (٣) وفي سنة ١٩١٥م تطوَّعَ للاشتراك في الحربِ العالمية الأولى، وانخرطَ في الكتيبة التاسعةَ عشرةَ مشاة، وقضى معظم سنوات الحرب في الجبهة النمسوية؛ حيث كتب في الخنادق المظلمة وتحت وابل القنابل المدوِّيَة أغلبَ قصائد مجموعته الأولى «الميناء المدفون»، التي ظهرت سنة ١٩١٦م في مدينة أودين. لم تكن قصائدَ تحث على الحرب أو تنفِّر منها، وإنما كانت نفثاتِ إنسانٍ وجد نفسه على حين فجأة متورطًا في السَّير على شارع الحرب الذي لم يحسِب حسابَه، ولم يخطر له على بال. راح يسأل في مواجهة الفواجِع البشِعة: لماذا؟ ولم يكن هو وحدَه الذي يردِّدُ السؤالَ الذي استعصتْ إجابتُه على جنودٍ كثيرين مثلَه. كانوا يقفون في بؤسِهم وتعرُّضهم كلَّ لحظةٍ للجرح والموت كما تقف أوراق الشجَر في الخريف، وقد كُتب عليها أن تسقطَ حتمًا دون أن تستطيعَ أن تقول شيئًا؛ لأنه لم يبق من شيء يُمكن أن يُقال. وهكذا تنشأ وتنمو قصيدةٌ نادرة من أربعة سطورٍ وتسع كلمات، لكن كم تدوِّي منطلقةً منها أحزان الورق الذابل في صمتٍ في رياح الخريفِ وكآبته، وأحزان الجنود الذين يروحون كلَّ يوم ضحية «مجزرة الإخوة الأوروبيين»، ولسانهم وقلبهم يردِّدان السؤالَ الذي لا جواب له:
هكذا كما في الخريف على الأشجار ورقة وورقة. وجاءت بعد المجموعة الشعرية السابقةِ الذكر مجموعةُ قصائدَ أخرى ظهرتْ سنة ١٩١٩م، وحملت هذا العنوان «فرحة الغارقين»، أو «السفن الغرقى» الذي اختصره الشاعر في الطبعات التالية منذ سنة ١٩٣١م، في كلمة واحدة يتعذر ترجمتها وهي «الفرح»؛ الفرح الذي يمكن أن نؤديه بكلمات أخرى كالمرح والبهجة والسرور أو السعادة الباطنة التي تدفعنا لأنْ نعيشَ الحاضر بكل عُمقه وحدَّته، ونأمل في غدٍ نستبشر به ونثقُ فيه، ونمشي على الأرض بخطوات ثابتة، وكأننا نطلق من داخلنا كرة السعادة ونسارعُ لالتقاطها في لعبٍ حرٍّ يفرحنا، ويمكن أن يعود بالخير والنفع على أهلنا ومجتمعنا ووطننا والبشرية جمعاء. ألم أقُلْ: إنَّ كلمة «الفرح» يتعذر ترجمتها والإحساس بمدلولها الخالص في لغتنا؛ لسببٍ بسيط هو: أن هذا الفرح الحقيقي غريب عنا، وغير معروف لنا ولا لمن نعيش وسطهم ويعيشون معنا وحولَنا، هل قلت لسبب بسيط؟ لا؛ بل لأسباب تاريخية وواقعية تجعل ما تصفه عادة بالفرح مُعبرًا في صميمه عن البكاء، وأنينًا يتخذ شكل القَهقهة المريضة والسخرية المرَّة، والنكتة الهروبية المتشفِّيَة، أو المُنتقمة من الذات ومن الآخرين.
مهما يكُنْ من عجزِنا أو من قُدرتنا في لحظاتٍ نادرة على الإحساس بهذا الفرح (الذي لم ينفصلْ منذ البداية في العنوانِ الذي وضعه الشاعرُ نفسه عن غرَق السفنِ، وخيبةِ الآمالِ وتكسُّرها على صُخور الواقعِ العنيد)؛ فقد رأى بعض النقاد — وإن لم يكُنْ هذا بالضرورة هو رأيي! — أن أنجاريتي قد احتضن في قصائد «الفرح» أسمَى ذرى إبداعِه قبل أن تبدأَ أجنحتُه في التهاوي بعد ذلك بالتدريج، بحيث تكفِي المقارنةُ بينها وبين مجموعة أخرى متأخرة وهي «صرخةٌ ومشاهد ريفية» (١٩٥٢م)؛ للتأكد من ذلك بصورة تتجلَّى في انتباهه إلى التأمل المجرد من نبضاتِ الشوق المحموم ورفيفِ فراش الحسِّ الدافئ نحو شفافية الروح، وأفق اللامتناهي واللامحدود.
(٤) استطاعت قصائد «الفرح» أن تنشر اسمَ صاحبها وتدعَمَ شهرتَه، سواء بين الذين سخِطوا عليه أشد السُّخْط، أو الذين وجدوا فيه أملًا جديدًا لإنقاذ الشعرِ الإيطالي من أوزانه التقليدية وأساليبِه الكلاسيكية أو الرومانسية التي ملَّتها الأسماع ومجَّتْها الأنفسُ المتطلعة — بعد كوارث حرب فظيعة حطمتِ الأنظمةَ المستقرةَ في الفكرِ والدين والفن والسياسة والاجتماع … إلخ — إلى شعرٍ يكون بدَوره «حُطامًا» و«شظايا» متناثرةً تسجِّل — بلغةِ الشعرِ المتعالية على الواقع الطبيعيِّ وعلى لغة التواصل الطبيعية على السَّواء — ذلك الواقعَ المادي والنفسي الذي تحول فيه الزمان والمكان والبشَر إلى بقايا خرساءَ، وشذراتٍ متناثرة وأطلال منهارة تنطقُ بالصمت، وتوحي بالإشارة والإيماءة أكثر ما تحرِّك شفاهَها بالكلماتِ المعقولة والمفهومة …
هكذا بدتْ قصائدُ هذه المجموعة (أي: فرحة الغارقين) التي زادتْ على السبعين قصيدة (وتجد منها في هذه المختارات ما يربو على الأربعين!) على هيئةِ أبياتٍ أو سطورٍ شديدة الإيجاز والدقة إلى حدِّ الصَّرامة. وكأني بها محسوبة حسابًا رياضيًّا متناهيَ القسوة في تجريد لغته المشحونة مع ذلك بإمكانات وطاقات سرية، وتثير دوامات متوترة من الصور المجازيةِ والاستعارية التي تختَزنُها، وتشعُّ دلالاتها السِّحرية لغة الشعر الحقيقي أو الجوهري على الدوام (راجع إن شئت كتابَي رائد الحداثة النقدية عندنا — وهو أستاذنا لطفي عبد البديع رحمة الله عليه — وهما: اللغة والشعر، والتركيب اللغوي للأدب).
هل كان من الممكنِ أن تكون هذه القصائد على غيرِ ما هيَ عليه؟ ألا تعكسُ «دراما» إنسان وجدَ نفسه بغتةً — كما سبق القول — على درب الحربِ الذي تخترقه الجراحُ والدماء والقتل البشع، ويمزقه التدمير المستمر للوجود الفردي المعرَّض في كل لحظة من لحظاته للترويع والقلق والاغتراب والضياع وفقد الأعزاء؟ مع ذلك فإنَّ القصائد المنتزعة من هذه المواقف الحدية واللحظات الوجودية القصوى تُسجل إرادة الشاعر العنيدة للحياة، وتحثُّه على التعلُّق بكل لحظة يجد نفسه فيها حيًّا لا يزال.
انظر معي إلى هذه القصيدة الفريدة التي اضطرَّ فيها الشاعر للسَّهَر في حراسة صديق صرعتْه الحرب فيمن صرعتهم، وتأمَّلِ الأضواء التي تنبعث منها، رغمَ كلِّ التمزق في الوجه والأعضاء:
ليلة بطولها، مُلقًى بجوار رفيق مذبوح، بفمه العابس المستدير ناحية البدر. بالدم المحتقن في يديه الذي تغلغل في صمتي، كتبت رسائل مفعمة بالحب. أبدًا لم أكن أشدَّ تعلقًا بالحياة … (١٩١٥م) في هذه القصائد الباكرة، وقبل أن تصبح فلسفة الوجود — أو الوجودية، كما اشتهرتِ التسمية غير الدقيقة — في العشرينيات والثلاثينيات، ثم في فرنسا في الأربعينياتِ والخمسينيات دليلًا نظريًّا لتحقيقِ الوجودِ الفردي الأصيل، وممارسة الحقيقة الذاتية في مواقف الاختيار الحر والالتزام المسئول، والقلق والتصميم على مواجهة الموت بالمزيد من تعمق الحياة، وصنع الوجود المتحدي للعدم بمختلف أشكاله. أقول: إن الشاعر قد استطاع في هذه القصائدِ الباكرة، ومن وحي تجاربه في الخنادق وميادين «المجزرة» الأوروبية، لا من وحي قراءاته لفلسفة لم تبدأ في الشيوع إلا بعد الحربِ العالمية الأولى، استطاع أن يقدم مواقف درامية ووجودية مشحونة بكلِّ ما أفاض القول فيه — بعد كيركجورد — فلاسفة وأدباء مثل: «هيدجر»، و«ياسبرز»، و«جبرييل مارسيل»، و«أبانيانو»، و«سارتر»، و«ميرلوبوبتي»، و«مالرو»، و«كامي»، وغيرهم كثير. إنها مواقف اليأس والقلق والاغتراب والوحدة والاكتئاب والحب والتوق الدائم للنور، كل هذا في كلمات تنم عن نزعة حسية شديدة الحساسية والتعاطف مع الطبيعة بكل كائناتِها — حتى الحجارة والحصى — وتغمرها مع ذلك روحانية شفافة ومعذبة تنقيها من كل شائبةٍ حسية. هذا الدرس الخالد الذي تعلمه الشاعر من قراءته وترجمته لمالارميه وترتفع بها، وكأنما هي أجنحة نورانية أو رموز مجردة من أي أثر مادي؛ لتندفع بلغتها الشعريةِ الجوهرية نحو تجربةِ المطلق، أو العدم وإشباع «النهم إلى الله» على حد قول الشاعر نفسه. اقرأ معي هذه السطور النقية الصافية من قصيدة كتبها في صيف سنة ١٩١٨م، بعنوان «سماء صافية»:
بعد الضباب الكثيف، تتجلى النجوم، واحدًا بعد الآخر. أتنفس النضارة التي تغدقها عليَّ السماء الصافية. أدرك من جديد أنني صورة زائلة، تندمج في دورة أبدية،٤ وفي قصيدة أخرى «وحدة»، يرجعُ تاريخ كتابتِها إلى اليوم السادس والعشرين من شهر يناير سنة ١٩١٧م، تتصاعد نبرات الكلمات، فتتحولُ إلى صرخاتٍ حادة، وشبيهة بالصواعق المخيفة التي تتهاوى في أعماق سماء ليلية سوداء:
لكنَّ صرخاتي تحفر نفسَها، كالصواعق في الجَرَس الضَّعيف للسماء، ثم تتهاوى وهي تغصُّ بالقلق. والمفارقة الكامنة في كلِّ ما قُلناه عن هذه المجموعة: أن مضمون قصائدها يناقض عنوانها، وهو الفرح. وإذا كان الشاعر — كما سبق — قد عدَّل العنوانَ الأصلي الذي ظهرت به في سنة ١٩١٩م، وهو: «فرحة الغرقى» (أو السفن الغريقة)، وركزه في الكلمة العسيرة الموحية، فإن الروح التي تسود المجموعة بأسرها هي روحُ الحرب التي جرفتْ معها «أنا» الشاعرِ في مستنقعها الدموي الموحل، وارتفعتْ لغة الشعر بالحرب؛ كحدثٍ تاريخيٍّ لتصبحَ استعارة دالةً على الزمن المدمر، والشعر المحطم الذي يعبر عنه ويرتفع به — كلما قُلنا من قبلُ — في لغة شعرية تحوَّلت بدورها إلى شذرات وشظايا وحطامٍ منثور، أي: إلى أبنية لغوية وشعرية متكسرة مبتورة، كأنما هي أصداء وحيدة تتردد مكتومة في فضاء الصمت الكوني.
(٥) انتهت الحرب العالمية الأولى، وتحرك شوقه إلى باريس التي رجع إليها، وعقد قرانه على زوجته جان دوبوا، ثم عاد إلى روما في سنة ١٩٢١م، واستقر فيها وتولى العمل في وزارة الخارجية التي كلفتْه بالإشراف على تحرير مجلة، أو نشرة تصدر باللغة الفرنسية وتلخص الأحداث الثقافية والسياسية المهمة في كلا البلدين.
كان في هذه الأثناء قد حققَ شهرة واسعة بعد صدور مجموعتيه السابقتي الذكر، وهما: «الميناء المدفون» (١٩١٦م)، و«فرحة الغرقى» (١٩١٩م) اللتين ظهرتْ بعدهما مجموعة أخرى رسخت دعائمَ شهرته، وهي: مجموعة «عاطفة الزمن» (١٩٣٣م)، بجانب ظهورِ عددٍ من ترجماته الأولى التي شهدت على عبقريته اللغوية، مثل: ترجماته عن شكسبير وراسين ومالارميه وسان جون؛ بيرس وجونجورا. وانقسمت الآراء حوله واحتدم الصراع بين المتحمسين له والساخطين عليه، حتى أدى الأمر — كما ذكرت من قبل — إلى تأسيس مجلات للهجوم عليه أو للدفاع عنه. أما الشاعر نفسه الذي ثقلت عليه أعباء الأسرة فاضطر للعمل مراسلًا صحفيًّا لإحدى الجرائد السيارة، وهي: جريدة الشعب (جاتزيتا دال بوبولو) التي تصدر في مدينة تورين، وأتاح له هذا العملُ الصحفي فرصةَ السفر وكتابة التحقيقات والمقالات المتنوعة من الجنوب الإيطالي ومن معظم البلدان الأوروبية؛ مما ساعد من ناحية أخرى على تدعيم شهرته وذيوع اسمه مرتبطًا بريادة حركة التجديد في الشعر الإيطالي بعد دانو نزيو (مات: ١٩٣٨م)، وكاردوتشي (مات: ١٩٠٧م).
(٦) واستجاب أنجاريتي في سنة ١٩٣٦م للدعوة التي وجهتها إليه جامعة ساوباولو بالبرازيل؛ لتولي وظيفة أستاذ الأدب الإيطالي بها، وأقام الشاعر ستَّ سنوات في مقر عمله الأكاديمي الجليل، حفلت فيما يبدو بصفاء المحبةِ ودفء المودة التي ربطت بينه وبين عدد كبير من الأدباء والأصدقاء والتلاميذ البرازيليين، الذين حافظوا على عهود الزمالة والأبوة حتى آخر أيامه، ولكن هذه الفترة نفسها كانتْ تُخفي له سرًّا داميًا لم يتكشف إلا بعد وقوع الكارثة؛ فقد فُجع في وفاة ابنه أنطونيو الذي لم يكمل تسعَ سنوات من عمره، مما اضطره إلى الرجوع لروما، حيث بدأ في تدوين مجموعة قصائده أو بكائياته القاتمة في رثاء طفله الحبيب، تحت هذا العنوان الدال على كونها يومياتٍ شعرية وهو: «يوم بيوم». وقد نشرت مع قصائدَ أخرى عن الحرب في سنة ١٩٤٧م، تحت عنوان «الألم» (وتجد هذه القصيدة المؤثرة مع القصائد التي بين يديك) …
رجع أنجاريتي إلى روما سنة ١٩٤٢م، والحرب والخراب على أشدِّهما ليجدَها في أسوأ أحوالها. صحيح أن جامعة روما دعته لتولي كرسي الأدب الإيطالي المعاصر الذي شغله حتى سنةِ رحيله، كما كرمته الأكاديمية الإيطالية بتعيينِه عُضوًا فيها، وبدأتْ أشهر دور النشر الإيطالية — وهي دار موندا دوري — في نشر أعماله الكاملة في مجلَّدَين يحملان هذا العنوان الدال على طبيعة إبداعه كله في الشعر والنثر على السواء، وهو «حياة إنسان»؛ غيرَ أنَّ كل صور التكريم والاحتفاء به لم تستطع أن تخفي عن عينيه ولا قلبِه المأساةَ المتجددة التي تعيشُ فيها بلاده. كانت الجيوش الألمانية قد احتلتْ روما وجعلتْها تركع تحت سياط الرعبِ النازي بدعوى الدفاع عنها وحمايتها من الحلفاء الذين أخذوا يستعدون لإنزال قواتهم على الشواطئ الإيطالية. ولا بد أن الشاعر قد اختزن أنهارًا من الحزن في مستودع وجدانه على المصير الذي آلت إليه بلاده، على يد طاغيتها المهرج موسوليني وعصاباته الفاشية المهزومة (كان الشاعر في شبابه — فيما قرأت عنه في المراجع القليلة المتاحة — صديقًا لموسوليني الذي كتب بنفسه مقدمة الطبعة الثانية لمجموعة قصائده الباكرة، وهي: «الميناء المدفون» التي ظهرت سنة ١٩٢٣م، كما أن الشاعر أعلن في سنة ١٩٣٣م تأييده الصريح للفاشية، قبل سفره إلى البرازيل بسنوات قليلة. ولست أدري، هل عضَّه الندم على موقفه، بعد أن رأى بعينيه وبصيرته ذلَّ بلاده وإذلالها وخرابها؟! ولا أشك في أن ضميره استيقظ على خطئِه الرهيب بعدَ أن عرف بنهاية صديقه السابق، الذي تدلى مشنوقًا من فرع شجرة قبل نهاية الحرب بقليل). مهما يكن الأمر الذي لا يمكنني الحسمُ فيه، فإن عذابه تزايدَ مع عذاب بلاده وفقْد أعز أصدقائه، وتحولت الفرحة السابقة على الرغم من الحزن الذي كساها بضبابه، إلى الألم الذي جعله عنوانًا لمرثياته السابقة الذكر لولده ولمصير بلاده وأحبابه في ليل الحرب المدلَهِمِّ بالصواعق والرعود والزلازل. وصدر «الألم» سنة ١٩٤٧م ليحفر — بلغة الشعر — أحزانه الشخصية مع أحزان وطنه وأهله وإخوته، ثم ظهرت مجموعته «الأرض العجوز» (١٩٦٠م) التي سرعان ما لحقت بها «المحاورات والمداخلات» (١٩٦٨م) التي تعبر جميعُها عن أعمال الشيخوخة المتأخرة. وتدور حول موضوع الذاكرة التي تحاول أن تجعل من الماضي حاضرًا، كما تتحوَّل — على طريقة شاعرَين من آبائه التراثيين، وهما: بتراركا (١٣٠٤–١٣٧٤م)، وليوباردي (١٧٩٨–١٨٣٧م) — إلى استعارة دالةٍ على الكلمة الشعرية التي تنتزعُها «اعترافات» الشاعر من مجرى الزمن المتدفق، لتضعها في المكان «الباطن» الذي يقول عنه «رلْكة» بحق: «ما من مكان يا حبيبتي يتحقق فيه العالم إلا في الباطن …»
(٧) سبق أن قلنا: إن كلمتَي «حياة إنسان» مكتوبتان على غلاف كل مجموعات أنجاريتي الشعرية، بل لقد حرص على إثباتها على غلاف المجلدين الكبيرين، اللذين ضمَّا لأول مرة طبعةَ أعماله الكاملة من أشعار وترجمات ومقالات ورسائل ومحاورات ومداخلات (وقد ظهرت بين عامَي ١٩٦٩ و١٩٧٤م). هل نفهمُ من هذا أنَّ كل ما يتركه الأديب وراءه هو في المحصلة النهائية نوعٌ من السيرة الذاتية؟ إن الخلاف ليطولُ ويحتدم فيه الصراع بين من يفرِّقون بين السيرةِ الذاتية، أو قصة الحياة الشخصية وبين الأعمال الفنية الخالصة، لا سيما الأعمال الروائية. ولكن أليست هناك في أدبنا وآدابِ غيرنا من الأمم سير ذاتية خُلِّدت على مرِّ الزمان، وحققت الشروط الضرورية لما يمكن أن يدخل في نطاقِ الأدب والفن؟ ألا نجد عندنا وعند غيرنا سيرًا ذاتية استطاع أصحابها أن يتجاوزوا الوقائع والأحداث الشخصية والتاريخية والمحلية، ويختاروا المواقف والتجارب التي تنبعث منها دلالات كليةٌ ذات أبعاد وآفاق إنسانية وجمالية واجتماعية وسياسية عامة؟ ألم نقرأ جميعًا نماذج رائعة من هذه «السير» التي التحم فيها الصوت المنفرد للأديب مع الصوت العام لمجتمعه أو للبشر عمومًا، في سعيهم الدائب وكفاحهم اليائس؛ من أجل السعادة والحب والسلام والتقدم والمستقبل الأفضل والأعدل؟ ربما يكون هذا المعيار الأخير؛ أي: انطباق الخاص والعام ومقدرة الكاتب على تجاوز الزمني والنسبي والشخصي، والعلوُّ به بلغة الفن إلى دلالات وأبعاد ورموز وصور حية وشاملة، أقول: ربما يكون هذا المعيار في تقديري المتواضع على الأقل هو الفيصل في الحكم على قيمة السيرة ومدى حظها من الفن الحقيقي. ومع ذلك ففي ظني أن الحدَّ الشفاف سيبقى قائمًا بين ما نسميه سيرة وما نسمِّيه رواية، وإن كان هذا الحدُّ لم يمنع أبدًا مِن أن تسمو بعض السير الذاتية إلى مصافِّ الأعمال الروائية العالمية.
أيًّا كان الرأي في هذا الخلاف (الذي أظنُّ أن النقد والنقادَ لن يصلوا فيه إلى نتيجة نهائية حاسمة، ربما لا تكون مطلوبة ولا ضرورية؛ لأن الأمر يتوقف في آخر المطاف على تمكن الكاتب من أدواته الفنية التي تستطيع أن تحوِّلَ تجاربه إلى تجارب ومواقف عامة) فإنَّ شاعرنا أنجاريتي يصرُّ على أن أعماله كلَّها هي قصة حياة إنسان،٥ بل يؤكد أنَّ الأدباء العظام لم يطمحوا إلى أكثر من أن يتركوا وراءهم سيرًا ذاتية جميلة. لنقرأ ما يقول عن ذلك في المقدمة التي كتبها للطبعة الثانية لمجموعته الشعرية «الفرح»، في سنة ١٩٣١م: هذا الكتاب مذكرات يومية، والمؤلف لا يطمح، ويعتقد أن الأدباء الكبار لم يطمحوا إلا لأنْ يتركوا وراءَهم سيرةً شخصية جميلة.
لهذا فإن القصائد هي عذاباتُه الشكلية، ولكنه يريد أن يوضح مرة أخرى، وإلى الأبد، أنَّ الشكل إنما يعذبه؛ لأنه يطلب أن يتطابق مع التغيرات التي اعترتْ حسَّه ووجدانه، وإذا كان قد استطاع — كَفنَّانٍ — أن يحقق أي تقدم، فإنه يود ألا يُفهم من هذا سوى أنه قد حقق — كإنسان — بعض الكمال. لقد نضج وأصبح رجلًا وسط أحداث غير عادية لم يقفْ أبدًا بعيدًا عنها، وإذا كان لم ينكر يومًا أنَّ الأدب يتوجه إلى العام، فقد كان من رأيِه دائمًا أنه حيثُ ينشأ شيءٌ (له شأنه وقيمته) فلا بدَّ أن يتطابق العام — من خلال شعور تاريخي فعال — مع الصوتِ الفرديِّ للأديب …
| |
| |
® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11575 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2020-11-03, 9:52 am | | كيف نفهم قول الشاعر بأنَّ قصائدَه يومياتٌ شعرية؟ وكيف نفسر حرصه الدائم على إثبات المكان والوقت الذي دُوِّنت فيه كل قصيدة على حدة؟ (وهو ما حَرَصْتُ عليه أيضًا بقدرِ ما أسعفَتْني المصادر القليلة). هل نفهم من ذلك أن القصائد تقتصرُ على وقائع حياة الشاعر وتجاربه المؤلمة؟ لو كان الأمر كذلك لما كانت اليوميات شعرية، ولا كان صاحبها شاعرًا؛ ذلك لأن القصائد المقصودة تقوم بالوصف والعلو معًا وفي نفس الوقت؛ أي: إنها ترفع الموصوف — بلغة الجدل الهيجلي عن رفع الضدَّين إلى مستوى أعلى وأكثر خصوبة — إلى سياقٍ شعريٍّ تؤخذ فيه الكلمة الشعرية مَأخذًا مطلقًا، وهنا يظهر مرةً أخرى تأثيرُ «مالا رميه» رائدُ الحداثة في الشعر الأوروبي، قبل أن تصبح الحداثة مذهبًا وأيديولوجية وكلمةً يَلوكها لسان كلِّ ثرثار. هذه الكلمة الشعرية التي لم يكن أنجاريتي يملُّ مراجعتَها مع كل طبعة جديدة لمجموعاتِ قصائده، في سعي لا يتوقَّفُ لإظهار الجوهري وحذف العرَضي والمتزيد، والوصول بجَرْسها الموسيقي — حتى عدم مراعاة البحر والوزن التقليدي في القصائد الباكرة — إلى الدرجة المُرضِيَة لسمعه وإحساسه، وإلى أدق تعبير ممكن وأكثره صدقًا ودقة وحيوية وطبيعية. وأكتفي للدلالة على دور الكلمة الشعرية في تمزيق الصمت وملء سكونه بالإشراق المضيء، بتلك القصيدة الشهيرة التي افتتحتُ بها هذه المجموعة المختارة ولم تزد كلماتُها عن كلمتين اثنتين، وتحيرت طويلًا في نقلِهما إلى العربية حتى استقرَّ رأيي على وضعها في هذه الصورة، تحت العنوان الذي وضعَه الشاعر نفسه لها، وهو «صباح»:
أتجلَّى باللا مَحدود. ولعل النقاد الذين وصفوا الشاعر للأسباب السابقة بأنه «صوتٌ حي»،٦ لم يكونوا بعيدين تمامًا عن الصواب؛ فلم يكن مجردَ صوت حيٍّ فحسب، وإنما حاول استعادة البراءة والرعشة الأولية، أو البدئية والحضور الشعري المنقى الخالص في «ديمومة» الشعور الحي واللغة المفارقة. (٨) يمثل أنجاريتي نقطة تحولٍ بارزة في الشعر الإيطالي الحديث، ويمكن القول بأنه هو الأب الشرعي الذي انحدرَ التجديد عنده وعند تلاميذه وزملائه الكثيرين من صلبِ رؤيته الجديدة للعالم والإنسان واللغة. هؤلاء الزملاء الذين ذكرتهم هم: مونتاله وبونتمبللي وسابا وكوازيمودو الذين اتَّهمهم النقاد في الأربعينيات بتكوين مدرسة الغموضِ أو الألغاز (الهيرميتزم)، وقامت — كما سبق القول — مجلاتٌ للدفاع عنهم وشرح غوامض شعرهم، أو للجهوم عليهم وعلى أنجاريتي بوجه خاص. كانت آذان القُرَّاء النقاد قبل عيوِنهم قد تعودتْ على الأشكال والقوالب التقليدية ذات الإيقاع المتجانس، والتراكيب المكتملة والمعاني المفهومة، واللغة المثقلة بالبلاغة والزخرفة والتكلف. ألِفُوا الاستماع إلى «الخطاب» الشعري الطنان الرنان عند جبرييل دانو نزيو (الذي راح يمجد البطولة والقوة، ويتغنى بالأساطير والأمجاد القومية الغابرة؛ مما جعلَه ركنًا من أركان الفاشية الإيطالية التي أيَّدها بكلِّ قوة، ودمرت البقية الباقية من مواهبِه الأدبية قبل موته في سنة ١٩٣٨م)، واعتادوا على الأشكال الكلاسيكية القديمة التي تَصورَ شاعرٌ كبيرٌ آخرُ، وهو جوسوي كاردوتشي (١٨٣٥–١٩٠٧م)، أن استلهام القيم الشكلية والجمالية والأخلاقية التي قامتْ عليها عند اليونان والرومان هي الكفيلة بإنقاذ التفكير والتعبير من التحلل والضعف الرومانسي، والإيذان بنهضة جديدة تعوض عن النهضة المفقودة. وفوجئ القراء والنقاد بقصائد أنجاريتي المتقطعة المبتورة، وأبياتها المتشذرة المتوحدة، كالصرخات المتكومة والرعشات العفوية، واختراق العدم أو الصمت لأنغامها المهموسة التي ترتفع وتسقط كأنوارِ السفن الغارقة، وتسطع وتخبو وتتجلى، ثم تتوارى في عمق البحر أو الليل الكوني …
هكذا انطبع خاتم «الغموض» على شعر أنجاريتي ولم يزلْ يطبعه إلى اليوم. والغموض في الشعر الحديث، سواء عندنا أو عند غيرنا، مشكلة ضخمة وشائكة، وهي تحتاج لتناوُلٍ مفصَّلٍ لا يتسع له هذا المجال المحدود، ولكنها لا تعفينا في نفس الوقت من إبداء بعض الإشارات والملاحظات المجملة التي سبَق أن توسَّعتُ في شرحها في مواضع أخرى.٧ (أ) إن تجربةَ الشاعر الجديد أو المجدد تجربةٌ جديدة، وهي تستلزم بالضرورة لغةً جديدة، تقوم على نظرة مختلفة للوجود والإنسان والمكان والزمان، كما تعكس — في بنية الجملة وتركيب البيت والصورة والموسيقى — تفتُّتَ العالم وانهيار النظم التقليدية وقلقَ الإنسان المبدع وغربته ووحدتَه مع لغتِه ونفسه، (وسط عالم مُعادٍ، يحتشدُ دائمًا لاغتياله، ثم وضع الغار على رأسِه والنَّياشِين على صدرِه). (ب) لا بد من التفرقة من ناحيةٍ بين الغموض الأصيل والغموض الزائف، ومن ناحية أخرى بين الغموض والتعقيد؛ إذ ليس كل الشعرِ المعقَّد غامضًا، ولا كل الشعر الغامض معقدًا. إن الشعر الحقيقي يتسمُ في جوهره ووفقَ طبيعته الأصيلة بالغُموض، ولكن الغموض الزائف قد يأتي من عَجزٍ في اللغة أو الموهبة، وجهل الشاعر بتراثه بحجة تجاوُزه أو اختراقه وإعلانِ القطيعةِ معه، واستخدام الأُطر والأشكال الجديدة مع إفراغها من الروح والنظرة الجديدة. أما الغموض الأصيل، الغموض الكاشف فهو يرتبط كما قلت بالحقيقة الشعرية، ويرفع الحجاب عن سرِّه المكشوف — على حد تعبير جوته في ديوانه الشرقي — لكلِّ من يملك الصبر الكافي على قراءاته وإعادة قراءته، بل إبداعه إبداعًا خاصًّا به. (جـ) الغموض لا يعني أبدًا الإِلغازَ إلى حدِّ السخف والتعقيد المتعمد والمقصود لذاته، أو للرغبة في صَدْم القارئ واستفزازه؛ فالغموض الأصيل له سحره، وله عند الشاعر الحقيقي ما يبرره في البوح أو الصمتِ في الصورة، أو الرؤية في الفكرة الشعرية ووحدة الشعور الأصيلة السابقة على التجسد في الكلمة، والنغمة داخل شكل معين أو بلا شكل، وبمنطق خاص أو بلا منطق ووراء المنطق. والأمر الحاسم هو التمكن والصدق؛ لأن كل ما ذكرناه يمكن أن يصبح في يد العاجزين ميدانًا للألغاز والادعاء والشذوذ والنشوز المتعمد والسخف الممجوج، الذي يثير السخرية أو الرثاء. (د) إن الشعر الأوروبيَّ الجديدَ منذ عهد أعلامه المؤسسين لبنيتِه الجديدةِ (وهم بودلير ورامبو ومالارميه، بالإضافة إلى عدد كبير من عظامِ الشعراء التالين لهم، مثل فاليري وإليوت وألبرتي وجين وسان جون بيرس وغيرهم من «الأبولونيين» و«الديونيزيين»،٨ ومن «الرمزيين» و«السيرياليين» و«المستقبليين» … إلخ) هذا الشعر يعتمد على السحر والإيحاد والإيماء، لا على المعنى المنطقي المفهوم أو البناء المعقول، وهو يحطم البِنَى التقليدية لتركيبِ البيت والجملة والوزن والموسيقى، بحيث يغلب الصمت على الكلام، والكتمان على الإفصاح، والهمس على الأصوات الجهيرة، والتقطع على التواصل، والتكثيف على التزيد، والمراوغة المستمرة بين التجلي والخفاء، والظهور والاحتجاب، والإضاءة والإظلام. لكأني بالشاعر الجديد يقدم لنا حطامَ العالم والنفس، وأشلاء اللغة والفكر، وهو يقول: هذا هو عالمكم، وهذه هي لغتكم، وعليكم أن تبنوها بأنفسكم، أو تتقبلوها وتتعايشوا معها بأمانة وشجاعة. (هـ) سيعرف القارئ من النظرة الأولى أن أشعارَ أنجاريتي تتميزُ بالتركيز «البرقي» التام، وأنها أشبه بشذرات وألحان لم تتم. الكلمة عنده شق أو صَدْع قصير للصمت، «مونادة» (أو كيان حي وجوهري وحيد بتعبير ليبنتز!) تقف وحيدة مرتعشة داخل عالم الأسرار الذي لا تكاد تلمَسُه إلا من بعيد، وفي لحظات باطنية خاطفة — صوفية أسطورية — وسط الصمت الذي لا يلبَثُ أن يطبق عليها؛ لاستحالةِ القول أو لأنه لم يتبقَّ شيء يمكن أن يُقالَ أمام تجارب الألم والفقدِ والاغتراب. (و) هل نخلص من هذا كلِّه إلى أن أنجاريتي شاعرٌ غامض وملغز كما قيلَ عنه، ولا يزال يقال؟ لا يمكننا القول بأن شعرَه سهل، ولكن صعوبتَه لا تجيزُ لنا أن نَصِفَه بالغموض، بل إننا حين نقرأ شعره لن نفهمَ هذا الوصف ولن نصدِّقه، وربما نسلِّم — بعد كل ما قيل — بأن إلغازه نابع من جوهرية الشعر نفسه وطبيعته الأصيلة، ولغته المفارقة للغة الطبيعية التي هي مجرد أداة للتواصل والتوصيل والممارسة؛ ومن ثم يمكننا أن نؤكد في النهاية أن غموضه — لو صبرنا عليه! — هو الغموض الأصيل، وليس الغموض الزائف الذي يأتي من تشوُّشِ الفكرة وتشتُّت الإحساس، ومن تعقيد البنية اللغوية والنحوية أو كسرها بغير ضرورة فنية أو نفسية أو موسيقية، أو من غرابة المصطلح والخروج المتعمد على المألوف في ترتيب عناصر العبارة وتسلسل الأفكار والأبيات في القصيدة الواحدة انسياقًا وراء الادعاء والحذلقة والنشوز، لا استجابة لنداء التجربة الشعرية. ذلك هو الغموض الكاشف أو القابل للكشفِ عنه، وألغازه لا تحتاج إلى حلٍّ؛ لأنها تتصل بلغز الحياة والكون، وتنبع من قلبِ وجودنا الشقيِّ ومن طبيعةِ الشعر، ورؤيةِ الشاعر نفسه. لهذا أرجوك يا قارئي الكريم أن تُعيد التأمل في القصيدة الشهيرة التي افتتحت بها هذه المجموعة المختارة، وذكرتها في الفقرة السابقة: أتجلى باللامحدود. لقد ضيَّعت الترجمة المدَّ الموسيقي في الفعل والاسم الأصليين، بالإضافة إلى أن التجلي لا يعبر بدقَّة عن الإشراق وإشعاعاته وأبعاده التاريخية والصوفية والشعرية في التراث الغربي والشرقي القديم والوسيط والحديث. ومع كل الجناية التي ترتكبها الترجمة — وترجمة الشعر بوجه خاص! — فسوف تشعر يا قارئي بأن اللغزَ في هذه القصيدة الفريدة لا يحتاجُ إلى حل، وأنَّ السر فيه هو السر المكشوف، أو القابل للكشف عنه (سواء بفعل القراءة المبدعة، أو بفعل الوجد والعشق والتَّوق — أو النَّهَم كما يقول الشاعر نفسه! — إلى الأبديِّ اللامحدود).
وإذا مضيتَ في القراءة فستجدُ ألغازًا أخرى تَصِلُك بألغاز أولية أو جوهرية قائمة في تكوين المخلوقِ الذي لا يكفُّ عن الحنين إلى الخالق، وفي الشوق إلى البراءة وإلى النور الأولى إلى حدِّ الصراخ والارتعاش في الليل والبحر الذي تَهوِي سفنُنا الغريقة في أعماقِه، وتتحطم دائمًا على صخوره.
(ز) إن أَنْسَ فلن أنسى ذلك اليوم الذي رأيتُه فيه لأول وآخر مرة. كان ذلك في سنة ١٩٥٣م، وكنت في منحة صيفيةٍ لاستكمال دراسة اللغة الإيطالية في جامعة الأجانب الإيطالية العريقة الساحرةِ في مدينة «بيروجيا»، (وهو نوع من السياحة الثقافية الراقية، ليتَنا نفطنُ إليه ونَقْتدِي به). وكان من عادة هذه الجامعة أن تستضيفَ عدَدًا من كبار الأساتذة العلماء والأدباء والمفكرين؛ ليُحاضروا الطلاب الأجانب — بجانبِ الدروس اللغوية — في موضوعاتٍ تخصصهم، أو ليحدثوهم عن سيرةِ حياتِهم وفكرهم، ويقرءُوا عليهم شيئًا من إنتاجهم. وبعد أن استمعنا في ذلك اليوم إلى محاضرة «جوسيبي أنجاريتي» — الذي لم أكن سمعتُ عنه أو قرأت له أبدًا — وجدت الطالبات والطلاب يُهرَعون إليه ويلتفُّون حوله ويمطرونه بأسئلتهم أو يطلبون منه التوقيعَ باسمه على النُّسَخ التي اشترَوها من دواوينه وترجماته ومقالاته. وقفت ساكنًا تمر يدي على ذَقني كما هي عادتي في مواقف التأمل والحيرة، وتتردد نظراتُ عيني بين الرجل الطويل النحيل المحنيِّ الظهر، بعينيه الضيقتين خلفَ الزجاج السميك للنظارة الطبية، وبين يده التي لا تتوقف عن الامتداد للأيدي الشابَّة بالسلام، أو بالقلم الذي يوقع به على الكُتب والألبومات، وكنت تائهًا كاليتيمِ في الزفَّة. ويبدو أن شَعري الأسود وعينيَّ السوداوَين وملامحي التي قيل لي أحيانًا: إنها طبق الأصل المنقوش على جُدرانِ المعابد والمقابر المصرية القديمة، يبدو أنها لفتتْ نظرَه في اتجاهي، ففوجئت بالرأس الأشيَب الوقور والوجه الأبيض العريضِ يقتربُ مني، وينحني فوق قامتي القَصيرة وبالصوتِ الأجش الخفيض يسألني: وأنتَ، من أي بلدٍ أنت؟ أفقتُ على السؤالِ الذي فهمته لحُسن حظي، وقلت: من مصر. عاد الصوتُ يسألُ: من القاهرة؟ قلت: نعم. درستُ في جامعتها، في كلية الآداب. قال الرجل، وهو يعتدل بقامته الطويلة ويمد ذراعه؛ ليربت بكفِّه على كتفي: أنا مثلُك مصريٌّ، ولكن من الإسكندرية، ولدتُ في الإسكندرية … آه! مِن زمنٍ طَويلٍ…
ودُهشت للضحكة الطيبة الرنانة التي فجَّرت دوامةً من ضحكات الشباب والشابات، الذين أحكموا حصارهم حول الشاعر الذي عرَفتُ بعد ذلك من زميل إسباني أنَّه أكبرُ شعراء بلاده، وأحد المجدِّدينَ بين الكبار للشِّعر الأوروبي عامة.
ربما أكون قد عاهدتُ نفسي منذ ذلك اللقاء أن أفرغَ لدراسة هذا الشاعر والكتابة عنه في يومٍ من الأيام. وربما تكونُ ابتسامته الطيبة ورَبتةُ كفه على كتِفي في حنان، وبريق الحب الذي لاحظتُه وهو يلمع ويخبو في العينين الذابلتين المرهَقتين، ومبادرته لسؤال شابٍّ صامت خجولٍ وغارق في تيهِ الغربة، وعلى طريق اللغة التي لم يحسنْها تمامًا (بل كاد يتخلَّى عنها بعد ذلك حينَ شغلته دراستُه للألمانية عن التعمق الكافي في أدبها، بعد أن قطع شوطًا لا بأسَ به في قراءة جحيمِ دانتي ومسرحياتِ بيراند للو)، أقول ربما يكون ذلك، لكنه قد عمِل عملَه في اللاوعي، وذكَّرني بعد ذلك في فتراتٍ متقطعة من حياتي بالعهد الذي قطَعتُه على نفسي؛ ففي أواخر الستينيات أتيحَ لي — أثناء العمل الشاق الذي استغرقَ مني سنواتٍ في تأليف كتابي المتواضع عن ثورة الشعر الأوروبي الحديث — أن أطَّلع على ترجمةٍ ألمانية رائعة لمختاراتٍ من شعره بقلم الشاعرة العظيمة أنجورج باخمان (١٩٢٦–١٩٧٣م) رحمها الله، وأن أنقلَ منها للعربيةِ ما يقرُب من عشرين قصيدةً. وفي أواخر الستينات أيضًا — وكنت أيامها عُضوًا في هيئة تحرير مجلة «الفكر المعاصر» برئاسة الصديق الكبير فؤاد زكريا — كتبت عن الغموضِ في شعر أنجاريتي، كما أشرت لذلك في هامشٍ سابق. وها أنا ذا أعود بعد نحو ثلاثين عامًا، لا أدري كيف سرقها مني التعليم الجامعي العقيم الأليم؛ لكي أكرر المحاولة وأجدِّد عهد الوفاء للرجل الذي رحل عن عالمنا بعد كتابة المقال المشار إليه بسنتين. هل أستطيع أقول اليوم: إنني أنصفته وأدَّيت حق الذكرى الحية التي ما تزال حاضرةً في وعيِي بالرغم من ضعف الذاكرة مع التقدم في العمر؟ مبلغ عملي — وأرجو أن أكون مخطئًا — أنَّ أحدًا من أبناء وطني والوَطن العربي لم يهتمَّ بهذا الشاعر، الذي وُلدَ في بلادنا وعاش تجارب طفولته وصباه وشبابه الباكر في الإسكندرية، الاهتمامَ الذي يستحقه، كما فعل عدد كبير من الأصدقاء والزملاء الأعزاء مع شاعرٍ سكندري آخر من أصل يوناني، ولد وعاش ومات في المدينة الحبيبة نفسها، وأقصد به الشاعر العظيم: قنسطنطين كفافيس، الذي حظِي بعناية أديب كبير وناقد تشكيلي ومترجم عن اليونانية الحديثة، وهو الدكتور: نعيم عطية، الذي نذكر له جهده وفضله منذ الستينيات في تقديم هذا الشاعر، إلى أن أسعدنا أخيرًا بترجمة أعمالِه الكاملة. ولا بدَّ أيضًا من الإشادة بفضل زميل كريم، هو الدكتور: حمدي إبراهيم الذي شارك في ترجمة بعض قصائد كفافيس عن اليونانية، فضلًا عن مساهمة الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف في تقديم مختارات عنه عن الإنجليزية، وعن عكوف شاعر قصيدة النثر المعروف: رفعت سلام في الوقت الحاضر على إعداد طبعة تضمُّ شذراتٍ ونصوصًا لم يسبق نشرها عن ترجماتها الإنجليزية. هل يحق لي في النهاية أن أقول: إنني وفيت بالعهد وأنصفت الرجل الذي وُلد على أرضنا وتنفس هواءنا، وجرب سماحة المصري وكرمه ورقته ووداعته وطيبة قلبه، وقدرته على إشعاع الفرح والحب من حوله، على الأقل في ذلك الزمن الذي عاشه الشاعر على أرضنا، وتحت سمائنا؟! لا أظن أنني أستطيع أن أقول هذا بضمير مستريح؛ فما زالتْ معرفتي بالشاعر قاصرةً محدودة، والقصائد التي أقدمها في هذا الكتاب غيرُ كافية للتعريف به وبعالمه وتجاربه في بلادنا وفي بلده الأصليِّ، لكنني قد فعلت ما في طاقتي وفي حدود المراجع القليلة التي عثرت عليها، وعلى الأخواتِ والإخوة العارفين باللغة الإيطالية والمتمكنين من آدابها أن يُكمِّلوا ما بدأتُ، ويصححوا ما وقعت فيه من أخطاء.
(ﺣ) وقد اعتمدت في هذه المنتخباتِ على الترجمة الألمانية التي قامتْ بها الشاعرة الكبيرة إنجبورج باخمان، والدراسة التي ألحقتْها بها،٩ مع الحرص على قراءة الأصل الإيطالي كلمةً كلمةً وسطرًا سطرًا — بمساعدة القاموس والترجمة! — ومراعاة الدقة والأمانة والتعاطف — إلى حد التقمص! — مع روح النص وجسده. أقصد مع معانيه ودلالاته الفكرية ومع كلماته وطعمها ولونها وجَرسها وملامحها المحسوسة والملموسة، ولا يسمح المقام بالحديث عن أسلوبي في ترجمةِ الشعر، بعد أن كتبت عنه في مواضع أخرى١٠ ووهبت سنواتٍ طويلة من عمري في حبِّ معبودي الشعر ودراسته، ونقله إلى لغتي (وليغفر لي الله هذه الخيانة أو الجناية التي أعتزُّ بها ولا أتبرأُ منها، والتي أعزِّي نفسي دائمًا، فأقول: إنها خلاقةٌ أو مبدعةٌ، أو على الأقلِّ ضرورةٌ وواجبٌ ثقافي … إلخ). (ط) وأخيرًا فقد اهتديت في اختيار هذه القصائد بترجمة إ. باخمان السابقة الذكر، وببعض المختارات الإنجليزية المختلفة من الشعر الإيطالي الحديث والمعاصر في طبعاتِ سلسلة بنجوين المشهورة وغيرها. وأرجو أن يلاحظ القارئ أن القصائد الأولى التي بلغَ عددها ما يقرُب من الأربعين قصيدة مأخوذة عن أهمِّ مجموعات أنجاريتي الشعرية، وهي: «الفرح»، مع قصائد أخرى كثيرة من مجموعاته التالية التي صدرتْ كلها في طبعات مختلفة، لدى الناشر الإيطالي الشهير: أرنولدو موندادوري في ميلانو. وقد حاولتُ بكلِّ جهدي أن أثبت تواريخ كتابة القصائدِ وأماكنها، فصاحبني التوفيق في معظمها، وخذلتني صعوبة الوصول إليها في عدد آخر، وإليك هذه القائمة المختصرة بعناوين دواوين الشاعرِ وسنوات صدورها في طبعاتها الأولى، وفي لغتها الأصلية: (١) الميناء المدفون، أودين، ١٩١٦م. (1) IL Porto Sepolto. Udine, 1916. (٢) فرحة الغارقين (أو السفن الغارقة)، فلورنسة، ١٩١٩م، وقد عدَل الشاعر منذ سنة ١٩٣١م في العنوان مكتَفيًا باختِصاره إلى «الفرح» L’allegria، ميلانو. (2) Allegria di naufragi – Firenze, 1919. (٣) عاطفة الزمن، فلورنسة، ١٩٣٣م. (3) Sentimento del Tempo. Firenze, 1933. (٤) الألم، ميلانو ١٩٤٧م. (4) IL Dolore. Milano, 1947. (٥) الأرض الموعودة، ميلانو، ١٩٥٠م. (5) La terra Promessa. Milano, 1950. (٦) صرخة ومشاهد ريفية، ميلانو، ١٩٥٢م. (6) Un grido e Paesaggi. Milano, 1952. (٧) مفكرة العجوز: من ١٩٥٢ — إلى ١٩٦٠ — ميلانو ١٩٦٠م. (7) IL Taccuino del Vecchio: 1952–1960. Milano, 1960. (٨) أشعار متفرقة، نشره الناقد دي روبرتيس، ميلانو، ١٩٤٥م، مع مقدمة بقلم الشاعر. ( Poesie disperse, Ed. G. De Robertis. Milano, 1945. (٩) حياة إنسان، الأشعار الكاملة، نشره ل. بيتشيوني، ميلانو، طبعة ١٩٧٤ و١٩٨٢م. (9) Vita d’un Momo, tutte le poesie, Ed. L. Piccioni Milano, 1974, 1982. (١٠) حياة إنسان، مقالات وحوارات، نشره ذياكونووربياي، ١٩٨٢م. (10) Vita d’un Uomo, Saggi e lnterventi. Ed. M. Diacono e l. Rebay, 1982. (١١) رسائل إلى فيلسوف ظاهري (فينومينولوجي)، ميلانو، ١٩٧١م. (11) Lettere a un Fenomenologo. Milano, 1972. (١٢) رسائل إلى بيا، نشره ج. لوتي، ميلانو ١٩٨٣م. (12) Lettere a pea. Ed. G. Luti. Milano, 1983. (١٣) إبداعات الشعر الحديث، دروس برازيلية في الأدب، من ١٩٣٧ إلى ١٩٤٢م، نشره مونتيفوسكي نابولي ١٩٨٤م (وهو يضم محاضراته ومذكراته عن الشعر الحديث، خلال فترة عمله أستاذًا للأدب الإيطالي بجامعة ساو-باولو بالبرازيل). مع العلم بأن هذه القائمة لا تضمُّ ترجماته المختلفة التي تحسب عادة ضمن إبداعاته، كما أنها لا تضم عناوين الدراسات العديدة التي كتبت عنه بلغاتٍ مختلفة.
(13) Invenzione della Poesia Moderna. Lezioni bra - P. Mont Fos – siliane di Letteratura, 1937–1942. Ed. P. Monte Foschi, Napoli, 1984. د. عبد الغفار مكاوي ١ Hermitism/L’ermetismo. ٢ حاولت التعويض عن هذا النقص في اللوحة التي رسمتُها في نهاية الكتاب لحياة أنجاريتي وتجاربه وأعماله الشعرية والنثرية، راجيًا أن أكملها في المستقبل بإذن الله. ٣ معناها الحرفيُّ هو: النيِّئ أو الحامض أو المرُّ، وكانت صوتَ المستقبليين ودعاة التجديد. ٤ أو تساق وراء نور خالد … ٥ Vita d’un Uomo. ٦ Voce Vivente وهو وصف أصبحَ مع الزمن علاقة مميزة للشاعر الذي وصفَ حياته، وارتفع بها في لغة الشعر. ٧ راجع على وجه الخصوص كتابي عن ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر، الطبعة الثانية، القاهرة، أبوللو للنشر والتوزيع ١٩٩٨م، وكذلك مقالًا عن أنجاريتي وغموض الشعر الحديث، نشر في كتابي: شعر وفكر، دراسات في الأدب والفلسفة، القاهرة، الهيئة المصرية للكتاب، ١٩٩٥م، ص١٣١–١٤٧، وسبقَ نشره في مجلة المعاصر سنة ١٩٦٨م. وانظر: المقال القيم، للأستاذ إدوار الخراط عن: الغموض والوضوح وأصولهما في الفكر الغربي والعربي، نشر في ملحق الجمعة لجريدة الأهرام بتاريخ ١٩٩٩/٧/٩م، ص١١، وهو آخر ما قرأت في هذا الموضوع. ٨ راجع الفرق بينهما في: الكتاب السابق ذكره، عن ثورة الشعر الحديث، لا سيما الفصل الخامس: عن ثورة الشعر الحديث في القرن العشرين. ٩ Ungaretti, Giuseppe; Gedichte, Italienisch und Deutsch. Übertragung und Nachqort van Imgeborg Bachmann. Frank Furaim., Suharkanp, 1966. ١٠ راجع إن شئت: دراستي عن ترجمةِ الشعر «مجلة فصول»، ١٩٨٠م، المجلد الثامن، العدد الثاني، وكذلك شهادتي عن ترجمة الشعر التي تفضلتْ كذلك «فصول» بنشرها، قبل حوالي السنتين في عددها عن الشعر. | |
| |
® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11575 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2020-11-03, 10:01 am | | عن «الفرح»: ١٩١٤–١٩١٩مصباح١أتجلَّى باللامحدود. (سانتا ماريا لا لونجا، في يوم ٢٦ يناير، سنة ١٩١٧م) ١ طالت حيرتي أمام هذه القصيدة الفريدة التي تتألفُ من كلمتين اثنتين Millumino D’immenso فكرت أو أؤدِّيَها مرة على هذا النحو: يغمرني إشراقُ اللامحدود، ومرة أخرى على هذه الصورة: أستضيءُ باللامحدود، وثالثة ورابعة حاولت فيها الإبقاءَ على كلمة النور أو مشتقاتها، ومرادفاتها للتعبير عن مضمون الفعل الأصلي، ودلالته الواضحة على مذاهب الإشراق والتفرقة الأساسية بين النور الطبيعي والنور فوق الطبيعي، أو الإلهي الذي يتجلى للشاعر والمتصوِّف والملهم فيدرك الحقائق الأبدية. غني عن الذكر أن الإشراق له تاريخ طويل وتراثٌ عريق يدور حول ميتافيزيقا النور وصوفيَّته، وذلك منذ الزرادشتية، ثم الأفلاطونية المحدثة والكتابات الغنوصية والهرمسية في القُرون الأولى للمسيحية، ومن القديس أوغسطين وبونافنتورا والمتصوفة المسيحيين في العصر الوسيط، حتى جوته وهردرو والشاعر رامبو صاحب الإشراقات المشهورة، ومن الفارابي وابن سينا والغزالي إلى سائر الصوفيَّة المسلمين، لا سيما السهروردي المقتول في هياكل النور، وابن عربي في الفتوحات، حتى رفعت سلام في إشراقاته. وأحسب أن أنجاريتي في هذه القصيدة وفي غيرها يحتلُّ مكانه الجدير به في صفوف هذا الموكب المشرق من الإشراقيين، وإن لم يتسع المقام لأكثر من الإشارة الخاطفة. أما اللا محدود فيمكن أن يتصوره القارئ من جهةِ المكان أو الفضاء، أو من جهة الأبدي المطلق من كل الحدود.
أبدي بين زهرة مقطوفةٍ وأخرى مهداة، (يكون) العدَم الذي لا سبيلَ للتعبير عنه.
سجادة كل لون يتمدَّدُ ويفنى في الألوان الأخرى؛ ليكون أكثر وحدة عندما تنظر إليه.
نَزْع١ أن تموت كالقبرات العِطاش، (على صَدْر) السَّرَاب.٢ أو تموت كالسمَّان، بعد عبورِه البحر، على أول غُصن؛ لأنه لم يعدْ يشعُر بالرَّغبة في الطَّيران. ولكن لا تَحْيَ على (الشكوى و) النَّحِيب، مثل البرقش الأعشى.٣ ١ هو الصراع مع الموت، أثناء الاحتضار. ٢ حرفيًّا: انعكاس الضوء على الهواء، ولعل المقصود هو: السراب الذي تحسبه القبرة ماءً، فتموت عَطْشَى على صدرِه. ٣ البرقش أو الحسون: طائر صغير — كالعصفور — متلوِّن، يسمِّيه أهل الحجاز بالبرقش (المعجم الوسيط).
ذكرى إفريقيا الشمس تقهَرُ المدينة، الرؤية تغدو متعذِّرة، حتى القبور نفسها لا تصمُد طويلًا.
ليلة من ليالي شهر مايو السماء تتوِّجُ رءوسَ المآذن بباقاتِ النور.
ظلام ناصع حتى القبور اختفتْ أيضًا. فضاءٌ أسود لا متناهٍ، هبطَ من هذه الشُّرفة على المقْبَرة. يُخيَّل لي أنني ألتقِي مرةً أُخرى بصديقي العرَبي، الذي انتحرَ ليلةَ أمس. يطلع النهارُ مِن جديد، ترجع القبور مصقولةَ السُّطوحِ في الخضرة المُعتمة للظُّلُمات الأَخيرة، في الخُضرة العكرة لأولِ ضوء.
في ذكراه كان اسمُه محمد شُعيب. سليل أمراء البدو الرُّحَّل، أقدمَ على الانتحار؛ لأنه لم يعُدْ له وطَن. أحبَّ فرَنسا، وغيَّرَ اسمَه. أصبح يُدعى مارسيل، لكنه لم يصبحْ فرنسيًّا، ولم يعدْ يعرِف كيف يعيش في خيمةِ أهله، حيث يُنصتون لتلاوة القرآن، وهم يحتَسُون القهوة. ولا عادَ يدري كيف يردِّد أغنية وحشِيَّة. عشتُ معه، ومع صاحبةِ الفندق الذي كنا نَسكنُه في باريس. (ويحمل) رقم (٥) شارع دي كارم، الشاحب الضيِّق المنحدر على جانبِ التلِّ. يرقد الآن في جبَّانة إيفري، (وهي) الضاحيةُ التي تبدو دائمًا كأنها في صَباح اليوم الذي ينفضُّ فيه السُّوق السنوي. وربما كنت أنا وَحْدي الذي ما يزالُ يَعرف أنه كان حيًّا. (لوكفيتزا في ٣٠ سبتمبر ١٩١٦م) حنين عندما يوشك الليلُ أن يَمضي قبل الربيع بقليلٍ، ويندُر أن يمر أحدٌ. يتجمَّع فوقَ باريس لونٌ غامضٌ من البكاء، على جانبِ جسر. أتأمل في الصمت غيرِ المحدود لفتاةٍ نحيلة. تمتزج أمراضُنا ونبقى كأننا حملنا بعيدًا.
مساء عند أقدام ممرَّات المساء يجري ماء ناصع بلون الزيتون، ويبلغ النار القصيرة بغيرِ ذاكرةٍ في الدخان، أسمع الآن أصوات الجَنادب والضفادع، حيث يرتعشُ العشب رعشة رقيقة.
الميناء المدفون هنالك يصلُ الشاعر، ثم يَتوجَّهُ للنور ومعه أغانِيه، وينثرها (حوله). من هذا الشعر يبقَى لي ذلك العدَم، الذي لا ينفدُ سره.
حراسة ليلية١ ليلة بطولها، ملقًى بجانب رفيقٍ مذبوح بفمِه العابس، المستدير ناحيةَ البدر. بالدم المحتقِن في يديه الذي تغلغلَ في صمتي، كتبتُ رسائل مفعمةً بالحب. أبدًا لم أكن أشدَّ تعلُّقًا بالحَياة. (تشيما كواترو في ٢٣ ديسمبر ١٩١٥م) ١ هذه أول قصيدة يكتبها أنجاريتي عن تجاربه مع مآسي الحرب، وهي كذلك أول قصيدة يفتتح بها ديوانَه الأول «الميناء المدفون»، الذي ظهر في أوندينه ١٩١٦م في عدد محدود من النسخ، ولا شكَّ أن قصائدَه في هذا الديوان بوجه خاص — وفي غيره! — أشبه بيوميات شعرية وإنسانية، اكتشف فيها الشاعر قيمة الكلمة والأغنية المحفورة كالهوَّة التي يكتشفها في جسده وروحه، وهي في النهايةِ شهاداتٌ على أن شعَره هو «قصة حياته» والعكس صحيح، وأن الشعر هو «خلاصُه وخلاص الآخرين».
مرحلة شرقية من خلال ابتسامةٍ ناعمةٍ، نشعر أنَّا في قبضة زَوبعة من نسل الشَّهوة. الشمس تحصدُنا. نغمض أعيُننا؛ لنرى وُعودًا لا نهايةَ لها، وهي تسبحُ في بُحيرة. ثم نثوبُ لأنفسِنا ونختمُ الأرض بهذا الجسَد، الذي ثقلت وطأَتُه الآن علينا.
غروب احمرارُ السماء يوقظ وَاحاتٍ لراعي الحب.
هذا المساء حاجزٌ١ منَ الريح؛ ليسند اكتِئابي في هذا المَساء. (حوالي ٢٢ مايو ١٩١٦م) ١ حرفيًّا: دَرابْزِين.
متعة أشعر بدبيبِ الحُمَّى من هذا الفيض من النور. أقطف هذا النهار كأنَّه فاكهةٌ حلوة، تزداد حلاوةً. سأشعر الليلة بعضَّةِ الندم، مثل نُباح ضائع في الصحراء. بعيدًا بعيدًا بعيدًا، كرجل أعمى من يدِي سَحَبُوني.
نوم وددت لو أحاكي هذه الأَرض المستلقية في قميصِها الثلجِيِّ.
وحدة لكن صرخاتي تَدْوي كالصواعق، خلال الجَرسِ الضعيف للسَّماء، وتضيع خائفة.
أعياد الميلاد لا رغبة عندي في أن أزجَّ بنفسي في شبَكة (معقدة) من الشوارع. متاعب كثيرة تنوء بها كتفايَ. دعوني هكذا كشيءٍ موضوع في ركنٍ،١ ومنسي هنا لا يشعر إنسانٌ إلا بالدفء الطيِّب. إني أتحمَّل قفزات الجَدْي الأربع، التي يصنعها الدُّخَان المتصاعد من الفرن. (نابولي، في ٢٦ ديسمبر، ١٩١٦م) ١ أو زاويةٍ (مهملة ومنسية).
فرحة الغارقين١ وفجأة تستأنف السفر، كدبٍّ بحريٍّ ناج بعد غرق السَّفينة. (حوالي: ١٤ فبراير سنة ١٩١٧م) ١ وفرحة السفن الغريقة، وقد كان هذا هو عنوان المجموعة الشعرية المهمة التي صدرتْ للشَّاعر سنة ١٩١٩م، ولكنه اختصر — أي العنوان — في الطبعات التالية ابتداء من سنة ١٩٣١م، ليصبح من كلمة واحدةٍ هي «الفرحة» (راجع المقدمة).
صَدْع ها أنتم ترونَ أمامَكم رجلًا كأيِّ رجلٍ آخر. تجدون هُنا روحًا مهجورًا مرآة غير مبالية. يحدث لي أن أصحو من نَومي، وأتَّحد بذاتي، وأمتَلك الخير القليل الذي يُصيبني. يواتيني ببُطء شديد، وبعد أن يدومَ قليلًا يتلاشَى خفية.
محطم بجوعي جوع الذئب، أتحسَّسُ جسدي جسد الشاه. أنا أشبهُ بالقاربِ البائس، والمحيطِ الشَّهواني.
القديس مارتن الكارسي من هذه البيوت، لم يتبقَّ سوى مِزَقٍ من أسوار. من الكثيرين الذين كانوا مَعي لم يتبقَّ الكَثير. لكن من القَلب لم يتخلَّفْ صليبٌ واحِد. إنه قلبي؛ أشد البلادِ خرابًا. (فاللونشيللو ديلالبروا إيزولاتو، في السادس عشر من شهر أغسطس، ١٩١٦م) عالم من البحر صنعتُ لي نعشًا من النَّضَارة. حج في مكمن داخل هذهِ الأحشاء من الأطلال، رحت أُجَرْجِر هَيكلي العَظْمي، ساعات وساعات غائصًا في الوَحْل، مثل كعبِ حذاء أو نبتة شوكيَّة بيضاء. أنجاريتي أيها الصابرُ (على الآلام)، يكفيك وَهْمٌ واحد؛ ليبُثَّ فيكَ الشجاعة. كشاف (يسطع ضوءُه) هناك، ويضع بحرًا في الضَّباب. (فاللونشيللو ديلالبروا إيزولاتو، في السادس عشر من شهر أغسطس، ١٩١٦م)
الأنهار أستند إلى هذه الشجرة المشوَّهة،١ المهجورة في هذه الحُفرة،٢ التي تشي بوحشة سيرك، مقفر قبل العرضِ أو بعده. وأتأمل السُّحب، وهي تعبُر في هُدوءٍ على (صفحةِ) القمر. صباح اليوم تمدَّدت في وعاء مملوءٍ بالماء، ورَقدتُ هناك كأني مُومياء. «الإيزونسو» الجاري٣ جعلني مصقولًا كأحَدِ أَحجارِه. رفعت إلى أعلى عِظامي الأربعة، وأخذت أمشي كالبهلوان على الماء. أَقْعَيت بجوارِ ثيابي التي لوَّثَتْها الحرب. ومثل بدَوِيٍّ، تقوَّست واستقبلت الشمس. هذا هو «الإيزونسو» وهنا، أفضل من أي مكان آخر، عرفت نفسي؛ خيطًا طيِّعًا في (نسيجِ) الكَون. كم أتعذَّب حين أجِدُني غير منسجمٍ مع نفسي! لكنَّ هذه الأيدي الخفيَّة التي تجبلني تغدِق عليَّ السعادةَ النادرة. هكذا رجعت للتنقُّل مرةً أخرى، بين عُصور حَياتي. هذه هيَ أنهاري هذا هو «السيركيو» الذي أستَقِي منه ربما لألفَيْ عام. أهلي في الرِّيف، وأبي وأمي. هذا هو النِّيل، الذي رآني أولد وأنمو، وأحترقُ بما لا يستوعِبُه وَعْيي في السهولِ الشَّاسعة. هذا هو «السين» وبدَوَّاماتِه امتزجتُ من جَديد، وعرفتُ نفسي. هذه هي أنهاري محسوبة في «الإيزونسو». هذا هو حَنيني الذي يتجلَّى لي في كل واحدٍ منها، بعدما هبط الليل، وبدَتْ لي حياتي أشبهَ بتويج زهرة من الظُّلماتِ المعتمة. (كوتيتشي، في السادس عشر من شهر أغسطس، سنة ١٩١٦م) ١ حرفيًّا: المعاقة، أو المعوَّقة، أو المبتورة الأطراف Mutilato. ٢ حرفيًّا: في هذا القمع، أي في منقطةٍ مُقفرة، على هيئة قمع أو بوق. ٣ نهر في إيطاليا، يصب في خليج تريستا، ويبلغ طوله ١٣٨ كيلو مترًا، وقد دارت حوله بعض المعارك الحربية خلالَ الحرب العالمية الأولى.
أنا مخلوقٌ، كهذا البحر (المنصوب) للقديس ميخائيل، بكل بُرودته، بكل صَلابتِه، بكل جفافِه، بكل مقاومتِه، وخلوِّه التام من الرُّوح. كهذا الحجر بكائي الذي لا يراهُ أحَد. الموت يكفِّر عنه الإنسان بأن يَحيا. إخوتي من أي كتيبةٍ أنتم يا إخوَتي؟ الكلمة المرتَجِفة في اللَّيل. ورقة الشَّجَر التي لم تكَدْ تولد. في الهواءِ المُثير تمرُّدٌ غير مقصور، للرجل الواعي بهشاشته (وضعفه). إخوتي! لعنة حبيسًا بين أشياء فانية، حتى السماء ذات النجومِ سوف تفنَى. لمَ أشتاقُ بنَهَمٍ لله؟ وزن هذا الفلاح يضع (كل) ثقتِه في ميدالية القديس أنطونيو، ويمضِي خفيفًا. لكني في وَحدتي وعُريي١ وبلا سراب، أحمل رُوحي هنا وهُناك. (ماريانو في يوم ٢٩ يونيو ١٩١٦م) ١ يؤكد الأصل وحدته التامة وعريه الكامل Ma ben Sola e ben nuda، وقد فكرت أن أجعلها: «في وحدتي الوحيدة وعريي العاري»، أو أن أصف الوحدةَ بأنها قاسية والعُريَ بأنه خالص، ولكني أتجنَّب الترجمةَ الشارحة بقدرِ الإمكان.
مرحلة سر … سر؛ وجدت من جديدٍ نَبْعَ الحب. في عين ليلة من ألفِ ليلةٍ وليلة، رقدت في الحدائق المهجورة، رست هذه الليلة كحَمامة. في هَواءمرحلة سر … سر؛ وجدت من جديدٍ نَبْعَ الحب. في عين ليلة من ألفِ ليلةٍ وليلة، رقدت في الحدائق المهجورة، رست هذه الليلة كحَمامة. في هَواء الشهر العاجز، قطفت لها برتقالًا وياسَمين.
الشهر العاجز، قطفت لها برتقالًا وياسَمين.
| |
| |
® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11575 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2020-11-03, 10:04 am | | عن «عاطفة الزمن»: ١٩١٩–١٩٣٥م بلا وزن [إلى أوتوني روزاي] لأجل إله يضحكُ كطفل، هذه الصيحات الكثيرة للعَصافير، هذه الرقصاتُ الكثيرة على الأغصان، روح تتخفَّف من وزنِها، المروجُ رقَّتُها لا توصف، وكل هذا الحياء الذي ينبِضُ في العيونِ من جديد، الأيدي كأوراق الشجر المسحورة في الهَواء … من يخاف بعد الآن، من يحكم ويدين؟
الجزيرة هبط إلى شاطئٍ، كان يخيم عليه المساءُ الأبدي من غابات متفكرةٍ سحيقةِ القدم. وتوغل بعيدًا، وجذبه حفيف أجنحةٍ، صعد من خَفْقة قلبِ الماء الصارخة، ورأى شبحًا (يسقط ثم يعود فيزدهر). وحين استدار ليَصعد، رأى أنها كانتْ حوريةَ بحر، وكانت تنام واقفة، وهي تعانق شجرة دردار. الأغصان قطرت مطرًا كسولًا من النبال، الماشية نعست تحت الوداعة الناعمة، ورعت (قطعان) أخرى الغطاء المُضيء. (١٩٢٥م)
أغنية بدوية امرأة تنهض واقفة وتغني، تتبعها، تسحرها الريح تمددها فوق الأرض، إلى أن ينفذ فيها الحلم الحق. عارية هذي الأرض، رحم هذي المرأة هوجاء هذي الريح، وهذا الحلم هو الموت.
أغنية من جديد أرى فمَك البطيء (بالليل يتقدم البحرَ ليلقاه)، وأرى فرسَ فخذيك يسقط متهالكًا، بين ذراعيَّ اللتين كانت تغنِّيان. وأرى نومًا يعيدُ إليك نضارةً جديدة وموتًا جديدًا. والوحدة الشريرة التي يكتشفها في نفسه كل من يحب، كأنها الآن قبرٌ لا متناه يفصلني إلى الأبدِ عنك. حبيبتي، بعيدة أنت كما في مرآة.
رحمة ١ إنسان جريح أنا وأودُّ أن أمضي؛ لأصلَ في النهاية إلى الرحمة، حيث تنصت الأسماع لإنسانٍ وحيد مع نفسِه. لا أملك غير الكبرياءِ والطيبة. وأشعر أني منفيٌّ وسط الناس. لكني أحمل همَّهم. ألن أكون جديرًا بالانطواء على نفسِي؟! زحمت الصمت بالأسماء. هل قطَّعت القلب ومزَّقت الروح كي أسقط في عبودية الكلمات؟ أنا أحكم أشباحًا. أيتها الأوراق الجافة، أيتها الروحُ التي أجرُّ حملها هنا وهُناك … لا، أنا أكره الريحَ وأكره صوتها، صوت الوحش الفاقد ذاكرته. ربي، أولئك الذين يتضرَّعونَ إليك، أما عادُوا يعرفونك إلا بالاسم؟ طردتَني من الحياة. هل ستطردني من الموت؟ ربما كان الإنسان غيرَ جديرٍ حتى بالأمل، هل جفَّ كذلك نبعُ الضَّمير؟ ما قيمة الإثم، إن كان لا يهدي إلى الطُّهر؟ اللحمُ لا يكاد يتذكر١ أنه كان من قبل قويًّا. مخبولة ومستهلكة هي الروح. ربي، انظر ضعفنا، نتوق لليَقين. ألم تعد تضحكُ منا؟ أشفقي إذن علينا، أيَّتُها القسوة. بغير حبٍّ لن أستطيع أن أبقى حبيسًا بين جُدران الرغبة. دلَّنا على أثرٍ واحد للعدالة. قانونك، أي قانون هو؟ عاقب مشاعري المِسكينة، حرِّرني من القلَق. تعبت من النحيبِ بغيرِ صوت. ٢ أيها اللحمُ المكتئبُ، يا مَن كانت البهجة تنبض فيه ذات يوم، وأنت أيتها النفس البالغةُ النُّضج، أترين بعينيك نصف المغمضتين من الأرق المضني، أترين ذلك الذي سأكونه بعد أن أصبح ترابًا؟ عبر الأحياء يمر طريق الموتى، نحن طُوفان الظلال، هم الحبة التي تبزُغ في أحلامنا، لهم الفضاء الذي تبقى لنا، ولهم الظل الذي يعطي وزنًا للأسماء. أمل كومة من الظلال، أليس لنا حظٌّ آخر؟ وأنت يا ربي، ألن تكونَ إلا حلمًا؟ نحن المتهوِّرين نتمنى على الأقلِّ أن يشبهك حلم. (حلم) يأتي من أبهى جُنون. لا يرتجف في غصون السُّحب كالعصافير في الصَّباح على حافَة الجفن. فينا يسكنُ ويعاني عذابًا غامِضًا. ٣ النور الذي يُدَغدنا هو خيطٌ يزداد نحولًا باستمرار. لن تبهر أحدًا بعد الآن، إلا إن أقدمت على القتل؟ هَبْني هذا الفرح الأسمى. ٤ الإنسان، هذا العالم الرتيب، يعتقد أنه يوسِّع ممتلكاته، معلقٌ في الفراغ من خيوطه العنكبوتيَّة، لا شيء يُخيفه، ولا شيءَ يغويه سوى صرختِه هو. إنه يصلح الثياب الخلقة، يقيمُ القبور، ولكي يتفكَّر فيك، أيها الأزلي الأبدي، ليس لديه سوى التَّجْديف.٢ (١٩٢٨م) ١ اللحم هنا، وفي التعبير الإنجيلي كناية عن الجسد. ٢ حرفيًّا: ليس لديه سوى اللعَنات. والملاحظُ أن القصيدة كلها، وهذه المقطوعة الأخيرة بوجهٍ خاصٍّ، تدينُ الإنسانَ المحصور بين جدرانِ لحمه وعذابه وصراخه، وتحمل عليه ككائن هشٍّ متهافتٍ وعاجز عن السموِّ بطبيعته وتفكيره نحو الأبدي المتعالي واللامتناهي؛ ولهذا كانت — في تقديري — أبعد ما تكون عن التجديفِ في حقِّه، وأصدَق ما تكون دعوة للعودة إلى الإيمان به جل شأنه، ولعل القارئَ لم يُخطئْ سماع النغمة الدينية التي تتردد في كثير من القصائد السابقة، ربما إلى حدِّ الوجد الصوفي في بعض الأحيان …
هدوء العناقيد ناضجةٌ، الحقل محروث. الجبل يخلِّص نفسَه من السُّحب. على مرايا الصيفِ المغبرة سقط الظلُّ. بين الأصابع المتردِّدة يبدو نورُها ساطعًا وبعيدًا. مع أسرابِ السنونو يهرب آخرُ همٍّ.
أحمر وسماوي الزرقة انتظرت أن تنهضي، يا ألوانَ الحُبِّ، وها أنتِ تكشفينَ عن طفولةٍ سماويَّةٍ. تقدم أجملَ وردةٍ خطرتْ في الحلم.
صدق تجري، تجري السفينة وحدَها في هدوءِ المساء. يلوح بصيصٌ من النور من بعيد، من البيوت. على حوافِّ الليل القصيَّة، ينفث البحرُ الدخانَ من أعماقه. تبقى وحيدة، صادقةً مع نفسها، حصاة، تضيع نفسَها. تجدِّد نفسها.
ضراعة عندما يتمُّ خلاصي من تشويشِ الشهَوات الخدَّاعة،١ في جو صافٍ ومُعافًى عندما أشعر بأنَّ وزني قد خفَّ هبني يا ربي أن أعاني غرق (سفينة) هذا اليوم الشابِّ مع الصَّرخة الأولى،٢ ١ أو من سرابها البرَّاق الذي يُعشِي البصر. ٢ أو خيبة الأمل في هذا اليَوم.
لوكا في بيتنا، في مصر، بعد وجبة العشاء وبعد تلاوة الصلاة، حدثَتْنا أمي عن هذه الأماكن التي سحرتْ بها طفولتي سحرًا شديدًا. في المدينة حركة مرور ورعة ومتزمِّتة. داخل هذه الأسوار لا يقيمُ أحد إلا إقامةً عابرة. الهدف الوحيد هنا هو الرحيل. جلست في الظل أمام باب النزل مع أناسٍ راحوا يحكون لي عن كاليفورنيا وكأنهم يحكُون عن أملاكهم. انتابني الفزع عندما اكتشفت نفسي في ملامح هؤلاء الناس، والآن أحسُّ أن دمَ موتاي يجري حارًا في عروقي. أنا أيضًا أخذت معولًا١ بين أفخاذ الأرض التي يتصاعد منها الدُّخَان يغالبني الضَّحِك. وداعًا أيتها الرَّغَبات، أيتها الأشواق. أعرف عن الماضي وعن المستقبلِ كل ما يسع الإنسان أن يعرفه. مع ذلك أعرف مَصيري وأصلي. لم يبقَ لي شيء أدنِّسه، لم يبقَ شيءٌ أحلم به. لقد ذقت كل شيء، وتعذبت. لم يتبقَّ لي إلا أن أدربَ نفسِي على الموت. لهذا سأتوفَّر في هدوءِ على تربية نَسلي. كلما كانت تدفعني شهية شريرة إلى أحضانِ الحب الفانية، كنت أمتدح الحياة. أما الآن وقد أصبحت، أنا أيضًا أعتبر أن الحب ضمانٌ لبقاء النوع، فإنني أرى الموت أمام عيني. ١ الكلمة الأصلية تفيد كذلك المعزقة والمجرفة والفأس. ولعل المقصود أنه مثل أهله المهاجرين في إفريقيا وأمريكا، قد عمل في شق سطح الأرض (الزراعة)، أو شق باطنها (المناجم) …
شعب فرَّ قطيع النخيل الوحيد والقمر اللا متناهي فوق ليالٍ جديبة. الليل الأسحم سلحفاة في حِداد تتحسَّس، لا لون يدوم اللؤلؤة السَّكرَى بالشك (بدأت) تنبه الفَجر. وعند قدميه السريعتين تثير الوهَج. (ها هي ذي) تدوي، صيحات ريحٍ شابة خلايا النحل تنشأُ في جِبال الأبواق الضالة. ارجعي أيَّتُها المرايا القَديمة، يا خطوطَ الماء الخفية. بينما الآن و براعم مرتفعات الثلج المقطوفة تحيط بالصورة التي تعود عليها آبائي، تصطفُّ الأشرِعة في الهدوء الصافي. آه يا وَطني! كل فصولك صحت في دمي، تتقدَّم آمنا وتغني فوق بحرٍ جشع.
| |
| |
® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11575 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2020-11-03, 10:06 am | | عن «الألم»: ١٩٣٧–١٩٤٦م أضعت كل شيء أضعت كل ما (كسَبته) من الطفولة، ولن يُمكنني أبدًا أن أضيعَ نفسي في صرخةٍ. الطفولة دفَنْتها في أعمال الليالي، وهي تفصلني الآن، كسيفٍ لا يُرى، عن كل شيء. ما زلت أتذكر حالي عندما هللَّت فرحًا بحبِّي لك، وها أنا ذا ضائعٌ في لا نهائيةِ الليالي. يأس يزدادُ بلا توقف، لم تعدِ الحياةُ عندي، وهي حبيسةٌ في عمقِ لهاتي، غير صخرةٍ من الصَّرَخات.
عندما تلقاني يا أخي لو حدَث ولقيتَني حيًّا، بيدكِ الممدودةِ لي، فلربما أمكنني، مرةً أخرى في نوبة نسيان، أن أضغط يدَك يا أخي. لكن لا يحيطُ بي الآن منك سوى أحلامٍ، أضواء خاطفة، نيران خبَتْ فيها نار الماضي. الذاكرة لا تبعثُ إلا الصُّور، وأنا ما عدتُ بالنسبة لنَفسي سوى العدمِ العادمِ للفِكرة.
ملالة١ سكون، عندما ارتفع بأكمله الجسد المر.٢ الذي أتجه نحوه، اليد التي مدتها إليَّ كانت مشعَّةً، كلما تقدمتُ إليها ابتعدتْ. ها أنا ذا ضائعٌ في هذا السعيِ العقيم. عندما تموج الصباح تمددت وضحكت، وسرقت شيئًا من عيني، صبية الجنون، أيتها الملالة. ما أقلَّ ما كنت نشوانة وحلوة! لمَ لمْ تتبعك الذاكرة؟ أتكون هديتك سحابة؟ هي همسة، تزحم الأَغصان بالأغنياتِ البعيدة. ذكرى، صورة عابرة، ضحكة اكتئابٍ، ظلال دم. كمثل نبع خجول في ظل قديمٍ لأشجار زيتون، تعودين؛ لتُهَدهِديني في صباح لم يزل سرًّا، ربما ما زلت أشتاق لشَفَتيك … ليتَني لا أعرفُهما بعد الآن. ١ العنوان الأصلي هو: إلى الملل أو السأَم، وقد فضلتُ هذه الكلمة؛ لأن القصيدة تدور حول شكلٍ أسطوري حالم، يشبه ربةً أو حورية لا يكفُّ الشاعر عن البحث عنها والسعي إليها، ولكنه لا يصل إليها أبدًا — ولعلَّها أن تكونَ تعبيرًا عن كائنٍ يُغري الرجل ويُغويه، ويخلصه من عِبء بشريته. وأحسب أن في هذه القصيدة — المحكمة الدقيقة والكثيفة بالرموز والاستعارات — أصداءً تسربتْ إلى نَفْس الشاعر وخياله من بعض قصائدِ مالارميه — الذي قرأه الشاعر وترجمه إلى الإيطالية — ومن قصيدة «لا بيثيا» أو آلهة القدر الشابة ﻟ بول فاليري (راجع إن شئت كتابي عن ثورة الشعر الحديث، الطبعة الثاني، القاهرة أبوللو للنشر والتوزيع، ١٩٩٨م.) ٢ حرفيًّا: الفج أو النَّيِّئ. يومًا بيوم ١ ما من أحدٍ، يا أمي، تعذَّب كلَّ هذا العذاب … وانطفأَ وجهه، لكن بعينيه اللَّتين بقيتْ فيهما بقية حياة. تحول عن الوسادة متجهًا إلى النافذة، وملأت العصافير الحجرة التي كان الأب قد نثَر فيها فتاتَ الطعام؛ ليشتت ذهنَ صغيره … ٢ الآن لن يمكنني إلا في الحُلم تقبيلُ اليدَين الحبيبتين … وها أنا ذا أشقَى، أعمل، لم يكدْ يتغير شيء في، وأخاف، أدخن … كيف سيُمكنني أن أواجه كلَّ هذا الليل؟ … ٣ سوف تصيبني الأيامُ بما لا أدري من ألوان الرُّعب الأخرى، لكني كنت أحسُّ وجودك بجواري، كان من الممكن أن تواسيَني … ٤ أبدًا، لن تَعرفوا أبدًا، كم يغمُرني الظلُّ بنوره المشرق، الظل الخجول الذي يضَع نفسه بجانبي عندما أتخلَّى عَن كلِّ أملٍ … ٥ أي صوت آخر هو صدًى يتلاشى، حين يُناديني هذا الصوت، من فوق القمم الخالدة … ٦ في السماء أفتِّش عن وجهِك السعيد، ولن ترى عيناي في داخلي شيئًا آخَر، عندما يَشاء اللهُ أن يغلقهما … ٧ وأنا أحبك، أحبُّك، وهو عذابٌ متواصل … ٨ الأرض المتوحِّشة، البحر الهائل يفصِلُني عن موضعِ القبر، الذي بدأ يتحلَّلُ فيها الجسد المعذَّب … لا أهميةَ لهذا … فما زلت أميِّز دائمًا صوت هذه الروح الذي عجزتْ عن الدِّفاع عنه هنا … إنه يعزلني، بينما يزداد حفاوة وودًّا ومن لحظةٍ لأخرى، في سرِّه البَسيط … ٩ توجهت مرةً أخرى للتلال، لأشجارِ الصنوبر الحبيبة، ونغم الوطن الذي يردِّده إيقاعُ الهوَاء ولن أسمعه أبدًا معك، يمزِّقُني مع كلِّ نفس … ١٠ الغصن المحبط تحتَ حدِّ البلطة، لا يكاد يشكو أثناءَ سقوطه، لا … ولا ورقة الشجَر عندما يلمسُها النسيم … لكنَّ آلهةَ الغضب هي التي ضربتِ الكيان الرقيق، والحنان الدافق لذلك الصوت يأكلني … ١١ لم يعد الصيفُ يثير فيَّ الحَماس، ولا الربيع يُلهمني بشَيء. يمكنُك أن تهبط علينا، أيُّها الخريف، ومعك أمجادُك الحمقاء: فمن أجلِ رغبةٍ منهوبة ينشر الشتاء أشد فصول السنة رحمةً …
ملاك الفقير الآن حيث يداهمَ العقول المظلمة تعاطف فظ مع الدمِ والأرض، الآن يثقل علينا مع كل نبضة قلب. صمت كل هذا العدد من الموتى المظلومين، الآن فليستيقظ ملاك الفقير، رقة الروح التي لا تزال باقيةً على قيد الحياة … بالإيماءة التي لا تُمحَى على مر الأزمان، فليهبطْ على رأس شعبةِ العَجوز، وسط الظِّلال …
كفوا عن الصراخ كفوا عن قتلِ الموتى! لا تصرخوا بعد الآن، لا تصرخوا، إن كنتم ما زلتم تريدون أن تسمعوهم، إن كنتم ترجون ألا تهلكوا. إن همسَهم لا يحسُّ، ما عادوا يثيرون ضجيجًا إلا كنموِّ العشب الذي يسعده ألا يمشي عليه إنسانٌ.
أغنية صغيرة بلا كلمات ١ الشمس تخلَّتْ عن النور للحمامة … ستأتيك وهي تهدل، حين تنامُ، في الحُلم … سيأتي النُّور، وسيحيا في السر … سيثق بأنه السيد (الحاكم) لبحرٍ عظيم، مع أول نَفَس تلتقطُه … ها هو هذا البحر يعود جياشًا يتألَّق بالنور، مفتوح الأحضان لمن يحلم … ٢ النور الذي سجَنته ليس له كلُّ هذا السحر … (صحيح أنَّه) بدا لك أليفًا، لكن إضاءَته اختلفتْ … هذا البحر الهوَّة، طلبَ على الفورِ اللا محدود … أنت ترددت، تبدَّد فيك التحليقُ وضاع، وصدى (الصوت) انطلَق يفتِّش … الغضب في هذا النداء يتلفُّ نفسك، النور يعود لإشراقه، مع طلوع النَّهار …
للأبد سأظل أحلُم دون أن ينفدَ صبري أبدًا، سأقبل على العمَل الذي لن ينتهي على الإطلاق. وشيئًا فشيئًا، قرب النهاية، تمتدُّ الأذرُع للأذرع، تنفتح الأيدي المعينة من جَديد،١ وتبدو العيونُ في كُهوفها.٢ وقد ردَّت لها الحياة وأخذتْ تسخو بالنور. وأنتِ التي ستبدين فجأة سليمة لم تمس. ستومضين، ويصبح صوتُك مرة أخرى هو دليلي، وأعود أراك إلى الأبد.٣ (روما، ٢٤ مايو ١٩٥٩م) ١ أي: المحسنة الكريمة. ٢ أي: في محاجرها. ٣ القصيدة كلها عن زوجته الفرنسية «جان دو بوا» التي ماتتْ سنة ١٩٥٨م، وكانت رفيقة العمر الحقيقية: حياةً وتفانيًا، وصبرًا وتسامحًا، وثقةً بزوجها، وإيمانًا لا حدَّ له بمواهبه؛ ولذلك لا عجبَ أن يقول بعد ذلك: إنها كانت دائمًا بجوار «إلهامه» … راجع السطور الأخيرة من القصيدة.
| |
| |
® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11575 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2020-11-03, 10:08 am | | عن «الأرض الموعودة»: ١٩٣٥–١٩٥٣م حركة ختامية لم يعد يهدِر، لم يعد يهمس البحر، البَحر. بغير الأحلام، يكون البحرُ حَقْلًا بلا لَون، البحر. حتى البحر يُثير الشفَقة، البحر. سحبٌ غافلة تحرِّك البحر، البحر. للدخان الحَزين يتخلَّى البحرُ الآن عن فراشِه، البحر. هو أيضًا ماتَ، انظر، البحر. البحر.
لوحة بحياة وأعمال أنجاريتي بعد الفراغ من الصفحاتِ السابقة، حملني جناحَا الحظِّ والصدفة الطيبة إلى مكتبة المعهد الثقافي الإيطالي بالزمالك؛ حيث اطَّلعتُ على كتابين عن أنجاريتي، واستطعت أن أدوِّنَ هذه اللوحة التي أرجو أن أستدرك فيها بعض ما فاتني بيانه في مقدمةِ هذا الكتاب.١ … ١٨٨٨م مولد جوسيبي أنجاريتي في الإسكندرية في الثامن من شهر فبراير، وإن تأخر قيد اسمه بالسجل المدني، حتى اليوم العاشر الذي تثبته كل القواميس والموسوعات، حيث قضى فيها طفولتَه وصِباه وشبابه الباكر، ولم يغادِرْها إلا بعد بلوغِه الثالثة والعشرين من عمره (أي حوالي: سنة ١٩١٢م) إلى روما، ومنها إلى باريس؛ لاستكمال دراسته. ينحدر أبوه وأمه اللذان هاجرا إلى مصر من «لوكا» بمنطقة توسكانيا، من سلالة عريقةٍ من الفلَّاحين الذين يشتغلون بالزراعة في مساحات صغيرة تقع حول مدينة «لوكا». وقد حضر الأب إلى مصر للعمل في قناة السويس في الحفر وأعمال البناء، ولكن المرض الذي ألمَّ به لم يلبث أن أدَّى به إلى الموت في سنة ١٨٨٩م. وتحمَّلت الأم العنيدة الصلبة أعباء الأسرة، ففتحت «فرنًا» في أطراف الإسكندرية على حُدود الصحراء، وتولت بنَفسها إدارته … ١٨٩٧م يبدأ أنجاريتي دراسته في معهد «دون بوسكو» الدِّيني — الذي ما يزال موجودًا بالإسكندرية والقاهرة إلى يومِنا الحاضر — وهو المعهد الذي سبق أن درس به «مارينيتي» (١٨٦٦–١٩٤٤م) زعيم «المستقبلية» الذي وُلد كذلك بالإسكندرية، وقد استمرتْ دراستُه فيه من التاسعة إلى السادسةَ عشرةَ. ١٩٠٤م يواصل دراستَه العاليةَ في مدرسة «جاكو» السويسرية التي كانت أرقى المدارس الثانوية في الإسكندرية في ذلك الحِين، كما يتابع دراسته للحقوق استجابةً لرغبةِ أمِّه وإلحاحها عليه. في هذه المدرسة حدَّثه بعض أساتذته المستنيرين لأولِ مرة في حياتِه عن الأدباء الجدد في فرنسا، فراحَ يتابع المجلة الثقافية الشهيرة «المركير دي فرانس»، ويقبل على قراءة أقرب الكتاب والشعراء والمفكِّرين إلى قلبِه في تلك السن المبكرة، وهم: بودلير، ومالارميه، ونيشته، وليوباردي الشاعر الإيطالي المعروف بتشاؤمه الشديد في أشعاره و«أغانيه» الشهيرة. في هذه السنة أيضًا ارتبطَ بزميله محمد شعيب بصداقةٍ وطيدة، تجلت في القصيدة المؤثرة التي كتبها عن ظروف انتحاره المحزنة في باريس. (راجع قصيدة: «في ذكراه»، ضمن هذه المجموعة المختارة.) ١٩٠٨م يبدأ في التردُّد على «المعسكر الأحمر»، وهو فرع «التجمع الدولي للفوضويين» في الإسكندرية، الذي كان يُديره وينظمه صديقه الأكبر منه سنًّا، والأشد منه عنفًا وحماسًا وهو «إنريكو بيا»،* وعندما نظَّم أعضاء هذا التجمع حركة جريئة لتحرير البحارة المتمردين على ظهر العبارة، أو المدرعة الشهيرة بوتيو مكين (تذكر الفيلم التاريخي الرائع للمخرج آيزنشتين)، التي كانت ترسو آنذاك في ميناء الإسكندرية حاملةً المعونات لأسر ضحايا الزلزال المدمر الذي ضرب مسِّينا بجزيرة صقلية. شارك أنجاريتي في حركةِ التمرُّد لفكِّ أسر أولئك البحارة، وقُدِّم للمحاكمة أمامَ القنصلية الإيطالية بالإسكندرية (في ظل الامتيازات التي كان الأجانب يتمتعون بها)، قبل أن يُفرج عنه مع صدور العفو العام عن المتهمين. في هذه الفترة من حياته أخذ أنجاريتي يروِّج للإلحاد والفوضوية، ويحرر المقالات السياسية والأدبية وينشرها في الصحف المحلية مع بعض الأقاصيص القصيرة والترجمات الأولى، لا سيِّما لبعض القصص الغربية للكاتب والشاعر الأمريكي إدجار ألن بو (وقد ترجمها عن ترجمة شاعره الفرنسي المفضل مالارميه). والجديرُ بالذكر أنه لم ينشر حتى ذلك الحين (ولم يكتب أيضًا) بيتًا واحدًا من الشعر، ولكن هذه المرحلة تميزت بكثرة معارفه وأصدقائه الكثيرين؛ ومن أهمهم: الشاعر السكندري كفافيس، والأخوان جان وهنري تويل، اللذان كانت لديهما مكتبة غنية بالمراجع الأدبية والتاريخية، ومنهما سمع عن «الميناء المدفون» من العصر الفرعوني الذي كشَف عنه جونديه، وفسَّره أنجاريتي كرمز للروح الإنسانية التي لا تكشف عن شِفرتها، كما جعله عنوانَ أول دواوينه. ١٩١٢م يغادرُ الإسكندرية إلى باريس عن طريق إيطاليا، وفي نيَّتِه — كما كان الحال مع كاتبنا الرائد الأصيل: توفيق الحكيم! — أن يدرس الحقوقَ استجابةً لإلحاح أمه، كما سبَق القولُ قبل الرجوعِ إلى مصرَ مرة أخرى. وترسو به الباخرة في ميناء برينديزي، ويقيم فترةً قصيرة في روما، ثم يستقر إلى حينٍ في فلورنسة، بالقُرب من أصدقائه الذين كان يُراسلهم من مصر وكانوا يصدرون مجلة الصوت، ونخص منهم بالذكر: صديقيه جاييه وبريتزوليني. هنا يرى الجبَل لأول مرة، ويتذوقُ فن العمارة عن كثب بعد أن تعود على «فتاته» القليل أثناءَ حياته بالإسكندرية أمام البحر وعلى حافة الصحراء الشاسعة المحيرة بأسرارها وألغازها. ويصل في الخريف إلى باريس حيث يقيم في فندق متواضع الحال مع رفيقه وصديقِه الذي عرَفه في مصر، وهو محمد شعيب، في شارع «دي كارم» كما ذكر ذلك في قصيدته السابقة الذكر عنه. وكان أصدقاؤه في فلورنسة قد حمَّلوه توصياتٍ يقدم بها نفسه لبعض الأدباء المشهورين في باريس، ومنهم: الشاعر الكاثوليكي تشارل بيجي، وعالم الاجتماع جورج سوريل. غير أنه، كما سنرى بعد قليل، صادق أدباء ومصوِّرين آخرين، واختلط بالدوائر الطليعية في الشِّعر والفن، وتابعَ الجدلَ الحادَّ بين التقليديين والمستقبليِّين، والأهمُّ من ذلك كلِّه أنه بدأَ يكتبُ أولَى قصائدِه … ١٩١٣م بدأ في التردُّد على المقاهِي الأدبيَّةِ في باريسَ، وانعقدت أواصر المودة بينه وبين الشاعرين الكبيرين سان-جون-بيرس، وجيوم أبو للينير الذي أصبح صديقَه الحميم. وتعرَّف إلى بيكاسو، وموديلياني، ودي كيريكو، وبرانكوزي، وسافنيو، والشاعر ماكس جاكوب، واتَّصَل بالجماعة الفلورنسية التي انشقَّتْ عن جماعة الصوت، وأسست مجلة أخرى تدعو للأَفكار المستقبلية، وهي مجلة «لاتشيربا» التي بدأ ينشر فيها أشعاره وترجماته الأولى. وتوافد على باريس بعضُ أعلام الأدب والنقد في إيطاليا، مثل بابيني وسوفيتشي وبالاتسسكي، وبعض الرسَّامين المستقبليين مثل بوتشوني وكارَّا ومانيلي. وفي الصيف انتحر صديقُه محمد شعيب، في نفس الفندق الذي كانا ينزلان به معًا في شارع «دي كارم»، وأخذَ يتردد على محاضرات الأدَب في السوربون، بعد أن ودع إلى الأبد دراسة الحقوق، ويستمع إلى أساتذة كبار، مثل مؤرخ الأدب الشهير لانسون وغيره، كما يواظبُ على الاستماع للمحاضرات التي كان يلقيها برجسون في الكوليچ دي فرانس، عن الزمان والديمومة والشعور المباشر، وأثرت تأثيرًا عميقًا على مجموعة قصائدِه «عاطِفة الزمن» … ١٩١٤م يرجع إلى إيطاليا للحُصول على شهادة تؤهِّله لتعليم الفرنسية، ويستقر في ميلانو حيثُ يؤدِّي الامتحان بنجاح ويعمل بالتدريس. وفي انتظار استدعائه للتجنيد يجمع قصائدَه الأولى التي ستشكل القسم الأول من ديوانِه الشهير (الفرح)، ويُستدعَى للاشتراك في الحرب ويرسل إلى الجبهة النمسوية، ثم إلى الجبهة الفرنسية في منطقة شامبني. وفي أثناء ذلك يواصل نشر أشعاره في مجلة «لاتشيربا» كما يكتب أولى قصائده من «الخندق»، وهي قصيدة «الميناء المدفون» في الثاني والعشرين من شهر ديسمبر سنة ١٩١٥م. ثم يضم إليها قصائد أخرى، وتنشر تحت العنوان نفسه في مدينة «أودينة» بفضل صديقه إتوري سيَّرا في ثمانين نسخة يهديها إلى أصدقائه في نابولي وفلورنسة. وهذه القصائد الأولى التي كتَبها أثناءَ الحرب هي يومياتٌ روحية، وشهادات شعرية وإنسانية على اكتشاف الإيقاع والنغمة والكلمة «المحفورة كالهوة» — على حد تعبيره — في لحمه وروحه. كل هذا يؤكد التحامَ حياته وتجاربه الشخصية منذ البداية مع حياة العالم والهموم العامة، سياسية واجتماعية كانت أو ميتافيزيقية وصوفية وفلسفية؛ لذلك لم يكُنْ عجيبًا أن يُصرَّ على وضع أعماله الشعرية والنثرية الكاملة — التي أصدرها الناشر الشهير موندا دوري في ميلانو كما سنرى بعد قليل — تحتَ هذا العنوان الدال: «قصة حياة إنسان». ١٩١٨م يصل إلى باريس مع إعلانِ الهدنة، ويغتنمُ الفرصةَ لزيارة أصدقائه، وبخاصة أبو للينير، فيسارع إلى بيته حاملًا معه هدية السجائر التوسكانية التي كان يحبها. وإذا به يفاجأ باحتضار صديقه الذي كان يلفظُ أنفاسه الأخيرة. ١٩١٩م يبقى في باريس — التي انعقد فيها مؤتمرُ السلام في نفس العام — ويشتغل بالصحافة، ويشاركُ بالكتابة في صحيفة الشعب الإيطالي (بوبولو ديتاليا). تصدر مجموعة قصائده «فرحة السفن الغريقة» لدى الناشر فالليكي، وتحتوي بين دفتيها على قصائد من مجموعته الأولى «الميناء المدفون». يتزوج الفرنسية «جان دوبوا»، ويكتب أولى مقالات عن بتراركا، ويعقد صداقة حميمة مع بعض الداديين، ومع أندريه بريتون زعيم السيريالية وصاحب بيانها الشهير، كما يشيِّع في نفس العام جنازة صديقِه الرسام البائس: موديلياني. ١٩٢٠م يرجع إلى إيطاليا ويستقر في روما مع زوجته التي التحقت بوظيفة معلمة للغة الفرنسية، بينما كلفه قسم النشر والمطبوعات بوزارة الخارجية الإيطالية بتحرير نشرة يومية باللغة الفرنسية، يستمر في الإشراف عليها عشر سنوات كاملة. تدفعه ضرورات العيش للكتابة في بعض الصحف والمجلات، ويتعرف على أندريه جيد، وجيمس جويس، والفيلسوف كروتشه، ويلتقي بهم عدة مرات. ١٩٢٣م تظهر طبعة جديدة ﻟ «الميناء المدفون» مع مقدمة بقلم موسوليني. ويجمع قصائد «فرحة السفن الغريقة» والقصائد الأولى من ديوان «عاطفة الزمن» الذي سيصدر في صورته النهائية بعد ذلك بعشر سنوات. والجدير بالذكر أن مقدمة موسوليني حُذفت من الطبعات التالية، وأن الدوتشي تعرَّف إليه خلال تردده على صحيفة الشعب السالفة الذكر، وأن موسوليني قد أكد — بحق — في مقدمته أن شعرَ أنجاريتي يتميز بالعاطفة والألم والبحث عن الحقيقة وراء المظهر وبطابع السر والهمس والكتمان. ومع أنني لا أدري شيئًا عن حقيقة العلاقة بينهما، إلا أنَّ كلَّ شيءٍ في حياة الشاعر يؤكِّدُ أنه كان أبعدَ الناس عن الفاشية والعنصرية والاستبداد. ١٩٢٥م مولد ابنته الأولى «آن ماريا»، والإشراف على تحرير مجلة «التجارة» التي سرعان ما توقفت لتحل محلها مجلة «معايير» التي تعاون معها، وكان منبرًا لكبار مجدِّدي العصر من أمثال: جويس، وكافكا، وإليوت، وموزيل، وباسترناك. ١٩٢٨م عام «الرحمة» (نسبة إلى القصيدة التي تحمل هذا العنوان، وتجدها مع هذه المختارات) يعلن فيه أنجاريتي تحوُّلَه إلى الكاثوليكية بعد أعوام من التيه بين الحركات الفوضوية والمستقبلية والدادية، التي بلغت ذروتها في العشرينيات؛ لقد بلغ سن النضج — وهو الأربعون — كما حدده قدامى الإغريق. يلتقي في روما بأمِّه التي غاب عنها، وغابت عنه في مصر سنوات طويلة، وتلهمه أبياتًا مشهورة من قصيدته «الأم»، التي يتمثل فيها الموت في صورة مسيحيَّة خالصة. ١٩٣٠م يطوف بالجنوب الإيطالي وبعض البلاد الأوروبية على نفَقة صحيفة الشعب (جاتزيتا دال بوبولو) التي يرسل إليها مقالاتٍ متفرقة في السياسة والأدب، كما يشارك في تحرير بعض المجلات الأدبية وفي بعض المؤتمرات الثقافية. مولد ابنه أنطونيو، وبلوغه نبأ وفاة أمه في الإسكندرية. تضطره ظروفه البائسة للحياة فوق «تلال روما» بالقرب من أحياءِ الفقراء ومن الطبيعة — التي كانت لا تزال عذراء! — في «مارينو»، دون أن يمنع هذا من توافد أصدقائه وتلاميذه والمعجبين به من الأدباء والرسامين لزيارته في مسكنه. والمهم أنه رجع إلى مصر سنة ١٩٣١م خلال أسفاره المتصلة مراسلًا لجريدةِ الشعب وبعد وفاة أمه، وأنه كتب بعد ذلك حوالي مائة صفحة عن تاريخ حياتِه في مصر، وذلك في «كراسةٍ مصرية» لم أستطع للأسف أن أهتدي إليها حتى الآن. يدخل أيضًا في هذا الفترةِ في جدَلٍ حادٍّ مع الشاعر والقصاص ما سيمو بونتمبللي، قبل أن يتصالحا ويُتَّهما مع غيرهما بالغموض والإلغاز. ١٩٣٢م حصوله لأولِ مرة على جائزة «الجند وليير»، من مدينة البندقية، وبداية الاعتراف «الرسمي» بشعره وأدبه. ١٩٣٣م صدور مجموعته الشعرية الجديدة «عاطفة الزمن» لدى الناشر فالليكي، وفي الوقت نفسه لدى الناشر نوفيسيما في روما، قبل نشرِ طبعتها الثانية المكتملة في سنة ١٩٣٦م، لدى هذا الناشر نفسه. (وتضم قصائدَه التي كتبها بين عامَي ١٩١٩، و١٩٣٥م) ١٩٣٤م يصدر في «براغ» المجلدُ الأول من ترجَماته الشِّعرية. ١٩٣٦م يعيد نشر ترجماتِه الشعرية السابقة لدى الناشر نوفيسيما، في مجلد يضم نصوصًا لسان-جون-بيرس (قصيدته الشهيرة أناباز)، وبعض قصائد وليم بليك والشاعر الروسي ييسينين، والشاعر بولان وجونجورا (١٥٦١–١٦٢٧م)، الذي يُعدُّ أحد مؤسِّسي الشعر والنقد الإسباني الحديث، إلى جانب قصيدتين من الأدب الشعبي الإفريقي، بذلك تبدأُ مرحلة جديدة من التأمل الفكري والترجمة الشعرية في حياة أنجاريتي. وتصله دعوة لشغل كرسي الأدب الإيطالي بجامعة سان باولو بالبرازيل، وذلك أثناء حضوره مؤتمر نادي القلم الدولي بالأرجنتين، يقبل الدعوة بسبب ظروفه العائلية وأحواله الاقتصادية التعسة. ويركز محاضراته في البرازيل على دراسة دانتي، وبتراركا، وبوكاتشيو، وجاكوبونه، ومانسوني، وليوباردي حبيبه، وشاعره الأثير. وسوف يكرر هذه المحاضرات ويزيدُها عمقًا بعد قبوله شغلَ كرسي الأدب الإيطالي الحديث والمعاصر في جامعة روما؛ حرصًا منه على تأسيس فن شعري مجدد وكلاسيكي في نفس الوقت. ١٩٣٩م موت ابنه أنطونيو ذي التسعِ سنوات؛ نتيجة التهاب شديد في الزائدة الدودية أدَّى إلى انفجارها؛ وربما كان سوء العلاج هو السبب في الوفاة. لا يبدأ في كتابة مرثياته لابنه ولأعزَّائه (راجع قصيدته يومًا بيوم ضمن هذه المجموعة) إلا بعد رجوع إلى إيطاليا في سنة ١٩٤٢م؛ إذ لم يستطعْ أن يكتب بيتًا واحدًا من الشعر خلال السنوات الست التي قضَاها في غربته بالبرازيل. غنيٌّ عن الذكر أنه رجع إلى وطنه ونيرانُ الحرب مضطرمة، وربما كان أحد أسباب رجوعه هو دخول البرازيل الحرب ضد دول المحور. والجدير بالذكر أنه تمَّ اعتقاله خلال إحدى زياراته الخاطفة لوطنه، وأثناء فترة عمله بالبرازيل بحجَّة معارضته الشديدة للحرب، وللنزاعات العرقية والعنصرية، ولم يفرج عنه إلا بتدخُّلِ موسوليني نفسه. ١٩٤٢م يُعيَّن عضوًا بالأكاديمية الإيطالية، وتدعوه جامعة روما لشغل كرسي «المشاهير» للأدب الإيطالي المعاصر، ويفتتح سلسلة محاضراته — التي استمرت ١٥ عامًا — بمحاضرة عن ليو باردي، يحاول المضيَّ في ترجمتِه لسوناتات شكسبير، ويبدأ الناشرُ موندا دوري بميلانو في طبعِ أعماله الكاملة تحتَ هذا العنوان الموحد: «حياة إنسان». ١٩٤٣م تصدر ترجمته لاثنين وعشرين سوناتة لشكسبير، لدى الناشر «دوكيمونتو»، (وقد بلغت الأربعين سوناتة في سنة ١٩٤٦م.) ١٩٤٥م الناقد دي روبرتيس يجمعُ أشعارَ أنجاريتي المتفرقة كما ينشر الصياغات المختلفة لبعضِ قصائدِه التي سبق نشرها في مجموعتيه «الفرح»، و«عاطفة الزمن». ١٩٤٧م يُقدَّم — مع غيره — لمحكمة «التطهير» التي أقامها اتحاد الكتاب الإيطاليين دون أن توجه إليه أي تهمة يمكن أن تدينه. تتم إجراءات وتدور صراعات؛ لإلغاء «كرسي المشاهير» من الجامعة بين وزير التعليم والمجلس الأعلى للجامعة، فتنتهي بتثبيت الكرسي ومواصلة دروسه ومحاضراته، لكنه يخرج من هذه الاستفزازات، وقد دمرت صحته وأوهنت قواه، وبددت أعصابه فترة من الوقت قبل أن يخرج من أزْمَتها عن طريق الانغماس في الحياة والاستغراق في أعماله ومحاضراته ولقاءته وحواراته وأسفاره المتجددة. تصدر مجموعته الشعرية «الألم» في هذه المرحلة، وهي المجموعةُ التي قال عنها: إنها «أحب كتبي إليَّ»، وفيها مرثياته لابنه أنطونيو ولأعزائه مع بعض قصائده المستوحاة من تجارب الحرب الأليمة. ويذكر أنه كتب بعد وفاة ابنه قصيدة من كلمتين اثنتين هما: «تصرخين/أختنق»، ولكنه أخفَاها — عن زوجته الحزينة بوجه خاص — ولم ينشُرْهما إلا بعد وفاتها في سنة ١٩٥٨م. وقد برر ذلك التصرف بعد ذلك — في ملاحظة مُلحَقة بمجموعته الشعرية «صرخة ومشاهد ريفية» — بأن المرء لا يُمكنه أن يحتفظ لنفسه بكلِّ جوانب تجربته، إلا أن يكون امرأً شديد الاعتداد بنفسه. ١٩٤٨م صدور مجلدٍ يضمُّ بعض ترجماته الشعرية، بعنوان «من جو نجورا وملارميه». ١٩٤٩-١٩٥٠م يحصل على جائزة روما للشعر، ويصدر الناشر موندادوري ترجمته لمسرحية «فيدر» لراسين، وكتابه النثري عن رحلاته: «فقير في المدينة» وشذَرات من مجموعته «الأرض الموعودة». كما تظهر له مقالة في النقد الذاتي لأشعاره بعنوان «مبررات شعر». ويلاحظ أن الأرض الموعودة التي يقصدها هي إيطاليا نفسها التي وعدت بها الآلهة بطل الإنيادة. أضِف إلى هذا أن إيطاليا كانت تمثِّلُ له منذ طفولته الأرض الموعودة بالحياة والنضارة، في مقابل الموت والعدم اللذين ملأتْ نفسه بهما الصحراء المجدبة الممتدة في ذلك الحينِ على حدودِ الإسكندرية. ١٩٥٢م تصدر لدى الناشر «شقارتس» مجموعتُه الشعرية «صرخة ومناظر ريفية». ١٩٥٦م يحصل على «جائزة كنوك-لي-زوت» للشعر. ١٩٥٨م يكمل السبعين من عمره وتمنَحُه «لوكا»، التي تنحدر منها أسرته لقبَ «مواطن شرفٍ للمدينة»، كما تخصص مجلة «الأدب» أحدَ أعدادها لتكريمه. وفاة زوجته «جان دوبوا» في شهر سبتمبر نتيجة فشل كبديٍّ قديم. يقول عنها في تعقيب متأخر على مجموعتِه الشعرية «الفرح» (ضمنَ المجلد الأول من أعماله، حياة إنسان، ص ٥٢٧): «كانت زوجتي هي رفيقة عمري التي بلغت الغاية في التفاني والتسامح والصبر، حيثما جاءني الإلهام الشعري كانت دائمًا بجانبي، لم تتشكك فيَّ أبدًا، قاست معي ومن أجلي؛ كانت منبع شجاعتي …» ١٩٦٠م يحصل على جائزة «مونتفلترو» الأدَبية، وتصدرُ مجموعتُه الشعرية «مفكرة العجوز» مع شهادات لكتابٍ وشعراء من مختلف أنحاء العالم، يوضحون فيها تأثرهم به وانطباعاتهم عنه. ويقوم برحلات بالطائرة مع عددٍ من أصدقائه يطوفون فيها بمعظم بلاد العالم، مع الإقامة لفترة مطولة في اليابان وهونج كونج. وكان قد سبق له — ضمنَ هذه الرحلات، وفي شهر مايو ١٩٥٩م — أن زار مصر زيارةً خاطفة مع صديقه سانسجاللي، وقد كتب تقريرًا عن هذه الزيارة في نفس الشهر ونشره في صحيفة «الموندو» (العالم). ولا شكَّ أن هذه الرحلاتِ كان الهدف منها هو محاولة التعزي عن غياب زوجته التي ظلَّت حاضرةً معه على مستوى ميتافيزيقي وصوفي، وراء حدود الزمن النسبي.† ١٩٦١م تصدر مذكرات رحلاتِه في كتاب «الصحراء وما بعدها»، الذي يستكمل فيه ما بدأه في كتابه «فقير في المدينة»، ويضيف إليه كذلك ترجماتِه عن الشعر البرازيلي. ١٩٦٢م ينتخب رئيسًا للجمعية الأوروبية للكتاب. ١٩٦٣م يرأس مؤتمر الجمعية الأوروبية للكتَّاب في ليننجراد (سان-بطرسبورج حاليًا)، ويلتقي بخروشوف ويشهد الصراع الدائر بين الستالينيين، وعلى رأسهم أهرنبورج، وبين المجددين والثائرين الأحرار. ويدافع بشجاعة عن حرية الإنسان وكرامته في حضور عدد كبير من الأدباء، منهم: شولوخوف وسارتر وسيمون دو بوفوار. ١٩٦٤م يسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ لإلقاء عدد من المحاضرات في جامعة كولومبيا بنيويورك، وهناك يتعرف إلى الشاعر الأمريكي «چنسبرج» ويتصادق — كالعادة — معه! ١٩٦٥م تصدر ترجمته ﻟ «رؤى» وليم بليك الصوفية، لدى الناشر «دوري». ١٩٦٨م تكرمه الدولة في قصر «كيجي» بمناسبة بلوغه الثمانين من عُمره، مع الشاعرين أويجينيو مونتاله، وكوازيمودو، وذلك بحضور رئيس الوزراء. ويصدر له كتاب «حوار» — أجراه مع البرازيلية برونا بيانكوه — مع أشعارٍ متفرقة من مجموعاته السابقة، كالأرض الموعودة ومفكرة العجوز. ١٩٦٩م تصدر مجلة «هيرن» عددًا لتكريمِه، كما يصدرُ الناشر الفرنسي الشهير «جاليمار» مجموعةَ مقالات له تحت عنوان: «براءة وذاكرة»، من ترجمة فيليب جاكوتيت. يقوم برحلات إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وسويسرا، وألمانيا، ويظهر المجلد الأول من أعماله، الذي يضم أشعاره الكاملة، لدي الناشر موندادوري، مع شروحٍ ودراساتٍ لتلميذه الناقد: ليوني بيتشوني. ١٩٧٠م يكتب آخر قصائده في الليلة التي تختم سنة ١٩٦٩م، ويفتتح فجرَها أول يوم من أيام السنة الجديدة، تحت عنوان: «المتحجر والمخملي»، ويسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ لتسلم جائزة من جامعة أوكلاهوما، لكن المرض يفاجئه في نيويورك، ويعالج في إحدى المستشفيات قبل رجوعه إلى بلاده للاستشفاء في سالزو ما جوري، غير أنَّ الموتَ يُباغته في ميلانو في الليلة الفاصلة بين الأول والثاني من شهر يونيو. تقام جنازته في روما في كنيسة سان لورنزو في الرابع من الشهر، دون أن يكلِّف أيُّ مسئول من السلطة نفسه بحضورها. * يبدو أن «بيا» كان شعلة نشاط أدبيٍّ وتجاري وثَوري. كان له محلٌّ لبيع الرُّخام والأثاث والخمور، كما كان حلقة الوصل بين شداة الأدب الأجانب من أبناء الإسكندرية، والمسئول إلى حد كبير عن الصداقات التي عقَدها أنجاريتي معهم وأثَّرت تأثيرًا كبيرًا على تكوينه؛ ومن أهمها: صداقتُه الحَميمة ومناقشاته الطويلة مع الشاعر السكندري العظيم قنسطنطين كفافيس، وجماعة الأدباء اليونانيين الذين كانوا يشاركون في تحرير مجلتهم «لاغراماتا» أي الأدب، والتي كانت تصدر بالإسكندرية (قرأت هذا في أحد المراجع، ولم أتوصل، للأسف، لتفصيلاتٍ أوفى). † راجع قصيدته «إلى الأبد»، لاسيما الأبيات الأخيرة. ١ أقدم شكري القَلبي للسيدة: شهيرة، أمينة المكتبة التي ساعدتني على تصوير ما يزيد على المائتي صفحة، من كتب مختلفة عن حياة أنجاريتي وشعره …
| |
| |