كلود شانون ولعنة نجاح نظرية المعلومات
الجزء الأول: «كلود شانون: الأب الحقيقي للعصر الرقمي»
بناءً على تعليقاته بعد عدة سنوات، كان شانون قد أوجز إجاباته على مثل تلك الأسئلة بحلول عام 1943. ومع ذلك، وبشكل غريب، يبدو أنه لم يشعر بأي إلحاح تجاه مشاركة تلك الرؤى؛ فبعض أقرب زملائه في تلك الفترة يقسمون أنهم لم يكن لديهم أدنى فكرة عن أنه كان يعمل على نظرية المعلومات. كذلك لم يكن في عجلة من أمره لنشر عمله، وبالتالي حفظ نسب تلك الأعمال له. «لقد كنت محفزًا أكثر بفعل الفضول»، حسبما أوضح في مقابلة عام 1987، مضيفًا أن عملية الكتابة للنشر كانت «مؤلمة». لكن في النهاية، تجاوز شانون تردده. وكانت النتيجة: الورقة البحثية الرائدة «نظرية رياضية للاتصالات»، التي ظهرت في عدَدَي يوليو وأكتوبر عام 1948 من مجلة «بيل سيستم تيكنيكال».
تفجرت أفكار شانون كالقنبلة. «كانت كطلقة انطلقت فجأة»، حسبما يتذكر جون بيرس، الذي كان أحد أقرب أصدقاء شانون بمختبرات بيل، ومع ذلك فاجأته ورقة شانون البحثية كحال الجميع. «لا أعلم بشأن أي نظرية أخرى جاءت بصورة مكتملة كهذه، مع وجود القليل جدًا من المؤسسين أو التاريخ لها». بالفعل، كان هناك شيء ألهب مخيلات الشعوب بشأن هذا المفهوم الخاص بقياس كمية المعلومات. «لقد كانت ثورةً»، وفق أوليفر سلفريدج، الذي كان آنذاك طالبَ دراساتٍ عليا بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. «في أنحاء المعهد كانت ردة الفعل: إنها فكرة رائعة! كيف لم أفكر في ذلك؟»
يكمن الكثير من قوة فكرة شانون في توحيدها لما كان من قبل مجموعة متنوعة من التقنيات.
يكمن الكثير من قوة فكرة شانون في توحيدها لما كان من قبل مجموعة متنوعة من التقنيات. «حتى ذلك الحين، لم تكن الاتصالات علمًا موحدًا»، حسبما أوضح جالاجير. «كان هناك وسط لبث الصوت، وسط آخر للراديو، وأوساط أخرى للبيانات. أظهر كلاود أن جميع الاتصالات كانت في الأساس نفس الشيء – علاوة على ذلك، أنه يمكنك أخذ أي مصدر لتمثله بالبيانات الرقمية».
هذه الرؤية وحدها كانت لتجعل ورقة شانون البحثية واحدة من أعظم الإنجازات التحليلية في القرن العشرين. لكن كان هناك المزيد. لنفترض أنك تحاول إرسال، على سبيل المثال، تحية عيد ميلاد عبر خط تلغراف، أو عبر وصلة لاسلكية، أو حتى بالبريد الأمريكي. كان شانون قادرًا على إظهار أن أي قناة اتصال لها سرعة محدودة، مُقاسة بالأرقام الثنائية لكل ثانية. وكانت الأنباء السيئة أنه فوق هذا الحد للسرعة، كانت الدقة المثالية مستحيلة: أيا كان مستوى ذكاء تشفيرك لرسالتك وضغطها، لا تستطيع ببساطة أن تجعلها تنتقل بشكل أسرع دون التخلي عن بعض البيانات.
لكن الأخبار السارة والمدهشة هي أنه تحت هذا الحد للسرعة، كان البث مثاليًا على نحو محتمل. ليس فقط جيدًا جدًا، بل مثالي. قدم شانون دليلًا رياضيًا على أنه لا بد من وجود شفرات توصلك إلى ذلك الحد دون فقدان أي معلومات مطلقًا. علاوة على ذلك، حسبما أوضح، سيكون الإرسال المثالي ممكنًا بغض النظر عن كم الكهرباء الساكنة والتشويه اللذان يحتمل وجودهما في قناة الاتصال، وبغض النظر عن مقدار ضعف الإشارة.
بالتأكيد، قد تحتاج إلى تشفير كل حرف أو بكسل بعددٍ هائل من البيتات لضمان أن عددًا كافيًا منها سيمر. وقد تضطر لابتكار جميع أنواع أنظمة تصحيح الأخطاء البارعة، حتى يمكن إعادة بناء الأجزاء المعطوبة من الرسالة لدى الطرف الآخر. وبالفعل، عمليًا ستصبح الأكواد في النهاية طويلة جدًا والاتصالات بطيئة جدًا لدرجة أنك ستضطر للاستسلام وترك التشويش يفوز. لكن من حيث المبدأ، يمكنك أن تجعل احتمالية الخطأ أقرب إلى الصفر بقدر ما شئت.
هذه «المسألة الأساسية» لنظرية المعلومات، حسبما يسميها شانون، فاجأته هو شخصيًا عندما اكتشفها. فقد بدا إخضاع التشويش منتهكًا للمنطق السليم تمامًا. لكن بالنسبة لمعاصريه عام 1948، الذين شهدوا تلك المسألة لأول مرة، كان التأثير مثيرًا. «أن تجعل فرصة الخطأ صغيرة بقدر ما شئت؟ لم يفكر أحد مطلقًا في ذلك»، حسبما يتعجب روبرت فانو من معهد ماساتشوستس، الذي أصبح هو نفسه منظر معلومات في الخمسينيات، والذي لا يزال لديه صورة تبجيلية لشانون معلقة في مكتبه. «كيف جاءته هذه الرؤية، كيف توصل إلى الاعتقاد بمثل هذا الأمر، لا أعلم. لكن كل هندسة الاتصالات الحديثة تقريبًا مبنية على هذا العمل».
تفسر مسألة شانون كيف أننا يمكننا عرضًا أن نرمي الأقراص المدمجة بشكل ما كان أحد ليجرؤ على الإقدام عليه بأسطوانات الفينيل التي استخدمت لفترة طويلة.
عمل شانون «يخيم على كل شيء نفعله»، حسبما يقر روبرت لاكي، نائب الرئيس للأبحاث التطبيقية بشركة «تيلكورديا»، التي خرجت من رحم مختبرات بيل والمعروفة سابقًا باسم «بيلكور». بالفعل، حسبما يشير، كانت المسألة الأساسية لشانون بمثابة مثلٍ أعلى وتحدٍ للأجيال المقبلة. «طوال 50 عامًا، عمل الناس للوصول إلى قدرة القناة التي قال إنها ممكنة. وقد أصبحنا قريبين من تحقيق ذلك مؤخرًا فقط. لقد كان تأثيره عميقًا».
ويضيف لاكي، ألهم عمل شانون تطوير «جميع شفراتنا لتصحيح الأخطاء وخوارزميات ضغط البيانات الحديثة». بعبارة أخرى؛ لولا شانون، ما كنا رأينا خدمات نابستر».
تفسر مسألة شانون كيف أننا يمكننا عرضًا أن نرمي الأقراص المدمجة بشكل ما كان أحد ليجرؤ على الإقدام عليه بأسطوانات الفينيل التي استخدمت لفترة طويلة: تسمح هذه الأكواد المصححة للخطأ لمشغل الأقراض المدمجة بأن يلغي عمليًا التشويش الناتج عن الخدوش وبصمات الأصابع قبل أن نستمع إليها. وعلى غرار ذلك، تفسر مسألة شانون كيف أن الحواسب الحديثة يمكنها نقل البيانات المضغوطة بسرعة عشرات آلاف البيتات لكل ثانية عبر خطوط الهواتف العادية التي يعصف بها التشويش.
كما تفسر كيف أن علماء ناسا كانوا قادرين على الحصول على صورٍ لكوكب نبتون على الأرض عبر ثلاثة مليارات كيلومتر من الفضاء بين الكواكب. كما تقطع شوطًا طويلًا نحو تفسير سبب أن كلمة «رقمي» قد أصبحت مرادفًا لأعلى مستوًى ممكنٍ في جودة البيانات.
النهاية
في غضون عام أو اثنين من نشر ورقته البحثية، شعر شانون بالفزع بعد أن وجد أن نظرية المعلومات قد أصبحت رائجة جدًا.
جاءت جوائز أعمال شانون سريعًا. حيث أعلن وارن ويفر، مدير شعبة العلوم الطبيعية بمؤسسة روكفلر، أن نظرية المعلومات شملت «جميع الإجراءات التي عن طريقها قد يؤثر عقلٌ على الآخر»، بما في ذلك، «ليس فقط الخطاب المكتوب أو الشفهي، بل والموسيقى، الفنون التصويرية، المسرح، البالية، وفي الواقع، جميع صور السلوك البشري». بالكاد استطاعت مجلة «فورتشن» أن تحتوي حماسها، حيث اعتبرت نظرية المعلومات واحدة من «المنتجات البشرية الأندر والأكثر مدعاة للفخر، إنها نظرية علمية عظيمة، ويمكنها بشكل عميق وسريع أن تغير نظرة البشر للعالم». اضطر شانون نفسه بعد فترة وجيزة لتخصيص غرفة كاملة في منزله للاحتفاظ باقتباساته، لوحاته التذكارية وشهاداته فقط.
ومع ذلك، وفي غضون عام أو اثنين من نشر ورقته البحثية، شعر شانون بالفزع بعد أن وجد أن نظرية المعلومات قد أصبحت رائجة جدًا. كان الناس يقولون أمورًا سخيفة عن قدر المعلومات الواردة من الشمس، أو حتى محتوى المعلومات الخاص بالتشويش. كان العلماء يقدمون طلبات المنح مع الإشارة إلى «نظرية المعلومات» سواء أكانت مقترحاتهم لها علاقة بالنظرية أم لا. وأصبحت «نظرية المعلومات» كلمة طنانة، كحال «الذكاء الاصطناعي»، «الفوضى»، و«التعقيد» في الثمانينيات والتسعينيات إلى حد كبير. وقد كره شانون ذلك. في ورقة بحثية عام 1956 بعنوان «الأمر الرائج»، في مجلة «المعاملات بشأن نظرية المعلومات» (Transactions on Information Theory)، أعلن شانون أن نظرية المعلومات كانت تُقدم بمبالغة كبيرة. «ربما تم تضخيمها لتحمل أهمية تتجاوز إنجازاتها الفعلية»، حسبما كتب.
بدلًا من الاستمرار في خوض ما عرف أنه معركة خاسرة، انسحب شانون. ورغم أنه باشر، لبعض الوقت، بحثه بشأن نظرية المعلومات، رفض شانون جميع الدعوات تقريبًا التي لا نهاية لها لإلقاء محاضرات، أو لإجراء مقابلات صحفية؛ لم يُرد أن يكون مشهورًا. وعلى غرار ذلك، توقف إلى حد كبير عن الرد على بريده الإلكتروني. وانتهى أمر المراسلات من قبل شخصيات بارزة في العلوم والحكومة بالنسيان وعدم الرد في مجلد سماه «رسائل ماطلت طويلًا في الرد عليها». في الواقع، مع مرور السنوات، بدأ شانون في الانسحاب ليس فقط من المشهد العام، بل ومن قطاع الأبحاث – وهو موقف أقلق زملاءه بالمعهد، الذين حملوه على الاستقالة من مختبرات بيل عام 1958. يعلق فانو: «لقد كتب أوراقًا بحثية جميلة، عندما كتب. وأجرى محادثات جميلة، عندما أجرى محادثات. لكنها كره فعل ذلك».
من آن لآخر، استمر شانون في النشر. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، قبل أن يصبح فزعًا جدًا بسبب شهرته وينسحب بدرجة أشمل، مقالٌ مؤثرٌ نشر عام 1950 بمجلة «ساينتفك أمريكان» وصف فيه كيف أنه قد يمكن برمجة حاسوب ليلعب الشطرنج. لكنه تراجع ببطء عن المسرح الأكاديمي، حسبما يتذكر بيتر إلياس، وهو قائد آخر لمجموعة نظرية المعلومات بمعهد ماساتسوستس للتكنولوجيا.
انطوت رؤية كلود للتدريس على تقديم سلسلةٍ من المحادثات عن الأبحاث، والتي لم يعرف بشأنها أحد. لكن هذه الوتيرة كانت صعبة جدًا؛ في الواقع، كان يُصدر ورقة بحثية كل أسبوع.
—بيتر إلياس
وبحلول منتصف الستينيات، وفق إلياس، توقف شانون عن التدريس. بعد تقاعده الرسمي عام 1978، عن عمر يناهز 62 عامًا، انسحب شانون بسعادة إلى بيته في ضاحية بوسطن بوينشستر، ماساتشوستس. لم يكن المال مصدر قلق؛ فبفضل معرفته بصناعات التكنولوجيا الحديثة المنطلقة حول الطريق 128 ببوسطن، كان قد قام ببعض الاستثمارات الحذرة في البورصة. ولم يظهر أي تضاؤل في براعته. «لقد استمر في بناء الأشياء!» حسبما تذكر بيتي شانون ضاحكةً. «كان أحد الاختراعات شخصية لدبليو سي فيلدز تضرب ثلاث كراتٍ على طبلة. دعني أخبرك، لقد أحدث ضوضاء شديدة».
ومع ذلك، حلت فترة حوالي العام 1985 عندما بدأ هو وبيتي ملاحظة حدوث زلات محددة. حيث قد يقود السيارة وينسى طريق العودة إلى المنزل. وبحلول عام 1992، عندما كان معهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات يعد لنشر أعماله مُجمعةً، كان شانون منزعجًا لإدراكه أنه لا يتذكر كتابة العديد من تلك الأوراق البحثية. وبحلول منتصف عام 1993، مع وضوح حالته للجميع، أكدت العائلة ما بدأ الكثيرون بظنه: أصيب شانون بداء ألزهايمر. لاحقًا من ذلك العام، أودعته عائلته على مضض بدار للمسنين.
في عام 1998، عندما احتفلت بلدته الأم، جيلورد، بميشيجان، بالذكرى الخمسين لنظرية المعلومات عبر إزاحة التسار عن تمثال نصفي لواضعها في حديقة المدينة، شكرت بيتي شانون البلدة نيابة عنه. وتوضح شانون أنه كان بحالة جيدة جسديًا حتى موته، عندما بدا أن كل شيءٍ ينهار في الحال. لكن في يوم 24 فبراير، بعد شهرين فقط من عيد ميلاد شانون، حان أجله. «كانت ردة الفعل لموته غامرةً»، حسبما توضح، «أظن أنها كانت لتذهله».