صفحة من تاريخ الوشاة
بلال فضل
Mar 16, 2018
حدث ذلك في يوم من أيام 1924، ذهبت فيه مجموعة من طلاب كلية الحقوق في الجامعة المصرية، لزيارة ليمان طرة، أشهر سجون مصر، ضمن فعاليات دورة تدريبية صحبهم فيها أستاذ القانون الجنائي، وخلال تجوالهم في أرجاء السجن، قال لهم مديره، إنه متردد في السماح لهم بزيارة قسم صناعة السِّلال، لأن هناك مسجوناً سياسياً يعمل فيه، كان من زملائهم في الكلية، هو السجين عبد الفتاح عنايت، الذي كان يقضي عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة، لاتهامه باغتيال السيردار لي ستاك القائد الإنكليزي للجيش المصري، رغم أن عبد الفتاح عنايت نفسه كان قد طلب من المأمور أن يسمح له برؤية زملائه السابقين، فقال الزائرون للمأمور إنهم يرغبون في رؤية زميلهم الذي يفتخرون به وبنضاله، لكن عبد الفتاح عنايت حين رأى زملاءه لم يتمالك مشاعره، وانهار في البكاء، فطلب مدير السجن المتعاطف معه من زملائه أن يغادروا قسم صناعة السلال مسرعين، تاركين عنايت لدموعه ولسلة كان قد بدأ في صناعتها.
لم تغادر تلك الذكرى ذهن محمود كامل المحامي والصحافي والكاتب المسرحي أيضاً، وحين أصدر في عام 1935 عدداً خاصاً عن البوليس المصري من مجلة «الجامعة» التي أنشأها وكانت تلاقي نجاحاً كبيراً في أوساط الشباب، قرر عمل حوار مع سليم زكي رئيس القسم السياسي في محافظة القاهرة، الذي تمخضت عنه بعد ذلك أشهر الأجهزة الأمنية المتخصصة في قمع السياسيين جيلاً بعد جيل، ليسأله عن طبيعة عمل ذلك القسم الذي بدأ نشاطه بشكل منظم في مطلع عام 1924، وتسبب في القبض على عدد من زملاء محمود وأساتذته بتهم سياسية، فقال سليم زكي إن القسم مشغول الآن بمراقبة الأرمن المقيمين في مصر، خاصة المنتمين منهم لأحزاب سياسية، ومراقبة الشيوعيين، سواء الأجانب الذين يتم نفيهم من مصر قبل محاكمتهم، أو المصريين الذين يتم إحالتهم إلى المحاكمة بعد «ثبوت إدانتهم ببث الدعوة الشيوعية»، ومراقبة الفوضويين الذين يدعون لعدم الاعتراف بالحكومات والسعي لقلبها وعدم الاعتراف بالملكية، واعتبارها سرقة «وهم قليلو العدد جداً».
حين سأله محمود كامل عن أبرز الطرق التي يتوصل بها رجال القسم لكشف المؤامرات السياسية، أجابه سليم زكي، إن ذلك يتم بواسطة المرشدين، وضرب مثلاً بأشهر القضايا التي أنجزها ذلك القسم، وهي قضية القبض على المشاركين في اغتيال السيردار لي ستاك، التي اعتمد فيها القسم على المرشد نجيب الهلباوي، الذي كان سليم يعلم صداقته بالأخوين عبد الرزاق وعبد الفتاح عنايت، حيث اتفق معه على استئجار غرفة في أحد بنسيونات القاهرة، ثم تم تكليف الصاغ حمدي مساعد سليم باستئجار الغرفة المجاورة، والاستماع من خلال الباب الفاصل بينهما إلى الحديث الذي يديره الهلباوي مع الأخوين عنايت، وتم استحضار قنابل من الجيش الإنكليزي، تم إخراج البارود منها وإعطاؤها لنجيب، لكي يستخدمها في إقناع الأخوين عنايت بخطورته، قبل أن يحدثهما عن سخطه على الذين قاموا بقتل السردار لما تسببوا فيه من أضرار لمصر، فيضطرهما إلى الدفاع عما جرى، ليقوما بعد ذلك بحكم صداقتهم القديمة، بمصارحته باشتراكهما في القتل، فيظهر لهما رغبته في زيارة قبر مصطفى حمدي أحد الذين شاركوا في الاغتيالات السياسية، ومات متأثراً بجراحه أثناء تدريبه على إلقاء القنابل في جبل المقطم، وتم دفنه في قبر ظل يبحث عنه رجال البوليس عبثاً، وبالفعل أرشداه إلى مقر ذلك القبر، ليتوصل إليه البوليس أخيراً.
في اليوم التالي، تم القبض على محمود إسماعيل أحد المشاركين في القضية، الذين تم الحكم عليهم بالإعدام في ما بعد، وتم استدعاء الصحافيين لتصويره وهو يدخل إلى مقر وزارة الداخلية التي كان إسماعيل صدقي وزيرها آنذاك، وتم تصويره بعد خروجه من مكتب الوزير وإلى جانبه راسل باشا الحكمدار الإنكليزي للقاهرة، الذي وقف أمام الصحافيين مبتسماً، وحين سأل الصحافيون سليم زكي عن سر ابتسامة راسل باشا، قال لهم إن محمود اعترف بأسماء كل شركائه في قتل السردار، ولم يكن ذلك صحيحاً، لكن الصحف نشرت الخبر، وقام سليم بتكليف أحد رجاله بالتنكر في زي بائع صحف وطلب منه التوجه إلى مدرسة الحقوق التي كان عبد الرزاق عنايت طالبا بها، لينادي أمامها «اكتشاف قتلة السردار، اعتراف محمود اسماعيل، تفتيش بيوت المتهمين»، فاشترى عبد الرزاق نسخة، واتجه إلى منزل محمود راشد أحد شركائه، فوجد البوليس محيطاً بالمنزل، فتأكد من صحة ما نشر عن اعتراف محمود، الذي كان في الحقيقة لا يزال صامداً ورافضاً التعاون. في الوقت نفسه اقترح المخبر نجيب الهلباوي على الأخوين عنايت فكرة الهروب بالأسلحة التي استعملاها في قتل السردار، إلى طرابلس عن طريق سكة حديد مريوط، وحين اقتنعا بالفكرة وبدآ في تنفيذها، أبلغ الهلباوي القسم السياسي بذلك، فسافر سليم وإنجرام بك مساعد الحكمدار إلى الإسكندرية بطائرة حربية إنكليزية، وكلف سليم مساعده بتتبع الهلباوي مع المتهمين الهاربين، ليتم ضبطهما متلبسين بالأسلحة بعد أن أخرجاها من مخبئها، ويحكم بالإعدام على أحدهما، وبالأشغال الشاقة على الآخر.
فجّر سليم زكي مفاجأة في حواره مع محمود كامل، حين قال له إن قيام القسم السياسي بالقبض على المتهمين في عام 1924، كان يمكن أن يحدث في عام 1921، بعد اغتيال السردار مباشرة، لولا أن البوليس تعرض لخداع استراتيجي من عبد العزيز راشد، أخو محمود راشد الذي أعدم في حادثة السردار، حيث ذهب إلى سليم بنفسه، وأخبره أنه علم بأن شخصاً يُدعى مصطفى الخيال، يقوم بصنع القنابل التي يُقتل بها الإنكليز، ففتش البوليس السياسي منزله بدقة، فلم يعثروا على شيء، لكنهم عند خروجهم من المنزل، وجدوا قنبلة ملقاة خلف باب المنزل الخارجي، ففهم سليم أن تلك القنبلة دُسّت بواسطة عبد العزيز، الذي اتضح أنه كان مرشداً كاذباً، لكن سليم لم يقم بإطالة مدة القبض على عبد العزيز، بل قام بتسهيل الإفراج عنه، ثم طلب من صديق لعبد العزيز أن يراقبه هو ومحمود، ويبلغه بمدى اتصالهما بحركة صنع القنابل، واتفق معه على أن يحتفظ دائما بعلبة سجاير، ليس فيها سوى سيجارة واحدة، فإذا وجد أن هناك قنابل أو مواد لتصنيع القنابل داخل منزل الأخوين راشد، يقوم برمي العلبة من النافذة، ووقتها لن يشك فيه أحدهما، لأنه يرمي علبة فارغة من السجائر، بعد أن أخذ منها السيجارة الأخيرة، وبالفعل قام المرشد بذلك، ليداهم البوليس السياسي المنزل، ويعثر فيه على قنابل وأسلحة، وتم تقديم عبد العزيز الذي كان موجوداً لوحده إلى محكمة الجنايات، وتمت إدانته، لكن البوليس لم يتمكن من القبض على محمود وباقي أصدقائه، ليتضح أن قتل السردار الإنكليزي تم بأسلحة مشابهة لتلك التي وجدت في منزل الشقيقين عبد العزيز ومحمود راشد، ولتتسبب خيانة المرشد نجيب الهلباوي بعد ذلك في إسقاط من بقي هارباً منهم، فيتعرض بعضهم للإعدام، وبعضهم للسجن، ويتعرض الجميع للنسيان في مصر التي لا تكف عن إنجاب الأبطال والجلادين والوشاة.
…
ـ «يوميات محام: صور من حياة مصر القضائية والاجتماعية والأدبية» محمود كامل المحامي ـ سلسلة كتاب اليوم عدد يوليو/تموز 1984
«لازم نعيش»
بلال فضل
Jan 06, 2018
يا عم محمد: والله العظيم لم أتجاهل رسالتك ولم أتعال عليها، وكل ما في الأمر أنني كنت وقت تلقيها مرهقا ومكسور النِفس، بعد أن فُجعت بوفاة أقرب وأحبّ أساتذتي، ليمضي عام وعشرة أشهر دون كتابة، لذلك لم يكن ممكناً حين أعاود الكتابة، ألا أبدأها بالرد على رسالتك التي اتهمتني بالتعالي عليها وعليك، ليس لتصحيح صورتي لديك، فلعلك تدرك أن رضا الناس كان في الأزمنة الهادئة غاية لا تُدرك، فكيف يطلبه عاقل في هذه الأزمنة الخماسينية التي يستسهل الناس فيها فش غلهم فيمن استطاعوا إليه سبيلاً، بل لأن رسالتك الهادئة على قصرها ظلت تشغلني طويلاً، كلما فكرت في مشاعر ومصائر ملايين المصريين الذين أيدوا الوضع القائم في مصر، منذ أن ركب عبد الفتاح السيسي السلطة، ليس لأنهم بالضرورة عشقوا طلعته البهية، أو أيقنوا بعبقريته الجليّة، بل لأنهم رغبوا في أن تنتهي حالة الخوف والغموض والقلق التي عاشوا فيها منذ لحظات يناير الأولى.
كنت أرى هؤلاء الكتلة الأهم من المصريين، والأكثر تأثيراً من كُتَل الأفاّقين وأصحاب المصالح وهواة التعريص المدفوع أو المجاني، وفي اعتقادي لم يكن لهؤلاء مشكلة حقيقية مع خلع ثورة يناير لمبارك، طالما استقرت البلد سريعاً واستعادت أموالها المنهوبة لتوزع على الجميع بالعدل، لم يكن لديهم رهان على الأصوات الثورية ليس لكراهيتهم الفطرية لها، بل لعدم امتلاكها قوة ملموسة حاسمة، لم يكن لديهم مشكلة في تصدر الإخوان والسلفيين والمجلس العسكري للمشهد، طالما سينجح هؤلاء معاً أو منفردين في تحقيق الاستقرار وإخراس أصوات المظاهرات المزعجة والموتّرة، ولما بدا لهم أن حكم الإخوان لن يكون جالباً للاستقرار، بل سيتسبب في مزيد من الأزمات، وساعدهم الإخوان بعدد من الحماقات والخطايا على تأكيد ذلك الانطباع، انفضوا عنهم حالمين بعودة حاكم شاكم مخلص مسيطر، وحين توسّموا ذلك في السيسي أيدوه وفوّضوه وحاربوا من أجله في الشوارع والمقاهي والميكروباصات ومواقع التواصل الاجتماعي.
يصعب أن ألخص بمنتهى الدقة وقائع سنوات حافلة في سطور قليلة، لكن رسالتك كانت أقدر على تلخيص موقف هذه الكتلة العريضة التي تنتمي إليها، حين قلت فيها: «باختصار إزاحة الجيش عن السياسة يلزمه وجود بديل فاعل وقادر على إدارة مصر، خاب أملنا في الإخوان، وخاب أملنا في تيارات الثورة ولازم نعيش». لا أظنك غيّرت رأيك بالكامل بعد كل ما جرى من كوارث وإخفاقات خلال العامين الماضيين. عندي من حسن الظن فيك ما يجعلني أفصلك عن زمرة المهاويس الذين يرفضون الاعتراف بوجود أي كوارث وإخفاقات، وإن اعترفوا ببعض ما يستحيل إنكاره، رأوا فيه نعمة مخفية الحكمة، كأمر سيدنا إبراهيم بذبح ابنه اسماعيل. بل أظنك قد ذقت الأمرّين بفعل السياسات الخرقاء، التي خسفت بمدخراتك الأرض، وزادت أيامك ولياليك أزمات وديوناً وهموماً، إلا أني لا أظنك تبادر إلى إعلان معارضتك للسيسي، أو تؤيد الإطاحة به، فأنت في ظني لم تذكر اسم السيسي في ما كتبته، لأنك أصبحت تدرك أنه لا يمثل شخصه فقط، بل يمثل تحالفاً من جنرالات المؤسسة العسكرية ولواءات المخابرات والشرطة ومستشاري القضاء والأذرع الإقتصادية والدلاديل الإعلامية، وهذا التحالف المدعوم من قوى إقليمية ودولية، يمكن أن يفتك بشخص السيسي نفسه لو وقف ضد مصالح هذا التحالف، وربما استبدله بغيره على الفور، ولعلك تدرك أن محاولة التخلص الكامل من هذا التحالف ستكلف أثمانا باهظة لن تقوى البلد المهترئة على دفعها ولن يساعدك على أن تعيش، وهو ما يدفع رموز هذا التحالف الحاكم وأبواقه للحديث الدائم عما جرى في سوريا وليبيا واليمن بوصفه عبرة وعظة، فضلا عن الاستغلال المستمر للجرائم الإرهابية كوقود يجدد إشعال نيران الخوف من المجهول، كلما قاربت رياح السخط على إطفائها.
نعم، قد يجادلك إخواني ساخط في صحة شعورك بالخيبة من الإخوان، لأنهم لم ينالوا فرصة لائقة للحكم، وقد أحاججك في شعورك بالخيبة من تيارات الثورة، التي تعرضت لحملات قمعية وتشويهية شارك فيها الإخوان أنفسهم خلال أيام نفوذهم، لكن كل هذا ستتضاءل قيمته أمام آخر كلمتين ختمت بهما رسالتك: «لازم نعيش»، وهو ما تدركه سلطة السيسي جيدا، ولذلك لا تمل من تكرار الرسائل الواضحة «القارحة» للمصريين بأن مجرد بقاءهم على قيد الحياة، نعمة يجب أن يشكروا السيسي عليها، ولذلك يجري الضرب بأرجلٍ من حديد في محاشم وعلى أدمغة من يحاول أن يثبت للناس أن هناك بدائل عملية، غير مجرد بقاءهم على قيد الحياة، يستوي في ذلك أن يكون من رموز نظام مبارك، أو من رموز الثورة على مبارك، ولذلك تُستحكم قبضة التكويش على وسائل الإعلام لكي لا يتسرب منها بصيص وعي أو نقد، ولذلك تتم «تربية» الكتاب والإعلاميين والسياسيين الذين سبق أن باركوا قمع السيسي، وتتم مساومتهم على حياتهم ومصالحهم، ليصبح أمامهم إما التواري عن المشهد، أو أداء ما يطلب منهم بكل رُخص وفجاجة، ولذلك تستمر وطأة القمع الممنهج الذي يحسبه البعض عشوائياً من فرط غباوته وعناده، ولذلك يعود النظام ـ بعد غشومية دونالد ترامب ـ إلى لعبة التذاكي في استخدام ثنائية الحنجورية العلنية والانبطاح السري التي ابتدعها نظام مبارك من قبله، وأظنك وسط كل هذه المعجنة، تقرر أحيانا متابعة ما يجري على أمل أن تجد ما يبل ريقك، وتُفضِّل في أحيان أخرى الهروب نحو ما يفصلك عن الواقع، وأنت تردد لنفسك في الحالتين: «لازم نعيش».
يا عم محمد: لست من هواة الاستعلاء الأحمق، لأحاضرك عن فضائل الحرية التي لا يطيب بدونها العيش أياً كان الثمن، ولست من محترفي التنجيم السياسي، لأجزم باقتراب سقوط نظام يتصور دوام بقائه بفعل البطش، لتشرق من بعده شمس الحرية والعدالة، ولم أفقد ضميري بعد لأطالبك بدفع أثمانٍ لا طاقة لك بها، ولا أشعر أبدا بأفضلية متوهمة عليك، وعلى عكس ما تظن، سأسعد لو كان اختيارك صائباً وتمكنت من العيش فعلاً. وللأسف إن سألتني عن المستقبل القريب، لن أكذب عليك، ليست لدي إجابات نموذجية قاطعة، وأحسد الممتلئين باليقين في قدرتهم على صُنع عالم أفضل، وتشغلني أسئلة مربكة عن جدوى الديمقراطية الإنتخابية إذا لم تضمن عدم استبداد الواصلين إلى الحكم بمعارضيهم، وعن قدرة المواطن العادي ـ في عالم تتحكم فيه الماكينات الإعلامية الممولة ـ على القيام باختيارات سياسية لا تتحكم فيها غرائزه ومخاوفه.
لكنني برغم كل ما أعيشه من حيرة وأسى، أفكر أن هذه الفترة العصيبة التي يعيشها العالم، ربما كانت فرصة أخيرة، لكي نستعيد تعرفنا على حقائق جرّبتها شعوب كثيرة قبلنا، لكنها غابت عنّا، تحت وطأة السعي المتوهّم للحسم، تحت رغبتنا الملحة في أن نكون جزءاً من كُلٍ أكبر ننتمي إليه. فرصة لكي ندرك أنه ربما لا تكون الاختيارات الأخلاقية في السياسة مثالية بلهاء، بل هي الطريقة الواقعية لاستمرار الحياة بأقل خسائر ممكنة، فإذا لم نكن قادرين على دفع ثمنها كمواطنين، فلسنا مجبرين على التواطؤ العلني مع القتلة والجلادين، وإذا لم نستطع إيقاف الظلم والإعدامات والتصفيات والإخفاءات القسرية والتلاعب بالعدالة، فلسنا مجبرين على تبرير ذلك والاحتفاء العلني به، حتى وأن وقع على من نكرهه.
ربما ندرك يا عم محمد تحت وطأة الواقع الأليم، أن استسهال مباركة الوضع القائم لعلّنا نعيش، ليس سوى مساهمة خرقاء في صناعة أسباب جديدة لموتٍ أكيد، سيجد فينا هدفاً أسهل من جلادينا. ربما سنبقى طويلاً عائمين ومهددين بالغرق في الوقت نفسه. ربما تنجينا جينات التعايش الأزلي مع الفشل التي ورثناها عن أجدادنا. ربما كان علينا قبل كل شيء التوقف عن تصورنا أن تغيير الواقع سهل، لأن ذلك التصور دفعنا دائما نحو مسارات متسرعة خاطئة. ربما كان التغيير يتطلب أولاً أن نواجه أنفسنا بحقائق الأشياء، مهما بدت كئيبة ومريرة. ربما كانت المشكلة في إيماننا الدائم بنون الجماعة مع أنها تخفي خلفها انحيازات فردية ضيقة الأفق. ربما كانت بداية الطريق اللازم لكي نعيش، ألا نتصالح مع العيش على جثث ودموع ومظالم غيرنا، حتى ولو لم يوافقنا الجميع على ذلك الاختيار الصعب.
يا عم محمد: سلام الله عليك وعلى مصر البعيدة.
من يوميات أب تحت التمرين: الأصدقاء
بلال فضل
Mar 17, 2018
أصعب ما في الأبوة عندي، أنك مطالب بالجمع بين سلوكين نقيضين، الأول أن تروي لأبنائك ما تعلمته في الحياة، لكي يستفيدوا منه ويتجنبوا تكرار ما وقعت فيه من خطايا وأخطاء، والثاني أن لا تقوم التجارب التي تحكيها والدروس التي استفدتها بحرق فيلم الحياة لهم، فتفسد ولو قليلاً فرصتهم في مواجهة الحياة والتعلم منها بأنفسهم، دون توقعات مرئية ولا مصادر عليمة.
إذا كنت تظن أن توصيف الأمر كما فعلتُ الآن سهل التطبيق، فأنت بالتأكيد لم تصبح أباً بعد، ولذلك لا تدرك كم هي مريرة ومؤلمة مجاهدتك لكتمان الضحك العالي المصحوب بشخرات حادة متقطعة، حين تسمع صوتك وهو يحدث أبناءك عن أهمية المذاكرة والاجتهاد فيها، لأن أحداً ـ بمن في ذلك أبناؤك ـ لن يفهمك بشكل سليم إذا حدثتهم عن رأيك الحقيقي في التعليم والامتحانات والمدارس والجامعات، وهو مأزق سيتضاعف وسيجر إلى عواقب أوخم، لو فكرت مثلاً أن تقول لأبنائك أن أكثر شيء مبالغ في تقييمه في هذه الحياة الدنيا، هو الصداقة والأصدقاء.
بمناسبة الأصدقاء، نسيت أن أخبرك أن أحد أصدقائي القدامى اللئام أرسل إليّ مستغرباً أنني ما زلت أعتبر نفسي أباً تحت التمرين، بينما بدأت علاقتي بالأبوة منذ 15 سنة، فأدركت من مجرد طرحه للسؤال، جهله العميق بجوهر الأبوة التي سبقني إليها بثلاث سنوات، لأنه لو كان يدرك المعنى الحقيقي للأبوة، لأدرك أنها النشاط الإنساني الوحيد الذي يفترض أن تبقى فيه تحت التمرين طيلة حياتك، لأنك أصبحت مرتبطا بكائن بشري يتغير ويتشكل كل لحظة، ولست مطالباً فقط بأن تدرك هذه التغيرات والتشكلات، بل وأن تتعامل معها إيجابياً دون رفض أو وصاية أو إهمال، ويا سعدك ويا هناك لو قررت أن تكون هذه فرصة لتتغير أنت وتتشكل، أو على الأقل لكي تتعلم من ما تشاهده من تغيرات وتشكلات، وذلك في رأيي ثاني أصعب ما في الأبوة، وهو أجمل ما فيها أيضاً.
دعني أحدثك عن طريقتي كأب في التعامل مع مسألة الصداقة التي ظلت تؤرقني كثيراً، منذ بدأت علاقة بناتي بالمدارس، وأصبح لهن صداقات أكثر جدية وانتظاماً من صداقات النادي والحضانة، صداقات بدأت تتمتع بعنصر جديد على الطفل هو عنصر الاختيار، الذي لم يكن متاحاً في علاقاته بأطفال العائلة والأقارب والجيران، الذين تفتح عينيك على الدنيا فتجدهم حولك، فلا يكون لك في أمرهم حل ولا عقد، على عكس أصدقاء المدرسة الذين تكتشف معهم خصائص في الحياة، لم تكن متاحة لك من قبل، مثل خاصية الاستلطاف والإعجاب، وخاصية الاستغلاس أو الاستثقال، وهي خصائص تكتشف مع ممارستها الفطرية، أنك لست مطالباً بتقديم مبررات مقنعة لاختيارك صداقة هذا ومجافاة ذاك، وأن هذه المساحة ستكون أول مساحة تمتلك فيها حرية اتخاذ قرارك دون أن يكون للكبار دور كبير في ذلك، سيحاولون أحياناً سؤالك عن أسباب عدم استلطافك لابن صديقهم الحميم أو ابنة رئيسهم في العمل، وحين تردد أسبابك في كلمات قصيرة ومكثفة وغامضة من نوعية «ما حبيتوش..غلسة..مش باطيقه.. ريحتها وحشة..مش عايز»، سيكتفي الأهل إن كانوا عقلاء بإبداء الأسف وتمني أن يتغير قرارك، وأحيانا سيغضبون ويشخطون فيك بشكل غريب، لكن الأمر لن يتطور غالباً لإجبارك على مصادقة من يستلطفونه بالعافية والإجبار، لأنهم مهما كانت درجة اتزانهم النفسي والعصبي، إن لم يدركوا استحالة ذلك فسيخشون من عواقبه. كآباء، لا نملك بحكم الظروف القدرة على مراقبة الطريقة التي تنمو بها صداقات أطفالنا مع زملاء دراستهم، حتى حين نكون مدرسين لهم أو عاملين في مدارسهم نفسها، يكون لدينا قدر متزايد من الهموم يشغلنا عن ذلك، ولذلك نفاجأ بأن صداقات أطفالنا أصبحت فجأة وفي زمن قياسي صداقات وثيقة وعميقة، وأن أطفالنا قرروا إعلانها صداقات تاريخية ستستمر حتى نهاية العمر، كم مرة رأيت ابنتك تخبرك بأن فلانة «أفضل صديقة في حياتي»؟ أو وجدت ابنك يحيطك علماً بأن صداقته بفلان هي أهم شيء حصل له في المدرسة الحقيرة التي اخترتها له؟ في العادة، إذا كنا متزنين نفسياً أو نظن أنفسنا كذلك، نبارك ذلك الاختيار ونثني عليه، ونحرص على إبداء ملاحظات تؤكد صحة اختيار طفلنا لصداقته التاريخية، حتى لو كنا نرى عكس ذلك. يعني لن يكون من الحكمة أن تذكر طفلك بأن صديق عمره فلان يمتلك ملامح قاتل تسلسلي، ولا أن تلفت نظر ابنتك إلى أن فلانة صديقتها «مدى الحياة» لا تقوم بتنظيف مناخيرها بانتظام، وأن طيبة ابنتك هي التي تمنعها من رؤية الآثار والحفائر التي تكتظ بها دائماً فتحتا مناخير صديقتها، لذلك ستترك اختبار جدية تلك الصداقات للزمن، وتسأل الله لأطفالك السلامة من انكسار القلوب.
أما إذا كنت تحظى بقدر يسير من عدم الاتزان النفسي، فلا بأس أن تلجأ للسخرية اللطيفة المنضبطة من تعبيرات مثل «في حياتي ـ في عمري»، ولكن دون أن تصل إلى مرحلة «حياتك مين يا أبو شخة ـ عمرك مين يا أهبل»، تلك المرحلة التي كان يفضلها أهلنا وأهاليهم من قبلهم، ولعلك تتذكر كيف كنت تراهم في منتهى السعادة وهم يرددون عبارات كهذه، كأنهم يذكرونك بأنك لا يمكن أن تحظى بالميزة الرائعة التي يستمتعون بها، وهي ميزة أنهم أصبحوا نظرياً أقرب منك إلى القبر.
أعرف أنه من المهم ألا تترك طفلك غارقاً في الأوهام، أو متعلقاً بحبال الزمن المهترئة، لكن يمكن أن توصل المعنى نفسه الذي أوصله لك أهلك، ولكن في إطار وعظي لطيف، يذكر بنسبية الزمن وامتلائه بالمفاجآت المخبوءة التي يستحسن أن نقوم بتحضير أنفسنا لها، لكي لا تأخذنا على أقفيتنا على حين غرة، ويمكن أن تربط ذلك بالمستقبل بطريقة ماكرة، فتقول كلاماً من نوعية: «ربنا يخليكم لبعض وبعدين لسه بكره هتكبر ويبقى ليك صحاب كتير في ثانوي والجامعة والشغل»، ويمكن أن تلتف على ما قد يسببه كلامك من إرباك لحظي، بالعودة مباشرة للثناء على الصديق الذي اختاره طفلك، أو تقوم باحتضانه بدون مناسبة، أو تعطيه مبلغاً نقدياً يتناسب حجمه مع درجة «التلبيخ» التي أحدثتها، وهذه هي الطريقة الأنجع والأكثر تأثيراً في كل المناسبات والتلبيخات.
مع الوقت اكتشفت أنني آخذ مسألة الصداقة بجدية أكثر من بناتي أنفسهن، وأنني كنت سأكون أسعد حالاً، لو كنت احتفظت بتلك الميزة المدهشة التي يتميز بها الأطفال، أعني قدرتهم على خسارة الأصدقاء بسهولة ودون خسائر، واكتساب أصدقاء جدد تشعر أنهم سيدومون للأبد، لعلك تذكر اليوم الذي جاءت فيه طفلتك من المدرسة وهي منهارة وغارقة في الدموع والبرابير، لأن صديقتها «الأنتيم البيستي اللي ما فيش أحلى منها في الدنيا»، اتضح أنها من أوسخ عشرة كائنات في الحياة، أو أنها سافرت بشكل مفاجئ إلى مدينة أخرى، أو أن والدها وأمها تطلقا، فأصبح لزاماً عليها أن تترك المدرسة وتلتحق بمدرسة مجاورة لبيت جدتها، أو لأنهم فصلوها فصلاً نهائياً بعد أن ضبطوها تسرق حقيبة الأبلة، أو تقوم بتقبيل فتى أحلام طفلتك، أو تقوم بتخريب منهجي لكمبيوترات المدرسة، سيكون ذلك اليوم أسود من قرن الخروب وروث وحيد القرن، وسيكون أسوأ ما فيه عجزك عن قول أي كلام منطقي أو عاقل، لأنه لن يجد أذناً صاغية من ابنتك، فضلاً عن أنه سيجلب لك غضب زوجتك التي ستطلب منك أن توفر كلام الحكم والمواعظ لوقت آخر، وتتصرف في هذه المصيبة، وكعادة الزوجات فهي لن تحدد لك ما الذي يجب أن تفعله، هل تقوم بمصالحة والدَي صديقة ابنتك، أو تذهب لتغيير قرار والدها في الانتقال من المدينة، أو تكلم وزير التعليم لإلغاء قرار الفصل، أو تفعل شيئاً سحرياً يعيد لصديقة ابنتك بهاءها المفقود، وستكتشف حينها أن أحضان الأمهات أكثر إقناعاً من أحضان الآباء في لحظات الحزن العميقة، وستدعو الله أن يلهمك باستدعاء مفاجئ من الشغل أو كاذب من الأصدقاء، لتبرر به خروجك السريع من أجواء البيت المكهربة.
إذا كنت صاحب ضمير يقظ، ستفكر طويلاً في ما يمكن فعله لتحسين مهاراتك في التواصل مع ابنتك حين تكون حزينة أو عميقة، بعيداً عن الوعظ الفارغ أو كلام التنمية البشرية الخائب أو ضرب اللخمة الذي يزيدها حزناً ويزيدك توتراً، وفي الغالب الأعم لن يطول تفكيرك، لأن ابنتك ستعود من المدرسة بعدها بيوم أو يومين بالكثير، لتريك بمنتهى السعادة صورة صديقة عمرها الجديدة، التي لن تسمح لأحد بأن يفرق بينهما، ولن يكون من الذكاء أبداً أن تفخر بقوة ذاكرتك، فتسألها «مش دي اللي اتوقفتي يومين من المدرسة قبل أسبوعين عشان شديتيها من شعرها؟»، فلن يكون بمقدورك سوى أن تبارك الاختيار الجديد وأنت ساكت، ثم تسأل الله لك ولها السلامة من انكسار القلب.
تناتيش ونغابيش
بلال فضل
Mar 10, 2018
ـ حين يصبح ميزان القوة مائلاً نحو كفة المحصّنين من العقاب بفضل نفوذهم أو ثروتهم أو عِرقهم أو دينهم أو جنسهم، يكون الحفاظ على الذاكرة الوسيلة الوحيدة المتاحة للمظلومين. سيبقى هذا المعنى معك طويلاً، بعد أن تشاهد فيلم «سترونغ آيلاند» الذي تم ترشيحه لجائزة أوسكار أحسن فيلم وثائقي، وأخرجته وأنتجته الأمريكية يانسي فورد، لتحكي فيه قصة قتل شقيقها ويليام عام 1992، قبل أيام من حصوله على الوظيفة التي كان يحلم بها، وصام من أجلها 32 يوماً، لينقص وزنه ويصبح لائقاً لمعايير الوظيفة. قُتل ويليام برصاصة في قلبه، لأنه رد على الإهانة التي وجهها لأمه ميكانيكي سيارات أبيض، ولأن ويليام كان أسود البشرة وضخم الجثة، فقد مالت هيئة المحلفين الكبرى المكونة من 23 مواطنا أبيض اللون، إلى اعتبار الواقعة دفاعاً مشروعاً عن النفس، وخرج القاتل من القضية بكل بساطة، في أعقاب محاكمة هزلية سريعة، كان أكثر ما أوجع قلب والدة القتيل فيها أن المحلفين كانوا طيلة الوقت يستمعون إلى الوقائع دون اهتمام، كان بعضهم يقرأ مجلة وآخر يحل الكلمات المتقاطعة وثالث ينظر إلى السقف دون تركيز، وظل ذلك الشعور بالاستهانة بدم ابنها، يرافقها ويوجعها حتى لحظات إصابتها بالغيبوبة بعد أكثر من عقدين ونصف على رحيل ابنها، ذلك الرحيل الذي أصاب الأب بالشلل بعدها مباشرة، وكان موتاً فعلياً للأسرة بأكملها.
قررت يانسي أن تخلد حياة شقيقها التي أنهاها الغدر وتواطأت عليها العنصرية، فصنعت ذلك الفيلم الشخصي المهم، لتعيد التذكير ببطولة أخيها الذي ساهم قبل سنوات من قتله في إنقاذ حياة أحد المدعين العامين بنيويورك بعد أن تعرض للطعن من أحد اللصوص، في نفس الوقت الذي قدمت أخيها كإنسان له عيوبه، وخلدت أحلامه العريضة التي كان يكتبها في دفتر يومياته ببساطة آسرة. على الشاشة نرى يانسي وهي تحاول الاتصال بالذين ساهموا في ظلم أخيها وإفلات قاتله من العقوبة، لكنها تصطدم بقلوب منعدمة الضمير، فتمنح لوالدتها الثكلى مساحة لم تجدها في مكان آخر، لتحكي رحلتها مع الحياة في مجتمع يخفي عنصريته خلف ستار الإجراءات القضائية المزينة بالنصوص القانونية المصقولة.
بعد فترة وجيزة من رواية شهادتها دخلت الأم في غيبوبة، لينتهي الفيلم دون مفاجآت سعيدة يظل المشاهد يتوقعها حتى آخر لحظة، مقدماً للمشاهد صوراً للدنيا وهي مقلوبة رأساً على عقب، تعقبها سطور توجهها يانسي إلى أخيها في رقدته الأخيرة على أسفلت بارد، وقد استقرت رصاصة في قلبه المفعم بالحب لأمه وأبيه وشقيقتيه، ولعله كان يتساءل كيف ستتحمل عائلته ما جرى له، دون أن يعرف أن قاتله مارك رايلي سيظهره بمظهر الوحش، وأنه لن تكون هناك محاكمة عادلة، لأن القاتل قد نجا بفعلته، بعد أن أصبح خوفه كرجل أبيض مبرراً للقتل دون تحقيق ولا محاكمة، لتنضم قصته إلى آلاف القصص التي نجا فيها القتلة من العقاب، لكن أهالي الضحايا لم يستسلموا للصمت، ولم يجعلوا مهمة النسيان سهلة، دون أن يكترثوا ما إذا كان ذلك بداية لتحقيق العدالة، أو مجرد صرخة في وجه الظلم، المهم أنهم حاربوا بالسلاح الوحيد الذي يملكونه، سلاح الذاكرة.
ـ على صعيد آخر يخص الذاكرة، قرأت في مجلة «هاربر» الأمريكية العريقة إشارة إلى متحف فريد من نوعه تحتضنه العاصمة الكرواتية زغرب، يحمل عنوان «متحف القلوب المحطمة»، أو هكذا أحببت أن أترجم اسمه الذي يشير إلى اختصاص المتحف في توثيق العلاقات التي حطمها الانفصال بكافة أشكاله، وقد تم مؤخراً نشر كتالوج لمجموعة من أهم مقتنياته، التي أودعها أصحابها فيه مرفقة بذكريات ترتبط بها وبأصحاب العلاقة التي انفصمت عراها، أحدهم أودع في المتحف ساعة أثرية وكتب: «كانت تحب الأنتيكات، تحب أي شيء قديم خصوصاً لو كان معطلاً، وهذا بالتحديد السر في أننا لسنا معاً الآن». أودع آخر نظارة مكبرة وكتب: «أعطتها لي كتذكار قبل أن أرحل، لم أفهم أبداً لماذا أعطتني نظارة مكبرة بالذات كهدية، وهي لم تشرح لي السر، لكنها قالت لي من قبل أنها تشعر بالضآلة حين تكون بصحبتي». أودعت أخرى قطعة من حبل باراشوت وكتبت «قابلته في أول قفزة لي بالباراشوت، كنت خائفة، لكن هذا الرجل الوسيم الذي كان مدربي على القفز المتزامن بالباراشوت أنقذني، ولاحقاً علمني القفز المفرد بالباراشوت، وأحببنا بعضنا، لكنه لاحقاً مات في حادث قفز بالباراشوت». شخص آخر أودع جهازاً لتحميص الخبز وكتب أو كتبت «حين خرجت من الشقة، أخذت معي التوستر، لأتذكر كيف يمكن لكل شيء أن يحترق».
أطرف ذكرى على الإطلاق في كتالوج المتحف كانت زجاجة من الماء المقدس تم صنعها على شكل السيدة مريم العذراء، وقد كتبت من أودعتها هذه السطور: «في صيف 1981 قابلت حبيباً عابراً في مدينتي أمستردام. كان قد توقف فيها خلال رحلته لاستكشاف أوروبا بالقطار، كان من بيرو، تقابلنا في ديسكو بوذا وافترقنا، لم يطل الوقت حتى التقينا ببعض بالصدفة في الشارع، ذهب معي إلى البيت وظل مقيماً معي لمدة شهرين، ثم اختفى فجأة، وجدت رسالة وداع وهذه الزجاجة الصغيرة، التي كتب أنه أحضرها خصيصاً من بيرو لكي يهديها لحبه الجديد، وما لم يكن يعرفه أنني كنت قد فتحت حقيبته قبل ذلك، ووجدت كيساً مملوءاً بالكامل بتلك الزجاجات، على أية حال لم أره بعد ذلك».
ـ أخيراً وفي إطار تنشيط الذاكرة بمهازل الديكتاتورية، قامت مدونة صينية بالتزامن مع انعقاد المؤتمر التسعين للحزب الشيوعي الصيني، بإعادة نشر توصيف للتعليمات التي كان يتلقاها الجمهور الذي يحضر خطب الديكتاتور الروماني نيكولاي تشاوشيسكو، والتي كانت تقسم أنواع التصفيق التي يتم تدريب الجمهور عليها سلفاً إلى الأنواع الآتية: «تصفيق عادي ـ تصفيق طويل ـ تصفيق حاد ـ تصفيق مبتهج ـ تصفيق دافئ ـ تصفيق دافئ ممتد ـ تصفيق دافئ مبتهج ـ تصفيق دافئ مع وقوف الجمهور في حالة ابتهاج ـ تصفيق دافئ مع وقوف الجمهور الذي يصحبه هتاف متحمس ـ تصفيق دافئ ممتد مع وقوف الجمهور الذي يصحبه هتاف متحمس ـ تصفيق دافئ ممتد مع وقوف الجمهور الذي يصحبه هتاف متحمس بابتهاج ـ كل فرد من الحضور يقف ويظهر عليه الحيوية والبهجة لوقت طويل ـ تصفيق حاد وقوي ومتحمس لوقت طويل مع الوقوف والهتاف لعدة دقائق في جو دافئ وغير موحد ـ تصفيق دافئ وهتافات يقف فيها كل فرد من الحضور ويبتهج لفترة طويلة من الوقت في مناخ مليء بالدفء».
إذا كنت من جيل الآيباد، فلعلك لن تصدق أنه كانت توجد بالفعل فروق واضحة وشاسعة بين كل تعليمة تصفيق والثانية، ربما يساعدك اليوتيوب على رؤية كيف كانت تعليمات كهذه تنفذ بشكل دقيق في المؤتمرات الحاشدة التي يخطب فيها زعماء مولعون بالخطابة من عينة هتلر وتشاوشيسكو وصدام حسين، حيث كان الالتزام الصارم بتلك التعليمات يضفي على الأجواء كآبة مقبضة، لم تكن لتراها في الطبعة المصرية من الخطابات الرئاسية الحاشدة منذ ما بعد يوليو 52، حيث كان يُسمح دائماً بقدر من الإرتجال في النفاق للرئيس أثناء خطابه، وكان يُترك التجاوب مع تلك اللمسات النفاقية المرتجلة لمزاج الرئيس لحظة إلقاء الخطاب. فإذا كان رائقاً قام بتشجيع المرتجل بالكلام أو الضحك، وإذا كان متعكر المزاج أشار إليه بغضب أن يسكت ليكمل خطابه، وإذا كان غير مكترث بما يقوله المرتجل، قام بالإشارة القولية أو الحركية التي تفيد بأنه يعرف أن المرتجل منافق تافه، فيضحك الجميع من إشارة الرئيس، بمن فيهم المنافق المرتجل نفسه، ويسود المكان بأسره جو تلقائي حميم من الانحطاط، يصيب من يشاهده ومن يشارك فيه بالخدر اللذيذ.
كان ذلك قبل أن يصل إلى سدّة الحكم ويسدّها، قاتل محترف مثل عبد الفتاح السيسي، اعتاد أن يتحدث وهو يعطي أنصاره وشركاءه ومنافقيه قفاه، تعبيراً عن عدم اكتراثه باستطلاع رأيهم فيما يقوله، لأنه إذا أراد أن يتأكد من أكثر ما يهمه، فسيلتفت مباشرة إلى يساره حيث يستقر وزير الدفاع الذي سيضحي بحياته وحياة الجيش من أجله، وإذا أراد أن يرى استحساناً لما يقوله، ربما التفت نصف التفاتة إلى اليمين أو الشمال، لكن ذلك الاحتقار لن يؤثر في همة محاسيبه و«ألاضيشه»، ولن يقلل من تصفيقهم الدافئ الممتد أو الدافئ المبتهج، الذي يكفيهم أن تسجله الكاميرات، ليفتخروا أنهم أسهموا بكل ما أسعفتهم أيديهم، في تشجيع ومساندة القائد الهمام، في إنقاذه لمصر من الابتلاء بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.