ذئبٌ جائع
يتعفَّفُ عن الجثث
1
الظلامُ يقِفُ هناك
وأنتَ تتعثَّرُ بحَجرٍ ناشِزٍ
في رصيف خّبّازٍ يَنْعِي تَنوراً مُوحِشاً
كيف يمكن احتمال خبازٍ يرثي تَنُورَه
في شِتاءٍ حَزينٍ لفَرْطِ الطَحِينِ الغائب؟
بينَ أن تَختَبِرَ الجوعَ بأمعائِكَ
وخمسينَ كتاباً عن القَمح
مسافةً من التجربة التي تُذِيبُ الجَلامِيد
مَوغِلٌ في جحيم الطريق
فيما الدروبُ مكتظَةٌ بالأجساد المعروقة
و الأرواح الشريدة
فلا تَدعْ شعورَ الوحشَةِ ينَالُكَ
2
هذا ظلامٌ واضحٌ
يجعل الشمسَ الصغيرةَ نهاراً فاضحاً
ظلامُكَ هذا وظلامُ غيرك
وليسَ للخبّاز أن يَثِقَ بأوهامك
فكل رغيف يتوهج في الذاكرة قمرٌ يفتحُ الطرقَ
ويفضحُ الحلمَ كلما نَزَعَ إلى الوهم
3
لماذا تمنحُ الظلامَ أسماءَ أخرى
وتؤجل قهوتك انتظاراً لكسرة الخبز
ثمة أرغفة ساخنة في التنور
و ما عليك إلا أن تشحذَ حديدتَك الباردة بجُمْرةِ القلب
وتصدّق أسطورةَ الجوع الماثل
لستَ جائعاً ولا العطشُ يَفْرِي عِظامِك
إنه الظلامُ يا سيدي
4
تَرتَجِلُ أحلامَكَ
فيظنُ الليلُ بكَ الظنون
تنتخبُ للظلامِ العناوينَ مُضلِلاً القاطنَ و المسافر
ويَطِيشُ بك العقلُ كأنَّه الجنون
مَنْ قالَ لكَ أنكَ الوحيدُ وحده
مَنْ قالَ لَكَ أنكَ ذئبُ السهول في سديم المسافة
أنتَ ماءٌ شاحَبٌ ونَحِيبٌ مكتَوبْ
فارتجلْ ما يحلو لك من الأحلام
وليفتك الظنُّ بهم
فلن ينالُكَ غير ما يطيبُ لكْ
5
أنظرْ إليه
ظلامٌ مألوفٌ يَقِفُ هناك
مثل عَدُوٍّ واضحٍ
تَتعَثَّرُ أقدامُك بالحجر عند المنعطف
وتُقامُ السرادقُ لأجل مديحِكْ
مديحٌ يضاهي المراثي
فلا تأخذك الرهبةُ مما يُبهِجُ روحَك
مثلما يبغتُ الذئبُ سهلاً زاخراً بالكائنات المذعورة
فيرأفُ بها
ويستديرُ نحو منعطفٍ آخر
كأنَّ كل هذا الظلام لا يكفي لنحيب ذئبٍ مثلك
6
ما أجمَلكَ أيها الذئبٌ
جائعٌ
وتتعفّفُ عن الجثثْ .
***
كلما انتحرنا
كلما انتحرنا
بوهم الباب لكي نُصَدِّقَ أنه موصدٌ مثل جدار نعود فنتذكر بأن ثمةَ أشياءٌ جميلةٌ تُغري بمغامرةٍ أخرى كان علينا أن ننجزها قبل ذلك فينتابُنا بعضُ الندم ونحاولُ أن نتراجَعَ متداركينَ أمراً يكادُ يكونُ تدارُكُه مستحيلاً وحالَمَا نَعودُ عن انتحارِنا ويَحْدُثُ هذا مراتٍ كثيرةٍ في الحياة لكي نُنْجِزَ ذلك نكتشفُ أن أحداً غيرنا قد بادرَ في تَوَلّي ذلكَ عنا عندها لا يعودُ لوجُودنا مثل انتحارٍنا معنى
كلما انتحرنا
لكي نؤكدَ للآخرين أنهم بالغوا في العَبَثِ بنا اكتشفَ الآخرونَ أن ثمةَ حَمْقى يتوجَبُ تلقِينُهم دَرسَاً في اللياقة لئلا يبالغوا في الاستهانة بالقناديل وهي تَرْسُمُ الخَرائِطَ ويُخالِجُنا شَعورٌ بَضَغِينَةٍ غامضةٍ تجاه هؤلاء مَنْ لا يَرونَ في انتحارِنا غيرَ العَبَثَ بالحياة ونَوَدُ ساعتَها أن نعُودَ لكي نَشْرَحَ لهم بِسَرْدٍ أكثرَ ضَراوةً من النص لئلا يكونَ سوءُ الفَهم هو آخرُ ذكرياتهم عنا وعندما نتمكن من العودة ويحدث هذا بمعدل تسعَ مرات في حياةٍ واحدةٍ ونجلس إلى هؤلاء في محاولة لتفسير ذهابنا بهذا الشكل أو ذاك لا نرى أمامنا غير أحداق زجاجية تحملق في فراغٍ هائلٍ وفيما نتوغلُ في الشَرحِ يكون هؤلاء شبَه غائبين كما لو أننا نتحدثُ إلى كائناتٍ غير موجودةٍ ونكاد نشعر أنها غير حيةٍ أيضاً وقتها ينتابُنا الشَكُّ ما إذا كنا قد عُدْنا من هناك أمْ لا
كلما انتحرنا
وأغلقنا النافذةَ الأخيرة خلفنا سَمِعنا باباً لا يزالُ موصداً هناك يُصدِرُ صَريراً مثلَ مُغادرة الغائبِ ونُدركُ أن ثَمةَ أشخاصاً ساهموا في مغادرتنا باكراً بشكلٍ مباغتٍ وحالما نُديرُ أعناقَنا نشاهِدُ الأشخاصَ ذاتَهم يَضَعُونَ خدودَهم المجَرّّحَة بالدموع على عتبة الباب في محاولة لاستعادتِنا ثانيةً لأجل الاعتذار فنتبادل النظرات عن كثبٍ مثل سُجناء يَرقَبُونَ سِرداباً حَفَرُوهُ متجنبين لحظةً مناسبةً للهَرَبِ فنَقِفُ كَسِيرِي القُلوبَ ويكون قرارُ العودةِ قد تَمَّ انجازَه في أذهانِنا فثمة أملٌ في التفاهم مع أولئكَ الذينَ يزعمون تركَ الباب موارباً فيما يُحكِمُونَ إغلاقَه بصلافة السجان وما إن نَضعَ أنفسَنا تحتَ أمرتِهم مجدداً في محاولةٍ لتفادي الانتحار ويحدُثُ هذا كثيراً في الحياة التي لا يمكن تفاديها غالباً يكون الأشخاصُ قد جَفَّفُوا دمُوعَهم سريعاً واستعادوا هيئَةَ القُضاة وطبيعةَ الضِِباعِ النشيطة ليبدو الخطأ ليس في الانتحار لكن في العودة عنه
كلما انتحرنا
في محاولة لإقناعِ امرأةٍ بأنَّ الحبَ هو أيضاً سَببٌ للموت نكتشفُ أن تلك المرأة يمكن أن تَجِدَ مَجْداً في اقترانِها بشَخْصٍ غائبٍ أكثرَ من اقترانِها به موجُوداً مما يجعلُ شُعورنا بفداحة الخسارة مُضاعَفاً خُصوصاً إذا كنا نرى إليها من هناك وهي تَستَدِيرُ بكعبِ الفُولاذِ يَكُزُّ على عَظْمَةِ القَلبِ نحو أولِ شخصٍ لتبدأ في التَغْرِيرِ به وإقناعَه بالانتحار لأجل إقناعها بأن الحبَ هو أيضاً سَببٌ جديرٌ للموت فَنَكُفّ عن المبالغة في الانتحار ونستديرُ عائدينَ ويَحْدُثُ ذلك على الأرجح في حياةٍ لا تُحْتَمَلُ لكي نُحَذّرَ شخصاً من مصيرٍ وشِيكٍ غيرَ أننا نكونُ قد تأخرنا عن ذلك حيث يصادفنا شَخصٌ في منتصف المَصيرِ على شَفِيرِ النهايات
كلما انتحرنا
لكي نختبرَ قِدرةَ الكتابة على تأجيلِنا نجدُ أن كتبَاً كثيرةً موجودةً لنا موجودةً فِينا ويتَحَتَمُ علينا لكي نتأكدَ من قِدرتِنا على الغياب أن نعيدَ كتابتَها مراتٍ أخرى من أجل تفادي أخطاء اللغة والمطبعة والقراءة
أخطاءٌ عادةً ما تكون السبب المباشر لسوء التفاهم الذي يَحدُثُ بيننا وبين الآخرين ولا نجدُ وسيلةً لتوضيح ذلك إلا بالعودة عن الانتحار لبعضِ الوقتِ لتلقين الناسَ طريقةً جديدةً في قراءةِ الكتب فنؤجِّلُ توغلَنا في الانتحار ويحدثُ هذا على الأرجح مرةً كلَ يومٍ في حياةٍ ضيقةٍ لكي نرقبِ الكتبِ وهي تستعيدُ حياتَها في سديمٍ من النسيانِ فالكتُبُ ليستْ الوسيلةُ الناجِعَةُ لتأجيلِ الموتَ ولا هي قادرةٌ على استحضارِ الموتى ولا فائدة من الحبر والورق في سياقٍ يَنْقُضُ النَصَّ والشّخصَ في آنْ.
كلما انتحرنا
لكي نتفرَّغَ وحيدين، للتمتع بحياتِنا بمعزَلٍ عن الذين ظلوا يُفسِدُونها علينا طوالَ الوقت نَجِدُ أنفسَنا محاطِينَ بطقُوسٍ تَسْتَوجِبُ الإصغاء لأكثر الأحاديث فَجاجَةً من كائناتٍ لا تُحْسِنُ غيرَ التأنيب المُفْرط في بلادتِه بِحُجة أنَّ في الحياة ما يُوَفِرُ لنا المتعةَ وأن المتعةَ لا تكتمل بغير الناس لنجدَ أن الانتحارَ لم يكنْ قراراً حكيماً فنحن لم نَنَلْ غيرَ خَيارٍ واحدٍ هو مواجَهةُ من تَوهَمْنا الفَرار منهم فَنَفُرّ ثانيةً ويحدث هذا لنا بوصفِنا أكثر المنتحرين سذاجةً وأضعَفَهُمْ فَراراً إلى الحياة بهدف تفادي توفير الفرصة لمن يريد أن يستفردَ بنا هناك
كلما انتحرنا
وجدنا أن بشراً أكثر بسالة منا قد سبقونا إلى هناك وهذا ما يجعل انتحارنا ضرباً من العبث الفاتن أو هو نوعٌ من الإستعادات المألوفة فهناك بَشَرٌ أكثر سَفَاهَةً ذَهبُوا قبلنا لكي ينتظروا حضورنا مما يجعلُ الانتحار نزوة ليست مأمونة العواقب خصوصاً إذا كانت صادرةً عن هروبٍ من ثقل الواجب المشحون بتفاصيلَ تُفسِدُ الحياةَ والأحياءَ فإذا بها نزهةٌ تُفسِدُ الموتَ على المنتحرين فنتكاتَفُ مثلَ كتيبةِ من الفِيَلة مسرعين إلى العودة عن الانتحار ساعتها يكون الوقت قد فاتَ فالطريقُ مكتظةٌ ببشرٍ في هيئة الفِيَلة تَتَخَبطُ في بحيرة عميقةٍ من الطين فلا تُتاحُ لنا فرصةَ العودة وهذا يَحدُثُ عند التظاهر بالعودة من الحياة والانتحار معاً
كلما انتحرنا
لكي ننسى نذكر أن ثمة تجربة جديرة بالاختبار هي النسيان والجلوس في الشرفة والنظر إلى الحياة وهي تمر عابرة أمامنا مثل شريط من الفيلم الخام لنرى ما يحدث للشخص حين ينتحر.
***
شكّ الشمس
عندما تكونُ على مشارف الخمسين
وتجدُ نفسَكَ واقفاً بيدينِ فارغتينِ أمام مستقبلٍ غامضٍ بالكاد يبدأ مكتظاً بالمحتملات الكئيبة فتبدو كمنْ قَطَعَ الطريقَ كلَّه من ذلك الأمل ليصل إلى هاويةْ
فترفع عينيكَ لخشبةِ البابِ الشاهِقِِِ
تقول له : افتحْ
ويَفتحُ
فلا تجدُ غيرَ السَديم
فإذا أنتَ في حضرةِ الخَلقِ من أوله
عندما تكونُ على مشارف الخمسين
بعد خمسة عشر كتاباً وأسرتينِ وأحفادٍ وشِيكينَ وجسدٍ معطوبٍ و زنازينَ كثيرةٍ ونصوصٍ ملطخةٍ بحبر القلبِ ومخطوطاتٍ خمس في خِزانَةِ الروح وأصدقاءَ يهدِدُونَكَ بالفَقْدِ وليالٍ محتدمةٍ بالكوابيس ومشاريعَ قيدَ الخُرافَةِ وأنتَ لا تكاد تطمئنُ لما بعد الغَدْ
كيف يتسنى لكَ أن تكونَ محسوباً على البشر دون أن تَصابَ باليأس
عندما تكون على مشارف الخمسين
وترى بين يديكَ رُكاماً من الأحلام المغدورة وشظايا المجابهات تُضَرِجُ جَسَدَكَ الواهن والوطنُ يقفُ على رصيف الذاكرة نُصفُه في وَهْمِ الجغرافيا ونصفُه في حُلمِ التاريخ لا يَستَدِيرُ إليكَ إلا لكي يَفْتُكَ بما تَبَقْى في ذُبالةِ رُوحِكِ من زَيتِ الناس فتكادُ تَجْهَشُ لفَرْطِ الخَسارَةِ ولا يَكادُ يسمَعُكَ غيرُ غُبارٍ يغْبُّشُ مرآتك
ماذا تُسَمّي كتابك القادم إنْ كانَ ثمةَ وقتٌ له
عندما تكون على مشارف الخمسين
وتديرُ رأسَكَ في وطنٍ يَخْتَلِطُ عليكَ بملامح الثَكنَةِ لا يَسْمَعُ قصيدَتَكَ ولا يُصغِي لنَحيبِكَ ولا تَنْتابُه التِفاتَةُ الغَريبِ للغَريبْ وطنٌ وَضَعتُه زِينةً على جَسدِكَ المَرْضُوضُ فوَضَعَ لكَ النِصالَ تُسْنِدُ خاصِرتَكَ لتبدو مثلَ خَيالِ المآتَةِ في حقلٍ خَرّبَتهُ الرياحُ السُودُ تُدِيرُ رأسَكَ فلا تَرى غيرَ المُسُوخِ تَسُدُ عليكَ السُبلَ زاعمةً أنها الناسُ تُديرُ رأسَكَ في حَسْرةِ من يَهُمُ بالضَحِكِ فيَجْهَشُ كَيفَ يَمكِنُ إمساكَ الخيطَ الأخير في أشرعة السفِينةِ وهي مَترُوكةٌ في عواصفِ البحرِ كأنَّ لا أحد من الآباء رَكِبَ بَحْراً ولا أحد من أحفادِكَ سَيُحسنُ العَومْ
عندما تكون على مشارف الخمسين
وتلتفتُ خَلفَكَ فلا تَرى غيرَ الأنقاض كأنَّ العُمرَ الذي أسْرَفتَه في الأمس لم يكنْ يَمضي إلا في خرابٍ مستعجلٍ وكأن الطريقَ التي مَنحتَها القناديلَ من لَحمِكَ وعَظمِكَ وبياضِ عينيكَ لم تكنْ غير سردابٍ مشحونٍ بالأشباحِ ظنَنْتَ أنها الناسُ مَعَكْ
فإذا بهم اليأس عليك
عندما تكون على مشارف الخمسين
وتحاولُ أن تُحصِي أفراحَكَ فلا يُسعِفُكَ الوقتُ ولا يَسَعُكَ المكانُ تُسْنِدُ ظَهرَكَ في جحيمٍ وتُحدّقُ في جمرةٍ وينتابُكَ الدُوارُ لفرطِ المَسافةِ التي اخْتِلَجَ بها جَسَدُكَ وتَشْظّتْ بها رُوحُكَ وتَاهَ القَلبُ مِنكْ
عندما تكون على مشارف الخمسين
وتُصابُ بالشَكّ في شَمسَ أيامَك .
تُرى هل سيُتاحُ لكَ من العُمرِ ما يَكفي
لكي تعِيدَ قِراءَةَ مُسوَدةَ كتابِكَ الأخير قَبلَ القبر ؟
عندما تكونُ على مشارف الخمسين
ستتمنى أنكَ لم تَزلْ تقعُ في خطأ الحساب
عندما تكون على مشارف الخمسين.
***
عن قيس
سَأقُولُ عَنْ قيس
عَنِ الهَوَى يَسْكُنُ النّارَ.
عَنْ شَاعِرٍ صَاغَنِي في هَوَاهُ.
عَنِ اللَّوْنِ والإِسّْمِ والرَائِحَةْ.
عَنِ الخَتْمِ والفَاِتحَةْ.
كُنْتُ مِثْلَ السَدِيمِ ، اْسَتَوَى فِي يَدَيْهِ.
هَدَانِي إِليْهِ.
بَرِئْتُ مِنَ النَاسِ لَمَّا بَكانِي إِليْهِمْ
زَهَا بِيْ وغَنُّوا الأَغَانِي بأشْعَارِهِ.
فَمَا كانَ لِي أَنْ أُقَدّرَ هَلْ أَشْعَلَنِي أَمْ طَفَانِي.
سَأقُولُ عَنْ قَيس
عَنْ جَنَّةٍ بَينَ عَيْنَيَّ ضَاعَتْ
عَنْ هَوَاءٍ أَسْعَفَ الطَيْرَ واسْتَخَفَّ بِنَا واصْطَفَانَا
عَنْ كُلّمَا هَمَّ بِيْ تُهْتُ فِيهِ
وبَاهَيْتُ كَيْ نَحْتَفِي بالمَزِيجْ
عَنِ العِشقِ تَلتَاعُ فِيهِ الحِجازُ
ويَشّْغَفُ فِي ضِفَّتَيهِ الخَلِيجْ.
سَأقُولُ عَنْ قَيس
عَنْ حُزْنِهِ القُرّْمُزِيِّ
عَنِ اللَّيلِ يَتْبَعْ خُطَاهُ الوئيدة
عَنِ الماءِ لَمَّا يَقُولُ القصيدة
بَكى لِي البُكاءَ،
وهَيأَ لِي هَوْدَجَاً
وانْتَحْى يَسْأَلُ الوَحْشَ عَنِي
كَأَنِّي بِهِ لا يَرَى فِي القَوافِلِ غَيْرَ الخُيول الشريدة.
سَأَقُولُ عَنْ قَيس
عَنِ العَامِرِيَّ الذِي أَنْكَرَتْهُ القبيلةُ.
عَنْ دَمِهِ المُسْتَبَاحْ.
عَنِ السَيْفِ لَمَّا انْتَضْاهُ مِنَ القَلْبِ
واجْتازَ بِي أَرْضَ نَجْدٍ لِيَهْزِمَ كُلَّ السِلاحْ.
عَنِ اللذَّةِ النادرة
عَنِ الوَجْدِ والشَوْقِ والشَهْقَةِ الساهرة
عَنِ الخَيْلِ تَصْهَلُ بِي فِي الليالِي
والصَّهْدِ يَغْسِلُنِي فِي الصَبَاحْ.
و يا قَيسُ يا قَيسُ
جَنَّنْتَنِي أَو جُنِنْتَ ،
كِلانَا دَمٌ سَاهِرٌ فِي بَقايَا القَصِيْدَةْ.
***
عن ليلى
سَأقُولُ عَنْ ليلى
عَن العَسَل الذِي يَرْتَاحُ فِي غَنَجٍ على الزَنْدِ.
عَنِ الرُمَّانَةِ الكَسْلَى.
عَنِ الفَتْوَى التِي سَرَّتْ لِيَ التَشْبِيهَ بالقَنْدِ.
عَنِ البَدَوِيَةِ العَيْنَينِ والنَارَينِ والخَدِ.
لَها عِنْدِي
مُغَامَرَةٌ تُؤَجِجُ شَهْوَةَ الشُعَراءِ لَوْ غَنُّوا
صَبَا َنجْدٍ مَتَى قَدْ هِضْتَ مِنْ َنجْدِ
عَنِ النَوْمِ الشَفِيفِ يَشِي بِنَا.
عَنْ وَجْدِنَا، عَنْها.
لِئَلا تَعْرِفَ الصَحْراءُ غَيْرَ العُودِ والرَنْدِ.
سَأقُولُ عَنْ ليلى
عَنِ القَتْلى.
وعَنْ دَمِنا الذِي هَدَرُوا.
عَنِ الوَحْشِ الصَدِيْقِ.
وفِتْنَةِ العُشاقِ
واللَّيلِ الذِي يَسْعى لَهُ السَهَرُ.
عَنِ الطِفلَينِ يَلْتَقِيانِ فِي خَفَرٍ
ولَمّْا يُزْهِر التُفاحُ يَخْتَلِجانِ بِالمِيزانِ
حَتْى يَخْجَلُ الخَفَرُ.
لِليْلى شَهْقَةٌ أَحْلى
إِذا ما لَذّةٌ تَاهَتْ بِنا
وَتَناهَبَتْ أَعْضَاءَنا النِيرانُ.
مُتْنا أَو حَيِينا.
أو يَقولُ الناسُ أخْطَأنا.
سَتَبْكِي حَسْرَةٌ فِينا إذا غَفَرُوا.
سَأقُولُ عَنْ لَيلى
عَنِ المُسَافِرِ عِنْدَمَا يَبْكِي طَوِيْلا
عَنِ السِحْرِ اللَّذِيْذِ إِذا تجَلّى فِي كَلامِ عُيُونِها
عَنْ نِعْمَةٍ تُفْضِي لأنْ أقْضِي رَحِيلا
عَنْ مَراياها مُوَزّعَةً تُخَالِجُ شَهْوَةَ الفِتْيانِ
عَنْ مِيزَانِها مَشْبُوقَةً.
عَنْ عَدْلِهَا فِي الظُلْمِ.
عَنْ سَفَرِي مَعَ الهَذَيَانِ.
عَنْ جِنِيةٍ فِي الأِنْسِ تَنْـتَخِبُ القَتِيلا
لَيْلايَ لَوْ يَدُهَا عَليَّ
ولَوْ يَدِي مَنْذُورَةٌ تَهَبُ الرَسُوْلا
سَأقُولُ عَنْها مَا يُقالُ عَنِ الجُنُونِ إذا جُنِنْتُ
ولِي عُذْرٌ إذا بالَغْتُ فِي مَوْتِي قَلِيلا.
***
الأشياء
غَابَتْ عَنْهُ وهُو فِي انْتِظَارٍ، يَجْلِسُ فِي غُرْفَةِ الطَرِيقِ. أَشْياؤُهُ مَنْثُوْرَةٌ لِلنِّسْيَانِ والتَذَكُّر، والنَاسُ يَعْبُرُونَ مِثْلَ الأثَيِر. ومِنْ نَوافِذِ أَجْسَامِهمْ، يَرى إِليها تَرْكُضُ إِليهِ ولا تَصِلْ، يَركُضُ إِليها ولا يَصِلْ، والنَاسُ يَعْبُرُونَ عَلى أشْيائِه المَنْثُوْرَة (رِيْشَةُ قَطَا مُسْتَدِقَّةُ الرَأْسِ /خَيْطُ حَرِيْرٍ أَخْضَرُ عَقَدَتْهُ أُمُهُ فِي زَنْدِ طُفُولَتِهِ / خَاتَمُ عُرْسٍ مَنْحُوْلٍ مِنْ فَرْطِ الخَلْعِ / حِجَابٌ فِي جِلْدَةِ ضَبْعِ / عُوْدُ سِواكٍ يابِسٍ/ كِسْرَةُ ياقُوتٍ مَعْرُوقٍ بالفَحْمِ / خُرْجٌ ثَقَبَتْهُ الرِيحُ / أشْلاءُ لِجَامٍ تَنْضَحُ مِنْهُ رِيحُ الخَيلِ / وَحْشَةٌ) يَلْتَقِطُونَ مَا يُصَادِفُ أَقَدامَهُمْ. نِسْوةٌ يَجْلِسْنَ إِليِه يَسْتَنْشِدْنَهُ شِعْراً، يَسْأَلُهنَ عَنْ لَيلى. فَيُخْبِرْنَهُ أنْها فِيْهِنَّ وتَتَخَفّى لِئَلا تَفْضَحَها القَبِيْلَةُ. فَيَقُولُ إِنَّها وهِي مَحْجُوبَةٌ تَتَراءى لَهُ أَوْضَحَ مِمَّا لَو كانَتْ مَكْشُوفَةً. فَيَستَنْشِدْنَهُ فَيَرفَعُ صَوتَه لَعَلَها تَرَاهُ. وكانَتْ هُناكَ وهِيَ تَسْمَعُ، يَقُولُ شِعراً يَفُتُّ الجَلامِيْدَ، والنِسْوَةُ يُطْلِقْنَ التَنَهُداتِ وهِي تَسْمَعُ، يَتَفَجَّعُ لَهُنّ بِالفَلذاتِ، وهُنّ يَسْتَزِدْنَ وهِي تَسْمَع . الناسُ يَمُرُونَ بِنَوافِذِ أجْسَامِهم الواسِعَة، يَأخُذُونَ أَشْيَاءَهُ المنْثُوْرَة (فَصُ فَيرُوزٍ شَائِخ/ حُقٌّ بِثُمَالَةِ العَنْبَرِ / كُوفِيَّةُ طِفْلٍ هَلْهَلَها الرَمْلُ / خُصْلةُ شَعْرٍ غَامِضَةٍ / مَا يَرْجِعُ فِي السَّرْجِ مِنَ الحَرْبِ / قَلَقٌ) ويَعْبُرُونَ، والنِسْوَةُ يَتَطايَرْنَ فِتْنَةً وإعْجَابَاً. يَقُولُ شِعْراً فَيَتَضَاحَكنَ، ويَبْكي، وهِي تَسْمَع. فَأدْرَكَتْ النِسْوَةُ أَنَّ الأَمْرَ َتَجَاوَزَ طَاقَةَ الشَّخْصِ، وكَادَ يَتْلَفُ مِنْ صَمْتِ المحْبُوبْ. النَاسُ يَعْبُرُونَ وأشْيَاؤُه المنْثُورةُ ( غِمْدٌ فَارِغٌ / آثَارُ دَمٍ فِي خِرقَةٍ / رِتَاجٌ مَكْسُورٌ/ جُزْء (عَـمَّ يَتَسَائَلُونَ فِي صُفْرَةِ الوَرَقْ/ تَعْوِيْذَةُ إِلْفٍ /سِقَاءٌ مُتَقَلِّصٌ / مِخْلَبُ نِسْرٍ / عِرْقُ لُبَانٍ / قِطْعَةُ لَحْمٍ مَقْدُود) تَكَادُ أَنْ تَنْفدَ، وهِي تَسْمَعُ. فَقُلْنَ لَه (يا قيس، لَقَدْ ظَلَمَكَ الحَبِيبُ بِلا رَأفَة، وَحَقُكَ أَنْ تُسَيِّبَه لَعَلَهُ لايَسْتَحِقُ). فَصَرُخُ بِهِنّ :
(لا والله، كُلُّ خَشْيَتِي أَنَّنِي لَمْ أَكُنْ جَدِيراً، فَحَقُهَا عَليَّ أَنْ أُبَاهِي بِأَنِيَ الخَيْطُ المُنْسَّلُ فِي ذَيلِ وِشَاحِها، وأَقْبَلُ إِذا هِي قَبِلَتْ.
فَإذا ِبنَشِيجٍ يَصْدُرُ مِنْ جِهَةٍ تَشِفُّ عَنْ رُوْحٍ أَدْرَكَها بُكاءٌ لَمْ تَقْدِرْ عَلى صَدِّهْ، فَالْتَفَتَتْ النِسْوَةُ يَنْظُرَنَ مَصْدَرَ النَشِيجِ، فَأَشْرَقَتْ شَمْسٌ صَغِيرَةٌ مِنْ مَطْرَحِها وغَابَتْ كَأنَّها تَدْخُلُ إلى خِباءٍ، وتَرَاءى لَهُنَّ أَنَّ لَيلى طَافَتْ وأَخَذَتْ مَا تَبَقَّى مِنْ أشْيَائِهِ المنْثُورَة (ثَالِثَةُ أَثَافٍ مَحْرُوقَة /غُصْنُ أَرَاك / صُوفَةٌ مِنْ وَبَرِ الإبلِ / نوَاةُ تَمْرٍ مَثْقُوبَة بِشَعرَةِ الخَيْلِ/ خُفٌ حائِلُ اللْونِ/ نَوْمٌ قَلِيلٌ/ قَوْسُ قُزَحٍ شَاحِب) وقَيسٌ مَشْدُودٌ، يَكادُ يَخِفُّ إِليْهَا مِنْ مَكانِهِ، اِنْجِذابَاً وهِي تَذْهَبُ عَنْهُ ذَهَابَ القَمِيصِ مَسْلُوْلاً مِنَ الجَسَدِ. فَأَدْرَكتْ قَيْسَاً رَعْشَةُ رِيحٍ بَارِدَةٍ مَسَّتْ صَدْرَهُ المَكْشُوف بَعْدَ اِنْسِلالِ القَمِيصْ. جَالِسٌ فِي غُرفَةِ الطَرِيقِ، يَسْقِي النِسْوَةَ شِعراً، ويَبكِي عَطَشَاً، وهُنَّ يَتَضَاحَكنَ مِمَّا يُثِيرُهُ الحُبُ فِي كَيَانِهِنَّ الذِي مِنْ مَاءٍ لا تُطْفِئهُ النِيران، يَتَضاحَكْنَ وهُو يَبْكِي. وشَمْسُهُ الصَغِيرَةُ تَذْهَب.
***
حديقة الحصن
لَمْ يَكُنْ جَسَدَاً، حَدِيْقَةَ الحِصْنِ كان.
وكانَتْ الجِراحُ تَتَفَتَّحُ مِثْلَ وَردٍ كُلمَا وَضَعَتْ يَدَها عَلَيهِ.
لِلحَضْنِ هذا الجَسَدُ ولَيْسَ لِلقَصْفِ. لأِصَابِعَ تُحْسِنُ الحُلمَ وتَفْسِيرَهُ. الأهْدابُ لِرَاحَةِ المَسَاءِ والوِسَادةُ لآثَارِ الوَيلْ. لَكَ الكَتِفُ لِتَبكي عَلَيهِ وخَيْطُ الدَمْعِ لِتَسْكَرَ، هَاتِ الأعْضَاءَ والعَنَاصِرَ امْزُجْهُمَا بِمَا يَفِيضُ مِنْ أنْفَاسِي أُرْقِيْكَ بِالكُحْل والسُوَيْداءِ وفَصِّ الهَوْدَجِ لا يَأخُذُونَكَ مِنِي ولا يَأخُذُونَنِي مِنْكْ. نَضَتْ قَمِيصَهُ وراحَتْ تُدَاوِيهِ بِبَلْسَمَينِ، الحُبِ والشِعرِ. وأخَذَتْ تَمُرُّ بِأنَامِلِهَا عَلى جَسَدِه كَمِنْ يَقْرَأ :
( كُلُ هَذِه الجِرَاحُ فِي جَسَدٍ صَغِيرٍ إلى هذا الحَدْ؟)
فَيَقُولُ : ) أَنْتَظِرُ أَكْثَرَ مِنْ هَذا وأقْدِرُ عَلَيهِ لَوْ أنَّكِ تَصْبِرِيْنَ عَليَّ وتُصْغِينَ لِي، لَوْ أنَّكِ لِي(.
فسَمِعَ مِنْها مَا أَوْشَكَ اليَأسُ أَنْ يَمْحُوهُ مِنْ كِتابِه.
***
سترتني فافضحني
قِيلَ لِقَيْس بنِ الملَوَّح (مَا أَعْجَبَ شيء أَصَابَكَ مَعَ لَيلى) قَالَ (طَرَقَنَا ذَاتَ لَيلَةٍ ضُيُوفٌ ولَمْ يَكُنْ عِنْدَنا شيء نُوْلِمُ بِهِ لَهُمْ، فَبَعَثَنِي أَبِي إلى مَنْزِلِ عَمْي المَهدِي أَطْلُبُ مِنْهُ مَا يُوْلَمُ بِهِ، فَأتَيْتُهُ فَوَقَفْتُ عَلى خَيْمَتِهِ، فَقَالَ: (مَا تَشَاءُ؟), فَسَأَلْتُهُ حَاجَتِي. فَقَال (يَا لَيلى أَخْرِجِي لَهُ ذلِكَ المَاعُوْنَ وامْلأي لَهُ إِنَاءَهُ مِنَ السَمْنِ). فَأخْرَجَتْهُ لِي وَجَعَلَتْ تَصُبُّ لِي السَمْنَ ونَحْنُ نَتَحَدَّثُ بِهَمْسٍ مُتَقارِبَينِ وأَيْدِيَنا أَرْبَعٌ فِي أَرْبَعٍ، فَأَخَذَتْنا الغَفْلَةُ حَتْى فَاضَ السَمْنُ وانْصَبَّ فَرَكَعْتُ أرشَفُهُ مِنْ أَصَابِعِها وأصْعَدُ مَعَهُ إلى بَاطِنِ ذِرَاعِها وهِيَ تَدفَعُنِي أَنْ أَكُفّ فَأصْعَدُ بِهِ إلى كَتِفها الذِي تَهَدّلَ عَنْهُ جَيْبُها والسَمْنُ يَقُودُنِي إلى نَحْرِهَا وهِي تَنْتَفِضُ وتَدْفَعُنِي أَنْ أَكُفَّ فَأدُسُّ بِشَفَتَيَّ إِلى مُلْتَقى النَهْدَينِ وقَمِيْصُها يَنْحَسِرُ ويَتَحَدّرُ بِفِعْلِ السَمْنِ وأَنَا أتْبَعُ مَسْراهُ فَتَطْفُرُ فِي وَجْهِيَ الفُهُوْدُ والنُمُورُ وهِي تَقُولُ خُذِ القَمِيْصَ عَنِي فَآخُذُهُ وتَقَولُ خُذْنِي فَآخُذُهَا وتَقُولُ لِي سَتَرْتَنِي فَافْضَحْنِي فَأفْضَحُها فَلا نَعْرِفُ كَيْفَ يَفِيْضُ السَمْنُ بِنا وكَيْفَ يَنْعَقِدُ، وهِي تَقُولُ والله إِنَّ جُنُونَكَ يَزِنُ عَقْلَ بَنِي عَامِرٍ وأَوَلُهُمْ هَذا الذِي يَجْثُمُ فِي خِبائِه، تَقْصِدُ أَبَاهَا.
***
الحب
هَاجَ بِه الشَوقُ ذاتَ لَيْلٍ، فَخَرَجَ مُيَمِّمَاً دَارَها، مِثْلَ ذِئْبٍ يَتْبَعُ عِطْرَ قَرِينَتِه، يَجِدُّ في السَّعي ويَلْهَجُ بِاسْمِها ويَتَهَدَّجُ بِآخِرِ ما قالَهُ فِيها مِنَ الشِعرِ، يَتْلُو صَلاةً كَمَنْ يَقْصِدُ الفَجْرَ قَبْلَ أَوانِه، وأَخَذَ يَطُوفُ حَوْلَ خِبائِها حتى اسْتَفْرَدَ بكُوَّةٍ تَفْتَحُها لَهُ كُلَّمَا جُنّتْ إِلَيْهِ، فَدَفَعَ خِرْقَةَ الكُوَّةِ وكانَتْ ذِرَاعَاها فِي لَهْفَة، وهَمَسَ لَها أَنْ تَقُولَ لَهُ الكَلامَ. ارْتَعَشَتْ أَعْضَاؤُها تَنْثُرُ كَبِداً فَرَاهَا العِشقُ وصَعَدَ مِنْها الزَفِيرُ الأَعْظَمُ. امْتَدَتْ لَهُ كالجِسرِ، وسَمِعَ فِي جَسَدِها غَرْغَرَةَ زُجَاجَةٍ تَمْنَحُ مَاءَهَا، فَكَانَ لهَا الإنَاءُ تَسْكُبُ ويَشْرَبُ، وكُلَّمَا قَالَ لَهَا زِيدِي تَزِيدُ وعَرَقُها يَتَفَصَّدُ والخِبَاءُ تَنْداحُ أَسْتَارُهُ وأسْنِحَتُهُ مِثْلَ رِيحٍ وهُو يَقُولُ زِيدي فَتَزِيدُ والعَرَقُ بَيْنَهُمَا يَنْضَحُ وأَوْتَادُ الخِبَاءِ تَتَأَرْجَحُ مِثْلَ إِعْصَارٍ يَتَشَبَّثُ بِالمِزَقِ لِئَلا تَنْهَاُرَ وهُو فِي حَالِ الإناءِ يَفِيْضُ ويَسْتَفِيْضُ والزَبَدُ يُجَلِّلُ أَعْطَافَهُمَا فَتُصِيبُهُمَا الإنْتِحَابَةُ. فَتَكُونُ قَالَتْ لَهُ الكَلامَ كُلَّهُ وقَدْ سَمِعَهُ. ويَكُونُ نَالَ مُتْعَةً يَغْتَرُّ بِها العَاشِقُ وتَاجَاً تَتِيْهُ بِهِ المُلُوكُ. ثُمَّ قَالَتْ لَهُ: (وأَنْتَ، مَا تَقُولُ فِي هذا اللَيل الذي يَطُول). فَقَالَ لَها (الحُبَ).
وكَانَ أَوَلَ عَاشِقٍ يَكْتَشِفُ هذِهِ الكَلِمَة، وقِيلَ اخْتَرَعَها، وذَهَبَتْ فِي لُغَةِ العَرَبِ دَالَّةً عَلى وَصْفِ مَا لايُوصَفُ مِنْ خَوالِجِ النَاسْ، ولَمْ يُدْرِكُوا كَلِمَةً بَعْدَها عَلَى هذا القَدْرِ مِنَ الجَمَالْ. أَمَّا لَيلى فَإِنَّها بَعْدَ أَنْ سَمِعَتْ الكَلِمَةَ أُغْمِيَ عَلَيهَا، ولَمْ تُفِقْ حَتْى يَوْمِنَا هَذا. ويُرْوَى أَن اسْمَها امْتَزَجَ بِلَيلِ المُحِبِين الذِي يَطُولُ فَتَتَأَجَّجُ فِيْهِ شَهْوَةُ العُشّاقِ ويَتَفَجّرُ جُنُونُهمْ، وقِيلَ إنَّهُ لَيلٌ لا نَهايَةَ لَهُ. فَذَهَبَتْ لَيلى مَثَلاً أَكْثَرَ مِمَّا ذَهَبَ قَيسْ.
***
تاج الضحايا
يَسِيْرُ ويُهْمِلُ أشْيَاءَهُ فِي الطرِيْقِ
شاجِنَ الحُنْجَرةْ.
حَدَّثُوهُ عَنِ العُرْسِ،
فَانْقَضَّ فِي جِلْدِهِ.
قَفَّتْ يَدَاهُ عَلى الماءِ حَتى العَطَشْ
أَرَاغنهُ حَجَرٌ صَادِحٌ
والهَوادِجُ تَمْضِي بِلَيلى إلى العُرْسِ
والعُرْسُ يَذْبَحُهُ.
والهَواءُ قَمِيصٌ لِنِيرانِهِ
لَهُ اللهُ حَبِيبَتُه في السَبايا
يَسِيرُ ويَحْملُ جثْمَانَه
شَاخِصٌ فِي غُبَارِ القَوافِلِ،
تَحْدُو وتَتْرُكهُ فِي البَقَايَا.
رَأيْنَاكَ يَا قَيسُ يا قيسُ
يا تَاجَنَا فِي الضَحَايَا.
***
البكاء كله
قِيلَ لَهُ: ( ماذا لَوْ أَنَّ لَيلى لَمْ تَكُنْ ؟)
قالَ: ( لَكُنْتُ بَكيتُ البُكاءَ كُلَّهُ لِكَيْ تَكُونْ).
***
النص والخبر
آتِيك ِ، آتِيكِ، لا أنْتِ فِي الشَّكِ ولا أَنَا فِي الغَفْلَةِ. أَمَضَّنِي السَّفَرُ وثَلْجُهْ، الصَمْتُ وجَحِيْمُهْ، أَمَضَّتْنِي القِفَارُ وسِيْرةُ الوَحْشِ. ومَا عَلَيكِ إِلا أَنْ تَظُنِّي بِيَ الظُنُونَ ولا أَخْذِلُها، وتُطْلِقِي خَلْفِيَ الكُتُبَ لِكَي أَخْذِلَكِ. آتِيكِ، فَلا مَفَرّ ولا خَلاص مِمِّا اخْتَرناهُ إلا اختِيارَهُ. آتِيكِ فَأبْذُلِي الوَقْتَ، وبالِغِي فِي الحُبِّ لِنُصَابَ بالبَهْجَةِ، ويُصَابَ النَاسُ بِمَا يُرِيْدُونْ. عَلَيكِ أَنْ تَبْذُلِي رَيْشَ كَتفكِ، لِكَي أَضَعَ عَلَيهِ رَأسِي وأَبْكِي لَكِ البُكَاءَ كُلَّهُ، إلى أَنْ تَحْتَرِقَ كَبِدِي، ويَتَصَاعَدَ مِنْها اللَّهبُ والشَوَاظُ وبُخَارُ اللَّهْفَةِ. وعَلَيْكِ أَنْ تُصْغِي لِلأَخْطَاءِ المُلَفَّقَةِ كُلِّها. تُصْغِي إليْها بِلا اكْتِراثٍ. فَفِي كَتفكِ يَنْهالُ جَيْشٌ مِنَ الفُرْسَانِ المَهْزُومِينَ يَزْعُمُونَ انْتِصَاراتِهمْ. عَلَيكِ بكَتفكِ الرَهِيفَةِ ورِيْشِها، عليك أَنّ تَحْتَمِلِي عُوَاءَ الذِئْبِ ونَحِيب الكَبِدِ المَفْدُوحِ. عَلَيْكِ دَيْنٌ لِي أُؤَدِّيهِ عَنْكِ، ولَكِ دَيْنٌ عِنْدِي تُؤَدِّيْنَهُ لِي. كِلانَا مَسْحُورٌ وكِلانَا لا فَكَاكَ لَهُ مِمَّا هُوَ فِيه. عَلَيْكِ أَنْ تُؤْمِنِي بِي قَادِمَاً ذاتَ لَيْلٍ، فَازِعَ القَلْبِ مُحْتَقِنَ الأحْدَاقِ مَجْنُون الفُؤَادِ مَحْسُورَ الجَسَدِ، بَاحِثَاً عَنْ صَدْرٍ يَدّخِرُ الجنَّةَ لِي. فَعَلَيكِ أَنْ تَشُقِّي لِيَ القَمِيْصَ عَلى آخِرِهِ كَي أَدْخُلَ أنَّى أَتَيْتُ وأخْرُج أنَّى ذَهَبْت. عَلَيكِ أَنْ لا تَكُفِّي عَنِ السَهَرِ ولا تَأخُذُكِ سِنَةٌ مِنْ النَوم، ولا يَفُوتُكِ الحُلُمْ. وسَاعَةَ أَنْزلُ عَلَيكِ مِثْل مَلَكٍ يَحْملُ النَبَأَ، لا يُخَالِجُكِ شَكٌّ فِي شَخْصٍ لا يُشْرِكُ فِيكِ شَيئَاً ولا تَنَالُهُ المَظَنَّةُ ولا يَصْدُرُ عَنْ سِواكِ ولا يَذْهَبُ لِسِواكِ ولا يَقُولُ عَنْ سِواكِ ولَيْسَ لَهُ مَآلٌ غَيْرُكْ. عَلَيكِ أَنْ تَجْعَلِي الخِبَاءَ بَهْوَ الكَونِ وسُرادِقَ المجَرّةِ وسَرِيْرَكِ السَديم. عَلَيكِ أَنْ تَجْعَلِي بَابَ الخِبَاءِ مَتْروكاً بَعْدِي، لِكَيْ تَدْخُلَ البَادِيةُ كُلُّها والحَضَرُ كُلُّهُ، فَيَنْظُرونَ إلَينا ونَحْنُ نَضَعُ أَعْضَاءَنا فِي القَتْلِ والقِتَالِ. تَحْتَّكُ وتَحْتَدِمُ وتَرْتطِمُ ويَتَطَايَرُ مِنْها النُورُ وتَنْدَفِقُ النِيرَانُ. دَعِي لَهُمُ الخِبَاءَ فِي التَّرّْكِ لِكَي يَنْهَالُوا ويَنّْهَلُوا مِمَّا نَفْعَلُ ولا يَعُودُونَ يَشُّكُوْنَ فِي النَّصِّ والخَبَرْ.
***
قنديلٌ
يهدي العشيق ويضلل غيره
لَقَدْ شُبِّهَ لَهُمْ، فَثَمَّةَ بَينَ جُنُونِ العَقْلِ وجُنُونِ الفُؤادِ شَسّْعٌ يَسَعُ الشِعْرَ كُلَّهُ والعِشقَ جَمِيْعَهُ. عَقلٌ يَغْلِبُ الذَهبَ، طَارَ يُبَشِّر بِجُنُونِه المَفْؤُدِينَ فِي هَواءِ الجَزيرةِ، يَبَغَتُ غَلَظَةَ الأكْبَادِ ويُوقِظُ غَفْلَةَ الأفْئِدةِ، يُغَرِّرُ بِالصَبَايَا كَيْ يَكْشِفْنَ قُمْصَانَهُنَّ لِفِتْيانٍ كَادَ الحُبُ أَنْ يَفْتِكَ بِهِمْ وهُمْ يتَدَافَعُونَ بِالمَنَاكِبِ مُوَلَعِينَ في تَهْلكةٍ بِلا رَيْبٍ ولا هَوادَةْ، يَفّْتِنُ النِسَاءَ عَلَى أَزْواجِهِنَّ ويَنْتَصِرُ لِشَرِيْعَةِ العِشْقِ، فَيُصَابُ النَاسُ بِالغِبْطَةِ لِزَفِيرٍ يَصدُرُ كَبُخَارٍ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ سَاتِرٍ لِيَمْلأَ اللَيلْ، جُنَّ القَومُ وأَخَذَ كُلُّ عاشِقٍ يَقُدُّ قَمِيْصَ اْمْرَأتِهِ مِنْ كُلِّ جانِبٍ ورَاحَتْ كُلُّ امْرأةٍ تَقُودُ النَخْبَ نَحْوَ فَجِّهَا العَمِيقِ مُأرْجِحَةً قِنْدِيْلاً مِنَ الزَبَرْجَدِ يَهْدِي العَشِيقَ وَيُضَلِلُ غَيرَه. فَلَمْ يَكُنْ الجُنُونُ. كانَتْ امْرَأةٌ اسْمُها لَيلى، قِيلَ إنَّها جَمِيعُ النِّسَاءِ وقِيلَ عَنْها مَلِكَةٌ من الجِنِّ تَراءَتْ لِشَخْصٍ أَعْطَتْهُ فَأخَذَها. ثُمَ رَاحَ يَتَقَمّصُ القَاطِنَ والمُسَافِرَ، ويَفْضَحُ كُلَّ جَبَانٍ يُخْفِي عشْقَهُ عَنِ امْرَأَتِهِ، وكُلَّ خَاشِيَةٍ تَكْتُمُ وَلَعَها بِغَيرِ زَوجِها. صَارَ قَيسٌ فَضِيحَةَ المكانِ، فَطارَ دَمُهُ فِي الأمْصَارِ مَهْدُورَاً تَسْعَى إليهِ السُيُوفُ لِتَفْتِكَ بِه، وَمَا أَنْ تُدْرِكَهُ حتْى تَتَضَرّعَ لَهُ لِئلا يَكُفّ عَنْ ذلكَ ، فَلا يَكُفّ.
***
الحب أبواب
الحب أبوابٌ، عَبَرَها قَيسٌ كُلَّها، ونَحْنُ فِي العَتَبَةْ.
بابُ المَوَدّة : قَمِيصُكَ الأثَيرُ كُلَّمَا تَهَيَّأتَ لِلعِيدْ. فَرّْوُ الهَواءِ يَلْثُمُكَ فَتَأْلَفْ. كَأنَّها الطُفُولَةُ عَنْ كَثَبٍ. تَشّْخَصُ إِليهِ كُلَّما لَمَحْت ظِلَهُ. وتَأنَسْ.
بابُ الشَوقْ: يَلِجُ بِكَ مَوْجَ اللَيلِ مِثْلَ قَارِبٍ غَرِيبْ. تُحْسِنُ العَوْمَ فَتَغْرَقْ. شُغْلٌ عَنْ السِوَى. وَحْدَهُ لَكَ . وَرْدَةُ الجَمْرِ تَزْدَهِرُ كُلَّما هَبّتْ الرِيحُ.
بابُ الوَلَعْ: زَفِيرُ الجَنَّةِ. وَقْتٌ مِنَ السِحْرِ فِي الرُوحِ. لَيْسَ إلاّ هُوَ. نَوْمٌ مُهَلْهَلٌ وَحُلمٌ نِصْفُ مَوْجُودْ. تَطِيرُ فِي الرِيشِ والجَنَاحِ ولا تَهْجَعْ.
بابُ الهَيامْ : يَمُضُّكَ فَتَصّْفُو مِثْلَ نَيلَجٍ وَتَشُفُّ. عَقْلٌ رَقِيقٌ وَجُنُونٌ شَاهِقْ. وَحْدَكَ لَهُ. تَتَذَكَّرُ وتَنْسَى ولا تَعُودْ . تَتّْرَفُ فِي بَهْجَةِ الحَواسْ.
بابُ الشَّهْوَةْ : عُرْسُ أخْلاطٍ. هَلَعٌ فِي العَناصِرِ. جَحيمٌ وجَنَّةٌ ومابَيْنَهُما. وَحْدَكُما. تَخْتَلِجُ فِي الغِيَابِ والحَضْرَةِ . داءٌ بِلا دَوَاءْ. كُلُّه ولا يَكْفِي.
***
كلام بن وحش
يُرْوى أَنَّ قَيسَاً كانَ يَخْتَلِفُ إلى فَقِيهٍ يُقَالُ لَهُ (كَلامٌ بنُ وَحْش)، يَسْتَفْتِيهِ فِي مَا يَأخُذُ النَاسُ عَليهِ. فَعِنْدَما كَثُرَتْ الأقَاوِيلُ عَنْ صِلَتِه بِليلى، وَقَفَ عَلى (كَلامٍ)
واسْتَفْتاهُ فِي مَا يَزْعَمُونَ بِأنَّ عِلاقَتَهُما ضَرْبٌ مِنَ الزِنَى، فَقَالَ لَهُ (الزِنَى هُو بَذلُ جَسَدِكَ لِمَنْ لا تُحِبْ، أَمَّا إِذا العِشْقُ حَصَل والشَوْقُ اتْصَلْ فَلا زِنَى فِيمَا قَدَّرَ اللهُ).
وقِيلَ إَنَّ (كَلامَاً) مَالَ عَلى قَيسٍ وأسَرَّ لَهُ (يَا بُنَيَّ، إِعْشَقْ ما تَيَسَّرَ لَكَ وتَمَتّعْ بِمَا تَسَنّى ولا تُطْفِئ جَذْوَةَ العِشّقِ بِالعُرْسِ مَا اسْتَطَعْت). قِيلَ فَلَمْ يَفْعَلْ المجنونُ غَيرَ ذلِك.
***
هو الحب
قُلْ هُوَ الحُبُ
هَوَاءٌ سَيِّدٌ، و زُجَاجٌ يَفْضَحُ الرُوحَ وتَرْتِيلُ يَمَامْ.
قُلْ هُوَ الحُبُ
ولا تُصْغِي لِغَيرِ القَلْبِ،
لا تَأخُذُكَ الغَفْلَةُ،
لا يَنْتابُكَ الخَوْفُ عَلى مَاءِ الكَلامْ.
قُلْ لَهُمْ فِي بُرْهَةٍ
بَينَ كِتابِ اللهِ والشَّهْوَةِ
تَنْسَابُ وَصَايَاكَ
ويَنْهالُ سَدِيمُ الخَلْقِ فِي نَارِ الخِيامْ.
قُلْ لَهُمْ،
فِيْمَا يَنَامُوْنَ عَلى أَحْلامِهمْ،
سَتَرى فِي نَرْجِسِ الصَحْراءِ
فِي تَرْنِيْمَةِ العُوْدِ وغَيمِ الشِعرِ سَرْدَاً وانْهِدَامْ.
قُلْ هُوَ الحُبُ
و مَا يَنْهارُ يَنْهارُ، فَمَا بَعْدَ العَرَارْ
غَيْرُ مَجْهُوْلِ الصَحَارَى وتَفاصِيلِ الفَرَارْ.
غَيرُ تَاجِ الرَمْلِ مَخْلُوْعَاً عَلى أَقْدَامِنَا،
والذِي يَبْقَى لَنَا تَقْرؤُهُ عَينُ الغُبَارْ.
والذِي لا يَنْتَهِي، لا يَنْتَهِي.
مثلَ سرّ الموتِ
والبَاقِي لَنَا مَحْضُ انْتِحَارْ.
قُلْ هُوَ الحُبُ
طَرِيْقٌ مَلَكٌ نَبْكِي لَهُ، نَبْكِي عَلَيهْ.
لَوْ لَنا فِي جَنَّةِ الأرْضِ رُواقٌ واحِدٌ.
لَوْ لَنا تُفْاحَةُ اللهِ جَثَوْنَا فِي يَدَيهْ.
كُلَّمَا أَفْضَى لَنَا سِراً أَلفْنَاهُ
ومَجَّدْنَا لَهُ الحُبَّ
و أَسْرَيْنا إِليهْ،
قُلْ هُوَ الحُبُ
كَأَنَّ اللهَ لا يَحْنُوْ عَلى غَيْرِكَ
لا يَسْمَعُ إِلاَّكَ،
ولا فِي الكَوْنِ مَجْنُونٌ سِوَاكْ.
لَكَأَنَّ اللهَ مَوجُودٌ لِكَيْ يَمْسَحَ حُزْنَ النَاسِ فِي قَلْبِكَ،
يَفّْدِيْكَ بِمَا يَجْعَلُ أَسْرَارَكَ فِي تَاجِ المَلاَكْ.
قُلْ هُوَ الحُبُ
الذِي أَسْرَى بِلَيلى
وهَدَى قَيْسَاً إلى مَاءِ الهَلاَكْ.
قُلْ هُوَ الحُب ُ يَـرَاكْ.
***
درس الأرز
1
يقال إن الأرز ذهب الحقول وفضة المأدبة. وهو أنواع كثيرة، عليك أن تختار منها ذي الحبة الطويلة. وستكون محظوظاً إذا تسنى لك العثور على النوع الغني بقدرته على الاكتناز في القِدر ساعةَ النار. فالأرز نوعان، نوع بخيل، كثيرُه في الكيل قليلٌ في الأكل، تضع منه مقدار كيلة واحدة فلا يكاد يطعم شخصاً واحداً بعد الطبخ. والنوع الآخر غني، كريم، تزيده النار ازدهاراً. تضع منه الكيلة فيمنحك ما يكفي خمسة أشخاص لما فيه من طاقة العطاء الكامنة التي تتفجر طالما إطمأنَ لك وألفَ حبك وشعر بتقديرك لطيب منبته. وسوف يشعر بك منذ لمستك الأولى وأنت تجسّ حباته، فيما تدعكه بلطف كمن يداعب طفله في المهد يعلمه العوم لكي يبدأ السباحة في الماء الوفير. وإذا أنت لم تحسن عملية الغسل ببطء الحالم، سوف تقرر مسبقاً فشلك في الغليّ، وقد لا تحصل على الأرز الأبيض الشهيّ.
2
أن تغسل الأرز الأبيض بالماء النقي ليزداد بياضاً يعني أن تمنح الفضة فرصتَها لكي تجلو حبة اللؤلؤ بعد استخراجها من صدفتها القديمة. فالماء الوفير الدافق في البداية يجعل نتيجة الطبخ رائعة، حيث الأرز المغسول جيداً يجعلك تحصل على وجبة خفيفة الروح ذكية الرائحة. ولا ينبغي أن تكون عملية الغسل روتينية، فأنت لا تغسل قميصاً، إنه الحصاد الطيب الذي تعبتْ فيه الناس والحقول وصقلته الفصول. غسلُ الأرز طقسٌ مهيب يستدعي منك أن تكون في مزاجٍ رائقٍ ولديك من الوقت ما يكفي لسرد حكاية لطيفة لطفلك لكي ينام.
تسكب كيلة الأرز في الإناء فتسمعه ينهالُ في الصفحة مثل تدفق اللؤلؤ الناعم على قطيفة. تدسُّ أناملك بحنان بين الحبات فتشعر بها مثل بشرة الرضيع الذي ولد تواً. ترفع بالقبضة الرؤوفة حفنةً وتفرج كفّك لتدع الحبات تسيل بين أصابعك مثل حليب رائب. وترى بياضاً يفضح بضع شوائب صغيرة تقوم بانتشالها في رشاقة الصائغ البارع لكي تخلّص الأرز من ذكرياته الأخيرة عن الحقل. تلقي نظرتك الوالهة على صفحة الأرز في الإناء الفسيح وتدفعه تحت الصنبور وتطلق الماء لكي يندفق فرحاً مثل أطفال يهرعون إلى ساعة المرح. وتبدأ بتقليب الأرز تحت اندفاع الماء المنتشي ليركض بين حبات ترتعش لفرط المباغتة الباهرة. فترى الماء يمور في الإناء، وحبات الأرز تتأوّد في غنجٍ والماء يتصاعد طالعاً إلى ظاهر الإناء، متعكراً مشوباً بما يشبه الرغوة الثقيلة، مفصحاً عن الكلام الأخير الذي لم يزل في ذاكرة الأرز من الحقل. تعيد تقليب الأرز براحة يدك، ثم تسكب حصيلة الغسل الأول برفعك الإناء مائلاً على طرف واحد. ثم تعيده ثانية تاركاً الماء يندفق ليملأ الإناء ويفيض عليه. عندها تدفع بيديك مطبقتين وتبدأ في الإمساك بحفنات الأرز وهي في داخل الماء وتدعكها براحتين حنونتين متحسّساً الجني الطيب وهو ينساب كطيور متناهية الصغر تطير وتحلق مابين أناملك، هواؤها الماء. وأنت تواصل الدعك دون أن تغفل عيناك، فأنت منذ الآن ملكٌ وهذه الحبات رعيتك الجديرة بالحنو والحب. الأرز في الإناء الفسيح والماء عليه مثل الرحمة تَنصَبُّ بلا توقف. طقس الغسل هذا ضربٌ من فن مداعبة حبات الأرز براحة اليدين فيما الماء يجري ويفيض. تبدأ بالدعك بضغط خفيف يقسو ثم ينحو إلى اللطف حد المداعبة. يداك تقلب الأرز مغموستان في الإناء تحت الماء، والماء يفيض ويتغير ويصفو وتذهب عكورته، فيما تواصل الدعك بلطف يتيح لك الإحساس بحبات الأرز وهي تتخلص من المادة النشوية. لترى إلى الأرز يخلع أرديته المنشاة مثل فتاة تتخفّف من ملابس عرسها البيضاء لفرح وشيك، مما يمنحك شعوراً بتحول حبة الأرز من الخشونة إلى النعومة شيئاً فشيئاً، حتى ينصرف الماء المتعكر المحمل بشوائب الحقل والصوامع.
3
لا يتوقف الغسل حتى يصبح الماء في الإناء نقياً خالياً من شوائب المادة النشوية تماماً. فإذا بدأتَ ترى الحبات تتلألأ في الماء واضحة جلية، تكون قد أوشكتَ على منح الأرز ذاكرة جديدة تتيح له الحلم بمستقبل النار الرهيفة. فليس أن تغسل الأرز من الماضي، لكن أن تضعه على عتبة المستقبل في جاهزية الجسد النظيف للحفل. وفي هذا يكمن السر الذي سيجعل الأرز بعد النار ناصع البياض وينفح المسك، طويل الحبة، متألقاً بصورة تغني الوجبة. فالطبخ لا يقتصر فحسب على الخطوات التطبيقية اللاحقة، فإن فن الطبخ يبدأ منذ الخطوة الأولى لاختيارك نوع الأرز وبراعتك في غسله بأناة ورفق، فمن الحكمة أن ترفق بالرعية لكي تمنحك المحبة.
وبقدر ما يتسنى لك الشعور بأن عملية الغسل هذه ممتعة ولذيذة، تتوفر لك فرص أكبر للحصول على أرز غاية في اللذة. فالماء ليس ترفاً بالنسبة للأرز، على العكس فأنت قد تستغني عن الماء في بعض طرق إعداد الأرز، لكنك لن تستغني عنه في الغسل. فهنا تتأسس المتعة منذ اللحظة الأولى التي تختار فيها الأرز وتضع يدك عليه وهو في الماء الجاري. فاتصال حبات الأرز بتاريخ الحقل من الأصالة بحيث تظل المادة النشوية عالقة بالحبة قميصاً يحميها ويذكرها ببيتها الذهبي الأول. ويقال إن في كل حبة أرز من المادة النشوية ما يكفي للصق تسعة من طوابع البريد الصغيرة. و أعرف شخصاً ابتكر وضع حبة الأرز ذاتها بين تروس ساعة اليد المضطربة للتحكم في الخلل الذي يؤثر في انتظام الوقت.
4
ثمة أسطورة تقول إن طول حبة الأرز أو قصرها يتصل بساعة الرَيّ ومصدر المياه التي تروى حقل الأرز. فإذا كان المزارع قد ذهب إلى حقل الأرز ليلاً وكان قد خرج تواً من سرير زوجته وصادف أن الوقت ليلاً والقمر في منتصف الشهر وكان ساطعاً ينعكس ضوءه في صفحة الماء وهو يغمر الحقل الهادر من أعالي الأنهار المنصبة من الثلوج، سيكون هذا جميعه طالعاً حسناً من شأنه أن يمنح المزارع طفلة جميلة وحصاداً وفيراً من الأرز بحبات طويلة وناصعة البياض. وسوف يعتقد المزارع في كل ذلك نذراً ناجزاً يتوجب عليه أن يؤديه في أول أيام الحصاد، حيث يمنح أول شخص يعبر الحقل مقدار تسع كيلات من الأرز تيمناً بحسن الطالع. ويقال إنه إذا صادفَ وكان أول العابرين امرأة، سيكون على المزارع أن يختار أحد أمرين، إما أن يقتل المرأة أو يتزوجها وإلا فسد حصاده كاملاً في الليلة التالية. وثمة من قال إنه، مع تقادم العهد بهذه الأسطورة، لم يعد هناك فرق بين زواج المزارع من المرأة وبين قتلها، فبعضهم يزعم أن بعض الزواج ضرب من القتل. والمزارع في سبيل حصوله على حصاد من الأرز ذي الحبة الطويلة الناصعة البياض، سوف يفعل كل شيء. فمادام الماء الوفير يغمر الحقل فكل شيء في سبيل ذلك سيكون مباحاً، قتل امرأة أو الزواج منها.
من هنا نرى كيف أن الماء الوفير سيكون ضرورياً وحاسماً في مراحل عديدة من رحلة الأرز، منذ ساعة البذار حتى لحظة النار، ثم على المرء، بعد ذلك، أن يجتهد لأن يتخلّص من نسبة الماء قدر الإمكان في اللحظات الأخيرة من إعداد الأرز للأكل، فكلما كان الأرز معتدل الرطوبة، فيه من الماء ما يكفي فقط لأن يجعله ندياً لامعاً ببياضه زاهياً ومُزَهْزَهاً، كلما توفر لنا طعامٌ لذيذ، يشتهي الشخصُ معه أن يتذكر جيداً شعور ملامسة تلك الحبات الناعمة بين راحتيه وهو يغسله في الماء الجاري. ويبقي أن نستعد للحظة النار الرهيفة.