"ملك عليهم حياتهم وغابوا عن ذواتهم بتعلقهم بذاته تعالى"
الجيلي أو الجيلاني هو لقب " عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم بن خليفة بن أحمد" وكنيته "قطب الدين"، والمعروف باسم عبد الكريم الجيلي أحد أشهر كبار رجال التصوف الاسلامي .
لم يأخذ هذا الزاهد حظه أبداً من الباحثين في مجال التصوف الاسلامي ، وحتى على الصفحات الإلكترونية ، ليس لفكر الجيلي من شارحين أو محققين كثر ولكن هناك تطاول من البعض في تكفير الرجل وهذا ليس غريباً على من حاول كثيرا تكفير فلسفة التصوف الإسلامي وفلاسفتها .
تزحف تعاليم القطب الكبير فى كل وقت على العقول المستنيرة المتعطشة للعشق المتشوقة للإستزادة من أنهار وبحور الحب الإلهى ، فالعالم الجليل لايتسع المقام للحديث عن نبعه الذى لاينضب ، وسنتنسم جزء من عبيره ، فى الكتاب الذى نحن بصدده ،الذى حاول مؤلفه د. يوسف زيدان أن ينشر بعضا مماتشربه عن حياة الجيلى وفكره وفلسفته وشعره ، فى الكتاب الذى أصدرته دار الشروق تحت عنوان " عبد الكريم الجيلي فيلسوف الصوفية ".
يقسم "زيدان" الكتاب إلى قمسين ،الأول يتحدث عن حياته وشيوخه ومعاصريه، كما يتحدث عن أسلوبه ومؤلفاته ومنها شعره الصوفي .
وكان أول شيوخ الجيلي الفقيه الصوفي جمال الدين إسماعيل المكدش " الذي تعرف عليه الجيلي ببلاد اليمن وذلك في أواخر القرن السابع الهجري ويقول الجيلي " إنه نال بركات كثيرة من هذا الشيخ "، وإن كانت ملازمة الجيلي له لم تدم طويلاً . وفي اليمن أيضاً عرف الجيلي أبو الغيث بن جميل الملقب بشمس الشموس ، وهو أيضاً من أكبر صوفية زمانه ، إلى أن يلتقي الجيلي بشيخه في الطريق وأستاذه " إسماعيل الجبرتي " والذي دعاه الجيلي بأستاذ الدنيا وشرف الدين وسيد الأولياء والمحققين والقطب الكامل والمحقق الفاضل .. غريب الأولياء ومحل نظر الله إلى هذا العالم .. القطب الأكبر والكبريت الأحمر ".
أما عن أسلوب الجيلي في شعره الصوفي يخبرنا الكتاب بأنه كان موغل إلى حد كبير إلى الرمزية الدقيقة وكان هذا ما " تميز به الأسلوب الصوفي ، خاصة عن الصوفية المتأخرين ومن بينهم الجيلي بعدة خصائص أهمها طابع الاستغلاق والإلتزام بالرمزية الدقيقة ويرجع ذلك كما قال القشيري " قصدو إلى الألفاظ التي يكشفون بها عن معانيهم لأنفسهم غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها ، إذ آثرو على أنفسم أن يعبروا عن حالتهم لإخوانهم في الطريق أو لمريديهم وأيضا تجنبا لإثارة الفتنة وسوء الفهم من قبل العامة والفقهاء .
جاوزت مؤلفات الجيلي ثلاثون كتاباً منها " الكهف والرقيم فى شرح بسم الله الرحمن الرحيم " ، و " غنية أرباب السماع وكشف القناع عن وجوه الإستماع " ، و" الكلمات الإلهية في الصفات المحمدية "، و" إنسان عين الجود ووجود عين الإنسان الموجود " ومنها "شرح الفتوحات المكية وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية " ....
عن شعر الجيلي الصوفي يوضح الكتاب أن أهمّ ما نظمه شعراً، هو قصيدته "النادرات العينيَّة في البادرات الغيبيَّة"، التي تُعَدّ ثاني أطول قصيدة في الشعر الصوفيّ، ويبلغ عدد أبياتها 540 بيتاً. بعد تائيَّة سلطان العاشقين عمر بن الفارض المعروفه بقصيدة "نظم السلوك"، والتي تعدّ 667 بيتاً.
عرض الكتاب لنظرية "الإنسان الكامل" في فلسفة الجيلي ، حيث أن نظرية الإنسان الكامل واحدة من النظريات التي احتلت مكانة بارزة في الفكر الصوفي وفي فلسفة الجيلي ، تمتزج هذه الفكرة بالكشف الإلهي ،وتقترن النزعة الفلسفية بالحس الصوفي المرهف ، وقد صاغ الجيلي هذه النظرية في واحد من أشهر كتبه ، وهو كتاب " الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل كما عبر عنها في قصيدته الشهيرة " النادرات العينية" وغيرها من أبيات شعره الصوفي .
وفي نظرية الإنسان الكامل يتحدث الجيلي عن أهل الغيب وهم عباد الرحمن من الأولياء الذين لم تشغلهم غير الذات الإلهية فكانوا هم أهل الله ، والذي قال الله تعالى عنهم " السابقون السابقون*أولئك المقربون* في جنات النعيم * ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين " ...هؤلاء الذين "غابوا في بحارأنوار التجلي الإلهي الذي ملك عليهم حياتهم وغابوا عن ذواتهم بتعلقهم بذاته تعالى ومشاهدة آثار جماله وكماله في الوجود" .
وإذا كان أهل الغيب هم خاصة الواصلين في الطريق ، فلهم أيضاَ مراتب عديدة ومقامات روحية متنوعة ، نرى الجيلي يتكلم عن أول تلك المراتب وهي مرتبة تجلي الله بأفعاله .. تلك التي لا يكون للعبد فيها من شيء إلا بمقدار قبوله لتلك التجليات من حيث كونه " ذاتاً صرفاً تقبل الانطباع بما شاهده من تجليات الحق تعالى التي يظهر بها على ما يشاء من عباده" .
والمرتبة الثانية وهي تجلي الأسماء الإلهية لا تحدث إلا إذا تجلت الأفعال الإلهية بداية ،أما حالة " تجلي الأسماءالإلهية "، تلك التي تحدث عند تجلي الله على عبده باسم من أسمائه .. نتيجة ذكره تعالى ومناجاته بهذا الاسم وفي تلك الحالة يهيم العبد بالاسم ولا يتعلق بشيء غيره .
أما مقام الإنسان الكامل عند الجيلي فيتجسد في الولي الذي داوم على مجاهداته حتى إجتباه الله فتجلى عليه بذاته. وليس هناك تجل للذات الإلهية بكمالها في الكون إلا ذلك الانسان الكامل .. وهو خليفة الله على الأرض كما جاءت آيات القرءآن والتي قال الله تعالى فيها للملائكة " إني جاعل في الأرض خليفة