مرثيّة متأخّرة
سيد عماد الدين نسيمي اتُّهم وحكم عليه بالسلخ حياً في حلب عام 1418. وجاء القضاة والأئمة يجادلونه ويجادلهم،
فيما عملية سلخه قائمة. وحين انتهى السلخ وضعوا جلده على كتفه وأطلقوه. وظل يسير وينزف ويسير…
قف يا نسيمي.. أين تمضي يا رجلْ
قف وانتبه لخطاك.. خلف خطاك دم
العزم تتلفه الرطوبة، وهو مخزون، فقلْ
قل أي شيء.. يا رجلْ
ما عاد ينفع أن تشد شكيمة الألم
الذي يسعى إلى حضن الندم
ما عاد في الأيام متسع لكبح الـ "لا"
وإيماء الـ "نعم"
تمضي.. نزيفك راشح مترقرق
يغري بأن تنساه،
تشرد ساهماً،
لا تندفع بخطاك.
لا تسمح لعثرات الطريق ترجّ جسمك
فالنزيف يزخ أمطاراً على وقع القدمْ
والنسمة السمحاء، إن مرت عليك،
ستوقظ النار التي كمنت
فتطلق فيك ألسنة الألم
قف يا قتيلاً
يتقن السير المنغم في جنازته
يقطر عمره متوكئاً يأساً جميلاً
مسنداً يده على كتف العدمْ
قف يا رجلْ
قد أتقن الجلاد فعلته
ومنّى النفس أن السلخ
قد عراك من ستر المثلْ،
جاء القضاة مدججين
وأشرعوا تلك السكاكين
التي شُحذت لتعزف لحنها في اللحم
كانوا يأملون بأننا سنشيخ
في رقص الدراويش السكارى
إنْ تهيجنا أنينك نغمة مبحوحة
أو أننا سنستر العار الذي فينا
بثوب شماتة
(ما أنت ناقل صوتنا)
أو نستعير توجعاً
ليلفنا خوف بصفرته
فننسى أن نرى شلال دمْ
أدنوا نصالاً للتشفي،
أغفلوا.. فتساقطت أستارهم:
للمرة الأولى توافق حقد حساد
وشهوة قاتلين
نسوا ندب جراحهم
ونسوا ولوغ الوحش في أحشائهم
حتى تجمد رعبهم بين العيون رغائباً
وتدفقت شهواتهم
فتقدموا بصدورهم
ليجرب الجلاد فيهم سيفه
وليشحذ النصل اللئيم
على عظامهمُ
تلمظ كل حقدٍ وهو يلحس جرحه
وتطوع الؤماء خدامين
يرضيهم بأن يتمددوا للدوس
أو يتحسسوا أقدام قاضٍ
يحملوا نطعاً، وسكين
وكأساً تنعش الجلاد
حين رأوا عيون الناس عرتهم
تنادوا للتضامن
ثم أبقوا في الجيوب سلاحهم
وكبحت صرختك الدفينة
أقبلت محزونة
مزحونة تحت الضجيج
وأنت تنصت للنشيج مرفرفاً فينا
ارتجفنا في توجع صمتك النبوي
وانسربت شكاوانا إليك
كأننا جلد تمزق عنك
أو نبضٌ من الضوء ادلهمْ
أرض الموالي فيك مولاهم
فردْ أمانة الجلد السليخ
لكي يبرئ ذمة
ويظل مبتسماً نظيفاً
قال: سرْ في الأرض،
واختر ما تشاء من السبل
إن طال دربك، طال فيك القول،
واعتبر الورى
قف يا نسيمي
لا تظل معرضاً تدمى
ويجرحك النسيم عقاربا
ما عدت تقوى أن تجدف
وسط طوفان الأعادي قارباً
قف واكتشف فينا حمى وأقارباً
لا تنس أنا قد تموت ونحن ننزف فوق نطعك
إن كل دمائنا لم تكف فيهم ظامئاً أو شارباً
والأرض حافلة بما يخزيك أو يبكيك
حافة بقوادين باسم الدين
جلادين مكسوين بالتمدين
أين تروح في هذا الخضمْ
وجع تخزن في دم
والسلخ باق في جفونك
سوف يرسو في الضمير
معبأ أرقاً بألف هم
لا.. لست مهووساً تكلم طيف جنيٍّ
وصمتك صرخة منثورة في كل فمْ
لا.. لست سكراناً.. وإن رَنَّحْت خطوك
إنك الآتي وتبدو ذاهباً
والنازف القاني.. وتبدو شاحباً
سيظل وقتك غائباً
ويظل صوتك عائماً في بحر سكرات
وتمشي راهباً
متخففاً من عبء جلد
عله يعفيك من أعباء ظلٍ
كلما استعصى عليه تتبع الخطوات
في المنفى ثقلْ
ستطير في حمى فضاء الحزن
توغل في ضباب غباره
لتغوص في اليأس
الذي أضحى غداً أرحب
وتظل تحنيك المرارة
كي تلائم عالماً أحدب
دفعوك تمشي مفرداً
متنكباً شيئاً تهدل كالعباءة
قف يا رجل
قف.. أنت تمشي فوق نار
وسط غارٍ مغلق
يبدو بلاداً تزدهي
والمرتمي المجرور خلفك جلدُك الخاوي
فكذّب ما يقول لك الخيال
لقد تجفف
إذ تخفف من طموحك، أو دمانا
واختفى.. لم يُبقِ حلماً لائقاً، فينا، وراءه
وخطاك فوق الدرب حمراءْ
ذئاب أجفلت حين التقتها
ثم غذت غدرها
في إثر من عشقت دماءه
قف.. أنت ميتٌ يا رجل
لا تنخدع بالنزف،
هذا ليس نبعاً للحياة
الموت يخدع
قد تنكر فيك واستشرى إلينا
كي يصفى ما اخترنا من براءه
ماذا ستفعل، بعد، بالجلد
الذي ينجر خلفك
لم يعد يجديك أن تنوي ارتداءه
شرب الدم المسفوح لا يشفي قتيلاً.. يا رجل
إن كنت أنهيت الكلام
فإنني مازلتُ أنوي أن أقول.. ولم أقل
فسِّرْ لنا
كيف الشقائق فتِّحت في مرج جلدكَ
بعدما المرجو في الدنيا ذبل
وأنينك الدامي
تعلق فوق أبواب الربيع
فجاهدت حمى العواصف والسيول
تزيل عنها العار
لكن لم يزلْ
فسِّرْ لنا كيف احتملت الموت حياً
كيف ضوّات الطريق الوعر
من نطع القضاة إلى تواشيح الدناءة
كيف اقتنعنا بالذي أخفيت عنا
بالذي أهدرت منا
بالذي ينقضُّ رعباً
وارتدينا منه أمنا
فاقشعرت من بشاشتهم براءتنا
رأينا نغمة التسبيح أوقح من بذاءه
قل: كيف طال الليل في إشراق خيبتنا
وليلك لم يطلْ
لا تمض وحدك يا نسيمي
لا تلعن ذلك الهم الذي أضناك
أنت رفضت تكفين البدنْ
ورضيت سلخك صامتاً
فرفعت صمتك صاخباً
يطغى على إيقاع رقصات الزمن
وهجرت جلدك راضياً
تأوي إلى دفء التعري
تقبل المنفى سكن
متخففاً من كل قبرٍ.. كل عمرٍ
كل جلد.. أو كفنْ
مَيْتٌ يسير مكابراً متجلداً
كي لا يريح الشامتين
وصامتاً كي يحرم الصوت ارتجافاً
أو عتاباً.. أو شجنْ
فلعلك استعذبت هذا المحفل المحموم
واستغرقت في قولٍ سيحرق جوف كاتمه
فلا روح تطيق العبء
لا جسد يقايض بالثمنْ
قل يا نسيمي
فالذي تخفيه عنا
كانا إرثاً لليتامى
ارثهم نارٌ.. فقلْ
ولتعط محروماً كما يملي الكرمْ
حقْ تأجج كالحمم
غطى توجع حلمك المشحون كالرمم
نايٌ يرافق خطوك الدامي
يغني جثة تمشي
تخلص نفسها من شربكات الموت
لا تتعبْ
وتشع جرحاً شاملاً
تحكي بضوء النزف كالكوكبْ
قف يا نسيمي
لست حراً أن تموت
ولست حراً أن تعيش
فأنت كون مرتهنْ
حاورت جلاديك ما أسمعتنا
سلخوك عنا كي تصير الرب
أو نوليك قبلتنا
وبعدما يحطمون الحلم
تعرى كالصنمْ
أبقوك إذ ضاعت ملامحنا
سخوت بحلمنا
أبقوك كي تمشي بنا نحو المسالخ كالغنمْ
هل فيك هذا السر وحدك
أم أتى للناس كلهمُ
ورثت الله وحدك
أم سنغتصب الموزع بيننا بالعدل
أم قد حصِّصت فينا البلايا
ثم وحدك للنعمْ
ضاقت بنا الدنيا
وغطت عتمة البلوى سماء بلادنا
وتسرب الألم الدفين
تطلعنا فزعاً لدى أولادنا
اليأس باغتنا.. وزلزلنا
أتانا في الهزيمة كالهزيم
لم ينته الهذيان.. مهلاً يا نسيمي
إن شئت أن تمضي
فقل لي منْ غريمي
قل لي.. أخاف السم في كأس النديم
ما عدتُ أطلب جنة والأرض قد صارت جحيمي
آمنتُ أن لابد من هذا الجنونْ
والموت أضحى وحده الخلَّ الحنون
لابد من صوت على نطعٍ
وقولٍ جارحٍ في وجه مسكينٍ
فقل لي أي شيء يا نسيمي
قل غير هذا النزيف
تكفيني استدارتك الفخورة
رفعك الجلد المدمى كالعلمْ
يكفي عذاباً يا رجل
يكفيك رفضك للندم
يكفي.. فهمنا كل شيء
من نزيفك يا نسيمي
فلتمضِ في صمت
لتبقى عندنا تلك الشيم
سيظل في الدنيا مكان لائق بالموت
رأي يستحق الموت
درب شائك
لنسر فيه مع الرسل
يكفي الهزيمة نبلها يحكي
فهمنا يا نسيمي
تابع الصمت الثقيل
وتابع النزف النبيل..
ولا تقلْ
أتلفت نحوكِ.. أبكي
تقبلين من الفرح المرتجى
تقبلين من الفرح المستحيل
وتأتين كالضوء من عصبي
تطلعين من القلب
ينكشف العمر في عريه
هيكلا من عظام الأماني
وزوبعة من شقاءْ
تكشفين قصوري عن الحب
بعدي عن الله
عجزي عن الحلم والذكريات
تجيئين ملء القلوب العريقة
ملء العيون العتيقة
لم تتركي فسحة للرغائب واللهو
لم تتركي خفقة للّقاءْ
غربتي كشف وجهها
فرأيتك كل الذي مرمر القلب
لم أتحمل دفاعاًَ عن العشق
أو عن طفولتنا
ورأيتك:
لم يضطهدني الطغاة لرأي
ولم يأت خلفي الغزاة لأرض
ولم تجرح القلب في لوعة هجرة الأصدقاءْ
كنت خلف التوجع والدمع
في الخوف كنت... وكنت الشقاءْ
ولكي أتقرّب منك
لكي أتلمس نبضك
أو أتقرى ابتسامة عينيك
كابدت هذا العناءْ
فضحتني الدموع التي صبغت ذكرياتي
ودمعيَ غال
تعلمت كيف استوى الدمع بالدم
أعبد من سفح الدمع والدم كرمى لها
فضح الدمع حقدي
فلا عفو عمن أباحوا دمائي
ولا عفو عمن أباحوا البكاءْ
قلت:قلبيَ يقفز
ينذر بالشر
قلبي تعلق مرتعداً
عند أول هذا السواد
الذي يملأ الأفق
قلت:جبيني على وشك الإنكفاءْ
والعواصف إذ تعتريني تبددني
وأنا أتماسك في ذكرياتك
هدَّأتني
لم تكن غيمة تتجمع سوداء في الغرب
كي ترتمي مطراً
فالغيوم التي اعتدتها أصبحت ناشفة
والرياح استكانت
فلم تأتنا نذر العاصفة
قلت لي:
إنها الطير
في رهبة الأفق سوداء
والناس ترقبها
أقبلت كالشحوب الذي يعتريني
إذا ما ارتعدت على ذكرهم نازفه
ما الذي سوف يأتي؟
ترنحتُ..أمسكتِني
وتوجعتُ..أسكنتِني
واندحرتُ..فأرجعتِني
كانت الطير في رهبة الأفق سوداءَ
جاءت كعتم يفاجىء عند الظهيرةِ
غطت سماءَ المدينة
واصطدم الخلق بالخلق
فالضوء يسودُّ
والقلب يسودُّ
والمدن المستعيذة مشلولة واقفه
وصلت زعقة
وتلاها عويل
تغير نبض السماءْ
ذهل الخلق
وابتدأتْ هجماتُ الطيور
وراحت مناقيرها تنتقي في الزحام
فرائسها الراجفه
خفت ملء عظامي وأوردتني
أقبلت هجرة راودتني
هممت بها
غير اني رأيتك،
قلت:معاذَ هوانا
رجعت أسلِّم عمري
وأخلع خوفي
أواجه نبض نهايتنا
خفت أن تفقديني
وخفت إذا شدني الخوف صوب الأمان
إذا لفني الذعر بين المنافي
بأن لا ألاقيكِ عند المساءْ
حينما شبَّ بين القلوب هروبُُ
تشبثت باسمكِ
أطبقتُ قلبي على نظرتيك
لأجلك أبقى
وتطبق حولي مصيدة الطير
أبقى لديكِ
ولستِ معي
أتمسك بالبرق من ذكرياتك في حلكي
أتعلق بالماء، يندفع السيل
أنشدّ للضوء، يندلع الليل
أنشدّ نحو التراب، يثور العجاج
بلاد تفور
وأخرى تغور
وشمس تغيب وراء الطيور
أطارد خيط شعاع
تسرب ما بين طير وطير
وأغمض عينيّ
سئمت مناجاة روحي
أغني للهوى القتال أغنية
على طلل يصير ركامْ
أغني كي أنقب في بقايا الصمت
عن أشلاء مجزرة ٍ
يغطيها اخضرار كلامْ
وها إني عثرت الآن
:على شيء سأفعله بلا استئذان
أموت
لكي أفاجئ راحة الموتى
وأحرم قاتلي من متعة التصويب
نحو دريئة القلب
الذي لم يعرف الإذعان
سأحرم ظالمي من جعل عمري
مرتعا لسهام أحقاد
وأرضا أجبرت أن تكتم البركان
أموت
وقد نزفت مخاوفي
لم يبق مني غير جلد فارغ
قد صار كيسا فيه بعض عظام
فصائغ يأسي المقرور فرغني من الأحلامْ