الجافية
(قصيدة جديدة)
2016
.هذا ليس ديوانًا، بعد
.الدربُ التي كيديْنِ متشابكتيْنِ، هذه التي كجديلةٍ من جذور. المحفوفةُ بفراشاتٍ بيضاء. التي تضيقُ كلّما اتّسعتِ العبارة. الدربُ التي لمسافرٍ وحيد، دونما ذاكرة
.الكراهيةُ الأعمق من الحبّ، لا لشيءٍ، سوى أنّها شجرة
.في الخوفِ ذهبتُ أبعدَ من الحبّ. فوقَ دمعتي مشيتُ، غيمةً من مغفرة. سامحتُ نفسي والخريف
.أن تكونَ حُرًّا. كالحبِّ، كالموت. غريبٌ في الغابةِ يمشي، ولا يثقلُهُ حطامُ سفينة
.أن تكرهَ الوجهَ الذي أحببت. أن تبصرَهُ كما يندمُ نهر: هادرٌ ومنكسرٌ، حتّى في الضحكة. أن تتساءلَ بصمتِ صورة: كيفَ نؤولُ إلى الدمعِ من الينابيع، نحنُ الذينَ لم نكن يومًا غيومًا؟
.فارغٌ ومغلقٌ، وتُبكيهِ الغيوم. قلبي الذي كانَ كبيتٍ، كلّما طرقتَ بابَهُ، يمتلئُ بالشبابيك
.كيفما ألتفتُ، ألتقطُ صورًا لغيابِك
.واسعٌ هو الحبّ. ظلٌّ لا تسعُهُ غابة. صخرةٌ تخبئُ كوناً. جناحٌ مفتوحٌ، بينَ جرحٍ ومجرّة
.طويلةٌ حكايتي مع الحطّابين، وكأنَّ وجهي كلُّ أوراقِ الشجر
كانَ عليها أن تكونَ شاهقةً، نهاية الأشياء، لكنّنا كنّا نطيرُ بجناحٍ وحيد. كم انحنيتُ كي أجاورَ جرحَك، لئلّا تفضحَ وحدتَكَ أشجار. أحببتُكَ كما يحبُّ الغريبُ وجهَهُ في نهرٍ، أنتَ الذي لم تكن أكثرَ من بسمةِ غريق.
إبّانَ الرمادِ، كالناجينَ من جحيمِ أنفسهم. فوقَ ماءٍ مُقمرٍ، كالنبيِّ الذي أهدى وجهه إلى أعداء. في الغابةِ أتذكّرُ كلماتٍ تشبهُ رنينَ أجراسٍ، ورنيمَ مطر. كلُّ الدروبِ التي سلكتُها، أعادتْني إليّ، وكأنّني لم أكن يومًا سوى رسالة إلى نفسي.
ليسَ الحنينُ مكانًا كي أبحثَ عن جذور. الجدولُ جرحٌ فوقَ نفسِهِ، لئلّا ينحني لأجلِهِ أحد. بوجهِ ورقةِ شجر، دموعي التي تقسو، كي لا يتكرّرَ القاع. كم هي وحيدة، صورتنا الوحيدة. كم كانَ الكسرُ في مكانِه. بعيدًا عن الهالةِ والمتاهة، مَن مِنّا يعرفُ نفسَه؟.
لا أبصرُ أشجارًا في الأشجار. كلُّ هذا الورق، دفترُ رسمٍ للريح. الجذورُ ذكرياتٌ هَرِمَتْ دونَ أن تقطعَ دربَها. كأنَّ العمرَ خطوةٌ واحدةٌ، واسعةٌ في الأرض. لكنَّ المدى مغروسٌ في نسغِ دمعة. للنهرِ وحده أنحني. لا وجهَ لمن لا تشتاقُهُ طُرُقٌ، وللحبِّ يَدانِ تُدينانِ حبّي.
تطولُ الطرقُ التي لا تُطوى، كقطارٍ في مرآة. هذه التي لا نطلقُها بعيدًا عن ندمنا. كم رفعتُ وجهي نحو النجوم، كما يصلّي جناح. كم بكيتُ كي تكونَ الدربُ بقامةِ مطر. لكنَّ الحبَّ لم يكن سوى غشاوة غيمة، ونظرتي امتلأت بالليل، كما تنضحُ كأسٌ بجرحِ سواها.
.كم من الجرارِ كانَ عليّ أن أكسرَ إثرَك: الحنينُ والمغفرة، دروبُ العودةِ كلّها وقلبي. هكذا وقفتُ طويلًا على أطلالِ أحضاني. كملاكٍ بلا معجزة، كفكفتُ نفسي
بوجهٍ بهزالِ دفتر، بعينيْنِ غائرتيْنِ بجذرِ غيمةٍ في بئر، أغلقُ أبوابي كأشجار. أواجهُ وحدتي التي ليست خصمًا أو صديقًا. أواجهُ الهاويةَ بحيادِ مرآة. في الورقِ الذي يملأ كفّ الخريف، أقرأُ حياتي وقد صارت حكايةَ سواي. النهايةُ صفحةٌ أولى. ذاكرتي نافذةٌ كنسيان.
صعدتُ الجبلَ جرحًا على جرحٍ، لئلّا أتعالى بجناح. لأقاومَ الصخرةَ والرمادَ، صنعتُ رجلَ ثلج. بترتُ بلادًا بيننا، كي تبرأَ المفارق. بكيتُ كدربٍ طويلة. طويلًا طفتُ حولَ حجرِ قلبي، لعلّني أدركُ كيفَ يتنفّسُ ليل. فعلتُ كلَّ ما بوسعي، كي أختبرَ وسعي كمكان.
أسوةً بهشاشةِ الأشجار، أنحلُ وأزدادُ شحوبًا. أنحني لأحضنَ خريفي، كما يتحصّنُ بضفّتيْهِ كتاب. القمرُ يظلّلُ امرأةً تتذكّرُ، ورأسُها بين ركبتيْها. النجومُ جراحٌ ترفّعَت عنِ الكلام. أحدُ الحُبّيْنِ علاقةٌ عابرة. لطالما كانَ العاشقُ وجهًا وحيدًا.
.أَقِلُّ كما ينحلُ عن حوافِّهِ نهر. أَقَلُّ من همزةٍ في وصلِ عاشق. أَقَلُّ قليلًا من دفترِ وردةٍ وحيد
.صادقٌ كالندم، الثلجُ بكلِّ هذه الدفاتر البيضاء
.أقسو، لكنَّ القوسَ أشدّ حنانًا من القيثارة
.أجفو وأجفُّ، كما تنسحبُ الأنهار
.حزينةٌ شجرةُ الحورِ كحزمةٍ من رسائل. لامرأةٍ لها وجهُ أغنية. لشاعرٍ ضلَّ قلبَهُ كغروبٍ في غابة. لحطّابٍ ما. لجنديٍّ مفقود. لطفلٍ سقطَ عن حافّةِ الكونِ، ويدُهُ فراشةٌ تطاردُ نجمة
.عابرونَ كثرٌ مثلنا، علّقوا أعمارهم فوق هذه الأغصان
.كما الغيوم، تتشابهُ الأبوابُ التي نغلقُها
.ما عاد بوسعي التعرّف إليه، الباب العالي الذي صفعتَهُ بيننا. صارَ مطرًا بلا مصير. لم تنبت بين أصدائه كلمةٌ حتّى. الصمتُ الذي يفصلُ بيننا إلى الأبد، كصحراءٍ لا تحصى
في عينِ العاصفةِ نقطةٌ ساكنةٌ، كحرفٍ في ختامِ قصيدة. هذا النبضُ الناجي بنواةِ نجمةٍ: قلبي. العشقُ والكرهُ والسعادةُ والوطن، مفرداتٌ مرادفةٌ لما حفرتُهُ عميقًا في روحي، ثمّ بمشقّةٍ محوتُه. "ظالمةٌ ظالمة ظالمة" الأصداءُ التي بصوتِكَ الفارغِ، أنتَ الذي كدلوِ دموعٍٍ، يملؤُهُ من يشاء. أمّا جراحي، فتضحك. هل من نبعٍ على ضيمٍ ينام؟.
.كلُّ ما يمرُّ من هنا محكومٌ بالحياة: النهرُ والعمرُ والأسفُ والجراح، والعاشقُ الذي أودت بوجهتِهِ هبّةُ خريفٍ، فأودعَ وجهَهُ باسمًا فوقَ ورقةِ شجر
ما دمتُ أقيسُ خسائري بالخُطى، ما دامتِ العصافيرُ تلتهمُ حصى عودتي كخبزِ نُسّاك. ما دامَ الحبُّ زهرةَ اللّاأحد، والحلمُ حصانًا في حصنِ دمعةٍ يدور. ما دامَ الجدولُ ليسَ الجرحَ نَفْسَهُ مرّتيْن، العالمُ سطرٌ طويلٌ من عذابِنا.
تضيقُ الغابةُ وتتسّعُ، كعينٍ، كذاكرةِ عاشق. هل يبرأُ مِن الندمِ مَن يتوضّأُ بالدموع؟ كم تألّمتُ لأقطعَ الشكَّ المكسورَ من قسوتِك إلى قسوتي. كم بدت لي الفأسُ كوديعةٍ في مرآة. كم على نفسي انحنيتُ، كي تكتملَ دائرةُ دمعة. كلُّ هذا المدى بينَ الأهدابِ يا إلهي، والحبُّ خيطُ خلاصٍ بفتيلِ شمعة.
.أذكرُ الحبّ، ذلك الرسّام المجنون الذي لا يزهرُ في مروحةِ يدِهِ سوى اللون الأحمر
.أذكرُ الفراشةَ نائمةً، أذكرُ دمعةً في الطين
.أحدُنا انكسرَ مثلَ قلمِ رصاص. الثاني كما تنكسرُ موسيقى
.ليستِ المغفرة التي تُثقلُها البراءةُ كندفةِ ثلج. ليسَ الانتقام الذي على نصلِ نفسِهِ يذوب
.ثمّةَ طريقٌ ثالثٌ إلى الغابةِ التي ليستِ العالم
أستيقظُ في قلبِ بئر. أيعقلُ أن يكونَ العالمُ حفرةً لردمِ دمعة؟
.من هذه النافذةِ المفتوحةِ في تراب، صرتُ أعرفُ وجهةَ نظرِ الوردة. صرتُ أرى فيما يرى القتيل
أهي عازفةُ البيانو تحملُ إلى نهايتي الأزهار؟
.سماءٌ عابرةٌ كوطءِ قدميْنِ خفيفتيْن. مطرٌ كمسيرةٍ من العشّاق. القلبُ قائمةٌ طويلةٌ من الأسماء. كلُّ الذينَ أحببتهم، جالسونَ تحتَ شجرةِ الحزن
في أيِّ يومٍ من النسيانِ نحنُ؟
.كملاكٍ لم تنجُ منه نأمةٌ، أتساءلُ وأذهبُ عميقًا في ذهبِ عزلتي