بلال فضل يكتب فضل الكلاب على كثير من لابسى الكاب والجلباب
أيهما أشد أذى وأعظم ضرراً على المجتمع: كلب بلدي ضال يتسكع بين المزابل، أم شيخ منافق لا يكف عن التطبيل للسلطة؟ كلب لولو ينفر بعضهم من لعابه الموصوم بالنجاسة، أم قاضٍ ظالم يعقر العدالة بأحكامه الهوجاء؟ كلب ضخم الحجم لا يؤذي إلا من يحاول أذيته، أم ضابط شرطة يبادر بإيذاء كل من حوله، لتأكيد سطوته؟ أسئلة تبادرت إلى ذهني، وأنا أقرأ فتوى تم تداولها، أخيراً، بكثافة، حرّمت فيها دار الإفتاء المصرية تربية الكلاب، إلا لأغراض الصيد والحراسة. ولست أدّعي أن أسئلتي تلك كانت جديدة، فهي، كالفتوى نفسها، أسئلة تراثية قديمة، سبق أن طرحها في عصور سابقة بعض من أدركوا كيف يمكن أن يكون الكلب أنفع للمجتمع من كثيرين ممن يزعمون أنهم حرّاس الدين وحماة الفضيلة، خصوصاً أن بعض هؤلاء يمكن أن ينفق من وقته الكثير، في استخراج نصوص تؤكد على حرمة تربية الكلاب التي تقلقه طهارة ريقها أكثر مما يقلقه تلوث الإسفلت بدماء الأبرياء، أو يزعجه خطف المواطنين من الشوارع، لكي يتحولوا إلى ألغاز مأساوية. وفي حين يتحمس هؤلاء لإصدار فتوى تخص الطهارة والنجاسة، تجدهم يتحاشون مجرد ذكر أي نصوص دينية تحرم الظلم والقتل والفساد، لكي لا يتهمهم أحد بأنهم أعضاء في خلايا نائمة تمارس التلقيح على السلطة، التي لم يعد يرضيها أقل من التأييد الصريح القارح الذي لا يحتمل التأويل. في سنة 331 هجرية، كتب العالم أبو بكر محمد بن خلف رسالة عنوانها "فضل الكلاب على كثير ممن لَبِس الثياب"، بدأها بقوله "ذكرت، أعزك الله، زماننا هذا وفساد مودة أهله، وخسة أخلاقهم، ولؤم طباعهم، وأن أبعد الناس سفراً من كان سفره في طلب أخ صالح.. وقد يُروى عن أبي ذر الغفاري أنه قال: كان الناس ورقاً لا شوك فيه فصاروا شوكاً لا ورق فيه... وفي ذلك، قال لبيد: ذهب الذين يُعاش في أكنافهم.. وبقيت في خلف كجلد الأجرب". وبعد أن يأخذ ابن خلف في تعداد أشهر أقوال ذم الزمان المنسوبة إلى أناسٍ عاشوا في أزمان الصحابة والتابعين التي يجاهد الكثيرون من أجل إعادتنا إليها، يدخل في لُبّ موضوع كتابه قائلاً "واعلم، أعزك الله، أن الكلب لمن يقتنيه أشفق من الوالد على ولده، والأخ الشقيق على أخيه، وذلك أنه يحرس ربه (يعني سيده) ويحمي حريمه شاهداً وغائباً ونائماً ويقظان، لا يقصر عن ذلك وإن جفوه، ولا يخذلهم وإن خذلوه". وتعضيداً لتفضيله لكلاب على كثيرين من بني البشر، يروي ابن خلف حديثاً منسوباً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، جاء فيه أن النبي رأى رجلاً قتله كلب، بعد أن حاول الرجل سرقة نعجة من قطيعٍ كان يحرسه الكلب، فقال صلى الله عليه وسلم معلقاً على فعل الرجل "قتل نفسه وأضاع دينه، وعصى ربه عز وجل، وخان أخاه، وكان الكلب خيراً من هذا الغادر"، ثم قال النبي (ص) معلقاً على فعل الكلب: "أيعجز أحدكم أن يحفظ أخاه المسلم في نفسه، وأهله، كحفظ هذا الكلب ماشية أربابه". وأظن أن حديثاً كهذا، لو تم نشره على شبكة الإنترنت مصحوباً بصورة عبد الفتاح السيسي، أو محمد إبراهيم، أو مجدي عبد الغفار، لحوكم من يفعل ذلك عسكرياً، بتهمة الانضمام إلى جماعة إرهابية محظورة، وتأليب الرأي العام، وإهانة رموز الدولة الشامخة. على أيام ابن خلف، كانت أسطورة "الزمن الجميل" معتمدة رسمياً، كما هي معتمدة في أيامنا. ولذلك، يخصص ابن خلف جزءاً كبيراً من كتابه لذم زمانه، وناس زمانه، مفضلاً عليهم الكلاب، ومستشهداً في ذلك بعبارات قالها كثيرون، عاشوا أزمنةً سابقة له، من ذلك ما قاله الأحنف بن قيس: "إذا بصبص الكلب لك، فثق بودّ منه، ولا تثق ببصابص الناس فربّ مبصبص خوّان"، وما يروى أن رجلاً قال لبعض الحكماء: أوصني، فقال: "ازهد في الدنيا، ولا تنازع فيها أهلها، وانصح لله تعالى، كنصح الكلب أهله، فإنهم يجيعونه ويضربونه، ويأبى إلا أن يحوطهم نصحاً"، يعني أنه ينبح محذراً لهم إذا رأى خطراً محدقاً بهم، أياً كان ما وقع به من أذاهم قبل ذلك، ومن ذلك أيضاً ما يُروى عن أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، رأى أعرابياً يسوق كلباً، فقال: ما هذا معك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، نعم الصاحب إن أعطيته شكر، وإن منعته صبر. فقال عمر: نعم الصاحب، فاستمسك به"، وما يرويه جعفر بن سليمان أنه رأى التابعي مالك بن دينار، ومعه كلب، فقال له: ما هذا، فقال له: هذا خير من جليس السوء. وفي التفريق بين محبة الإنسان ومحبة الكلب، وتفضيل الأخيرة على الأولى، يروي ابن خلف عن التابعي الجليل الشعبي أنه قال: خير خصلة في الكلب أنه لا ينافق في محبته، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "كلب أمين خيرٌ من إنسان خؤون". ورُوي عن بعضهم أنه قال: "الناس في هذا الزمان خنازير، فإذا رأيتم كلباً فتمسكوا به، فإنه خير من أناس هذا الزمان"، وهو المعنى نفسه الرائج في أيامنا، والذي يعبر عنه شاعر قديم قال: اشدد يديك بكلب إن ظفرتك به.. فأكثر الناس قد صاروا خنازيرا وفي ذلك، يقول أبو العباس الأزدي: لَكَلبُ النّاسِ إن فَكّرت فيهم.. أضَرُّ عليك من كلبِ الكلاب في حين يقول آخر لم يذكر ابن خلف اسمه أبياتاً ساخرة، أكثر تفصيلاً في المقارنة بين الإنسان والكلاب: إن قوماً رأوك شبهاً لكلبٍ.. لا رأوا للظلام صُبحاً مُضيّا أنت لاتحفظ الزمام لِخَلقِ.. وهو يرعى الزمام رَعياً وفيّا يشكر النّزر من كريمِ فِعالٍ.. آخرَ الدهر لا تراه نَسِيّا وتناديه من مكان بعيد.. فيوافيك طائعاً مُستحيّا إن سؤلي وبغيتي ومنايا.. أن أراك الغداة كلباً سويا ختاماً، يروي ابن خلف أن الأعمش كان له كلب يتبعه في الطريق، ليحرسه إذا مشى حتى يرجع إلى بيته، وما ذاك إلا لأنه رأى صبياناً يضربون الكلب، ففرّق بينهم وبينه، فعرف له الكلب معروفه، وظل له ذاكراً، ثم يتبع الحكاية، بقوله "ولو عاش أيّدك الله الأعمش إلى عصرنا ووقتنا هذا، حتى يرى أهل زماننا هذا، لازداد في كلبه رغبة وله محبة"، لتجد نفسك تقول له: يا مولانا ابن خلف، لو عشت أنت والأعمش إلى عصرنا هذا، لازددتما محبة لكل الكلاب، ولتأكد لكما كيف أنها أجدع وأكثر شرفاً ووفاءً ورحمة من كثيرين من لابسي الثياب، ولربما جعلك تأمل أحوال وتصريحات حكام أيامنا ومشايخهم تختار لرسالتك عنواناً آخر، هو "فضل الكلاب على كثير من لابسي الكاب والجلباب". -