أقول: “أنتِ لن تهزميني
لن أكون بيضةً لتشرخيها
في هرولتكِ نحو العالم.
جسر مشاة تعبرينه
في الطريق إلى حياتِك
أنا سأدافع عن نفسي”
المقطع السابق من قصيدة للشاعرة البولنديّة أنّا سوير (١٩٠٩ - ١٩٨٤)، تتحدث فيه إلى ابنتها المولودة للتوّ. لكن القصيدة نُشرت لأول مرة في بداية السبعينيّات، أي بعد خبرة الولادة بثلاثين عامًا على الأقل - إذا أخذنا في الاعتبار سيرة حياة الشاعرة. من الصعب ألّا نتساءل كقرّاء: هل احتاجتْ سوير لكل هذه السنوات لتربي غضبًا ما تجاه مولودتها، لتعيد استرجاع أو تطوير هذا الغضب في قصيدة عنوانها “أمومة”، حيث تصل المولودة لتهدّد حياة الأم ووجودها. عُمق ما أمسكتْ به سوير ليس في تعميم الصراع بين الأم ومولودها - إنه ليس صراع ملكيّة ولا جندر ولا أجيال - بل في ربطه بالولادة كعملية بيولوجيّة يشترك فيها كائن عاش وتكوّن وقام باختيارات ما تخص وجوده قبل لحظة الولادة، وهذا الصغير الدّمية الذي خرج للحياة من أحشاء الكائن الأول لتوّه.
يخرج هذا الصراع بين الأم ومولودها على الأرشيف الإنسانيّ العام حيث الأمومة عادة عطاء، تماهٍ بين ذاتيْن، حب لامحدود وغير مشروط. كأنّ قصيدة سوير تجعلنا نفكر في أمومتيْن: أمومة المتن - الذي تكوّن عبر الخطابات الدينية والفلسفات والأخلاق والقيم الاجتماعية المقبولة - حيث يُنظر إلى الأمومة كفطرة إنسانيّة محميّة بشكلٍ طبيعيّ من الصراعات والتوتر. وأمومة في الهامش قد تجد شظاياها السرديّة في بعض كتب الطب والنصوص الأدبيّة وقصص الجرائم الأسريّة، حيث هناك أصوات متفرقة تحاول التعبير عبر المرض النفسيّ أو الكتابة أو الجريمة عن الرعب والصراع والتوتر داخل أمومتها. ما يشغلني هنا ليس كيف استقرّت ملامح محددة للأمومة داخل المتن العام، ولكن كيف نُنصت إلى ما يخرج عليه ويعارضه. كيف يمكن أن ندرك أن الأمومة الموسومة بالإيثار والتضحية تنطوي أيضًا على الأنانيّة وعلى شعور عميق بالذنب. كيف يمكن أن نراها في بعض أوجهها صراع وجود، توترًا بين ذات وآخر، وخبرة اتصال وانفصال تتم في أكثر من عتبة مثل الولادة، والفطام، والموت.
مثاليّة الأمومة في المتن الثقافي العام تسبب مزيدًا من الشعور بالذنب عند هؤلاء الذين يشكّون في كنه هذه المثاليّة داخل خبرتهم الشخصيّة. إنها تُقابل التعبير عن كل خبرة مختلفة بإدانة أخلاقيّة واجتماعيّة، ربما لهذا هناك ندرة في سرد خبرات الأمومة خارج المتن المتفق عليه. ربما لهذا أيضًا احتاجت سوير إلى عقود لتتحرر فيها من قوْل ما هو متوقع منها، وهو ما لم يكن ليحدث في كل الأحوال بدون جهود شتى وسّعت التساؤلات النسويّة عن كل ما تم تعميمه وتنميطه في علاقة المرأة بجسدها وبالعالم.
شرخ الأمومة يبدأ من الداخل
ترفض الأم أن تكون بيضة يشرخها المولود في طريقه لحياته. يكمن هنا رعب التهديد وجديّته؛ لحظة ولادة شخص جديد تتطلب موت الكائنات الأخرى، موت السابق شرطٌ لا غنى عنه لكي يحصل الجديد على مجال لحياته كما يرى جورج باتاي. كأنّ ما يراه باتاي الجانب الساحر في مأساة الحياة هو نفسه ما تراه سوير تهديدًا بالفناء، الجانب المأساوي في أكثر لحظات الحياة سحرًا. في الحالتيْن يبدأ شرخ الأمومة من الداخل.
في كتابه “الجين الأناني”، يصف ريتشارد داوكنز الحروب اللانهائية التي على الجين أن ينتصر فيها من أجل الحفاظ على النوع. البقاء ليس للأصلح فقط بل للأكثر أنانيّة وقدرة على كسب معركة االوجود ضد الجينات الأخرى.لا توجد تضحية غير مشروطة؛ إنكار الذات عند داوكنز هو طريقة للحفاظ على الجينات، الاستثمار في الجين مرهون بإثبات قدرته على الاستمرار وحده بعد ذلك. يأخذ الجنين نصف جيناته من الأم، ويعتمد عليها في كل ما يحتاج ليعيش، حتى لو كان ما يحتاجه ضد مصلحتها. طريقة الجنين المبرمجة على الأنانية تُسخّر جينات الأم وتجعْلها تنكر ذاتها من أجله عبر “الحب”. إذا تخيّلنا أن رغبة امرأة في أن تكون أمًا لا تخلو من رغبتها الفرديّة في أن يكون هناك امتدادٌ لها، صورة منها، أن تترك جزءً منها في الحياة بعد موتها؛ فإن الحب والإيثار والتضحية مشاعر لا تخلو من حب الذات ومن أنانيّة الأم نفسها.
بنفس الدرجة، يمدّنا أي وصف طبيّ لعمليّة الحمل والولادة بمجازات عديدة عن التهديد، الصراع، الانتقاء، الاستثمار، والخطر؛ يدافع الرحم عن نفسه ضد الجنين الضار، يزداد جداره سُمكًا وهذا ما يؤدي إلى الحيض، إنها الوسيلة التي يختبر بها جسم الأم صلاحيّة الجنين حتى يقبل باستمراريّته. على جسد الأم أن يتأكد أن الحمْل هو استثمار جيد للمستقبل. ستتكوّن المشيمة إذا كسب الجنين معركته، لكن في نفس الوقت لابدّ من تكوّن غشاء رقيق يفصل دم الأم عن دم الجنين، الانفصال لا التماهي هو شرط النجاة لكليْهما. يحمل الحبل السرّيّ الغذاء والأكسجين من الأم لجنينها والنفايات من الجنين لأمه، ولكن خلال نقل ما هو ضروريّ من أجل الاكتمال، قد تنتقل الأمراض من الأم إلى ما تحمله. بيولوجيًّا، الجنين غريب داخل جسد أمه، كائن طفيليّ، وقد يصيبها أيضًا بعدد كبير من الأمراض عبر وجوده داخلها كما قد يتسبب في موتها قبل أو أثناء أو بعد الولادة. هذا الصراع الذي يحدث في المستوى البيولوجيّ لا يمكن أن نتوقع اختفاءه من العلاقة بين الأم وطفلها بعد الولادة. إنه الصراع الذي قد يجعل في كل تضحية من الأم تجاه طفلها شعورًا ملتبسًا بالتهديد، وفي كل ممارسة منها في حب ذاتها شعورًا عميقًا بالذنب.
أشار ابني إلى تمثال ضخم يتواجه على قاعدته تمساح وسمكة قرش ثم سأل:
إذا تعارك التمساح مع سمكة القرش، من الذي سينتصر؟
لا أعرف، مَن سينتصر في رأيك؟
الديناصور طبعًا!
إذا كان هناك صراع بين ذات الأم وذات طفلها فلن ينتصر أحدهما، سينتصر الديناصور “طبعًا”؛ إنه “الذنب”. يبدو الشعور بالذنب وكأنه الشعور الذي يوحّد الأمهات على اختلافهن. إنه يكمن في المسافة التي تقع بين الحلم والواقع مثلما في البنوّة والحب و العمل و الصداقة، هو أيضًا نتاج المسافة بين مثالية الأمومة في المتن العام وبين إخفاقاتها في الخبرة الشخصيّة. إنه شعورٌ جوهريّ حتى أنه يصلح كتعريف لممارسات الأم في حياتها اليوميّة: ابنك وزنه أقلّ من معدّل وزن من هم في عمره، لابد أنك لا تطعمينه ما يكفي. لقد استيقظ فزعًا من كابوس لأنه لا يشعر بالأمان. أنتِ لم تحضنيه أمام باب المدرسة لأنك كنت متأخرة عن عملك. أنتِ لم تتعلمي التزحلق على الجليد ورغم أنكِ تذهبين معه وتقفين في طابور في درجة حرارة عدة عشرات تحت الصفر فلن تستطيعي مساعدته في لبس هذا الحذاء العجيب وهو في النهاية سيذهب للتزحلق وحده بينما أنتِ تجلسين في المقهى تقرأين كتابًا في انتظاره. أنت امرأة متعكّرة المزاج في الصباح ومشغولة البال في المساء. الأمهات الأخريات يستمتعن بلعب الشطرنج ويحفظن الكثير من أغاني الأطفال.
الأم التي لا تشعر بالذنب تجاه أطفالها، هي تلك التي أتاها ملاكٌ في لحظة الولادة وشقّ صدرها، استأصل النقطة السوداء التي هي منبع الشرّ، حرّرها من هويّتها السابقة وشفاها من العدميّة أو الطموح، تمامًا، كما يحدث مع الأنبياء في عمليّة تجهيزهم للنبوّة.
لا يرتبط الشعور بالذنب بالتقصير فقط ولا بتمزق المرأة الحديثة بين العمل والأمومة. إنه ينبثق أحيانًا من نموذج مثالي للأمومة، حيث لا نهاية لما يمكن أن تقدمه الأم لطفلها من حب وحماية واستثمار في الوقت والتعليم …إلخ. إنه قد يأتي أيضًا من التاريخ الشخصيّ السابق على الأمومة.
بمجرد تأكدي من الحمل الذي أردته بكامل إرادتي، لم أشعر بالفرح الذي توقعته؛ سيطر عليّ طوفان من المخاوف والرعب من أن جسدي غير صالح للقيام بهذه المهمة. كنتُ في الثانية والثلاثين، واكتشفتُ فجأة أنني لم أهتم بصحتي أبدًا، أن الجسد كان مجرد وعاء لما أظنه نفسي، آلة لا تُطالب بشيء ومع ذلك من المنتظر منها الاستمرار في الخدمة. كنت قد بدأت التدخين بشراهة قبل عشر سنوات، عشتُ نمط حياة شبه بوهيميّ حيث لا يحتاج الجسد إلى وجبات منتظمة ولا إلى ساعات محدّدة من النوم. هذا، بالإضافة إلى تاريخ من أدوية الاكتئاب والمنوِّمات والمسكِّنات وغيرها مما وصلت إليه يديّ. هذا هو تاريخ جسدي قبل الحمل، أما بمجرد حدوثه، فقد ظهرت مؤسسات شتّى تعمل ليل نهار على تنويري بكل المخاطر الممكنة التي قد يسببها هذا التاريخ الشخصيّ للجنين. الشعور بالذنب كان أسبق في أمومتي من كل المشاعر الأخرى.
كلمتُ أبي في صباح أحد أيام الشهر الثالث من الحمل، سألته إذا كنتُ قد أُصِبتُ وأنا طفلة بالحصبة الألمانيّة. قال لي: أنتِ لم تُصابي بالحصبة التي نعرفها ولكن ما هي الحصبة الألمانيّة؟ لم أكن أعرف في الحقيقة إذا كنا نتكلم عن حصبتيْن مختلفتيْن. كل ما حدث أنني قرأت في الليلة السابقة عن مخاطر إصابة الأم بالحصبة الألمانيّة، وكيف أن العدوى يُمكن أن نتنقل إلى الجنين وتؤدى إلى ولادة طفل أبكم أو أعمى أو بتشوّهات في القلب والجهاز العصبىّ. لم يخطر ببالي أني سأختلف مع أبي على المصطلح الطبيّ. سألته إذا كان من الممكن أن يحصل على تقرير من الوحدة الصحيّة التي نتبعها بكل التطعيمات التي حصلتُ عليها كطفلة. ردّ أبي ببساطة أن الوِحدة التي كنا نتبعها حتى نهاية السبعينيّات تم هدمها وأنه رأى بأم عينيه كيف تم حرق كل الملفّات التي كانت بها قبل الانتقال لمبنى آخر.
مع وضد المؤسسات
ربما أنني فكرتُ أن عدم قراءة كل هذه المعلومات عن الحصبة الألمانيّة أكثر رحمة من معرفتها. أن المعرفة الدقيقة بابٌ للرعب والكوابيس، بينما المؤسسة الوحيدة التي كان يمكن أن تطمئني، اختفت. جسد بلا تاريخ طبيّ موثق يواجه ثورة الطب الحديث التي تُسائل وتستشرف مستقبله جزئيًّا من تاريخ أمراضه وتطعيماته.
لا تستطيع المرأة الحديثة أن تنعم بالسكينة وهي محاصرة بمعرفة ما يحدث في جسدها الحامل يومًا بيوم؛ الطبيبة، منشورات مكتب الصحة، كتب الإرشادات التي تقول لها ماذا تأكلين وكيف يجب أن تشعري، وما هي معدّلات زيادة الوزن التي ستمرين بها في كل مرحلة، تقارير طبيّة تصف لها ما تشعر به من غثيان وأحلام غريبة في الشهور الأولى، أو آلام الظهر وازدياد مرات التبوّل في الشهور الأخيرة. الأكثر من ذلك؛ جبل من الكتب المطبوعة والمواقع الطبيّة المتخصصة على الانترنت تحذّر من الكوارث التي من الممكن أن تمر بها هي ومن في بطنها؛ من الإجهاض إلى الولادة المبكرة، من تسمّم الحمل إلى تشوّهات الجنين، من جدري الماء إلى احتمالات إنجاب طفل معوق، مشوّه، مُصاب بعيوب خلقيّة.
هل تقف مؤسسات الطب الحديثة بين الأم وجنينها؟ هل قصدتُ من القصة السابقة أن معرفة مخاطر الحمل تسبب الكثير من التوتر لا البهجة التي قد تأتي من الجهل بهذه المخاطر؟ هناك كتابات مهمة تنتقد دور مؤسسات الطب والطفولة والأمومة في الغرب، لكني في الحقيقة لا أستطيع أن أتبنى هذا المكان في“نقد” هذه المؤسسات، دون الاعتراف بأن هذا التبني في حالتي ستنقصه الأصالة. طبقًا لمنظمة الصحة العالميّة، هناك ما بين ٢٨٩٠٠٠ و ٣٤٣٠٠٠ امرأة تموت سنويًّا خلال تعقيدات الحمل والولادة وأن ٩٩٪ من هذا العدد يموت فيما يُسمى بالعالم الثالث. أنا مررتُ بتجربة الحمل والولادة في العالم الأول وتمتعتُ بآخر إنجازاته الطبيّة، ولكنني في الأصل أنتمي لما يُسمى بالعالم الثالث. موقفي من مؤسسات الطب والطفولة والأمومة شائك ولصيق بخبرتي في العالميْن. عرفتُ في طفولتي نساء مُتن أثناء الولادة، يمكنني أن أحكي قصصًا كثيرة عن ذلك، ولكن لماذا نذهب بعيدًا، يكفي أن أقول أن أمي نفسها ماتت في سن السابعة والعشرين بعد عدة ساعات من ولادة طفل ميّت. أنه لم يكن في متناول يدها كتب لتقرأها فتعرف أن سكون الجنين لعدة أيام في الشهر التاسع علامة خطر، أن المستشفى التي ذهبت إليها لم تكن قادرة على إنقاذها. أمي التي ماتت في سبعينيّات القرن العشرين، مثال نموذجيّ لكثير من نساء العالم الثالث إلى اليوم، نساء يلدْن - للحظ السئ - في لحظة يتعرّض فيها الطب التقليديّ والتبادل الشفوي للخبرات لانقطاع واضطراب بسبب الحداثة، بينما لا تتوفّر لهنّ مؤسسات طبيّة تستطيع أن تقوم بهذا الدور بسبب تعثّر نفس الحداثة.
ولدتُ ابني الأول في كندا، بعيدًا عن الأهل وفي شبه عزلة حيث كنتُ قد وصلت إليها منذ شهور فقط وليس لي فيها أصدقاء بعد، لكن كانت هناك الرعاية الكاملة من المؤسسات الطبيّة. أثناء زيارة روتينية للطبيبة، قالت لي بجديّة أنها تشتبه في إصابتي باكتئاب ما بعد الولادة. أعطتني كتيبًا عن المرض وأرسلتني إلى جروب ثيرابي يضم خمس أمهات أو مريضات غيري ويواجهن صعوبات مختلفة. على مدى ستة أشهر كنا نجتمع مرّة أسبوعيًّا مع طبيب نفسيّ ومتخصّصة اجتماعية. كان يُطلب منّا في كل مقابلة أن نقوم بتدريب محدّد يُسمّى “واجب”؛ مثل أن نحكي عن أكثر لحظة رعب مرّت كلٌّ منا بها في الأسبوع السابق، عن أي رغبة في إيذاء الذات أو الطفل، عن الأحلام والكوابيس وعدد مرات البكاء المفاجئ. كلّهن كنديّات وُلدن وعشن في هذه المدينة ولديهن دعم أسريّ بشكل أو بآخر ما عدا أنا وطبيبة إيرانيّة لم تستطع بعد أن تحصل على شهادة ممارسة تخصّصها في كندا.
إحدانا كانت تكره أمها للغاية أو هكذا قالت: “أنا أكره أمي وأحتقرها أكثر من أي شخص في العالم، أنا يقتلني الرعب أن تكون علاقتي بطفلتي مثل علاقة أمي بي”. واحدة منّا كانت تُعاني من الأرق، تراقب ابنها طوال نومه حتى توقظه إذا توقف فجأة عن التنفّس. حكت لنا الإيرانيّة أنها ولدت ابنها ولادة طبيعيّة في المستشفى، أن كل شيء مرّ على ما يرام ما عدا أنها فشلت لأسبوع كامل في إرضاعه رضاعة طبيعيّة: “تحجّر اللبن في صدري، ابني عنده عيب خلقيّ في شفته السفلى يمنعه من استدرار اللبن. جرّب الأطباء معي كل شيء ولم أنجح. كلّمت جدّتي في أصفهان وحكيت لها ما يحدث لي. قالت أحضري مشطًا أسنانه ضيقة، ضعيه في ماء دافئ وبعد تجفيفه دلّكي صدرك عدة مرات كل ساعتين، قالت لي أيضًا ضعي الطفل تحت إبطك بحيث تكون قدميْه خلفك واسندي رأسه بيدك كأنك ترقصين معه واقفة وهو سيرضع، ونجحتُ في إرضاعه في أقل من يوم”. لا شك أننا جميعًا انبهرْنا من عبقريّة النصيحة التقليديّة ونجاحها، لكن الطبيبة الإيرانيّة بدت تعيسة للغاية. بدا لي وكأنها غير قادرة على الاستمتاع بهذه التجربة لأن أمومتها حدثت في غير مكانها الأصليّ، أوأن فرحتها بها مؤجلة حتى تعود إليه. انتبهتُ إلى أنه بصرف النظر عن فاعليّة الجروب ثيرابي والمؤسسة التي تقف خلفنا، فأنا وهي لا نشعر بالأمان لأننا دخلنا إلى التجربة ونحن بعيدتان عن الأهل ولأن هناك مرجعيّة ما نفتقدها في الغربة.
مرجعيّة الأمومة
يبدو أن التفكير بالأمومة يستدعي النظر في نفس اللحظة إلى اتجاهيْن مختلفيْن؛ اتجاه الماضي عندما كنتِ ابنة لأم، واتجاه المستقبل عندما أصبحت أمًّا لطفل. لا أعرف بأي طريقة تشكُّل البنوّة أمومتنا لكن في مقدوري أن أتخيّل استحالة تحييدها أو تفاديها.هل يمكن أن يكون ذلك في حد ذاته سببًا غير مرئيّ لتوتّر أمومتنا؟ إذا كانت أمكِ بالغة الحنان فربما تريدين أن تكوني مثلها وربما تشعرين بالذنب لأنك لا تستطيعين ذلك. إذا كنتِ مشروع أمك الأول الذي استثمرتْ فيه كل ما تملك لتكوني كما تريد فقد تكرري نفس الاستثمار مع طفلك، أو قد تراقبي نفسك حتى لا تعذبيه - أنت التي تعذبتِ لتتحرري من طموحات أمك. سواء كانت أمك مسالمة أو عنيفة، دافئة أو باردة، عاقلة أو مجنونة، فلابد أن هناك مرجعيّة لكيفيّة الأمومة التي تحلمين بها. لكن ماذا لو كانت أمك قد ماتت قبل أن تكوّني ذاكرة عن علاقتها بك، ماذا عن غياب الأم أو اختفائها كمرجعيّة شخصيّة يمكنك أن تتبنيها أو تتعاركي معها عندما تصبحين أمًا؟ وماذا عن تجربة الأمومة في الغربة، حيث تغيبين أنتِ عن “وطنك” الأم؟ هل هذا يجعلكِ أكثر حريّة أم أكثر ضياعًا في ممارسة دورك كأُم؟
قد تكون حوّاء هي المرأة الوحيدة التي مرّتْ بخبرة الأمومة بدون أي ذاكرة شخصيّة أو جماعيّة عن كونها بنتًا لأم، بدون مرجعيّة تستضئ بها. كيف ولدتْ حوّاء مولودها الأوّل إذن؟ كيف تصرّفت مع الغثيان خلال الشهور الأولى، وهل أحبّت مولودها حين خرج منها، ومن الذي قطع الحبل السرّي بينه وبينها وبأي آلة، هل كان هناك ثدييات لتراقبها وتقلّدها أم أن هذا النوع من المعرفة يأتي بالفطرة؟ هل أرادت حوّاء أن تكون أمًّا أم لا، ثم كيف لها أن تعرف إذا كانت هي نفسها لم تولد من رحم أم ولم يكن في الدنيا أنثى أخرى قبلها! سمعنا أن حواء وآدم ارتكبا معصية، وأنهما طُردا من جنة عدن. عوقِب آدم بأن يشقى في الأرض، وهو عقاب قد نرى من موقعنا في العالم الحديث أنه ليس خاصًا بالرجل، بل بالبشر جميعًا رجالاً ونساءاً. لكن عقاب حواء يخصها وحدها ولا يشاركها فيه رجلٌ وهو آلام الولادة “تكثيرًا أُكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلِدين أولادًا، وإلى رجُلك يكون اشتياقك، وهو يسودُ عليكِ" سفر التكوين ٣: ١٦].
من الصعب تخيّل الولادة الأولى على الأرض، بدون خبرات سابقة وبدون مؤسسات. من الصعب تخيّل النساء اللواتي ولَدن في الصحراء والحقول وغرف الخبيز وأطراف المدن أو فقدْن حياتهن قبل اكتشاف التخدير أو المضادات الحيويّة. ولكن يظل من الصعب أيضًا أن تلدي وأن تكوني أمًّا، اليوم، ومع كل الامتيازات الطبقيّة والطبيّة الممكنة. الولادة فعلٌ فرديٌّ، بغض النظر عن الأطباء والمساعدين ودعم الزوج والمحاليل والمسكنات. أنت وحدكِ عليكِ أن تلدي وأن تتحرري مما بداخلك لأن الألم أصبح لا يُحتمل، لأن حياة المولود أصبحت مرهونة بالانفصال عنه ولأن وجودكِ أصبح موقوفًا على هذا الانفصال.
ستبدئين بعد الولادة رحلة مع كائن من المفروض أنه جزءٌ منكِ ولكنه أحيانًا أيضًا يبدو لكِ غريبًا. مع كل خطوة في هذه الرحلة سيواجهك سؤال جديدكأن عليك اختراع أمومتك من البداية، كأنها لم تحدث لأحدٍ قبلك، كأنها اختبار لا نهائيّ لوجودك الشخصيّ ذاته، لعلاقتك بجسدك أولًا ثم لعلاقاتك بكل ما كنتِ تظنين أنه أنتِ ثانيًا.
إذا كنتِ تأملين أن الجُهد النسوي في القرن العشرين سيستمع إلى تجربتك فربما سيصيبك الإحباط؛ فالكثير من النظريات النسويّة في معارك من أجل حقوق المرأة، المساواة في العمل وأمام القانون وفي الفضاء العام، ومن أجل ذلك عليها أن تقوم بتعميم فكرة المرأة، بالبرهنة على موضوعيّتها كمجموعة، كقُوى في المجتمع، كندّ لجماعة الرجل. عندما يأتي الأمر للأمومة، تظهر تناقضات النسوية الغربيّة لأنها لا تستمع إلى الخبرات الفرديّة، وإذا حدث واستمعتْ فإنها تنقدها بدعوى أنها إما تفصل بين خبرة الأمومة والمجتمع بمؤسساته، أو تفصل داخل الأمومة بين الذات والآخر، أو لأنها فشلت في كل الأحوال في سرد الخبرة الذاتية التي يمكنها أن تدعم هذا الخطاب النسوي أو ذاك. ستجدين أكثر الحركات النسويّة راديكاليّة تدافع عن حقوقك في أخْذ إجازة وضع بمرتب، في تقليل ساعات العمل أثناء الرضاعة، في الاعتراض على تقتير الدولة في دعم مؤسسات رعاية الأطفال أو عدم أخذ التأمين الصحيّ لاكتئاب ما بعد الولادة بجديّة. قد تفتح الحركات النسويّة ملفات مسكوتًا عنها، مثل حقوق الأم بدون زوج، أو الأم المثليّة ولكن في كل تلك الانتصارات، معركة الخطابات النسويّة في معظمها مع المؤسسات، كأن الأمومة خبرة مُغلقة على نفسها داخل جماعة النساء في معركتها مع الذكورة دون الحفر داخل هذه الخبرة “المختلفة” والتي يمكن أن تُغيّر وعي المرأة والرجل معًا. إلى أن تنتبه النظريّات النسويّة إلى العنف والغضب والإحباط داخل الأمومة، عليكِ أن تسردي تجربتك أو تأنسي إلى السرد الذي يساعدك على إدراك أنك لستِ وحدَكِ.
كان ابني في الرابعة من عمره عندما سألني: ما هو المكان الذي زرناه أمس؟حاولتُ أن أتذكر، ولما اكتشفت أننا لم نذهب إلا إلى الحضانة والحديقة في الأيام الماضية، فكرتُ في الأسبوع السابق: ذهبنا إلى طبيبة يوسف. نظر إليّ وقد نفذ صبره: لا، لا، أمس. ظننتُ أن سوء التفاهم لا يدور حول مكان بل حول الزمن؛ ربما أمس بالنسبة له هو الشهر الماضي مثلًا. فشلتْ محاولاتي في الوصول إلى إجابة. بعد جهدٍ، اكتشفتُ أنني كنتُ ببساطة معه في الحلم؛ أنه عندما يحلُم، وأكون معه في الحلم، فأنا فعلًا كنتُ معه ومن الطبيعي أن أتذكر ما حدث لنا هناك.
في الاستئناس بالسّرد
في رواية ج. م. كوتزي “إليزابيث كوستيلّو”، يرفض جان ابن الكاتبة الشهيرة إليزابيث كوستيلّو أن يقرأ ما تكتبه أمه، هو لن يقوم بذلك إلا عندما يصبح في الثالثة والثلاثين من عمره؛“ذلك كان ردّ فعله تجاهها، انتقامه من بابها الموصود في وجهه. لقد أنكرتْه، لذا فقد أنكرها. أو ربما أنه رفض أن يقرأها من أجل أن يحمي نفسه”. كيف أنكرتْ كوستيلّو أطفالها ولماذا؟ يقدّم لنا السرد شظايا متناثرة عن أداء كوستيلّو كأمّ؛ فعلى قدر ما يستطيع جان أن يتذكر “كانت أمه تعزل نفسها في الصباحات من أجل الكتابة. كان من المستحيل اقتحام عزلتها تحت أي ظرف من الظروف. لقد اعتاد أن يفكر في نفسه كطفل سيئ الحظ، وحيد، وغير محبوب”. نحن نرى أمومة كوستيلّو من وجهة نظر ابنها، هي لن تتحدث عن ذلك طوال الرواية، إنها تتحدث فقط عن كتابتها وبعض المواضيع الكبرى مثل الواقعيّة ومعاملة الحيوانات. يمكننا أن نتخيّلها أمًّا شابة تعاني في تقسيم وقتها بين عملها وطفليْن، أنها تشعر بالذنب أحيانًا لأنها لا تقضي الوقت الكافي معهما. يمكننا أن نتخيّل أمًّا متعكرة المزاج في ساعات الصباح وليس لديها طاقة للتعامل مع العالم فتوصد بابها في وجهه. ولكن تبدو كوستلّو أكثر تعقيدًا من ذلك، جان نفسه يتساءل عن حقيقتها التي لا يعرفها، بينما في عمق ذاته هو لا يريد أن يعرف. لو كان بمقدوره أن يتحدث لقال: “هذه المرأة التي تتعلقون بكلماتها كأنها عرّافة، هي نفس المرأة التي كانت تختبئ يومًا بعد يوم في مأواها في هامستيد، تبكي على حالها، تزحف مساء في الشوارع الضبابيّة لشراء السمك والبطاطس التي كانت تعيش عليها، تسقط في النوم بملابسها. إنها نفس المرأة التي اهتاجت كعاصفة بعد ذلك في المنزل بملبورن، شعر ها يطير في كل الاتجاهات، وهي تصرخ في أطفالها: "أنتم تقتلونني! أنتم تمزقون اللحم عن جسدي!””
أدريان ريتش ليست شخصيّة روائيّة مثل إليزابيث كوستيلّو؛ لكنها كاتبة وأم أيضًا. كتبتْ ريتش في يوميّاتها في مايو ١٩٦٥”أن تعاني مع ومن أجل وضد طفل _ أموميًّا، ذاتيًّا، عصبيًّا، أحيانا مع شعور بالعجز، وأحيانا مع وهم تعلُّم الحكمة ــــــ ولكن دائمًا، في كل مكان، في الجسد والروح، أنت مع هذا الطفل ـــــ لأن ذلك الطفل هو جزء من نفسك”.
يمكننا أن نتخيّل أن ريتش بشكل ما هي كوستيلّو في إحدى لحظاتها. فرغم أن طفلها هو جزء منها إلا أن هناك لحظة تعجز فيها عن الخروج من كونها امرأة لديها مشروعها الخاصّ الذي يسبق كونها أمًّا بخطوة، أن هويّتها تكوّنت من خلال الكتابة، مثلما تتكوّن هويّة أفراد آخرين من خلال ما يريدون أن يساهموا به في هذا العالم. أن تكوني كاتبة وأماً، هو أمر لا ينطوي في حد ذاته على أيّ تعارُض ظاهر، ولكن ريتش تتحدث في أماكن متفرقة من كتابها عن إحباطها لأنها لا تستطيع أن تجد وقتًا لنفسها، عن نوبات الغضب والبكاء، عن طفلها الذي يرفض أن تكون آخر بالنسبة له فهو يترك ما في يده ويقفز على الآلة الكاتبة بمجرد جلوسها للعمل. أظن أنها تمنت أحيانًا من طفلها الذي هو جزءٌ منها أن ينفصل عنها بعض الوقت، أن يصدق أن من حقها أن تذهب وحيدة لمقابلة نفسها. ريتش مثل كوستيلّو تواجه هذا التجاور بين هويتها ككاتبة وهويّتها كأم:“من وقتٍ لآخر يسألني أحدهم: ‘ألم تكتبي أبدًا قصائدَ عن أطفالك؟’. لقد كتب الشعراء من جيلي قصائدَ عن أطفالهم ـــــ عن بناتهم خصوصًا. بالنسبة لي، الشعر يوجد حيث لا أكون أمًّا لأحد، حيث أوجد كنفسي”.
إنه ليس مجرد تجاور بين مكوّنين داخل هويّة الأم الكاتبة أو الكاتبة الأم، إنه تمزّق، صراع على الوقت والطاقة، عندما تنجح الكاتبة في أن تكون أمًّا ليوم ستشعر بالفشل تجاه ما لم تنجزه من قراءة أو كتابة، عندما يكون لديها يوم لنفسها ستتألم من أنانيّتها. عندما تستطيع في يوم ثالث أن تكتب بينما يجلس طفلها على ركبيتيْها، وأن تلعب معه لعبة الاستغماية بينما تفكّر في تغيير كلمة في قصيدة، لا توجد ضمانة أنها لن تشعر بالذنب أو الفشل في فِعل ذلك. أيضًا، لا توجد ضمانة أن طفلها سيقرأ ما كتبته يومًا أو أنه لن يكون غاضبًا مثل جان ابن إليزابيث كوستيلّو.
وأنت تلدين تذكّري أنك لستِ بيْضة، سوير نفسها تعرف ذلك، قد تشعري لأيام أو ساعات، أنكِ تحت رحمة “رحم” مُحاط بأعضاء أخرى، ولكنه محاطٌ أيضًا بوجود وبتاريخ سابق للحمْل. صحيح أن الولادة هي تلك اللحظة التي ستشقكِ إلى نصفين. ولكنّ أليْس بحياة كلّ منّا كسْر ما، شرخ، كما يقول سكوت فيتزجيرالد؟ أليس هذا الشرخ هو هويّتنا التي نتحرك بها في العالم؟ الولادة هي عتبة في رحلة، إنها المجاز الذي يقوم به الجسد لكي يعي ذاته. أدريان ريتش تقصّدتها من أجل ذلك: “كنتُ أحاول أن ألدَ نفسي، وبشكلٍ ما كنتُ مصممة أن أقوم بذلك عبر الحمل والأمومة”. كأن الشاعرتيْن أنّا سوير و أدريان ريتش ـ كل بطريقتها ـ تريد أن تقول: أنا لديّ وعي بتصدّعي الذي أعيش معه من قبل الولادة، أنا هشّة، وإعطاء هذه الدّمية الحياة وانفصالها عني شرخ جديد في وعيي، أنا لم ألِد هذه الدّمية للتوّ وحسب، بل عليّ من أجلها أن ألِدَ نفسي أيضًا، ولادة شخصيّة، تجذّر شروخ ذاتي السابقة أو تساعدها على الالتئام.
على سبيل الخاتمة: قصيدة “مراد”
- I don’t want to die, mama.
- لن تموتَ الآن، أنت أربع سنوات فقط يا حبيبي.
- I don’t want to get old, then die, mama.
- ربما ستكون وقتها مستعدًا يا حبيبي.
- But why do we die, mama?
- ربما لأننا، أقصد... ربما لأننا أكبرُ من الحياة يا حبيبي.
-Tell God that Mourad doesn’t want to die, mama.
- ولكنني لستُ على اتصالٍٍ به يا حبيبي.