Jaroslav Seifert
ياروسلاف سيفرت
أن تكون شاعرا
علمتني الحياة، منذ زمن طويل
أن أجمل الأشياء
التي يمكنها منحنا إياها:
الموسيقى والشعر
إن استثنينا الحب بالطبع.
في كتاب مختارات قديم
نشره مستودع كتب صاحب الجلالة الملكية والإمبراطورية
سنة وفاة فرشيكلي،
وجدت بحثا عن الفن الشعري
والمحسنات الأسلوبية.
إذ ذاك، وضعت زرّ ورد في كأس
أشعلت شمعة
وبدأت كتابة قصائدي الأولى.
لتنبثقي إذا يا شعلة الكلام،
ولتضطرمي
ما همّ إن أحرقت أصابعي!
استعارة مدهشة تساوي أكثر
من خاتم ذهبي في اليد.
ومع ذلك، فإن موجز عروض بوشماجر
لم يقدم لي أي مساعدة.
سدى، لملمت الأفكار
وأطبقت جفنيّ بتشنج
لأسمع أول بيت عجائبي.
بدلا من الكلمات، شاهدت
في الظلام ضحكة امرأة وشَعرا
طافيا في الهواء.
ذاك هو قدري.
ركضت خلفها - حتى انقطعت أنفاسي -
حياتي كلها.
*****
قصيدة وجدت فوق سجادة مطرزة.
براغ!
في قلب الذي لم يرها إلاّ مرّة واحدة
على الأقل، يصدح اسمها
إلى الأبد.هي نفسها أغنية منسوجة بالزمن
ونعشقها
فلتصدح!
كنت لا أزال سعيدا، أحلامي الأولى
لمعت كصحون طائرة
فوق سطوحها
ثم اختفت، وحده الله يعلم أين،
يومها كنت شابا.
ذات يوم، أسندت وجهي
على حجر حائط قديم
في ناحية ما، فوق باحة قلعتها
حين سمعت فجأة
هديرا كئيبا.
إنه رعد القرون الغابرة
لكن صفائح الجبل الأبيض
الفاترة والحنونة
همست بحنان في أذني.
امضِ! ستكون مسحورا.
غنّ! لديك من يستمع إليك.
لكن لا تكذب!
مضيت ولم أكذب.
إلا قليلا، عليكن،
يا حبيباتي.
عذراء جيجكوف
من ثم أتى شهر أيار؛
ترك الربيع
أشعته المزهرة تتسخ
على سقوف بنايات المستأجرين
فتسقط أمي على ركبتيها
فوق بلاط كنيسة القديسة أدالبير
لتصلي للعذراء.
كانت أقرب إليها، في أيار، من أي يوم آخر.
مقوسة الظهر أمام المذبح
تشبه أكواما
من الثياب المهملة.
أصلي من أجلك أيها العاق!
وأنا، أبتسم في سرّي.
في المدرسة، كنت أحب اللاتينية.
كنا نقرأ فيرجيل.
ترن في رأسي إيقاعات
الشعراء الرومان.
بدأت بدوري، أكتب الأشعار.
كنت أتنزه وأنا أغني.
بصوت خفيض. بصوت سيء.
كنت أكره الرياضيات
أشعر بالخوف
عند كل امتحان
وفي الليل، أستدير على نفسي، في السرير
بلا توقف.
للحظات فكرت بالصلاة
لكني، بسرعة، دفعت عني الفكرة
لأحسست بالعار
فيما لو طلبت مساعدة السماء.
حتى جاء اليوم، الذي شعرت فيه، فجأة
بالرعب.
رعب أسود.
تذكرت إيمان أمي
وقلت لنفسي، بخوف:
لا أحد يعرف حقا!
ها أنا أتسلق درجات كنيسة جيجكوف
الباردة
حتى أصل إلى المذبح المغطى بالزنبق
لكن عطرها، بدا مرّا ذلك اليوم
كما لو أن على لساني
حليب الهندباء.
بسرعة صليت للعذراء
لكي ترأف!
لترأف بي وترحمني
ولترحم التي أحبها
التي كانت في الثامنة عشرة،
إذ أنها تائهة كروح متألمة
لا تأكل، لا تنام
حزينة تبكي
وتفضل الموت.
ولكي - أيتها الرحمة الإلهية - لا تحمل.
نظر إليّ تمثال العذراء
مباشرة في عينيّ.
بعد أيام فاضت الورود
على المذبح، بالعطر
كسابق عهدها.
وأنا، عدت وأحسست على شفتيّ
طعم قُبَلِ السعادة.
*****
تقرير عن هدم بيت
إلى فاتسلاف سمكيال
لوهلة، بدا البيت كأنه يرغب في الركوع
ليطلب الرحمة،
لكن الأدراج البيضاء المؤدية إلى السقيفة
التي قادتني، في ما مضى، بدرابزينها
إلى الباب المفضل
انهارت لتوها
كلوح الوصايا المهشم.
اعترت رجفة خفيفة
بئر طفولتي
المهملة في زاوية
التي تشبه قيثارة منخورة بلا أوتار
قبل أن يختفي خلف غمامة سوداء.
بسرعة أضرم انفجار الذكريات
السريعة الاشتعال.
كأنها مخضبة بالوقود، اشتعلت كمصباح
وركضت معي
لترافق هروبي.
على بعد خطوات من هنا، كان - في الماضي -
ُنزل بيزوفكا حيث نذهب للرقص.
فوق باب المدخل، كانت هناك ستارة قرمزية
ذات تخاريم مذهبة
وحول الأعمدة، زهور من ورق.
أحيانا، تعزف الفرقة الموسيقية، ألحانا في الحديقة
إذ ذاك، نسمع أحيانا، النغم من بعيد
حتى وإن كانت النوافذ مغلقة.
كل ذلك انتهى من زمن طويل
حمله الشيطان
لكن، لسعادتنا، لم يتوقف زمن الرقص
إذ لا تزال تصدح الأغنية.
أنت أيضا، يا حبي، ابقي معي
وابتسمي
ابتسمي لي دائما
إلى أن أموت.
*****
برج الإرسال
إلى فلاديمير ياستل
إنه الخريف؛ فوق شرفة الكرمة
ترفرف فراشة مستوحدة
باحثة، تحت عنقود ضخم
عن الزهرة المستوحدة.
أجهل أمر العالم، لكن في بلادنا
يعشق الشعراء الدوالي.
كنت شابا ساذجا
وأحيانا، لا أعود إلى منزلي إلا في ساعة متأخرة.
كنت أتسكع لفترات
في شوارع المدينة القديمة.
في حين تنادي العاهرات على الأرصفة
المارين
كنت ألقي بصوت خفيض
أشعار حب
وكنت أشعر بأنني أتوه
بين كوكبة نجوم معروفة
وسط مجرة لامعة.
مثل وريقات وردة ذابلة
تطير الليالي
من حيواتنا بلا هموم
لتحط أمام أبواب الماضي المعتمة
ولا تعود
سوى ذكرى نصف شفافة.
كنت أعتقد أن الشعر،
في عيد دائم.
يحميني مثل ملاك حارس،
ليعرج معي في الغبار والطين
حافي القدمين.
في تلك اللحظة بالذات، كان عليّ أن أركع
إلى الأسفل، قرب الأرض
حيث كان مكاني.
صحيح، انه يسهر عليّ ليل نهار
لكنه لا يستطيع درء أي شيء.
أحيانا أعود إلى المنزل
عبر جبل بيترين الربيعي.
الحديقة مفتوحة حتى في الليل
حيث ألتقي بالعشاق.
حدث ذلك في صباح ربيعي،
منهك
جلست على مقعد مغطى بالندى
تحت قناطر من عطر طازج.
أمام بصري الصورة المعشوقة؛
خلف الستارة المنثنية بالضباب،
الذي بدأ يرشح في الفجر،
تقف الكاتدرائية والقصر.
أيها القصر، لا زلنا ننام.
أسندت رأسي على ذراعي
لأتأمل شجرة مزهرة
على بعد خطوات قليلة.
لم تكن الزهور تفتحت بعد،
وما من شخص ليغني له العندليب.
لحظنها،
ثمة أبيات، كنت حلمت بها،
عادت إلى ذهني.
رنّ البيت الأول بهدوء،
من ثم استعاد
آخر أغنيته
وجاء ثالث ورابع
مرتبطان ببعضهما برزمة أنيقة
لقافية لامعة.
إنها أغنية لك، يا معشوقتي،
أجمل من عقد اللؤلؤ
الذي تلفينه ثلاث مرات حول عنقك.
رغبت في أن أضعها، هذا الصباح، على ركبتيك
مثل قربان
لحبك المعذب.
لما وصلت الأغنية إلى نهايتها،
بسرعة، نهضت،
أسرعت بالعودة
عبر الدرب المُسوّر،
بين النسرين
والأسيجة ذات الشباك المعدنية المحيطة بالجنائن
مارا بالقرب من برج الإرسال
الذي ينظر إلى نافذتي.
بسرعة جلست إلى مكتبي
استللت قلما بيدي.
لكن، رباه!
لم أستطع عندها تذكر
بيت واحد.
وما زلت حتى اليوم، أبحث
عن أبيات ذلك الصباح الرائع.
*****
أقراط من مرجان
كل ما يغادرنا
ويغور في الماضي
يفقد في طريقه جزءا كبيرا
من ملكياته.
يشجب الألم، ننسى الخطيئة،
يتخلل النبيذ
والقبل المسمرة تحت القبة السماوية
تصير إزعاجا.
عندما كنت أحلم بذراعيك،
كنت أبدع قصائد،
أذرع غرفتي
وألقيها على نافذة فارغة.
آه. أي قصائد هي!
لم تكن جيدة كثيرا،
لكنها مليئة برغبة شرهة
وبكلمات شغوفة.
تضغطين راحتك على فمي
كي اصمت
وتدافعين بحدة
عن أذنيك الصغيرتين المفاجئتين
في حين طرف لساني
كان يتوه في ثنياتهما الزهرية
كما لو يضيع في متاهة.
غالبا ما كنت أنام على قلبك
متنشقا بشراهة عطر
جلدك الحارق.
للأحلام التي تقترب خلسة
كي تستحوذ على النائم في الظلام،
لون عينيك.
كانت زرقاوين
ولؤلؤتا المرجان الكتمد في أقراطك
كانت تستريحان بهدوء على جبهتي
مثل نقطتين من شمع الأختام.
اليوم، حين، أضع وجهي العجوز
في يديّ
أشعر بجلاء،فوق الأصابع،
باستدارة جمجمتي.
قبلا، لم أكن أفكر بذلك مطلقا
لم أكن أضع رأسي بين يدي البتة.
ما من سبب يدفعني لذلك.
والرغبة الرهيبة في الحياة،
حتى بلا فرح، حتى بلا أمل،
تربط بدون توقف أجنحة سوداء
على خوفي من أن لا أكون.
لكن حين أكون ميتا حقا،
من صمت الصلصال
إلى خطواتك، لن يتوقف
حبي من النحيب.
*****
أغنية الفاصل الترفيهي
إن سُئلت
ما هي القصيدة
لاحترت عدة ثوان
ومع ذلك أعرفها جيدا!
غالبا ما عدتُ وقرأتُ الشعراء الراحلين
ومن وقت لآخر
كانت أبياتهم تضيء دربي
مثل شعلة في الظلام.
لكن الحياة لا تسير متماهلة
أحيانا، تهزنا من جميع الاتجاهات
وتركلنا.
غالبا، ما بحثت عن الحب تلمسا
مثل الذب فقد بصره
ومثل الذي - على أغصان شجر التفاح -
يبحث عن استدارة الفاكهة التي تحلم بها
راحة يده.
ومع ذلك، أعرف أبياتا
قوية كأنها تعزيمة للجحيم
تدفع حتى أبواب الجنة
همست لها بعينين مندهشتين.
كيف إذا لن ترفع الأيادي المذعورة الضعيفة
التي تمنع الأذرع
عن احتضان الحب!
لكن إن سُئلت امرأتي
ما هو الحب
لربما تهالكت من الدموع.
*****
قصف مدينة كرالوبي
1- كرالوبي مدينة غير جميلة..
كرالوبي مدينة غير جميلة
لم تكن كذلك مرة.
نبتت في محيطها مداخن
شبيهة بأشجار وحشية بلا أغصان
بلا أوراق وبلا زهور، بلا نحل
وبلا عصافير.
حين ننزل من القطار،
ونحن لا نزال على درجات القاطرة بعد
نشم الرائحة العذبة
لمعمل "ماجي"
كان قريبا من المحطة جدا.
إلا أنني، كنت أسرع، لا أضيع ثانية
باتجاه باب صامت
حيث بانتظاري أذرع عديدة.
كليُّ السعادة، أدع نفسي أسقط فيها.
حتى اليوم، وقد مرّ على ذلك سنين عديدة
حين أغلق عينيّ
وأتفحص عتمة جفنيّ الشفافة
أرى وجوه الذين أحببتهم
تنبثق مبتسمة.
لكنها وجوه شاحبة
مثل نور النجوم في ما بعد ظهيرة يوم شتائي
حيث يبدأ المساء بعتمته.
عند المساء، وبخاصة عند اقتراب المطر
يغلق الناس النوافذ.
تسقط على المدينة نديف السخام
وفي الشوارع يدخل دخان
شبيه بضباب الخريف
إلا أنه مسلح حتى الأسنان.
ومع ذلك، ثمة أزهار بريّة
لا تزال، بالنسبة إليّ، تتفتح هناك
حتى على الأسلاك الشائكة
يكفي أن نتوقف قليلا
ونطلق زفرة ناعمة.
2- الشمعدان
يعرف الله أين أصبح ذلك الشمعدان
الذي جلبته أمي من كرالوبي.
صنع خلال الحرب الكبرى من قشر الرمان
ولسنوات طويلة، بقيّ عندنا، على ظهر خزانة.
حين ينفذ النفط
نشعل فيه شمعة
تدخن.
على ضوئه الخفيف
كتبت أولى قصائدي
وحين يذهب أهلي للنوم
كنت أقرأ - مادام مشتعلا -
روايات غرامية.
نوره المترنح
يصبح أمراً لجوجاً زائلا
كان - في أحلامي على الأقل -
يجرني من على مقاعد الدراسة
صوب أزقة براغ العفنة.
حيث نعشق للحظات قصيرة.
لكنني كنت أشعر بالخوف
لأنها أكثر غموضا
من مستنقعات الجزيرة الغاشة
عند مصباتها
التي غرق فيها فارس شجاع
مع فرسه.
في كل مرة، كانت أمي تٌلمّع الشمعدان
بخرقة مخملية
كنت أشعر بأنها تطلق زفرة خفيفة.
لم اسألها السبب
فيما بعد، تكهنت بالأمر:
أن لا تنشب الحرب مجددا.
ومع ذلك، لقد جاءت!
*****
3- شال الكشمير.
منذ دهر لم تعد زهور "الموغيه" تنبت
في غابة كرالوبي
كما في مراهقتي
حين وقعت في غرام
أصغر أخوات أمي.
كانت أكبر سنا مني بقليل
وجميلة.
غالبا ما يرددون ذلك.
أعرف أشياء قليلة عن النساء
وبرغم ذلك، وفي فكري،
كنت أدور بلا توقف حول الجنس اللطيف.
وحين تمر بالقرب مني
لم تكن توجه إليّ سوى ابتسامة صامتة
من دون أن تنظر مطلقا في عينيّ
اللتين تتوهجان
بينما تنفجر دمائي بصمت
في شراييني.
كم من مرة فتحت ذراعيّ
كي لا أحتضن سوى هذا الهواء
الذي اجتازته لتوها
حاملة ابتسامتها الناعمة
إلى الغرفة المجاورة.
غالبا ما أشعر برغبة جريئة
في رؤيتها عارية، في أحلامي.
أو على الأقل، عارية حتى خصرها.
أو أن فمي، الذي كان لا يزال حائرا
يستطيع أن ينحني بالقرب
من ظلالها الزهرية.
أحيانا، حين تبتعد للحظة
رامية فوق كرسي
شالها الكشمير
كنت أشد القماشة على وجهي
لأتنشق عطرها.
انتهت العطلة، وكان عليّ
أن أعود إلى براغ.
لحظة الوداع، مدّت لي يدها
أخذتها بعناية كبيرة
مثل زهرة الأوركيديا الرهيفة.
مضى زمن لم تنبت فيه زهرة "الموغية"
في غابة كرالوبي.
مضى زمن طويل...
4- طريق كرالوبي
زاكولنسكي، الساقية التي تجتاز المدينة
مزعجة ورائحتها كريهة.
حتى السماء لم تكن تستطيع احتمالها.
تحوي جميع أنواع المياه الآسنة
والذين يسكنون في النواحي
يرمون فيها الأوعية المكسورة
والقطط النافقة.
الشحاذ بابلام، القبيح والبائس جدا
والذي يشكل فزاعة للصغار،
كان يلم من مخلفات المدينة
خرقات قديمة
ملطخة بالعرق، بالدموع، بالدماء.
كان الناس سعداء بالتخلص منها
ليطمروا غالبا ذكرياتهم.
كان الشحاذ يغسل قدميه في الساقية.
وحين شيّدوا جسر كرالوبي
أخفوا الساقية.
وفي اليوم
الذي صمتت فيه المياه بين الأحجار
توقفت العصافير عن الغناء
على الأشجار التي تحيط مجرى المياه.
كان طريق كرالوبي
ينطلق من أمام الكنيسة، يجتاز الساحة كلها
يمر أمام مكتبة "نيفلت"
- لا زلت أرى واجهتها
وعلى الزجاج انعكاس صورة وجهي -
ليصل في النهاية إلى مقربة من الساقية.
الطريق عينه، كان يسلكه، فوق عرش،
السيد الكاهن، مرتديا حلته البيضاء،
يوم عيد الرب؛
حذاؤه، الملمع للمناسبة
يسحق بلا رحمة الزهور
التي ترميها الفتيات الشابات على البلاط.
رأسي مليء بأحلام مذهبة
وبأبيات
أهمس بها سائرا.
أضع، خَجِلا،
خطوات رغبتي على الموكب.
في الشتاء، صديقي الممثل "سبال"
يحصي البجعات في البحيرة
من أعلى جسر "بالاكي"
طيلة حياتي، لم أحص شيئا
لا بجعات ولا أيام زلا ليال
ولا مال.
ملأى حياتنا اليوم بالأرقام
لكن، ما كان بإمكاني إحصاءه في تلك الحقبة؟
نقاط المطر؟
أو ربما حبال روحي
التي يتحدث عنها الشعراء، غالب الأحيان، في قصائدهم؟
أصابع الرغبة الأولى
مستها لتوها.
أو بالأحرى القبل؟
كانت لا تزال نادرة.
ربما ابتسامات الصبايا النافرة؟
أجل، هذا هو!
ابتسامة بعد ابتسامة
قبل أن تحملها الريح.
ما ان تحل الظهيرة
حتى أسارع بالعودة
وطيلة بعد الظهر، كنت أجد صعوبة
في كتابة القصائد.
على بُعد خطوات من الساقية
ولد الشاعر "هاليك".
كان، إن وقع في الغرام
يخرج قصائد الحب
من كُم معطفه المزخرف.
على عتبة بيت المحبوبة
التي دخلت حياتي لحظتها
وضعت الرسالة التالية:
أعرف جيدا
أن قصائدي لا تساوي الكثير
حين تقرأنيها
سأصلي لعينيك
كي لا تغلقي قلبك في وجهي.
مع قصائدي المتواضعة
وبحبل فضيّ علّقت
هذه الزهرة.
إن مست شفتاك
وريقاتها الرطبة
فانك تقبلين جمالك.
قبل ليلة، حين قطفت الوردة
من وريقاتها الزهرية
التي تفتحت بحسية كبيرة
ارتعشت منها
وكان عليّ أن أنفخ
نديفة سخام دنيئة.
5- تحذير ليلي.
أحالت الحرب الليالي أكثر سوادا
والصباحات أكثر كآبة.
في كل الزوايا، يتدلى سيف
يهدد مدفع رشاش
يتعفن الرعب.
المسدسات مثل جراذين متربصة
جراذين تتضور جوعا.
كنت في كرالوبي أنتظر القطار
كنا في سنة الحرب الخامسة
وكنت أطوف عبر المدينة
في صمت السنونوات.
لما يحل المساء تنطلق قطارات الأمنبوس
حين لا تعد قاذفات الصواريخ تهدد
بالانقضاض قصفا من أعلى الغيوم البيضاء.
كانت المدينة تستعد للنوم.
لم تكن الساعة العاشرة قد حلت بعد
حين تطلق الصفارات إنذاراتها
أستعجل في إيواء خوفي
في نفق تحت جسر واد.
قبل سنوات، سكنا قربه
في شارع سوكول
عشت في هذه الأمكنة
مغامرة غريبة.
المتشرد بالام، حاملا كيس قاذوراته النتنة
خرج من النفق وهو يترنح.
كان سكرانا
فرمى أحدهم عليه حجرا.
توقف الشحاذ وهدد بقبضته
لا المعتدي فقط،
وإنما المدينة كلها حوله.
وصل إلى وسط الساحة
وتفوه بلعناته الداعرة:
لتتقوض في هذه الكهوف المعتمة
لا فيها فقط
بل في يأس ضريحي
حتى آخر دموعه!
لتضرب النار النار النار النار النار
المدينة من أعلى السماء
مثل أجنحة نسر مشتعلة يتضور جوعا
فوق جثة طازجة
لينهي دماره!
آمين
مضى زمن منذ أن غادر الشحاذ
هذه العتبات البخيلة
إلى ممالك أخرى،
لكن لعنته، كما نذير أسود،
بقيت محفورة وسط الغيوم
الملوثة بالسخام الدهني
بعد دقائق
صرخت الصافرة بانتهاء التحذير
فغادرنا الملجأ
كان الليل مخضبا بالعطور
والسماء مليئة بالنجوم.
في ما مضى، كانت ليالي آيار تخص العاشقين
آه يا الهي.
صفّر القطار خلف تيلاهوزيفيتش
حان وقت الرحيل.
راكضا، هممت بالوصول إلى الرصيف.
بالكاد جلست في المقطورة
حتى أحسست بندم مرير
بالهرب من المدينة
التي أحبها
بأن أتخلى عنها لحظة
كانت في خطر.
بيد أن مبنى المحطة كان يختفي
في عتمة الربيع
والقطار يتجه صوب دولاني
حيث كل شيء مزهر...
6- الصدمة
الورقة السوداء، الموضوعة للتعتيم، انثقبت
تاركة خيوط الأنوار تتسلل
تمر الأيام ببطء
مثل نقاط عسل من ملعقة خشبية،
والأمل، المخلص لكن عديم الصبر،
كان يختنق.
لتتوقف هذه الحرب اللعينة أخيرا!
لتتوقف!
مضى الشتاء السادس بدوره في النهاية.
تخلص العشب سريعا
من غسيله الثلجي
الذي لم يكن نظيفا في كل الأحوال
فظهر عاريا.
في يوم اعتدال الخريف
الذي به يبدأ الربيع الفلكي
كنت أحب الذهاب إلى كرالوبي
فوق قبر مهمل.
كل الذين عرفتهم فيما مضى
كانوا رحلوا منذ زمن،
وحدها فقط، هذه الفتاة التي في القبر
كانت لا تزال حية.
كانت أول امرأة نفحت
على وجنتي شعلة الشغف المتأجج،
وحين تدافع بعناد
عن جمالها السحري
الذي لم يكن حبي يجرؤ
بعد، على دخوله.
ماتت في أول أيام الربيع،
في التاسعة عشرة.
كانت متواضعة، ناعمة وحنونة،
يخيفها الحب.
لا الموت.
ماتت بشجاعة، على عينيها
الحارتين، ابتسامة.
عندما تلعلع صفارات الإنذار
أقف أمام قبرها.
أعرف اليوم
لماذا وصلت متأخرا ليوم.
كان عليّ أن أكون هنا!
حفار القبور، السيد فرديناند زيبيرو
ينادي المتخلفين.
طائرات الحلفاء تقترب،
الظهر تقريبا.
الثواني تلمع على المعصم،
بدأت ساعة القدر.
بالقرب من المقابر
أصيب إحدى خزانات مصفاة التكرير
المليئة بالنفط الخام
النفط المشتعل يطير عاليا
والدخان يغطي المدينة.
لمعان حديد متوهج
يتوه بين الصلبان،
بينما مطر قذائف جديد ينهمر
عشوائيا
في الغيمة السوداء أعلى المدينة.
رغبت في الهرب من المقبرة،
لكن حفار القبور أجبرني
على البقاء
وعلى الاختفاء خلف قبر خفيض.
تمددت قرب تلك التي أحببتها،
واضعا رأسي قرب رأسها.
مدت لي الراحلة يدها.
أخيرا تمددنا جنبا إلى جنب،
مثل عاشقين
بعد عناق محموم،
متعبين من مئات القبل،
أمسكنا بعضنا بيدنا.
ومن المدينة، سمعنا لحظتها
سلسلة انفجارات متعاقبة تقترب منا
تشبه قصف الرعد على طبل
مغطى بحرير أسود.
وفي شوارع كرابولي،
تفتح السماء، بمفاتيحها النارية
حفرة وراء حفرة.
كان القصف بدأ منذ ساعة تقريبا
ويبدو كأنه لا يرغب في أن يتوقف.
فجأة، تباعدت أصوات الانفجارات
والطائرات المبعثرة عادت إلى تشكيلاتها
وطارت باتجاه "كلادنو".
وعندما رغبوا بإعلان
نهاية الغارة على كرابولي
لم يعد هناك من جرس إنذار.
للحظة أخرى بعد، حدقت
في السماء القاتلة،
من ثم، نهضت ببطء.
نصف ميت،
ترنحت باتجاه المدينة النصف ميتة،
متسائلا برعب أي مشهد ستعرضه علينا.
وحدها الكنيسة ببرجها الصامت
بقي واقفا، ينتصب سليما وسط الخراب.
دفنوا الأموات لتوهم تحت التراب،
الكاثوليك، البروتستانت، غير المتدينين،
والمعبد يتقبلهم كلهم
تحت سقفه المتسامح.
لا أعرف إن استطعت الاعتراف، في النهاية
بما طرأ على بالي من أفكار
حين رأيت هؤلاء الأموات:
فكرة تصدم.
إنهم يرتاحون تحت الأرض، الواحد قرب الآخر،
مثل أرانب نافقة في لوحة صيد
بعد مجزرة ناجحة.
7- ليس بعد الآن
مئة منزل تعرض للدمار
وألف أخرى لفها الخراب.
لا، لم أحصها بنفسي.
فتحت طريقا لنفسي بين أنقاض لا تزال ندية
مستديرا على حُفر الشارع.
تثير الرعب
مثل أبواب متثائبة في أعماق الجحيم.
انهمكوا في تنظيف الشارع،
ولم يستطيعوا خلع باب المنزل الصغير
في شارع "سفيرما"
العائد للسيد "هرينشير"
إلاّ بعد ثلاثة أيام.
ماتت العائلة بأسرها. وحده الديك، هذا المشاغب العجوز
الذي لم يكن يقدره كثيرا
بولس الرسول،
كان سليما ومعافى.
سائرا فوق جثث الأموات، تسلل خارجا
وتوقف فوق كومة من الأنقاض.
نظر حول مكان البؤس هذا،
ثم فرد جناحيه
كي ينفض ريشه الذهبي من
الغبار الثقيل.
وقرأت بصوت خفيض
ما كتبه
الرعب والألم
على وجه أناس كرالوبي.
وفي صمت الموت هذا،
صرخت لنفسي بصوت مرغمّ
كي تسمعه الحرب:
أيتها الحرب، ليس بعد الآن، أبدا!
نظر الديك إليّ بانتباه
بعينه السوداء اللئيمة،
انفجر بضحكة مرعبة.
كان يهزأ مني
ومن ندائي الباطل.
أضف إلى ذلك، بكونه من فصيلة الطيور
فهو متضامن مع الطائرات.
أيّ نذالة!
*****
خاتم الملك بريمشيل أوتاكار الأول
صوت مألوف هاتفني قائلا:
- أسرع لرؤية
هذا الخاتم.
لقرون عدة، ارتاح
في غبار تابوت،
لكنه لم يمت.
لا يزال يلمع.
خاتم ملك ثقيل
مزين بزبرجدة.
حجر أصفر وبرتقالي
يشبه السماء وقت العاصفة.
في الوقت الذي، وعلى ضفة "الفلاتفا" اليمنى،
بدأت فيه قبة غوطية بوصل جدران صومعته،
قبلت الابنة العارفة الجميل يد أبيها
لتلمس، بشفتيها، بدون قصد
الخاتم الملكي.
اليوم أيضا،
يتراءى لي أحيانا،
بأنني لا أزال أسمع على بلاط الدير الحجري
طقطقات عكازه الخفيفة
وصوت حذائه الخامد،
في حين أن ظله الحريري،
يسرع لسماع قداس الأحد،
مبعدا بعصاه الأسقفية
ضباب الجنة المذهب،
ليلتقي الملائكة أخيرا.
أصاب الدمار الصومعة منذ ومن بعيد،
حين، في منزل صغير
وبالقرب من أبوابه
كانت مارينكا المريضة تنشد للشاعر ماتشا
أغانيه الخاصة
تاركة، من على جنبي جبهتها البيضاء،
خصلات شعرها الأسود،
الغنية، تنساب.
لكن المنزل عينه كان مدمرا،
حين وتحت جدار الصومعة،
عندما يهبط الليل،
كنت أخفي أمام أعين الرجال
قبلاتي الأولى،
وفوق عشبة بالية ومغبرة، أضع
نظرتي الفرحة في عيني شابة مدهوشتين
لإصابتهما بالحب.
كلا، الحب أكثر من إصابة؛
إنه لدغة أفعى.
وكانت المياه تنشد فوق سدّ جزيرة ستافنيش
بينما بدأت للتو بالبحث عن قوافيّ الأولى.
لا زالت شابة، وربما هي على قيد الحياة
قد تشهد على ذلك.
لكن، وداعا إذاً، أيها الحب الخادع!
وداعا!
امحوا هذه الأبيات بسرعة!
لو كان بإمكاني، لحظتها لمس
خاتم الملك،
بدون تردد، لوضعته في إصبعي
لأبرهن للحال
عن قوته السحرية.
لأدرته ثلاث مرات إلى اليمين
قبل أن ألفظ أمنياتي.
بداية، سأفكر بوطني
الجميل
مثل شجرة مثمرة، مزهرة في أيار.
من يدري، ربما، لا أجد
ما هو أفضل
من أن أتمنى لمعادن مناجم الذهب،
قرب جيلوفي
من أن تسقط على ركيزة غنية.
لكن، ماذا سأصنع بالذهب؟
ليبقى كلام شعراء هذه البلاد
جميلا
ولتحط الفراشات، التي تصبح أقل كل يوم،
فوق أزاهير أغانيهم
الندية!
وليعرف، من سيقرأ أشعارهم
أن يحبس دموعه
أمام كل هذا الجمال،
مثلما فعل "أف. إكس شالدا"
في محاضراته عن دانتي
عندما كان يلقي قصائده.
للأسف، لم أجد أحدا
يستطيع، في تلك اللحظة، أن يهبني الخاتم
التي غطيته القديسة الشابة بالقبل.
هذا الخاتم الذهبي الثقيل، الخاتم الملكي
المزين بالزبرجد
بحجر أصفر برتقالي
ما هي السماء وقت العاصفة.
لم يكن الحارس الذي يراقب الواجهات
يملك مفتاحا.
*****
وداعا آنسة توايان
ظل عصفور طائر
يلامس مكتبي، قرب النافذة
لحظة ومرت
أقصر من قبلة هاربة
مرسلة في الريح
أكثر سرابية، أيضا، من قبلة
الآنسة توايان الحزينة.
ونحن صبية، كنا نتحدث
بالسر عن النساء
تحت غلاف كتابي اللاتيني
خبأت صورة عن لوحة
إنغريس "الحمام التركي"
قرأت في مكان ما
أن أجمل نساء العالم
يعشن في تركيا
بعد فترة، أكد لي صديق
أن أشهى النساء
يعشن في باريس
هنا، حيث ليل نهار تحترق
شعلة حديد برج إيفل
يبلغ نورها ملاهي الحب
ويصل حتى إلى وروده المعتمة.
حدث ذلك في باريس، في آيار،
زهور "الموغيه" في كل الأمكنة
كنت على موعد، مع طالبة
فرنسية، عند أسفل أسد بلفور
كانت شابة
وتؤمن أن الحب قطعة سكر
مثبتة بشدة، بين قضبان
القفص الزوجي
على الجادات، لاحظت
زنجيات باريس
كن يشبهن ليالي الصيف
حاملات النجوم في شعورهن
سيقانهن جامدة وطويلة
كسيقان دوار الشمس.
كنت أحب قضاء وقتي
تحت ستائر الحانات المخططة
حيث تفوح بقوة رائحة القهوة
كنت متيقنا، أن الآنسة توايان
ستجيء إلى هنا، فيما بعد.
منذ حياتها في براغ
وهي حزينة
أحببناها كلنا
رسمت لي أحيانا
بالحبر الصيني
زنجيات عاريات فاحشات
على حرير زهري اللون.
*****
صديقتي الرغبة
إلى أوتا يانيشيك
كم من مرة رغبت في شبابي
في أن أكون رساما
لأصور نساء جميلات مثل السماء!
بدلا من ذلك، وحتى آخر شيخوختي
تعاركت مع الكلمات.
قبل أن أجد أول أبياتي
قبل أن أشعل غليوني
كان الفنان أوتا يانيشيك قد رسم
العري الأنيق لفتاة شابة
بين رموشها فتات ليل
وزرقة في عينيها
قبل أن ينزع الفنان الورقة من مفكرته
سقطت عاشقا متيما بهذه الجميلة
وكم من نساء شابات
وكنت حين أنظر إلى رسومه
أراه يبتسم
لأن عيني لا تستطيعان
أن تستوعبا جمالهن كله.
مصنوعات من ألوان، من عطر، من أنوار
ومن قطرات الندى
الذي يرتجف على حوافي التويجات
حين يغني الديك الصباح
وحين تتفتح الوردة
في اليوم التالي، تسكعت في براغ
كل مدن أوروبا القديمة
تصبح أجمل في الربيع ثلاث مرات
عند نهاية بعد الظهر
حين امتلأت الشوارع بالناس
كنت أتوقف للحظات أمام وجه
خيل إليّ أنني رأيته سابقا
هذا الوجه أيضا!
ولا أصدق
بأن الطبيعة قد نظرت أحيانا
من فوق كتف الرسام.
اقترب فجأة
رأس الشارع بسرعة
الأفق الذي يهرب منا دائما
توقف لأجلي.
وأقول وداعا
لأناشيد العصافير أمام النافذة
لعطر الورود
وداعا للعيون التي أحببتها حتى اليوم
والتي رافقتني طوال أيامي
مثل النجوم
وكلما عدت إلى ماضيّ
بدا لي
انها كانت حقا
سبب حياتي الوحيد.
*****
صف أعمدة في كارلوفي فاري
مذ أن سمعت
بكاءك على الهاتف،
أصبح من الصعب عليّ
أن أؤمن بالحب الذي وُصِف
بأنه خالد.
لا حب مشابها في حياتنا.
هل وُجِد في يوم ما؟
ربما.
ومع ذلك، لا تستطيع دموعك أبدا
أن تعيد لصق ختم الوعود الباطلة الذي تحطم.
يبصق النبع في الهواء
دفقات مياه
تعود لتسقط، حارة، في الحوض
مثل عصفور جريح
ذي جناحين محطمين.
إنها بيضاء اللون.
بالقرب من النبع،
يوما بعد يوم، ينسج صف الأعمدة
مع مئات الخطوات
مناخ الساعات الشهواني.
طالما جدفت ضد الشعراء
الذين يغنون الحب،
لغاية أن شاهدت بين الأعمدة
عينين مليئتين بالشرر.
ذهبت للقائهما،
لكنهما تجنباني،
وحين عدت أدراجي
التقيتهما مجددا.
أي تدليك حنون مارسته قبلي
على هاتين الشفتين اللذيذتين!
ومع ذلك، ليعش هذا الحب
الذي يدوم أقل من الثلج
الذي يرفرف في نيسان
حين تنطفئ شعلة الرغبة
وحين يسقط الحب من جديد
إلى درجة الجليد.
وحدها شعلة الأعماق
تشتعل للأبد
لتدفئ إلى الأبد
مياه الينابيع المريرة.
إمسحي عينيك إذا
ولا تبكي أبدا.
*****
نبع الصليب
أين رحلت الأزمنة الضاحكة
حيث الورود كانت لا تزال تزهر،
حيث كنا لا نزال نرقص الفالس؟
فجأة، اتخذ العالم اتجاها آخر
لحقه كل ما كان يتعلق به.
وحده صف الأعمدة العتيق
الذي أهمّ بالذهاب إليه
لا يزال يتراءى بين الأشجار.
إنه الصيف، حل المساء لتوه،
دخل القمر إلى أول أحيائه
ومثل إبرة حائك سجاد،
يعلق
هنا وهناك
ظلالا عطرة بين الأشجار.
مدينة المياه تخص العذراء مريم.
لا تشعروا بالغيرة.
بجميع الأحوال، هذه الزاوية، زاوية من الجنة
تبتسم العذراء للمستحرين
وحبيبات ورديتها (*)
ليست سوى قطرات الفضة
التي تنبجس من نبع الصليب.
ربما كانت تحب الشعراء.
على الأقل، لم يلزم غوته،
سوى ثلاث جرعات مياه كي يشفى.
لكن لسوء حظه
سرعان ما وقع في الغرام.
لا أريد أن أدعي بأن غراميات الشعراء
وردية،
بدون أن أتحدث عن الزواج.
لماذا غوته
لم يبح لنا
بكلمة الحب الجبارة هذه
الذ أسر بها في أذن الآنسة
أولريك، الحريرية،
حين اصطحبها بالعربة إلى بحيرة البجع؟
بعد فترة وجيزة،
مات سعادة المستشار والوزير
في فايمار.
أما أولريك، فبقيت مخلصة لحبه
لسبع سنوات أخر.
بدوره، الحب الكبير، يخمد ذات يوم.
رغم أن ما من عاصفة في العالم يمكن لها
أن تقتلع، بدفعة واحدة،
آثاره المضيئة.
وما تبقى لي هذا الصمت الحزين الذي يرفرف فوقي
كالصمت الذي يعقب موت النحل.
أحيانا، يحدث لي أن أستعيد آثار حبيباتي
لقد أصبحت عجوزا.
لو أغلقت عينيّ للحظة،
من يقل إنني لن أرى غوته مجددا
صاعدا السلالم
إلى النبع العجائبي
الذي يغني، كما في الماضي
في حوضه.
جئت لأتعلم:
من يجب أن أنادي في البداية،
الحياة أم الموت،
وأين يمكنني - وإن كان ذلك للحظة - أن أضع
حزكة كآبتي
حيث يمتزج فيها بعض غبار آمال باطلة.
الغراميات التي عرفتها في حياتي
هدأت الآن.
وحده الحب الأخير
لا يزال يُسقط على رأسي غبار طلعٍّ ذهبي
كغبار الزنابق.
*****
كونشرتو باخ
لم أنم مرة إلى الضحى،
بسبب مرور القاطرات التي كانت توقظني،
وغالبا بسبب القوافي أيضا.
كانت تشدني من شعري خارج السرير،
تأخني حتى الكرسي
وبالكاد افتح عينيّ
حتى تدفعني إلى الكتابة.
أتمسك بهذا اللعاب الناعم
على شفتي اللحظة الشهية،
لم أفكر بخلاص روحي البائسة،
لكن، وبدلا من الغبطة الأبدية،
كنت أرغب بلحظة ساطعة
للرغبة السرابية.
سدى كانت الأجراس تحملني،
كنت أبقى متشبثا بالأرض بعناد.
كانت مليئة بالعطور
وبالأسرار المثيرة.
وحين، في الليل، أنظر فوق رأسي،
لم أكن أبحث عن السماء.
بل كنت أخشى الثقوب السوداء،
من جهة إلى أخرى في الفضاء،
المثيرة للرعب أكثر
من الجحيم.
فجأة أسمع صوت قيثارة.
كانت أنغام كونشرتو
لجان سيبستيان باخ
كتبها للمزمار والقيثارة والأوتار.
من أين تأتي هذه الموسيقى؟ أجهل ذلك.
لكنها ليست من الأرض.
حتى وإن لم أشرب خمرا،
كنت أترنح قليلا
وتوجب عليّ أن أمسك
بظلي.
*****
Divertimento
إلى يان هانوش
1- Allegro non tanto
ها قد حل المساء، لكن لا تشعلي النور،
أحب النظر إلى عينيك
في الظلام.
أخبريني إذا! كيف حال فيينا؟
أما زالوا يبيعون في السوق
باقات الخزامى،
عطر الحب هذا الذي نسيته
نهايات هذه الألفية؟
كانت أمي، لتطرد العث،
تعلقها في الخزانة.
أما زالوا يرقصون في فيينا بعد
أما زالوا يهزون الثريات الضخمة؟
وكيف هنّ النساء؟
وشابات فيينا الرائعات
أما زلن يقربن شفاههن من الشفاه الأخرى
بذات الحنان، بذات الشغف
كي يغرزن
في القلب مباشرة
شوكة الحب؟
لا أخفيك، غالبا ما يحدث
هذا عندنا
ألا تصدقيني
لقد عشته مرة
وخاصة في القطار الذي اقلني، ذات ليلة
من براغ إلى برلين.
قولي، ورجال فيينا؟ أما زالوا يجهلون
أين دفنوا، خائفين، ذلك اليوم،
أماديوس
ملاك الموسيقى وسط الملائكة
وأول المرتلين
فوق الدرجات التي تقود
إلى عرش السرمدي؟
أما زال ذلك يزعجهم ولو قليلا
أمام باقي الناس؟
ربما لا أعرف.
أما زالت الحياة في فيينا
أفضل بقليل، من باقي مدن
الأمبراطورية القديمة
أفضل على الأقل بابتسامة، بابتسامتين، بثلاث؟
وفيينا أما زالت مخملية
كما في الماضي؟
لم تعد كذلك.
2-ِ Adagio
قولي، أتؤمنين بالأحلام؟
كلا، لم أعد أؤمن بها من زمن بعيد.
أنا أيضا غادرت أحلام يقظتي كلها
وأسير على الأرض
ومع ذلك!
إذا، مفتاح أحلامك، ذاكرتك المثيرة؟
مضى زمن طويل منذ أن فتحت هذا الكتاب
للمرة الأخيرة.
طوال حياتي لم أفز بشيء
إلا بالألم.
من دون أن نحصي الدموع
ومع ذلك!
ماذا يقول الشعراء؟
يكذبون فقط!
أعرف أحدهم
لا يحلم مطلقا
وينام نوما عميقا،
لكن، في الصباح، حين يستيقظ
وبينما ينتعل خفيه
كان يروي دائما حلما ساحرا.
أما أنا، أنام بشكل سيء
وحين أغفو
أجد نفسي، فجأة في إطار غريب.
يخيفني ذلك أحيانا
وفي أفضل الحالات، أجده كريها
ولا مرة، في الحلم، تنزهت
وسط الزهور.
ومع ذلك!
أدين لليل
ببعض اللحظات النادرة،
إذ، بفضل صمته وعتمته
ألتقي الأموات
كل الذين أحببتهم.
لحسن الحظ، تحدث
عندنا، أيضا، بعض العجائب أحيانا!
وحده الله يعرف، من أين يعود الأموات إلينا
حيث لا يفرقنا الموت مرة أخرى
لكنهم، سرعان ما يرحلون مجددا
وأيضا، وحده الله، يعرف أين.
سدى أناديك.
ومن جديد، الموت
بيننا.
3- Tempo di minuetto
ومع ذلك، هذه الليلة، حلمت
حلما جميلا.
في عز نومي، قُرِع على بابي
بخفوت، بهدوء
لدرجة أننا ظننا
أن الباب ليس من خشب
بل من قطن صامت.
ومع ذلك، استيقظت
دخل الضيف إلى غرفتي.
أتعرفين فيغارو؟ أعراسه؟
بالتأكيد.
شيروبان حضر أيضا!
تعرف بالتأكيد أن هّا الدور
غنته الفتيات فقط،
وأن المُلبسات وجدن
صعوبة دائمة، في شد
نهود الشابات
في سترة رجل
كي لا يتكهن أحد
بهذا الجمال.
لم يلحظ كونت ألمافيفا أي شيء
إلا أنني رأيت كل شيء بمتعة كبيرة
وإن خشيت أحيانا
أن تنحل الرباطات
بينما تغني المنشدة
وتسترد أنفاسها.
وجلس شيروبان، على كرسيي، في منزلي
على وسادة أسفنجية
أخف
من فراشة صغيرة
على وردة من حرير.
غيمة من بارود
داعبت أنفي.
أقسم بذلك، همس لي،
وهو منحني على وجهي
ليكلمني بصوت خفيض،
كي لا تقول أي كلمة
مما سأسر لك به الآن.
أقسمتُ بسرعة
موقنا بأنني سأكون هذه المرة
ناكثا بوعدي.
العالم بأسره يعتقد
بأنهم وضعوا موزار
في مقبرة متسولي
فيينا الجماعية.
أحبته فيينا.
لكنها الحياة، من أدخل موسيقاه
في قلب هذه المدينة،
من كان سعيدا هنا
وأسعد أيضا
يوم ان اجتاز عتبة عائلية،
دفن هنا!
لحسن الحظ، عندنا
لا تزال تحدث بعض العجائب أحيانا.
لم يدفن في فيينا، هذا الطائش.
قبر موزار موجود هنا، في براغ،
في منحدر بيتران.
شبه غارق في الرمال.
مضى على ذلك عدة سنوات!
يجهله الجميع.
وبدلا من صليب، تنتصب
زهور برية فوق رأسه
وباقات بنفسج فوق قبره.
والعشب، حوله، مخضبا بالندى
الذهبي.
ترجمة : إسكندر حبش