حبْرُ الغراب
لكَ خلوةٌ في وحشة الخرّوب، يا
جرس الغروب الداكن الأصوات! ماذا
يطلبون الآن منكَ؟ بحثتَ في
بستان آدم، كي يواري قاتلٌ ضَجِرٌ أخاهُ،
وانغلقتَ على سوادك
عندما انفتح القتيل على مداه،
وانصرفتَ إلى شؤونك مثلما انصرف الغياب
إلى مشاغله الكثيرة. فلتكن
يقظاً. قيامتنا ستُرْجأ يا غراب!
لا ليل يكفينا لنحلم مرتين. هناك بابٌ
واحد لسمائنا. من أين تأتينا النهاية؟
نحن أحفاد البداية. لا نرى
غير البداية، فاتحد بمهب ليلك كاهناً
يعظ الفراغ بما يخلفه الفراغ الآدمي
من الصدى الأبدي حولك...
أنت متهمٌ بما فينا. وهذا أول
الدم من سلالتنا أمامك، فابتعد
عن دار قابيل الجديدة
مثلما ابتعد السراب
عن حبر ريشك يا غراب
ليَ خلوةٌ في ليل صوتك... لي غياب
راكضٌ بين الظلال يشدّني
فأشدُّ قرن الثور. كان الغيب يدفعني أدفعُهُ
ويرفعني وأرفعه إلى الشبح المعلق مثل
باذنجانة نضجت. أأنت إذاً؟ فماذا
يطلبون الىن منا بعدما سرقوا كلامي من
كلامك، ثم ناموا في منامي واقفين
على الرماح. ولم اكن شبحاً لكي يمشوا
خطاي بعد خطاي. فكن أخي الثاني،
أنا هابيل، يُرجعني التراب
إليك خَرُّوباً لتجلس فوق غصني يا غراب
أنا أنت في الكلمات. يجمعنا كتاب
واحدٌ. لي ما عليك من الرماد، ولم
نكن في الظل غلا شاهدَين ضحيَّتين
قصيدتين
قصيرتين
عن الطبيعة، ريثما يُنهي وليمته الخراب
ويضيئك القرآن:
(فبعث الله غراباً يبحث في الأرض
ليُريَه كيف يوارى سوءة أخيه، قال:
يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب)
ويضيئك القرآن،
فابحث عن قيامتنا، وحلّق يا غراب!
سنونو التتار
على قدر خيلي تكون السماء. حلُمْتُ
بما سوف يحدث بعد الظهيرة. كان التتار
يسيرون تحتي وتحت السماء، ولا يحملون
بشيء وراء الخيام التي نصبوها. ولا يعرفون
مصائر ماعزنا في مهبّ الشتاء القريب.
على قدر خيلي يكون المساء. وكان التتار
يدُسُّون أسماءهم في سقوف القرى كالسنونو،
وكانوا ينامون بين سنابلنا آمنين،
ولا يحلمون بما سوف يحدث بعد الظهيرة، حين
تعود السماء، رويداً رويداً،
إلى أهلها في المساء
لنا حلمٌ واحدٌ: أن يمرّ الهواء
صديقاً، وينشر رائحة القهوة العربية
فوق التلال المحيطة بالصيف والغرباء...
أنا حلمي. كلما ضاقت الأرض وسّعتها
بجناح سنونوّة واتسعت. أنا حُلُمي...
في الزحام امتلأت بمرآة نفسي وأسئلتي
عن كواكب تمشي على قدمَيْ من أحب
وفي عزلتي طُرُقٌ للحجيج إلى أورشليم –
الكلام المنتف كالريش فوق الحجارة،
كم من نبيّ تريد المدينة كي تحفظ اسم
أبيها وتندم: "من غير حرب سقطْتُ"؟
وكم من سماء تُبَدِّل، في كل شعبٍ،
ليعجبها شالها القرمزي؟ فيا حُلُمي...
لا تحدّق بنا هكذا!
لا تكن آخر الشهداء!
أخاف على حلمي من وضوح الفراشة
ومن بقع التوت فوق صهيل الحصان
أخاف عليه من الأب والإبن والعابرين
على ساحل الأبيض المتوسط بحثاً عن الآلهة
وعن ذهب السابقين،
أخاف على حلمي من يديَّ
ومن نجمةٍ واقفة
على كتفي في انتظار الغناء
لنا، نحن أهل الليالي القديمة، عاداتنا
في الصعود إلى قمر القافية
نُصدّق أحلامنا ونُكذِّب أيامنا،
فأيامنا لم تكن كلها معنا منذ جاء التتار
وها هم يعدون أنفسهم للرحيل
وينسون ايامنا خلفهم، وسنهبط عما قليل
إلى عمرنا في الحقول. ونصنع أعلامنا
من شراشف بيضاء، إن كان لا بد
من عَلَمٍ، فليكن هكذا عارياً
من رموزٍ تُجَعِّده... ولنكن هاديئين
لئلا نثطَيِّر أحلامنا خلف قافلة الغرباء
لنا حلم واحد: أن نجد
حلماً كان يحملنا
مثلما تحمل النجمة الميتين!
ديوان
لماذا تركت الحصان وحيدا
الإهداء
الى ذكرى الغائبين
جدي : حسين
جدتي آمنة
وأبي سليم
وإلى الحاضرة : حورية , أمي .
مايسه مفيد مراد
02/26/2009, 03:47 AM
القصائد
1- أرى شبحي قادما من بعيد
( أيقونات من بلور المكان )
2-في يدي غيمة
3- قرويون من غير سوء
4-ليلة البوم
5- أبد الصبار
6-كم مرة ينتهي أمرنا
7-إلى آخري وآخره
( فضاء هابيل )
8- عود اسماعيل
9- نزهة الغرباء
10- حبر الغراب
11-سنونو التتار
12- مر القطار
(فوضى على باب القيامة )
13- البئر
14-كالنون في سورة الرحمن
15- تعاليم حورية
16- أمشاط عاجية
17- اطوار أنات
18- مصرع العنقاء
يسري راغب
02/26/2009, 03:51 AM
- 1 -
أرى شبحي قادماً من بعيد...
أُطِلُّ كشُرفة بيتٍ، على ما أريد
أُطلُّ على أصدقائي وهم يحملون بريد
المساء: نبيذاً وخبزاً،
وبعضَ الروايات والأسطوانات...
أُطلُّ على نورسٍ، وعلى شاحنات جنود
تُغَيِّرُ أشجارَ هذا المكان.
أُطلُّ على كلبِ جاري المهاجرِ
من كندا، منذ عامٍ ونصف...
أُطلُّ على إسم "أبي الطّيّب المتنبّي"،
المسافر من طبريّا إلى مصر
فوق حصان النشيد
أُطلُّ على الوردة الفارسية تصعد
فوق سياج الحديد
أُطلُّ، كشرفةَ بيتٍ، على ما أريد
أُطلُّ على شجرٍ يحرُسُ الليل من نفسه
ويحرس نومَ الذين يُحبُّونني مَيِّتاً...
أُطلُّ على الريح تبحثُ عن وطن الريح
في نفسها...
أُطلُّ على امرأةٍ تتشمّسُ في نفسها...
أُطلُّ على موكب الأنبياء القدامى
وهم يصعَدون حُفاةً إلى أُرشليم
وأسألُ: هل من نبيٍّ جديدٍ
لهذا الزّمان الجديد
أُطلُّ، كشرفة بيت، على ما أريد
أُطلُّ على صورتي وهي تهرب من نفسها
إلى السُلَّم الحجريّ، وتحمل منديل أُمّي
وتخفق في الريح: ماذا سيحدث لو عدتُ
طفلاً؟ وعدتُ إليكِ... وعدتِ إليَّ
أُطلُّ على جذع زيتونةٍ خبَّأتْ زكريّا
أُطلُّ على المفردات التي انقرضت في "لسان العرب"
أُطلُّ على الفُرس، والروم، والسومريين،
واللاجيئينَ الجُدُد...
أُطلُّ على عِقْد إحدى فقيراتِ طاغور
تطحنُهُ عرباتُ الأمير الوسيم...
أُطلُّ على هُدْهُدٍ مُجهَدٍ من عتاب المللك
أُطلُّ على ما وراء الطبيعة:
ماذا سيحدث... ماذا سيحدث بعد الرماد؟
أُطلُّ على جسدي خائفاً من بعيد...
أطلُّ كشرفة بيتٍ، على ما أريد
أُطلُّ على لغتي بعد يومين. يكفي غيابٌ
قليلٌ ليفتحَ أسخِيليُوسُ البابَ للسِلمِ،
يكفي
خطابٌ قصير ليُشعل أنطونيو الحرب
يَدُ امرأةٍ في يدي
كي أُعانق حُرِّيَّتي
أن يبدأ المدُّ والجَزْرُ في جسدي من جديد
أُطلُّ، كشرفة بيتٍ، على ما أريد
أُطلُّ على شَبَحي
قادماً
من
بعيد..
يسري راغب
02/26/2009, 03:52 AM
- 2 -
في يدي غيمة
أَسْرَجوا الخَيْلَ،
لا يعرفون لماذا،
ولكنّهم أسرجوا الخيل في السهل
... كان المكان مُعَدّاً لمَولده: تلَّةً
من رياحين أجدادِه تتلفَّتُ شرقاً وغرباً. وزيتونةً
قربَ زيتونةٍ في المصاحف تُعْلي سُطُوحَ اللغة...
ودخاناً من اللازَوَرْدِ يُؤَثِّثُ هذا النهار لمَسْألةٍ
لا تخضُّ سوى الله. آذارُ طفلُ
الشهور المدللُ. آذارُ يندفُ قطناً على شجر
اللوز. آذارُ يُولِمُ خبّيزةً لِفناء الكنيسةِ.
آذارُ أرضٌ لِلَيْلِ السُنُونو، ولامرأةٍ
تستعدُّ لصرختها في البراري... وتمتدُّ في شجر السنديانْ!
يُولدُ الآنَ طفلٌ،
وصرختُهُ،
في شقوق المكانْ
إفترقنا على دَرَج البيت. كانوا يقولون:
في صرختي حَذَرٌ لا يُلائمُ طَيشَ النباتاتِ،
في صرختي مَطَرٌ؛ هل أسأتُ إلى إخوتي
عندما قلتُ إني رأيتُ ملائكةً يلعبون مع الذئب
في باحة الدار؟ لا أتذكَّرُ
أسماءَهم. ولا أتذكرُ أيضاً طريقَتَهُم في
الكلام... وفي خفَّة الطيران
أصدقائي يرفّون ليلاً، ولا يتركونْ
خلفهمْ أثراً. هل أقولُ لأمي الحقيقة:
لي إخوةٌ آخرونْ
إخوةٌ يَضَعُونَ على شرفتي قمراً
إخوةٌ ينسجون بإبرتهم معطفَ الأقحوانْ
أسْرَجوا الخيلَ،
لا يعرفون لماذا،
ولكنهم أسرجوا الخيل في آخر الليل
... سَبْعُ سنابلَ تكفي لمائدةِ الصيفَ.
سَبْعُ سنابل بين يدي. وفي كل سُنْبُلةٍ
يُنْبِتُ الحقلُ حقلاً من القمح. كان
أبي يَسْحَبُ الماءَ من بِئْره ويقولُ
لهُ: لا تجفَّ. ويأخذني من يدِيْ
لأرى كيف أكبُرُ كالفَرْفَحِينَةِ...
واحدٌ في الأعالي
وآخرُ في الماءِ يسبحُ... لِيْ قمرانْ
واثِقينَ، كأسلافهم، من صَوابِ
الشرائع... سكُّوا حديدَ السيوفِ
محاريثَ. لن يُصْلِحَ السيفُ ما
أفسَدَ الصيفُ – قالوا. وصَلُّوا
طويلاً. وغنّوا مدائحهم للطبيعةِ...
لكنهم أسرجوا الخيل،
كي يَرقُصوا رقصةَ الخيلِ،
في فضَّة الليل...
تجرحني غيمةٌ في يدي: لا
أريدُ من الأرض أكثرَ منْ
هذه الأرضِ: رائحةِ الهالِ والقشِّ
بين أبي والحصانْ.
في يدي غَيمةٌ جَرَحَتني. ولكنني
لا أريدُ من الشمس أكثرَ
من حبَّة البرتقال وأكثرَ من
ذَهَبٍ سال من كلمات الأذانْ
أسرجوا الخَيْلَ،
لا يعرفون لماذا،
ولكنهم أسرجوا الخيل
في آخر الليل، وانتظروا
شَبضحاً طالعاً من شُقُوق المكانْ..
يسري راغب
02/26/2009, 03:53 AM
- 3 -
قرويُّون، منْ غَيْرِ سُوء..
لم أكن بعدُ أعرف عاداتِ أمي، ولا أهلها
عندما جاءت الشاحناتُ من البحر. لكنّني
كُنْتُ أعرفُ رائحةَ التبغ حول عباءة جدّي
ورائحة القهوةِ الأبديّة، منذ وُلدتُ
كما يولدُ الحيوانُ الأليفُ هُنا
دفعةً واحدةْ!
نحن أيضاً لنا صرخةٌ في الهبوط إلى حافَّةِ
الأرضِ. لكننا لا نُخَزِّنُ أصواتنا
في الجرارِ العتيقةِ. لا نشنق الوَعْلَ
فوق الجدارِ، ولا ندَّعي ملكُوتَ الغبار،
وأحلامنا لا تُطِلُّ على عِنَبِ الآخرين،
ولا تكسِرُ القاعدةْ!
لم يكن بعدُ لاسميَ ريشٌ فأقفز أَبعَدَ
بعد الظّهيرةِ. كانت حرارةُ أبريلَ مثل
رباباتِ زوّارنا العابرين تطيِّرنا كالحمامات.
لي جَرَسٌ أوَّلٌ: جاذبيَّةُ أنثى تراوغني
لأشمَّ الحليبَ على ركبتيها، فأهرب
من لسْعة المائدةْ!
نحن أيضاً لنا سرُّنا عندما تقع الشمسُ
عن شجر الحَورِ: تخطفُنا رغبةٌ في البكاء
على أحدٍ مات من أجل لا شيء ماتَ،
وتجرفنا صَبْوةٌ لزيارة بابلَ أو جامعٍ
في دمشقَ، وتذرفُنا دمعةٌ من هديلِ
اليمامات في سيرة الوجع الخالدة!
قرويّون، من غير سوءٍ، ولا نَدَمٍ
في الكلام. وأسماؤنا مثل أيَّامنا تتشابهُ،
أسماؤنا لا تدلُّ علينا تماماً. ونَنْدَسُّ
بين حديث الضيوف. لنا ما نقولُ عنِ
الأرض للأجنبيَّة حين تُطرِّزُ منديلها ريشةً
ريشةً من فضاء عاصفيرنا العائدة!
لم تكن للمكان مساميرُ أقوى من الزنزلختْ
عندما جاءتِ الشاحناتُ من البحر. كنا
نهيِّىءُ وجبةَ أبقارنا في حظائرها، ونرتِّبُ
أيامنا في خزائن من شُغلنا اليدويِّ
ونخطب وُدَّ الحصان، ونُومىءُ
للنجمة الشاردة.
نحن أيضاً صعدنا إلى الشاحنات. يُسامِرُنا
لمعانُ الزُّمُرُّدِ في ليل زيتوننا، ونُباحُ
كلابٍ على قمرٍ عابرٍ فوق بُرجِ الكنيسةِ،
لكننا لم نكن خائفين. لأن طفولتنا لم
تجىءْ معنا. واكتفينا بأغنية: سوف نرجع
عمَّا قليل إلى بيتنا... عندما تُفرِغُ الشاحناتُ
حُمُولتها الزّائدةْ!
يسري راغب
02/26/2009, 03:53 AM
- 4 -
ليلة البوم
هاهنا حاضر لا يلامسه الأمس
حين وصلنا إلى آخر الشجرات
انتبهنا إلى أننا لم نعد قادرين على الانتباه
وحين التفتنا إلى الشاحنات
رأينا الغياب يكدس أشياءه المنتقاة
وينصب خيمته الأبدية من حولنا
هاهنا حاضر لا يلامسه الأمس
ينسل من شجر التوت خيط الحرير
حروفا على دفتر الليل
لا شيء غير الفَراش يضيء جسارتنا في النزول
إلى حفرة الكلمات الغريبة
هل كان هذا الشقي أبي ؟
ربما أتدبر أمري هنا
ربما ألد الآن نفسي بنفسي
وأختار لاسمي حروفا عمودية
هاهنا حاضرٌ
جالس في خلاء الأواني يحدق
في أثر العابرين على قصب النهر
يصقل ناياتهم بالهواء
لعل الكلام يشفُّ فنبصر فيه النوافذ مفتوحة
ولعل الزمان يحث الخطى معنا
حاملا غدنا في حقائبه
هاهنا حاضر لا زمان له
لم يجد أحدٌ هاهنا أحدا يتذكر
كيف خرجنا من الباب ريحا وفي أي وقت وقعنا عن الأمس فانكسر
الأمس فوق البلاط شظايا يركبها الآخرون مرايا لصورتهم بعدنا .
هاهنا حاضر لا مكان له
ربما أتدبر أمري وأصرخ في ليلة البوم :
هل كان ذلك الشقي أبي , كي يحمّلني عبء تاريخه ؟
ربما أتغير في اسمي وأختار ألفاظ أمي وعاداتها مثلما ينبغي
أن تكون كأن تستطيع مداعبتي
كلما مسّ ملحٌ دمي
وكأن تستطيع معالجتي كلما عضني بلبلٌ في فمي !.
هاهنا حاضر ٌ عابر
هاهنا علق الغرباء بنادقهم فوق أغصان زيتونة
وأعدوا عشاءً سريعا
من العلب المعدنية
وانطلقوا مسرعين إلى الشاحنات .
يسري راغب
02/26/2009, 04:23 AM
- 5 -
أبَدُ الصُّبّار
إلى أين تأخُذُني يا أبي؟
إلى جِهَةِ الريحِ يا ولدي...
... وهُما يَخْرُجان مِنَ السَّهْل، حيثُ
أقام جنودُ بونابرتَ تلاًّ لِرَصدِ
الظلال على سور عكا القديم
– يقول أبٌ لإبنه: لا تَخَف. لا
تَخَف من ازير الرصاص! إلتصق
بالتراب لتنجو! سننجو ونعلو على
جبل في الشمال، ونرجع حين
يعود الجنود إلى أهلهم في البعيد
- ومن يسكن البيت من بعدنا
يا أبي؟
- سيبقى على حاله مثلما كان
يا ولدي!
تحسّس مفتاحه مثلما يتحسّس
أعضاءه، واطمأنَّ. وقال له
وهما يعبران سياجاً من الشوك:
يا ابني تذكر! هنا صلب الإنجليز
اباك على شوك صبارة ليلتين،
ولم يعترف أبداً. سوف تكبر يا
ابني، وتروي لمن يرثون بنادقهم
سيرة الدم فوق الحديد...
- لماذا تركتَ الحصان وحيداً؟
- لكي يؤنس البيتَ، يا ولدي،
فالبيوتُ تموتُ إذا غاب سُكانها...
تفتح الأبدية أبوابها، من بعيد،
لسيارة الليل. تعوي ذئاب
البراري على قمرٍ خائفٍ. ويقول
أبٌ لابنه: كُن قوياً كجدّك!
واصعد معي تلّة السنديان الأخيرة
يا ابني، تذكّر: هنا وقع الإنكشاريُّ
عن بغلةِ الحرب، فاصمُد معي
لنعود
- متى يا أبي؟
- غداً. ربما بعد يومين يا ابني!
وكان غدٌ طائشٌ يمضغ الريح
خلفهما في ليالي الشتاء الطويلة.
وكان جنودُ يُهُوشُعَ بن نونِ يبنون
قلعتهم من حجارة بيتهما. وهما
يلهثان على درب "قانا": هنا
مرَّ سيّدنا ذات يوم. هنا
جعل الماء خمراً. وقال كلاماً
كثيراً عن الحبّ، يا ابني تذكّر
غداً. وتذكّر قلاعاً صليبيةً
قدمتها حشائش نيسان بعد
رحيل الجنود...
يسري راغب
02/26/2009, 04:24 AM
_ 6 _
كم مرةً ينتهي أمرنا
يتأمل أيامه في دخان السجائر
ينظر في ساعة الجيب :
لو أستطيع لأبطأت دقاتها
كي أؤخر نضج الشعير !
ويخرج من ذاته مرهقا نزقا :
جاء وقت الحصاد
السنابل مثقلة والمناجل مهملةٌ والبلاد تبعد الآن عن بابها النبوي.
يحدثني صيف لبنان عن عنبي في الجنوب
يحدثني صيف لبنان عما وراء الطبيعة
لكن دربي إلى الله يبدأ من نجمة في الجنوب .
هل تكلمني يا أبي ؟
عقدوا هدنة في جزيرة رودوس
يا ابني
وما شأننا نحن , ما شأننا يا أبي ؟
وانتهى الأمر
كم مرة ينتهي أمرنا يا أبي
انتهى الأمر .قاموا بواجبهم :
حاربوا ببنادق مكسورة طائرات العدو
وقمنا بواجبنا وابتعدنا عن الزنزلخت
لئلا نحرك قبعة القائد العسكري
وبعنا خواتم زوجاتنا ليصيدوا العصافير يا ولدي !
هل سنبقى إذا , ههنا يا أبي
تحت صفصافة الريح
بين السموات والبحر ؟
يا ولدي ! كل شيء هنا
سوف يشبه شيئا هناك
سنشبه أنفسنا في الليالي
ستحرقنا نجمة الشبه السرمدية
يا ولدي .!
يا أبي , خفف القول عني
تركت النوافذ مفتوحة لهديل الحمام
تركت على حافة البئر وجهي تركت الكلام
على حبله فوق حبل الخزانة
يحكي , تركت الظلام
على ليله يتدثر صوف انتظاري
تركت الغمام
على شجر التين ينشر سرواله
وتركت المنام
يجدد في ذاته ذاته
وتركت السلام
وحيدا , هناك على الأرض
هل كنت تحلم في يقظتي يا أبي ؟
قم , سنرجع يا ولدي
يسري راغب
02/26/2009, 04:25 AM
- 7 -
إلى آخري
وإلى آخره...
- هل تَعِبْتَ من المشي
يا ولدي، هل تعبت؟
- نعم، يا أبي
طال ليلك في الدرب،
والقلب سال على أرض ليلِكَ
- ما زلتَ في خِفَّة القطِّ
فاصعد إلى كتفيَّ،
سنقطع عما قليل
غابة البطم والسنديان الأخيرة
هذا شمال الجليل
ولبنان من خلفنا،
والسماء لنا كلها من دمشق
إلى سور عكا الجميل
- ثم ماذا؟
- نعود إلى البيت
هل تعرف الدرب يا ابني
- نعم، يا أبي:
شرق خروبة الشارع العام
دربٌ صغيرٌ يضيقُ بصباره
في البداية، ثم يسير إلى البئر
أوسع أوسع، ثم يُطلُّ
على كرم عمي "جميل"
بائع التبغ والحلويات،
ثم يضيع على بيدر قبل
أن يستقيم ويجلس في البيت،
في شكل ببغاء،
- هل تعرف البيت، يا ولدي
- مثلما أعرف الدرب أعرفه:
ياسمينٌ يُطوِّق بوابةً من حديد
ودعسات ضوءٍ على الدرج الحجري
وعباد شمس يُحدّق في ما وراء المكان
ونحلٌ أليفٌ يُعِدُّ الفطور لجدّي
على طبق الخيزران،
وفي باحة البيت بئرٌ وصفصافةٌ وحصان
وخلف السياج غدٌ يتصفّحُ أوراقنا...
- يا أبي، هل تعبت
أرى عرقاً في عيونك؟
- يا ابني تعبتُ... أتحملني؟
- مثلما كنتَ تحملني يا أبي،
وسأحمل هذا الحنين
إلى
أوّلي وإلى أوَّلِه
وسأقطع هذا الطريق إلى
آخري... وإلى آخره!
يسري راغب
02/26/2009, 04:27 AM
- 8 -
عُودُ إسماعيل
فرسٌ على وترين ترقص – هكذا
تُصغي أصابعه إلى دمه، وتنتشر القرى
كشقائق النعمان في الإيقاع. لا
ليلٌ هناك ولا نهارٌ. مسَّنا
طربٌ سماويٌّ، وهرولت الجهات إلى
الهيولى
هلِّلويا،
هلِّلويا،
كلُّ شيء سوف يبدأ من جديد
هو صاحب العود القديم، وجارنا
في غابة البلوط. يحمل وقته متخفّياً
في زيِّ مجنونٍ يُغني. كانت الحرب انتهت
ورماد قريتنا اختفى بسحابةٍ سوداء لم
يُولد عليها طائرُ الفينيق بعد، كما
توقعنا، ولم تنشف دماء الليل في
قمصان موتانا. ولم تطلع نباتاتٌ، كما
يتوقع النسيان، في خُوَذ الجنود
هلِّلويا،
هلِّلويا،
كل شيءٍ سوف يبدأ من جديد
كبقية الصحراء، ينحسر الفضاء عن الزمان
مسافةً تكفي لتنفجر القصيدة. كما اسماعيل
يهبط بيننا، ليلاً، وينشد: يا غريب،
أنا الغريب، وأنت مني يا غريب! فترحل
الصحراء في الكلمات. والكلمات تُهمِل قوّة
الأشياء: عُد يا عود... بالمفقود واذبحني
عليه، من البعيد إلى البعيد
هلِّلويا
هلِّلويا،
كل شيءٍ سوف يبدأ من جديد
يتحرك المعنى بنا... فنطير من سفحٍ إلى
سفحٍ رخاميّ. ونركض بين هاويتين زرقاوين.
لا أحلامنا تصحو، ولا حرس المكان
يغادرون فضاء إسماعيل. لا أرضٌ هناك
ولا سماء. مسّنا طربٌ جماعيٌّ أمام
البرزخ المصنوع من وترين. إسماعيل... غنِّ
لنا ليصبح كل شيءٍ ممكناً قرب الوجود
هلِّلويا
هلِّلويا،
كل شيءٍ سوف يبدأ من جديد
يسري راغب
02/26/2009, 04:28 AM
_9_
نزهة الغرباء
أعرف البيت من خصلة المريمية . أولى النوافذ
تجنح نحو الفراشات ... زرقاء حمراء
أعرف خط السحاب وفي أي بئر سينتظر القرويات في الصيف
أعرف ماذا تقول الحمامة حين تبيض على فوهة البندقية
أعرف من يفتح الباب للياسمينة
وهي تفتح أحلامنا لضيوف المساء
لم تصل بعد مركبة الغرباء
لم يصل أحدٌ فاتركيني هناك كما تتركين التحية في مدخل البيت
لي أو لغيري
ولا تحفلين بمن سوف يسمعها أولا
واتركيني هناك كلاما لنفسي :
هل كنت وحدي " وحيدا كما الروح في جسدٍ "؟
عندما قلت يوما : أحبكما , أنت والماء
فالتمع الماء في كل شيء
كجيتارة تركت نفسها للبكاء
لم تصل بعد جيتارة الغرباء
فلنكن طيبين ! خذيني إلى البحر
عند الغروب , لأسمع ماذا يقول لكِ البحر
حين يعود إلى نفسه هادئا هادئا
لن أغير ما بي
سأندس في موجةٍ وأقول :
خذيني إلى البحر ثانية
هكذا يفعل الخائفون بأنفسهم : يذهبون إلى البحر
حين تعذبهم نجمة أحرقت نفسها في السماء .
لم تصل بعد أغنية الغرباء
أعرف البيت من خفقان المناديل
أولى الحمامات تبكي على كتفي
وتحت سماء الأناجيل يركض طفل بلا سببٍِ
يركض الماء والسرو يركض والريح تركض في الريح
والأرض تركض في نفسها
قلت : لا تسرعي في الخروج من البيت ... لا شيء يمنع هذا المكان
من الانتظار قليلا هنا
ريثما ترتدين قميص النهار وتنتعلين حذاء الهواء
لم تصل بعد أسطورة الغرباء
لم يصل أحدٌ فاتركيني هناك كما تتركين الخرافة في أي شخص يراك ِ
فيبكي ويركض في نفسه خائفا من سعادته :
كم أحبك , كم أنتِ أنتِ!
ومن روحه خائفا :لا أنا الآن إلا هي الآن فيّ.
ولا هي إلا أنا في هشاشتها
كم أخاف على حلمي أن يرى حلما غيرها في نهاية هذا الغناء ..
لم يصل أحدٌ
ربما أخطأ الغرباء الطريق
إلى نزهة الغرباء .!
يسري راغب
02/26/2009, 04:30 AM
- 10 -
حبْرُ الغراب
لكَ خلوةٌ في وحشة الخرّوب، يا
جرس الغروب الداكن الأصوات! ماذا
يطلبون الآن منكَ؟ بحثتَ في
بستان آدم، كي يواري قاتلٌ ضَجِرٌ أخاهُ،
وانغلقتَ على سوادك
عندما انفتح القتيل على مداه،
وانصرفتَ إلى شؤونك مثلما انصرف الغياب
إلى مشاغله الكثيرة. فلتكن
يقظاً. قيامتنا ستُرْجأ يا غراب!
لا ليل يكفينا لنحلم مرتين. هناك بابٌ
واحد لسمائنا. من أين تأتينا النهاية؟
نحن أحفاد البداية. لا نرى
غير البداية، فاتحد بمهب ليلك كاهناً
يعظ الفراغ بما يخلفه الفراغ الآدمي
من الصدى الأبدي حولك...
أنت متهمٌ بما فينا. وهذا أول
الدم من سلالتنا أمامك، فابتعد
عن دار قابيل الجديدة
مثلما ابتعد السراب
عن حبر ريشك يا غراب
ليَ خلوةٌ في ليل صوتك... لي غياب
راكضٌ بين الظلال يشدّني
فأشدُّ قرن الثور. كان الغيب يدفعني أدفعُهُ
ويرفعني وأرفعه إلى الشبح المعلق مثل
باذنجانة نضجت. أأنت إذاً؟ فماذا
يطلبون الىن منا بعدما سرقوا كلامي من
كلامك، ثم ناموا في منامي واقفين
على الرماح. ولم اكن شبحاً لكي يمشوا
خطاي بعد خطاي. فكن أخي الثاني،
أنا هابيل، يُرجعني التراب
إليك خَرُّوباً لتجلس فوق غصني يا غراب
أنا أنت في الكلمات. يجمعنا كتاب
واحدٌ. لي ما عليك من الرماد، ولم
نكن في الظل غلا شاهدَين ضحيَّتين
قصيدتين
قصيرتين
عن الطبيعة، ريثما يُنهي وليمته الخراب
ويضيئك القرآن:
(فبعث الله غراباً يبحث في الأرض
ليُريَه كيف يوارى سوءة أخيه، قال:
يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب)
ويضيئك القرآن،
فابحث عن قيامتنا، وحلّق يا غراب!
يسري راغب
02/26/2009, 04:30 AM
- 11 -
سنونو التتار
على قدر خيلي تكون السماء. حلُمْتُ
بما سوف يحدث بعد الظهيرة. كان التتار
يسيرون تحتي وتحت السماء، ولا يحملون
بشيء وراء الخيام التي نصبوها. ولا يعرفون
مصائر ماعزنا في مهبّ الشتاء القريب.
على قدر خيلي يكون المساء. وكان التتار
يدُسُّون أسماءهم في سقوف القرى كالسنونو،
وكانوا ينامون بين سنابلنا آمنين،
ولا يحلمون بما سوف يحدث بعد الظهيرة، حين
تعود السماء، رويداً رويداً،
إلى أهلها في المساء
لنا حلمٌ واحدٌ: أن يمرّ الهواء
صديقاً، وينشر رائحة القهوة العربية
فوق التلال المحيطة بالصيف والغرباء...
أنا حلمي. كلما ضاقت الأرض وسّعتها
بجناح سنونوّة واتسعت. أنا حُلُمي...
في الزحام امتلأت بمرآة نفسي وأسئلتي
عن كواكب تمشي على قدمَيْ من أحب
وفي عزلتي طُرُقٌ للحجيج إلى أورشليم –
الكلام المنتف كالريش فوق الحجارة،
كم من نبيّ تريد المدينة كي تحفظ اسم
أبيها وتندم: "من غير حرب سقطْتُ"؟
وكم من سماء تُبَدِّل، في كل شعبٍ،
ليعجبها شالها القرمزي؟ فيا حُلُمي...
لا تحدّق بنا هكذا!
لا تكن آخر الشهداء!
أخاف على حلمي من وضوح الفراشة
ومن بقع التوت فوق صهيل الحصان
أخاف عليه من الأب والإبن والعابرين
على ساحل الأبيض المتوسط بحثاً عن الآلهة
وعن ذهب السابقين،
أخاف على حلمي من يديَّ
ومن نجمةٍ واقفة
على كتفي في انتظار الغناء
لنا، نحن أهل الليالي القديمة، عاداتنا
في الصعود إلى قمر القافية
نُصدّق أحلامنا ونُكذِّب أيامنا،
فأيامنا لم تكن كلها معنا منذ جاء التتار
وها هم يعدون أنفسهم للرحيل
وينسون ايامنا خلفهم، وسنهبط عما قليل
إلى عمرنا في الحقول. ونصنع أعلامنا
من شراشف بيضاء، إن كان لا بد
من عَلَمٍ، فليكن هكذا عارياً
من رموزٍ تُجَعِّده... ولنكن هاديئين
لئلا نثطَيِّر أحلامنا خلف قافلة الغرباء
لنا حلم واحد: أن نجد
حلماً كان يحملنا
مثلما تحمل النجمة الميتين!
يسري راغب
02/26/2009, 04:34 AM
- 12 -
مَرَّ القطار
مرّ القطار سريعاً،
كنتُ أنتظر
على الرصيف قطاراً مَرَّ،
وانصرف المسافرون إلى
أيامهم... وأنا
ما زلت أنتظر
تبكي الكمنجات عن بُعدٍ،
فتحملني
سحابةٌ من نواحيها
وتنكسر
كان الحنين إلى أشياء غامضة
ينأى ويدنو،
فلا النسيان يُقصيني،
ولا التذكر يدنيني،
من امرأة
إن مَسَّها قمرٌ
صاحت: أنا القمرُ
مرّ القطار سريعاً،
لم يكن زمني
على الرصيف معي،
فالساعة اختلفت
ما الساعة الآن؟
ما اليوم الذي حدثت
فيه القطيعة بين الأمس والغد
لمّا هاجر الغجر؟
هنا ولدت ولم أولد
سيُكمل ميلادي الحَرُون إذاً
هذا القطار
ويمشي حولي الشجر
هنا وُجدتُ ولم أوجد
سأعثر في هذا القطار
على نفسي التي امتلأت
بضفّتين لنهرٍ مات بينهما
كما يموت الفتى
"ليت الفتى حجرُ..."
مرّ القطار سريعاً
مرّ بي، وأنا
مثل المحطة، لا أدري
أودع أم أستقبل الناس:
أهلاً، فوق أرصفتي
مقهى،
مكاتب،
وردٌ
هاتفٌ،
صحفٌ
وسندويشاتٌ،
وموسيقى،
وقافيةٌ
لشاعرٍ آخرٍ يأتي وينتظر
مرّ القطار سريعاً
مرّ بي، وأنا
ما زلتُ أنتظرُ
يسري راغب
02/26/2009, 04:34 AM
فوضي على باب القيامة
-13-
البئر
أختار يوما غائما لأمر بالبئر القديمة
ربما امتلأت سماءً
ربما فاضت عن المعنى وعن
أمثولة الراعي .
سأشرب حفنة من مائها .
وأقول للموتى حواليها : سلاما , أيها الباقون
حول البئر في ماء الفراشة !
أرفع الطيُّون عن حجرٍ : سلاما أيها الحجر الصغير
لعلنا كنا جناحي طائرٍ ما زال يوجعنا .سلاما
أيها القمر المحلق حول صورته التي لن يلتقي أبدا بها !
وأقول للسرو : انتبه مما يقول
لك الغبار لعلنا كنا هنا وتريْ كمانٍ في وليمة حارسات اللازورد
لعلنا كنا ذراعيْ عاشقٍ
قد كنت أمشي حذو نفسي : كن قويا يا قريني
وارفع الماضي كقرني ماعزٍ بيديك
واجلس قرب بئرك
ربما التفتت إليك أيائل الوادي
ولاح الصوت صوتك صورةً حجريةً للحاضر المكسور ..
لم أكمل زيارتي القصيرة بعد للنسيان
لم آخذ معي أدوات قلبي كلها :
جرسي على ريح الصنوبر
سُلّمي قرب السماء
كواكبي حول السطوح
وبحّتي من لسعة الملح القديم
وقلت للذكرى :سلاما يا كلام الجدة العفوي
يأخذنا إلى أيامنا البيضاء تحت نعاسها
واسمي يرن كليرة الذهب القديمة عند باب البئر
أسمع وحشة الأسلاف بين الميم والواو السحيقة
مثل وادٍ غير ذي زرعٍ .وأخفي تعبي الودي
أعرف أنني سأعود حيا
بعد ساعات
من البئر التي لم القَ فيها يوسفا أو خوف إخوته من الأصداء .
كن حذرا !
هنا وضعتكَ أمك قرب باب البئر
وانصرفت إلى تعويذةٍ فاصنع بنفسك ما تشاء
صنعت وحدي ما أشاءُ :
كبرت ليلا في الحكاية بين أضلاع المثلث :
مصر , سوريا , وبابل
ههنا وحدي كبرت بلا إلهات الزراعة
كّنّ يغسلن بالندى ورأيت أني قد سقطتُ عليّ من سفر القوافل
قرب أفعى
لم أجد أحدا لأكمله سوى شبي
رمتني الأرض خارج أرضها
واسمي يرن على خطاي
كحذوة الفرس : اقترب ... لأعود من هذا
الفراغ إليك يا جلجامش الأبدي في اسمك .
كن أخي ! واذهب معي لنصيح بالبئر القديمة
ربما امتلأت كأنثى بالسماء
وربما فاضت عن المعنى وعمّا سوف يحدث في انتظار ولادتي من بئري الأولى!
سنشرب حفنة من مائها ,
سنقول للموتى حواليها : سلاما
أيها الأحباء في ماء الفَراشِ ,
وأيها الموتى سلاما ! .
يسري راغب
02/26/2009, 04:37 AM
- 14 -
كالنون في سورة الرحمن
في غابة الزيتون، شرق
الينابيع انطوى جدي على ظله
المهجور. لم ينبت على ظله
عُشبٌ خرافيٌّ
ولا غيمة الليلك
سالت داخل المشهد
الأرض مثل الثوب منسوجة
بإبرة السّماق في حلمه
المكسور... جدي هبّ من نومه
كي يجمع الأعشاب من كرمه
المطمور تحت الشارع الأسود...
علمني القرآن في دوحة الريحان
شرق البئر،
من آدمٍ جئنا ومن حواء
في جنة النسيان.
يا جدي! أنا آخر الأحياء
في الصحراء، فلنصعد!
البحر والصحراء حول اسمه
العاري من الحراس
لم يعرفا جدي لا أبناءه
الواقفين الآن حول "النون"
في سورة "الرحمن"،
اللهم... فلتشهد!
أما هو المولود من نفسه
الموؤد، قرب النار،
في نفسه،
فليمنح العنقاء من سره
المحروق ما تحتاجه بعده
كي تشعل الأضواء في المعبد
في غابة الزيتون، شرق الينابيع
انطوى جدي على ظله
المهجور. لم تُشرق على ظله
شمسٌ. ولم يهبط على ظله
ظلٌّ،
وجدي دائماً، أبعد...
يسري راغب
02/26/2009, 04:38 AM
- 15 -
تعاليم حورية
فكرتُ يوماً بالرحيل، فحطّ حسّونٌ على
يدها ونام. وكان يكفي أن اداعب غصنَ
داليةٍ على حجل... لتدرك أنّ كأس نبيذي
امتلأت. ويكفي أن أنام مبكراً لترى
مناميَ واضحاً، فتطيل ليلتها لتحرسه...
ويكفي أن تجيء رسالة مني لتعرف أنّ
عنواني تغيّر، فوق قارعة السجون،وأنّ
أيامي تُحوِّم حولها... وحيالها
أمي تعُدّ أصابعي العشرين عن بعد.
تُمشّطني بخصلة شعرها الذهبيّ. تبحث
في ثيابي الداخلية عن نساءٍ أجنبيات،
وترفو جَوربي المقطوع. لم أكبر على يدها
كما شئنا: أنا وهي، افترقنا عند منحدرِ
الرّخام... ولوّحت سُحبٌ لنا، ولماعزٍ
يرثُ المكان. وأنشأ المنفى لنا لغتين:
دراجةً... ليفهمها الحمام ويحفظ الذكرى
وفُصحى... كي أُفسّر للظلال ظلالها!
ما زلت حياً في خضَمِّك. لم تقولي ما
تقول الأم للولد المريض. مَرِضْتُ من قمر
النحاس على خيام البدو. هل تتذكرين
طريق هجرتنا إلى لبنان، حيث نسيتني
ونسيتِ كيسَ الخبز (كان الخبز قمحياً).
ولم أصرخ لئلا أوقظ الحراس. حطّتني
على كتفَيك رائحة الندى. يا ظبيَةً فقدت
هناك كِناسَها وغزالها...
لا وقت حولك للكلام العاطفي.
عجنتِ بالحبق الظهيرة كلها. وخبزتِ للسماق
عُرفَ الديك. أعرف ما يُخرّب قلبك المثقوب
بالطاووس، منذ طُردت ثانيةً من الفردوس.
عالمنا تغير كله، فتغيرت أصواتنا. حتى
التحية بيننا وقعت كزرّ الثوب فوق الرمل،
لم تُسمِع صدىً. قولي: صباح الخير!
قولي أيّ شيء لي لتمنحني الحياة دلالها.
هي أختُ هاجر. أختها من أمها. تبكي
مع النايات موتى لم يموتوا. لا مقابر حول
خيمتها لتعرف كيف تنفتح السماء، ولا
ترى الصحراء خلف أصابعي لترى حديقتها
على وجه السراب، فيركض الزّمن القديم
بها إلى عبثٍ ضروريّ: أبوها طار مثل
الشّركسيّ على حصان العُرس. أما أمها
فلقد أعدّت، دون أن تبكي، لزوجة زوجها
حنّاءها، وتفحّصت خلخالها...
لا نلتقي إلا وداعاً عند مفترق الحديث.
تقول لي مثلاً: تزوج أيّة امرأة من
الغرباء، أجمل من بنات الحي، لكنْ، لا
تُصدّق أيّة امرأة سوايَ. ولا تصدّق
ذكرياتكَ دائماً. لا تحترق لتضيء أمّك،
تلك مهنتها الجميلة. لا تحنّ إلى مواعيد
الندى. كنْ واقعياً كالسماء. ولا تحنّ
إلى عباءة جدّك السوداء، أو رشوات
جدّتك الكثيرة وانطلق كالمهر في الدنيا.
وكنْ مَن أنت حيث تكون. واحمل
عبءَ قلبك وَحدَهُ... وارجع إذا
اتّسعت بلادك للبلاد وغيّرت أحوالها...
أمي تضيء نجوم كنعان الأخيرة،
حول مرآتي،
وترمي، في قصيدتِيَ الأخيرة، شالها!
يسري راغب
02/26/2009, 04:38 AM
16 -
أمشاط عاجيّة
من القلعة انحدر الغيم أزرق
نحو الأزقّة...
شال الحرير يطير
وسرب الحمام يطير
وفي بركة الماء تمشي السماء قليلاً
على وجهها وتطير
وروحي تطير، كعاملة النحل، بين الأزقّة
والبحر يأكل من خبزها، خبزِ عكّا
ويفرك خاتمها منذ خمسة آلاف عامٍ
ويرمي على خدِّها خدَّه
في طقوس الزفاف الطويل الطويل
تقول القصيدة:
فلننتظر
ريثما تسقط النافذة
فوق "ألبوم" هذا الدليل السياحي
أَدخُلُ من إبطها الحجريّ، كما
يدخل الموج في الأبدية. أعبُر
بين العصور كأني أعبر بين الغرف
أرى فيَّ محتويات الزمان الأليفة:
مرآة بنتٍ لكنعان،
أمشاط شعرٍ من العاج،
صحن الحساء الآشوريّ،
سيف المُدافع عن نومِ سيِّده الفارسيّ،
وقفزَ الصقور المفاجىء من علَمٍ نحو آخر
فوق صواري الأساطيل...
لو كان لي حاضرٌ آخر
لامتلكتُ مفاتيح أمسي
ولو كان أمسي معي
لامتلكت غدي كله...
غامضٌ سفري في الزّقاق الطويل
المؤدي إلى قمرٍ غامضٍ فوق سوق
النحاس. هنا نحلة تحمل البرج عني،
وهاجَسُ أغنيةٍ تنقل الادوات البسيطة
حولي، لصنع تراجيديا مكررة، والخيال
هنا بائعٌ جائعٌ يتجوّل فوق الغبار أليفاً،
كأني لا شأن لي بالذي سوف يحدث
لي في احتفالات يوليوس قيصر... عما قليل!
أنا والحبيبة نشرب
ماء المسرّة
من غيمةٍ واحدة
ونهبط في جرّةٍ واحدة!
رسوتُ بمينائها، لا لشيءٍ سوى
أنّ أمي اضاعت مناديلها ههنا...
لا خرافةَ لي ههنا. أُقابض
آلهةً أو أُفاوِض آلهةً. لا خرافة
لي ههنا كي أُعبِّيء ذاكرتي بالشعير
وأسماء حراسها الواقفين على كتفيّ
انتظاراً لفجر تُحُتْمُس. لا سيف لي،
لا خرافة لي ههنا لأطلِّق أمي التي
حمَّلتني مناديلها، غيمةً غيمةً، فوق
ميناء عكا القديمة... عند الرحيل!
ستحدث أشياء أخرى،
سيكذبُ هنري على
قلاوون، بعد قليل
سيرتفع الغيم أحمر فوق صفوف النخيل...
يسري راغب
02/26/2009, 04:39 AM
-17-
أطوار أنّات
الشعر سلمنا إلى قمرٍ تعلقه أنات على حديقتها
كمرآةٍ لعشاق بلا أمل
وتمضي في براري نفسها امرأتين لا تتصالحان :
هنالك امرأة تعيد الماء للينبوع
وامرأة تقود النار في الغابات
أما الخيل فلترقص طويلا فوق هاويتين
لا موت هناك ... ولا حياة .
وقصيدتي زبد اللهاث وصرخة الحيوان
عند صعوده العالي
وعند هبوطه العاري : أنات
أنا أريدكما معا
حبا وحربا يا أناتُ
فإلى جهنم بي .. احبك يا أناتُ
وأنات تقتل نفسها
في نفسها
ولنفسها
وتعيد تكوين المسافة كي تمر الكائنات
أمام صورتها البعيدة فوق أرض الرافدين
وفوق سوريّا .وتأتمر الجهات
بصولجان اللازورد وخاتم العذراء : لا
تتأخري في العالم السفلي .
عودي من هناك إلى الطبيعة والطبائع يا أنات !
جفت مياه البئر بعدك
جفت الأغوار والأنهار جفت بعد موتك . والدموع
تبخرت من جرة الفخار وانكسر الهواء من الجفاف
كقطعة الخشب
انكسرنا كالسياج على غيابك جفت الرغبات فينا
والصلاة تكلست .
لا شيء يحيا بعد موتك
والحياة تموت كالكلمات بين مسافرين إلى الجحيم
فيا أنات
لا تمكثي في العالم السفلي أكثر !
ربما هبطت إلهات جديدات علينا من غيابك
وامتثلنا للسراب
وربما وجد الرعاة الماكرون آلهةً قرب الهباء وصدقتها الكائنات
فلترجعي , ولتُرجعي أرض الحقيقة والكناية
أرض كنعان البداية
أرض نهديك المشاع
وأرض فخذيك المشاع
لعي تعود المعجزات إلى أريحا ,
عند باب المعبد المهجور ...لا
موت هناك ولا حياة
فوضى على باب القيامة
لا غدٌ يأتي . ولا ماضٍ يجيء مودعا .
لا ذكريات
تطير من أنحاء بابل فوق نخلتنا , ولا
حلمٌ يسامرنا لنسكن نجمةً
هي زر ثوبك يا أنات
وأنات تخلق نفسها
من نفسها
ولنفسها
وتطير خلف مراكب الإغريق
في اسم آخر
إمرأتين لن تتصالحا أبدا
وأما الخيل
فلترقص طويلا فوق هاويتين .لا موت هناك ولا حياة
لا أنا أحيا هنالك ,
أو أموت ُ
ولا أناتُ
ولا أنات !.
يسري راغب
02/26/2009, 04:40 AM
18-
مصرع العنقاء
في الأناشيدِ التي ننشدها
نايٌ
وفي الناي الذي يسكننا
نارٌ
وفي النار التي نوقدها
عنقاءُ خضراءُ
وفي مرثية العنقاء لم أعرف
رمادي من غبارك
غيمةٌ من ليلكٍ تكفي لتخفي
خيمة الصياد عنا . فأمشِ
فوق الماء كالسيد - قالت لي :
فلا صحراء للذكرى التي أحملها عنكَ
ولا أعداء منذ الآن للورد
الذي يبزغ من أنقاض دارِك .
كان ماءٌ يشبه الخاتم حول الجبل العالي
وكانت طبريا ساحةً خلفيةً للجنة الأولى
وقلت : اكتملت
صورة العالم في عينين خضراوين
قالت : يا أميري وأسيري
ضع خمورك في جرارك !
الغريبان اللذان احترقا فينا
هما
من أرادا قتلنا قبل قليلٍ
وهما
من يعودان إلى سيفيهما بعد قليلٍ
وهما
من يقولان لنا : من أنتما ؟
- نحن ظلاّن لِما كنا هنا
واسمان للقمح الذي ينبت في خبز المعارك
لا أريد العودة الآن , كما
عاد الصليبيون منّي
فأنا كل هذا الصمت بين الجهتين : الآلهة
من جهة ,
والذين ابتكروا أسماءهم من جهةٍ أخرى
أنا الظل الذي يمشي على الماء
أنا الشاهد والمشهد
والعابد والمعبد
في أرض حصاري وحصارك
كن حبيبي بين حربين على المرآة_قالت_ لا أريد
العودة الآن إلى حصن أبي ...
خذني إلى كرمك
واجمعني إلى أمك
عطرني بماء الحبق
انثرني على آنية الفضة
مشطني , وأدخلني إلى سجن اسمك
اقتلني من الحب
تزوجني , وزوجني التقاليد الزراعية
دربني على الناي
واحرقني لكي أولد كالعنقاء من ناري ونارك !.
كان شيءٌ يشبه العنقاء
يبكي داميا
قبل أن يسقط في الماء
على مقربةٍ من خيمة الصياد
ما نفع انتظاري وانتظارك ؟
يسري راغب
02/26/2009, 04:41 AM
- 19 -
تدابير شعريَّة
لم يكن للكواكب دورٌ،
سوى أنها
علمتني القراءة:
لي لغةٌ في السماء
وعلى الأرض لي لغة
من أنا؟ من أنا؟
لا أريد الجواب هنا
ربما وقعت نجمةٌ فوق صورتها
ربما ارتفعت غاية الكستنا
بِيَ نَحْوَ المجرَّةِ، ليلاً،
وقالت: ستبقى هنا!
القصيدة فوق، وفي وسعها
أن تعلمني ما تشاء
كأن أفتح النافذة
وأُدير تدابيري المنزلية
بين الأساطير. في وسعها
أن تزوجني نفسها... زمناً
وأبي تحت، يحمل زيتونة
عمرها ألف عام،
فلا هي شرقية
ولا هي غربية.
ربما يستريح من الفاتحين،
ويحنو عليَّ قليلاً،
ويجمع لي سوسنا
القصيدة تبعد عني،
وتدخي ميناء بحارةٍ يعشقون النبيذ
ولا يرجعون إلى امرأةٍ مرّتين،
ولا يحملون حنيناً إلى أيّ شيء
ولا شجنا!
لم أمت بعد حباً
ولكنّ أماً ترى نظرات ابنها
في القرنفل تخشى على المزهرية من جرحها،
ثم تبكي لتبعد حادثة
قبل أن تصل الحادثة
ثم تبكي لترجعني من طريق المصائد
حيّاً، لأحيا هنا
القصيدة ما بين بين، وفي وسعها
أن تضيء الليالي بنهدي فتاة،
وفي وسعها أن تضيء بتفاحةٍ جسدين،
وفي وسعها أن تعيد،
بصرخة غاردينيا، وطناً!
القصيدة بين يديّ، وفي وسعها
أن تدير شؤون الأساطير،
بالعمل اليدوي، ولكنني
مذ وجدتُ القصيدة شرَّدتُ نفسي
وسألتها:
من أنا
من أنا؟