" وصل كتابك فصادفني قريب العهد بانطلاق من عنت الفراق، ووافقني مستريح الأعضاء والجوانح من جوى الاشتياق.. فإن الدهر جرى على حكمه المألوف في تحويل الأحوال، وجرى على رسمه المعروف في تبديل الأشكال، وأعتقني من مخالتك عتقا لا تستحق به ولاءَ، وأبرأني من عهدتك براءة لا تستوجب دركا ولا استثناء، ونزع من عنقي ربقة الذل في إخائك بيدي جفائك، وتغلغل في مسالك أنفاسي فعـوض عن النزاع إليك نزوعا منك ، ومن الذهاب فيك رجوعا دونك. وكشف عن عيني ضبابات ما ألقاه الهوى على بصري ورفع عني غيابات ما سدله الشك دون نظري، حتى حدر النقاب على صفحات شيمك، وسفر عن وجوه خليقتك فلم أجد إلا منكرا ولم ألق إلا مستنكرا فوليت منهم فرارا وملئت منهم رعبا. فاذهب فقد ألقيت حبلك على غاربك ورددت إليك ذمم عهدك. "
رسالة ابن العميد إلى القاضي ابن خلاد
وصل كتابك الذي وصلت جناحه بفنون صلاتك وتفقدك ، وضروب برك وتعهدك ، فارتحت لكل ما أوليت ، وابتهجت بجميع ما أهديت وأضفت إحسانك في كل فضل نظائره التي وكلت بها ذكرى ، ووقفت عليها شكري . وتأملت النظم فملكني العجب به ، وبهرني التعجب منه . وقد رمت أن أجري على العادة في تشبيهه بمستحسن من زهر جَنَى ، وحُللٍ وحلُيٍ ، وشُذور الفوائد في نُحور الخرائد :
كالعذارى غدون في الحُللِ البيض : وقد رحن في الخطوط السود
فلم أرى لشيء عدلاً ، ولا أرضى ما عددته له مثلاً . والله يزيدك من فضله ولا يخليك من فضله ولا يخليك من إحسانه ، ويُلهمك من بر إخوانك ما تُتَمم به صنيعك لديهم ويَرُب معه إحسانك إليهم .
ولابن العميد من قصيدة اخوانية وجدانية :
قد ذبت غير حشاشة وذماء : ما بين حر الهوى وحر هواء
لا استفيق من الغرام ، ولا أدري : خلواً من الأشجان والبرحاء
وصروف أيامي أقمن قيامي : بنوى الخليط وفُرقة القُرناء
وجفاء خلً كنت أحسب أنه : عوني على السراء والضراء
أبكي ويضحكه الفراق ولن ترى : عجباً كحاضر ضحكه وبكائي
من يشف من داء بآخر مثله : أثرت جوانحه من الأدواء !
لا تغتنم إغضائتي فلعلها : كالعين تُغضيها على الأقذاء
واستبق بعض حُشاشتي فلعلني : يوماً أقيك بها من الأسواء
من كتاب ابن العميد لابن بلكا
كتابي وأنا مترجح بين طمع فيك ويأس منك ، وإقبال عليك وإعراض عنك ، فإنك تدل بسابق حرمة وسالف خدمة أيسرها يوجب رعاية ويقتضي محافظة وعناية . ثم تشفعها بحادث غُلول وخيانة ، بآنف خِلاف ومعصية ، وأدنى ذلك يحبط أعمالك ويسحق كل ما يرعى لك .
لا جرم أني وقفت بين ميل إليك وميل عليك ، أُقدم رجلاً لصدك وأُخر أخرى لقصدك ، وأبسط يداً لاصطلامك واجتياحك وأثني ثانية لاستبقائك واستصلاحك ، واتوقف عن امتثال بعض المأمور فيك ضناً بالنعمة عندك ومنافسة في الصنيعة لديك وتأميلاً لفيئتك وانصرافك ، ورجاء لمراجعة وانعطافك ، فقد يغرب العقل ثم يؤوب ، ويعزب اللب ثم يثوب ، ويذهب الحزم ثم يعود ، ويفسد العزم ثم يصلح ، ويُضاع الراي ثم يستدرك ، ويسَكَرُ المرء ثم يصحو ، ويَكدُر الماء ثم يصفو . وكل ضيقة إلى رخاء ، وكل غمرة إلى انجلاء ....