® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11575 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2020-12-14, 4:31 pm | | @hassanbalam #وديع_سعادة وديع سعادة الأعمال الكاملة قراءة مباشرة تحميل الأعمال الشعرية الكاملة وديع سعادة تركيب آخر لحياة وديع سعادة
ديوان غبار كامل وديع سعادة قصيدة الطريق وديع سعادة من أخذ النّظرة التى تركتها أمام الباب
#نص_الغياب
ديوان نصُّ الغياب إنها الكلمات الأخيرة... وها أنا أهْجرهاهل أقول الوداع للكتابة؟
أقول الوداع.
حوار الكتابة حوار الصمت. زمن الكتابة زمن الغياب. مكان الكتابة عدم المكان.
لا حياة بالكلمات. الحياة قد تكون هناك، خارجها. هناك قد يكون الآخرون، وأنا أيضًا. في المقلب الآخر من الكلام، خارج النَصِّ.
الكتابة غياب الحياة. الحياة قد نصادفها بالمشي، قد نصادفها بالجلوس، تحت شجرة أو على رصيف. ربما تأتي سهوًا، بقبلةٍ أو برصاصة، لكن ليس بالكتابة.
أَرشُّ على هذا الثوب الذي أرتديه سُمًّا للكلمات وأركض مجنونًا باحثًا عن الحياة. تسميم الكلمات هو الطريق القويم. موت الكلمات هو كلمة الحياة الأولى. لثغها الأول.
يا طالعةً من فمي إنكِ تقتلينني!
ليس بخنجر الخيانة وحده بل بسيف الشطْب هذا القتل. بالرمي من السطح النيّر إلى لجَّة المتوهَّم الغامض المستحيل. بوقد النار في القلب والأعضاء، وتوزيع المفاصل في الشتات.
مشيٌ على الغيم، والسقوطُ رذاذًا.
دخولٌ في غرفة الموت، فيما الحياة تلعب على الطرقات.
في رحلة الصيد الطويلة لم أكن غير كشَّاشٍ لأرواح الكلمات. النصوصُ حمائم جافلة تطير من أمام المؤلِّفين.
سرابٌ يمدُّ دربًا لا بيت على جوانبها، ولا شيء في خاتمة المطاف. يمدُّ حبال مشانق للسائرين.
وما دمتُ عرفت، لماذا عليَّ أنا النحيل أن أبقى معلَّقًا بهذه الحبال، لا ميّتًا ولا حيًّا؟ نحيلٌ لا يُميتني الحَبْلُ، ومعلَّقٌ أبْعدَ قليلاً من يد الحياة!
أنا الذي لا يُستساغ لقمةً، لماذا عليَّ أن أبقى فريسةَ ما لا يُستساغُ أن يكون صاحب الوليمة؟
معلَّقٌ على حبل، معلَّقٌ على ورقة، منتظرًا حياةً تطلع من شقوق الكلمات.
لا أعرف حياةً طلعتْ إلى كتَّابها من هناك. أعرفُ كتَّابًا ماتوا على الحروف، وكتَّابًا ماتوا على النقاط، وكتَّاباً ماتوا على هامش الورقة... ماذا أنتظر من الكلمات؟ أريد البياض.
بحثٌ متوهَّم عن حياةٍ متوهَّمة، الكتابة. ليس صحيحًا إمكانُ استحضارِ غيابٍ بِنَصٍّ. لا الميّت ولا الحيّ. ليس صحيحًا ما اعتقدتُه في رحلة هذا الوهم الطويلة. الغيابُ عدَمٌ والموتُ عدم، لا يمكن استحضارهما. نصير غيابًا، نصير موتًا، في رحلة هذا الوهم.
الكتابة، مرادفٌ للموت.
كنتُ أظنُّ أني سأبني وجودًا من خيال. أنَّ التخيُّل يُحيلُ الخيالَ جسدًا، والكلماتِ تبني بيتًا، أكون فيه لا قُبالتَهُ.
مشيتُ طويلاً في خيال اللغة، حتى انكسرتُ في وهمها. مشيتُ في اللغة بحثًا عن موطني، حتى اكتشفتُ أني أبحث عن وهم. ولأنّ اللغة كانت هي موطني، فإني ما سكنتُ إلا في الغياب.
لم أكن غير كشّاشٍ لأرواح الكلمات. تلك التي خرجتْ من فمي، وروحي، وغابت بعيدًا. أتذكّرُ منها الآن النقطة الأخيرة الواهية في الأفق القصيّ. أتذكر منها عيونًا خرجت فجأة، التفتتْ إليَّ بلومٍ وغابت سريعًا. أتذكّر ريشًا تناثر بطلقات، وريشًا مستعجلاً للهرب، وخطًا دقيقًا رَسَمَه هذا الهروب في الفضاء، وامّحى بلحظة.
لم أكن غير كشّاشٍ فاشل لأرواح الكلمات.
لا مكان للكلمات، إنها حالة غياب. حالة استحالة. تأتي كانما ظِلٌّ أتى وتذهب كأنّما ظِلٌّ ذهب، ولا وجه لها أو قامة أو مكان.
ظلالٌ، ظلال، و لا أثر.
كلماتٌ كثيرة، ولكن يُستحالُ قولُ أيّ شيء.
ظلٌّ يمرُّ أحيانًا، يمرُّ دائمًا، لكن لا صاحب له، ولا مقعد، ولا معبر، ولا كلام مع العابرين.
الكلام هو خيانة المكان.
والمكان هو خيانة الكلام أيضًا.
فلأمضِ إذن. لا كلام ولا مكان لي.
كنتُ ظلاًّ، كنتُ كلامًا خائنًا، فلأمضِ.
الرغبات ترتدُّ على أصحابها. فلأمشِ بلا رغبة فوق هذا الجسر النحيل لأنَّ أيَّ سهم سيُسقطني. أيُّ سهم وربما هبوبُ نسيم. صائدو الرغبات طرائدُها، يَسقطون الواحد تلو الآخر كأنَّما العبور فقط لغير الراغبين.
فلأمشِ، ولكن ببطءٍ، بلا رغبة. فلأمش فارغًا، ربما أصلُ سليمًا. الحمولة تزيد من ثقلي، فيهوي سريعًا هذا الجسر.
على الذين يريدون العبور أن يتجرَّدوا، لا من ثيابهم وحدها بل من نفوسهم أيضًا!
... لذلك، لا عبور.
كنتُ، فقط، أحاول العبورَ بالكلمات: إرسالَ صوتٍ ليعبر عنّي فوق هذا الجسر. لكنَّ الصوت لم يكن يعبر، وكان صداه يرتدّ، ليقتلني!
كنتُ تقريبًا ميّتًا دائمًا. كنت مجموعة موتى: ضحيةَ كل صوت وكل صدى. ميّتٌ حين أُرسل الكلام وميّت حين أتلقّى صداه. ولأني تكلمت كثيرًا، متُّ كثيرًا... والآن أريد الصمت، أريد أن أحيا.
أضعُ أمامي المرآة وأنظر، أنا الميّت!... ماذا لا أرى غير عينيَّ، وغير يديَّ ووجهي وروحي؟ النسماتُ هناك، وارتطامُ الفضاء بها. الشَعرُ قربَ الضباب. الجنون قرب الماء. الغناء تحت الغيمة. البحر فوق القلب. النبع ناحيةَ الغبار. الوقت مع الحجر. الدمُ مع الآية. الضوءُ النائسُ في خيمة الثعبان.
صوتي هناك يحاول وحدَه عبُورَ الجسر، حَذِرًا مرعوبًا، موازيًا طرفيه، متجرّدًا من كلّ ثقلٍ حتى من صداه... يحاول، علَّه يعبر.
صوتي هناك وأنا هنا.
حتى لو عبر، هو هناك وأنا هنا. مفصولان مقطوعان مقطَّعان لا كلام بيننا ولا قرابة ولا نظرة.
كان ذات يومٍ، ربما، صوتي. لكنه وحده هناك، على ذاك الجسر، ووحدي هنا، في خيمة الثعبان.
لا عبور، حتى بالكلمات! لكأنَّ الخطوة الأولى هي الأخيرة. لكأنَّ الوقوف هو كلُّ المسافة، كلُّ الطريق!
كانا، ذات يوم، رفيقين، الصوتُ والثعبان. لعبا على التلال، تراشقا بنقاط الندى التي تكاد لا تُرى.
كان الصوت والثعبان رفيقين يتراشقان بالندى... وأصابت الصوتَ نقطة، فاستردَّه الفضاء!
عاش وحيدًا هناك. وكانت دموعه تنزل، تقطع المسافات النائية، إلى فم الثعبان.
للصوت رفيق واحد: الثعبان. يلعبان معًا، ويَقتُلان معًا!.
يا طالعةً، رديئةً، من فمي.
يا طالعةً لكي تلعبي مع الثعبان وتقتليني.
لديَّ ندىً. على العشب في حديقتي الخلفية.
ليكنْ تراشقكما بالندى في الليل. فلا يراكِ الفضاء فيستدعيكِ. والعَبا همسًا. واقتلا همسًا. فربما الجيران يريدون أن يناموا.
كنا ننام تحت صوف الهندباء، ننام صامتين. عوض الأصوات نُطْلق حياءَ الوقت، فيمشي بين النعوش و الذاكرة. وعلّنا نطير، نشرب خمرًا من حناجر عصافير ميّتة.
الآن، خيمةُ الثعبان. الغصنُ اليابس أمامها، من بقايا غابة سحيقة، يَفتح و يُغلِق الباب.
الآن شمالُ الخرابِ جنوبُ الرماد، المشنقةُ التي احتفظت بالقميص!.
الغصن أعلى قليلاً من قامتي. لذلك لن أصطدم به، سأدخل، من دون أن أحني رأسي.
الآن وقتُ العظام. وقتُ البياض في الجسد. وقتُ المنسحب على مهلٍ من اللحم. الذي يُرمى و ينزوي، شاهدًا وحده أنه كان، أنه لم يكن. وقتُ غبار العدم. وقتُ العدم بلا غبار.
المنسحبُ بخفّةٍ من يد الوقت، من طيف المكان، من ظلّ الملاك.
الذي كان سنبلةً بحبوبِ عيونٍ غريبة. المنسحبُ من الحقل أبيضَ، ناصعًا، إلى الحدّ الذي لا تطاله الرؤية، إلى حدّ العدم.
لم يكن لدى العظام كلام. كان هناك شيءٌ هيوليٌّ لزج، حائرٌ معدَم، تريد الجهْرَ به. تبحث له عن لغةٍ علَّه يحيا فيها.
في ذاك المكان النائي. على سرير صغير، بدأت حيرةُ العظام. هناك بدأ خَرَسُها و بحثُها عن لغة. في ذاك المكان حيث اللغة لم تكن وُلدت بعد، و حيث كانت شجرة، تَسقط أوراقُها واحدةً بعد أخرى، بصمت.
لم يكن للكلمات مكان.. في البدء لم يكن كلام، كان الصمت. وحين انبثقت الكلمات بدأ طريقُ الموت.
أحملُ الآن هذه العظام الحائرة البيضاء، وأرميها في صمتها الأول.
أضعها في انعدام اللغة، في السرير الصغير.
كلُّ ما تعلَّمتُه من كلمات، ما رفعتُه من آبار الأجداد، ما برقَ و ما انحجب وما أُرسلَ في الجهات، أعيده إلى صمته.
أمدُّ إشارات يدي إلى الأصوات التي صارت بعيدة، وأُعيدها إلى الحنجرة. أفرشُ لها قميصًا تحت صوف الهندباء، وأنام قربها.
في هذا المكان الضيّق، حيث يلعب النيامُ والموتى الورق، ويتبادلون الأدوار.
بحثٌ متوهَّم عن المكان، الكتابة. بحثٌ متوهَّم عن الزمن، عن الحياة، عن الحريَّة... بحثٌ متوهَّم.
الكتابة لا تسكن في الحياة. مسكنُها في مكان آخر. على الحافة. في المتوهَّم.
الكتابة مسكنها وراء الباب. تطرق لكن لا يُفتح لها. ربما لأن لا أحد في الداخل. ربما لأنَّ الداخل فراغ. ربما لأنْ لا داخل.
أين الحياةُ و المكان والزمان؟ إذا كانت في الخارج لماذا، ونحن في الخارج، لا نراها؟ وإذا كانت في الداخل لماذا لا ينفتح الباب؟
أنا الكاتب أعترف: بحثتُ في الكتابة طويلاً عن الحياة ولم أجدها. لم أجد الحياة ولا الزمن ولا المكان ولا الحرية. الحرية؟
بديهيٌ أن لا حرية. الحرية؟ كيف تكون حرية ما دام لا حياة؟ نخترعهما، قالوا. صحيح، وها نحن نخترعهما. ولكن من موادّ وهمية غير قابلة، هي أيضًا، للحياة.
لماذا أكتب إذن؟ ما دمتُ عرفت، ما دمتُ اكتشفتُ هذا الوهم، هذه الكذبة، لماذا أكتب؟
عليَّ، على الأرجح، أن أعيد تركيب نفسي. أفكّكها قطعةً قطعة، أرمي اللعين منها وأُركّبها من جديد. لو أن النفس آلة، لو أني فقط أرى قِطَعَها.
تائهٌ في العاصفة وأبحثُ عن آلة! تائهٌ ومنهوب. نهبتني الريح وأريد استرداد ممتلكاتي.
أريد الحلية التي وَهبتْها لي أمي. أريد الطير الذي جلبه لي أبي. أريد ريشة الروح، حدقةَ الفضاء أمام الباب، حليبَ الحجر الذي كان يدفق من نظرتي.
وإذا كانت هذه كلُّها من المنهوبات، ألم تكن لي في الماضي على الأقل نفسي؟
الآن إذًا أريدها.
وإن لم تكن لي، أريد زهرة، لجثمانها.
أريد استرداد ممتلكاتي: الدربَ الأولى، غبارَها الذي علقَ على قدميَّ فصار لي، نجمةَ الوعود إذ يأتي الغروبُ وأنا نائمٌ تحت لوزة. ممتلكاتي: نظراتي التي أرسلتُها بحنانٍ ولا أزال أنتظر عودتها، يدي التي العابرون ظنّوها كمانًا، لهاثي الذي امتزج بنسيمٍ خفيف، ثم تحوَّل ريحًا ترتدُّ الآن إليَّ وتنهبني.
كم الساعة الآن؟
أعرفُ أن المرضى في الغروب يهلوسون هكذا. أنَّ الحُفَرَ التي تركتها ضواري النظرات ستبقى فارغة. وأنَّ رصاصة الجنون، ورصاصة الحكمة، كلاهما تصيبان المقتل نفسه.
لم أكن في الماضي أعرف كلَّ هذا. كانت الأرض مستديرة، لا أرى مقلبها. الآن الأرضُ مستطيلة، صحراءُ شاسعة، وقوافلُ طويلةٌ من البشر والشجر والبغال، موتى فوقها.
خطٌّ واهٍ في البعيد، خيطٌ مشنوق، أريد عبوره. وكلَّما خرج من الخيط نسلٌ، ظننتُه أولادي.
أحيانًا تحدّثني الذاكرة عن الأرض أنا العاري، فأمدُّ يدي إلى معطفها المرميّ على كرسيّ قديم، وأحاول أن أتدثّر به.
أُجرّب أن أقنع نفسي بأني، من هذه الخيوط البالية، سأصنع كنزةً لأولادي.
أين المقيمون في البرْد؟ فليجتمعوا الآن في طابور، والمقيمون في الحرارة في طابور آخر: يجب فرْزُ الناس وحراراتهم، يجب خلق التوازن بين صقيع البشرية وحرارتها.
التوازن بين المعطف والكنزة المكرورة. وإلاّ الأرض ستقع.
كلامٌ بكلام. فقط كلام قليل للاجدوى كثيرة. كلامٌ للريح، للنظرة، للظلّ، للثعبان. للخيط المسرِّح نسلَه، للمشنقة المحتفظة بالقميص.
كلامٌ للذين لا يسمعون.
اعطني النعشَ في الصباح اعطني الغيمةَ إلى الوسادة. طُلَّ من الشبَّاك واقطعْ رأسَ الزنبقة. صِدِ الثوبَ الخائن في الفضاء. صِدِ المجنونَ المنحني على النبع.
إقطعْ عنقَ اللعة. أَرْهبِ الكلمات، شَرْذِمْها وشرِّدْها. اخنقِ الأسلوب. فظِّعْ بالأصول والمنطق وبأعدائهما. خذ الصوتَ إلى الحديقة، خذه في نزهة، مع الجُمَل، وارمهما في النهر.
لا، لا. دَعْ بطنَ اللغة تحبل بكلماتٍ بَعد. كلمات يظنُّ آباؤها وأمهاتها أنهم سيداعبونها كالأطفال، يغسلون وجهها ويمشطون شعرها ويجلبون لها الألعاب... دع آباء اللغة وأمهاتها يحلمون بأولاد، هذه سعادتهم لا تخرّبْها. فبطن اللغة حابلٌ بكلمات تولد ميتة، دعْهم على مهلهم يعرفون. دع الوهمَ يُسعد قلوبهم، واتركْ للَّغة شأنها: التلاقح من الصمت والاستحالة، من الغياب والغيبوبة، من الموت والموت.
العتمةُ وحدها قد تكون الحياة، الخصوصيُّ الذي لا يُرى، لا يُقال، لا يُفعل.
هل كان عليَّ قَفْلُ الأبواب وإسدال الستائر وإطفاء الأضواء لكي تكون لي حياةٌ ولغة؟ آنَ عَبَرتا العتبة واختلطتا مع خارجين كثيرين، فقدتُهما... لكني، حقًا، لم أكن أجدهما في الداخل. ظننتُهما في الخارج، في حانةٍ أو تحت شجرة أو على رصيف. ولم تكونا لا في الخارج ولا في الداخل. أين الحياة و اللغة إذًا؟
الساعة تدقُّ دقّاتها وأنا واقفٌ تحتها، أسمع الرنّات تجري في الفضاء وتختفي.
واقفٌ تحت الساعة. لا أجري مع الرنين بل أسمعه وأُشيّعه وحسب. ثابتٌ في المكان وثابت في الوقت. رنّاتٌ متواصلة سريعة لا أميّز بينها. الأولى شبيهةُ الثانية شبيهةُ الألف شبيهةُ المليون. وأنا تحت الرنة الأولى شبيهي تحت كل الرنين. واقفٌ في ساحة الأصوات في موج الأصداء جامد.
يحطُّ على رأسي طير كما يحطُّ على تمثال ويطير. تلمسني سمكةٌ وتمضي.
لا مكان للمشاعر كي تذهب إليه. لا فسحة لتحريك العواطف. لا مسافة بين الجدران.
ولا مكان للكلمات ولا زمان كي تتحرك أو تحيا.
هل المكان والزمان وهمان أيضًا نحاول أن نبني بهما ملجأ؟ لكنْ لا قصب يكفي لنصْب هذه الخيمة. لذلك نقعد ونعزف موتًا للهواء.
تعبر الريح تاركةً موتى على أبوابنا. ننادي من الداخل يائسين: من سيطمر موتانا؟ أجدادنا الأوائل كانوا يدقّون الصخر ليلاً نهارًا لحفر حوض يزرعون فيه موتاهم. يزوّدونهم بالذهب والمال كي يدفعوا أجرة السفر إلى الخلود. نحن موتانا على الأبواب مَن يطمرهم؟ ومَن يطمر موتانا في هذه الغرفة، الممدَّدين منذ مئات السنين فوق الإسمنت، طبقاتٍ طبقات، حتى صار هذا البناء كلُّه من مادة الموت، وصرنا، نحن، نتاجَ جبلة الأموات.
أحاول أن أُطلَّ برأسي من فوق الردم. أن أُرسل صوتًا حادًا يخترق العظام واللحم البالي، عَلِّي ألمح ما وراءها. فقط بوصة، بوصةٌ واحدةٌ مضاءة، وراء هذا الموت، تكفي.
لكن، فَلأَنَمْ. كفنُ السماء ينزل على الغرفة ويغطِّيني. لأنمْ بالراحة نفسها التي للقطعان. التي للجماد، للرماد. لأنمْ من أجل الجرح الذي لا يستطيع الحراك. من أجل الحلم المُقعَد ومن أجل النسيان. لأنمْ وأتدثَّرْ بما تبقَّى على الطاولات والكراسي من موتى. لأنمْ بتواضع ولا أذهبْ بعيدًا، فأظنَّ أني حي.
هناك كلمات تطلع من تحت التراب، أَسمعُها تخرج من بين الفكوك العظمية المتناثرة لموتى، دُفنوا من ألف عام. فكوك تعوم فوق الثرى لتقول كلمة. وفكوك لتقدّم قبلةً لم يتسنَّ لها، في الحياة، أن تقدّمها.
عظامٌ تخرج لتضحك، وعظام تخرج لتلعب، وعظام لتتفقَّد أمكنتها الأولى، وعظام لتجيل نظرها علَّها ترى الأرض التي عاشت فوقها، ولم تكن تراها.
تخرج العظام من تحت التراب كي تفعل ما لم يكن أصحابُها يفعلون فوق التراب.
من هذه الكوَّة، من العظْمة، أحاول أن أُطلَّ على العالم. عَلِّي أفعل اليوم ما سأخرج من تحت التراب كي أفعله بعد ألف عام. عَلِّي أضحك الآن وألعب و أرى الأرض، وأقول الكلمة التي أرغب في قولها، وأطبع قبلتي على فم الحياة.
قُبَلٌ كثيرة مطبوعةٌ على موتي. لكنني أريد قبلة واحدة للحياة.
قيل، الحلمُ يشفي من مرض الكلام. يجد الزمنَ الضائع ويوجِد المكان. قبلةُ الشبق الجميل، رنَّةُ ساعةِ النبع الباهرة، وعينُ النهر.
وقيل، مهما خبا الحلم في العتمة مهما هُزم في الضوء سيصير ذات يوم، فَرَسَنا، أثاثَ بيتنا وكسوةَ جِلْدِنا. سيصير لَحْمَنا نفسه، وعظامَنا.
وهْمٌ آخر يضاف إلى تراث الشعوب. كلمةٌ أخرى خائنةٌ في اللغة. خيمةٌ منكسرة، يحتمي بها المهزومون، في تاريخِ حروبٍ طويلةٍ كلُّ مقاتليه منكسرون.
... لتكن الأحلامُ عمياءَ فلا تراني وأنا ألقي مصيري بين السنابك.
وليكن خنْقُ الأحلام رايتي وأنا أخوض هذه المعركة، فأَصِلَ إلى الهزيمة وليس برفقتي كائنٌ بريء.
يحارب الكتَّابُ بالأحلام والكلمات، ويسقطون تحتها. ينهزمون بالأسلحة التي يحاربون بها. يموتون في معركةٍ أعداؤهم فيها هم ذواتُهم نفسُها.
ينهزم الكتَّابُ بأطياف حَمَام الأحلام. بزجاج الكلام الشفَّاف، المشظَّى في أفواههم. حين يتلفّظون بكلمةٍ يُجرَحون، يختنقون... حين يتكلَّم الكتَّابُ يبتلعون الزجاج.
أحملُ ثنيةَ ورقة، كتبتُ بضع كلمات عليها، محاولاً بها أن أهزم التاريخ!
ثنية ورقة، أحاول بها أن أوجد المكان والزمان. أن أمحو عدمي، وعدمَ آبائي وأجدادي، وأجعلَ أحلامهم تولد وتلعب معهم، وعظامَهم تعود، وفكوكهم المبعثرة تلتحم.
ثنية ورقة!
وبين الطيّة والطيّة قصور ممالكنا، سبايا أمكنةٍ شَرَدَتْ ثم التقطناها ونحن نغنّي، سفنٌ تبحر على لعاب رغباتنا، ولهيبُ شَيِّ الأشرعةِ حتى لا يكون بعدنا بحر.
ثنيةُ ورقة، ثنية وهْم، غيمٌ بعيد، نحطّمه بأحجار عيوننا.
فليرأف الكتَّابُ بحياتهم، هذا الطائر الذي يحاول أن يلمسهم فيقتلونه.
ليرأفوا بحياتهم فلا يأخذوا البريء إلى المشنقة.
كان يمكن أن نأخذ حياتنا في نزهة. لكننا أخذناها فورًا إلى المعركة. حتى أننا لم ندعها تقطف عن الطريق زهورًا كي يكون لها رفاق تحت الكفن.
كان يمكن أن نتسلّح بالجنون. أن نقتل العقل لننجو.
رأينا في طريقنا مجانين سعداء وحيواناتٍ هانئة. ولم نسمع الشجر يصرخ تحت فؤوس الحطَّابين، بل سمعنا الحطَّابين يئنُّون وهم يقطعون الشجر.
كان يمكن قتلُ الذاكرة ومرافقة الطيور. تطوافُ الأرض معها من دون ذاكرة الوصول.
كان يمكن قتل ذاكرة الرغبة، ذاكرة المكان، ذاكرة الخلاص، ذاكرة السعادة، ذاكرة التاريخ... وذاكرة الحياة!.
كان يمكن قتل ذاكرة البحث عن الحياة وعيشُ الحياة نفسها. كما هي. من دون هواجس اختراع أوهام لتغييرها، ولا ألوان لتجميلها، ولا أطر لاحتوائها، ولا مكابح لانجرافها الفظيع.
كان يمكن عيش طوفان الحياة بلذَّة، فقط لو استسلمنا له صامتين، بلا مقاومة و لا كلام و لا أحلام.
لا يحيا سوى الذين نسوا لغة أجدادهم. الذين كسروا زجاج الذاكرة وارتموا في النهر. الذين نسفوا الملاجئ المقدسة وساروا في المتاهة.
لا يحيا سوى الذي رموا آباءهم في الآبار.
لم ارمِ أحدًا في البئر ولم أكسر شيئًا.
هل أنا ميّت إذًا؟
عميقًا في العتمة، عميقًا في الحفرة، تعيش البذرة بالصمت. الصمت ينميها، الصمت يحفظ لها الحياة. ما أن يُطلَّ برعمٌ منها على الأصوات حتى ييبس، ما أن يُطلَّ على الضوء حتى يحترق.
في هذه الحياة الداخلية كان يجب العيش بلا عين، بلا فم ولا أُذُنٍ ولا يد. الأشياء تكبر وتصغر بلا إيماءة من أحد. بإيماءة العتمة وحدها، العتمة التي لا تومئ.
هناك حاولتُ أن أبني بيتًا وتكون لي حديقة. لكن الحجارة كانت دائمًا تنهار. ليست الأيدي هناك ما يبني بيوتًا. هي سهوًا ترتفع، و إرادة البناء تهدمها.
كانت لي خيولٌ هناك، تأخذني في المجاهل الجميلة. تناديني بهمسٍ لا يُسمع، بإشارةٍ لا تُرى، فأمتطيها.... وآنَ أردتُ سياسة خيولي، سقطتُ ميّتًا بحوافرها.
عميقًا في العتمة، هناك المكان. حيث نحن الحديقة و البيت. والآخرون اختراعُنا.
هناك نحن، وآلاتُنا الخفيَّة الغريبة التي تفقّس الغرباء.
لا ممرَّ للآخرين من هناك. فقط نخلقهم و ندفنهم. نخترعهم بشرًا غير حقيقيين، لنلهو معهم، ليكونوا لُعَبًا فقط، ثم ندفنهم.
بالآلة ذاتها التي تخترع الغرباء أُحاولُ اختراعَ نفسي أيضًا. في هذا المكان المعتم العميق، حيث لا إشارة لولادة ولا لموت. حيث لا إشارة، حتى لمكان.
لكنْ، الآخرون وحدهم يمكن اختراعهم، أما ذاتُنا فلا. هي تولد في مكانٍ بعيدٍ منا، وتعيش في مكانٍ بعيدٍ وتموت في مكان بعيد.
يمكن، أحيانًا، إذا اقتربتْ، أن نلمحها. نعيش قبالتها مغمضين، ولا تنفتح أعينُنا على اتساعها إلا آنَ تقول الوداع.
هل الكلمة هذه، هل قولُ الوداع هو ما يجعلنا نرى؟
هل هذه الكلمة وحدها هي كلُّ الحوار وكلُّ الحضور؟ كلُ الزمان والمكان والحياة؟ هل هذه هي الكتابةُ كلُّها والنَصُّ كلُّه؟
إذنْ، لا يكتبُ الكتَّابُ غيرَ غيابهم؟
لا يعيشون إلاّ غياب مكانهم وغياب زمانهم؟
و الرؤية، هل هي مجرَّدُ انعكاس الغياب؟
كيف لنا أن نبنيَ إذنْ وجودًا من هذا العدم؟
كيف للكتَّاب أن يكتبوا حضورًا لا غيابًا؟
وما يرونه، كلُّ هذا الذي يرونه، مجرَّدُ لمعانٍ داخليٍّ متوهَّمٍ لعدمٍ يظنُّونه وجودًا؟
هل يعني هذا، بالأحرى، أنَّ الكتَّابَ لا يكتبون غيرَ موتهم؟ غيرَ وهْمِ وجودهم و حقيقةِ عدمهم؟
... وإذًا، هل الكتَّابُ حقًا موجودون؟
بالآلة الغريبة ذاتها يحاول الكتَّابُ اختراعَ أنفسهم. فلا يخترعون غيرَ صورٍ لغرباء، صورٍ لغائبين.
الكتابةُ لا شيء إذًا سوى كتابة الغياب. الكتَّابُ هم: غيابُهم.
لأنزلْ إلى أسفل النبع و أغسلْ وجهي، عَلِّي أصحو من هذا الغياب.
أطلقتُ أوهامي عاليًا جدًا، أعلى من هذا الفضاء الذي لي، فشردتْ و ضاعت مني.
لم أكن أملك غير هذه الأوهام. وحدها كانت ملكي. لكن حتى هي لم تعدْ لي. فلأنزلْ إلى أسفل النبع وأغسلْ وجهي.
على البشر أن يحتفظوا بأوهامهم، أن يداروها فلا تغادرهم. سيحتاجون إليها لكي تؤنسهم.
على البشر ألاّ يزجروا أوهامهم. فَلْيحضنوها بحنان، وإلا ماذا يبقى لهم؟
الأوهام حياتُنا. فلنحتفظْ بها لكي تكون لنا حياة.
سباني الوهمُ صغيرًا وطار بي، حتى خلتُ نفسي الطيرَ وكلَّ الأرض شجرتي.
أردتُ تقويمَ المناخاتِ و تقليمَ العواصفِ وجزَّ نتوءاتِ الجبالِ ومجاهل الأدغالِ وعملتُ ليلاً نهارًا على ترويض الأرضِ موهومًا وسعيدًا.
هُزمتُ لكنَّ وهمي كان يسعدني.
وآنَ اكتشفتُ أنَّ وهمي وهمٌ، آنَ لم أعدْ أقنع نفسي بوهمي، خررتُ صريعَ يأسي.
الوهمُ إذًا هو السعادة. والحقيقة هي اليأس.
فلنحتفظْ بأوهامنا ولْنزِدْها. لنبحثْ عن وهم آخر كلَّما ضاع وهم. لنخترعْ أوهامًا، وإلاَّ كيف يمضي كلُّ هذا الوقت!
الوهمُ نعمتُنا، إلهُنا الوحيد، فلنقدّسه.
الناسُ، هُمْ وهمُهم.
بعد كلّ هذا الدوران في فراغ، فلتخرجْ على الأقلّ كلمةٌ من فمي، وتدلّني إلى الطريق.
لتسبقْني وتَدُلَّني إلى النبع، حيث عليَّ أن أغسل وجهي.
لتنطلقْ كلمةٌ حادَّة من فمي وتثقب العظْمة. لتفتحْ كوَّةً إذا كان عليَّ أن أرى، منفذاً إذا كان يجب أن أخرج، دربًا إنْ هناك عبور.
كلماتٌ كثيرة خرجت من فمي. لكن، ما جدواها؟ كلماتٌ لا تُحصى درات في فراغ. لو رُصِفَتْ لكنتُ أملك جبلاً. ولكن من رماد.
ما جدوى جبال الكتَّاب المرمَّدةُ هذه؟ ما دام الرماد لا يدفئ، لا يضيء، لا يصلح لبناء غرفة، ولا للمشي عليه.
أليس على الكتَّاب و الناس أن يتدفأوا بصمتهم؟ أن يعرفوا أن الصمت هو غرفتهم الوحيدة، ووراءها لا حديقة ولا طريق؟ لماذا إذنْ يهدمون هذا الهيكل، هذا الصمتَ المقدَّس، وينامون عراةً في الكلام، مرتجفين من البرد وخائبين وخجولين؟
حين يتكلَّم الناس يبردون، يمرضون. تتفتَّق المعاطف التي سترت أرواحهم، وتتعرَّض أنفسهم لأوبئة الهواء وعوراتُهم للعوام.
حين يتكلَّم الناس يرصفون أمراضًا. يرصفون هلوساتٍ وسرطانات. يسكنون فيها وتسكن فيهم ويبنون مدنًا. وتصير مدنُهم وسكَّانُها تحت نير ظلم الكلمات. تصير مستعمراتٍ للأصوات. سبايا للنطق، وسبايا للرؤية، وسبايا للكتابة. تصير كلّ التعابير في محاكم التفتيش. ويُعدَمون جميعهم في ساحات الكلام. في الساحة التي قالوا فيها كلماتهم، والساحة التي ظلّوا فيها صامتين.
جحافل كثيرة مرَّتْ حوافرُها فوق كلماتنا. دهَسَتْها قبل أن ننطق بها، دهَسَتْها حتى قبل أن تولد.
لذلك حين نتكلَّم لا نقول غيرَ الممعوس من أصوات الأجداد. نقول اللغةَ المغزوَّة، اللغةَ المسبيَّة، اللغةَ القتيلةَ التي لا يطلع من حنجرتها غيرُ حشرجات، غيرُ أصواتٍ ناقصة، وغريبة.
حين نتكلم، نرصف جثثًا.
ليست لدينا لغة. لدينا حشرجات، من لغةٍ قتيلة، غابرة.
شبهُ أصوات زحفتْ إلينا من موتانا، عبر المتاهات، عبر آلاف السنين، غامضةً وغريبة.
ليست لدينا لغة. ولذلك لا اتصال مع الآخرين. لا اتصال مع ذواتنا.
وإذا كنا لا نتّصل، لا نتلاقح، كيف تكون لنا ولادة؟
هل نحن إذًا نتاج ميتاتٍ متكررة، لا نتاج ولادات؟ ولن تكون لنا لغة، لن تكون لنا حياة، إلاّ بانبعاث القتلى؟
ألن تكون لنا لغتنا و حياتنا إلاّ إذا أعدنا الحياة إلى الذين قتلناهم، وقتلتهم اللغة، وقتلهم التاريخ؟
لكن، أليس في هذا الانبعاث ذاته ما يجدّد الحلمَ بالنوم الأبدي؟
هناك أحلام، أحلام صغيرة، قبضتُ عليها وأنا أقفز فوق النهر.
كنتُ أقفز تقريبًا مشتعلاً، وقِطَعُ أحلامي كانت نثارَ هذه النار. حاولتُ التقاط البقايا الحارقة لذاتي، الجمرَ الذي لم يصرْ رمادًا بعد، مُشكِّلاُ به صورةَ طيرٍ فوق نهر.
لم أكن أنا القافز فوق النهر بل الصورة. الشبهُ المتخيَّل، المرجوُّ، الموهوم.
ولم يكن هذا النهر من ماء، بل من لمعانِ صفيحِ روحي على الصحراء.
لا ماء هنا ولا طير. فقط حلمُ ريشٍ ورجاء طلّ. ومَن كان واقفًا في هذا المكان ليس أنا. ولا شبهي ولا ظلّي. والرطوبةُ هذه، العفونةُ هذه، ليست نداي. والمتطاير، فوق، ليس جناحي.
هذا الشخص الذي ترونه الآن، الذي تقرأونه هنا، ليس أنا. هو شيءٌ آخر، مركَّبٌ من كلماتٍ قديمة رُصفتْ خطأً بعضها فوق بعض. وَصَلَ إلى هنا، هكذا بالصدفة، على حمَّالةِ لغةٍ مريضة. وَصَلَ إلى المرض، إلى المستشفى و المختبرات، وكان ذاهبًا إلى مكانٍ آخر، إلى الحقول، إلى الشواطئ، إلى المقاهي كي يشربَ نبيذًا ويغنّي.
كان في ظنّه أن الأصوات تولد للغناء لا للصراخ. للنشيد لا للحشرجة. وأنَّ الدروب تطلب رقصًا لا عبورًا.
ظنَّ الطريقَ لا للمشي بل للنوم. المشيُ يحدث وحده ونحن جالسون أو نيام. العبورُ يتمُّ بلا حركة، من دون انتقال، من دون يقظة.
ظنَّ أنه جاء من أجل أن يقعد لا من أجل أن يمشي. إذا كان عليه أن يمشي كلَّ الوقت ويُتعبَ قدميه هكذا بلا جدوى، لماذا إذن يجيء؟ المشيُ ليس مبرّرًا كافيًا للولادة. ثمة خطأ حدث بلا شك، وولَّدَ سلسلةً طويلة من الأحداث الخطأ. في البدء لم تكن الكلمة إذن، ولا الله، بل كان الخطأ. والخطأ ولَّد أخطاء، كان منها الكون.
كيف يمكن أحدٌ كلّيُّ الكمال أن يخلق كونًا بهذا النقص الرهيب؟ قيل الكونُ صورتُه. أين هو أريد أن اراه، أريد أن أعرف إنْ كان فعلاً بكل هذه البشاعة!
الخطأ انبثاقُنا ومكاننا. إنه لغتُنا ومُكلِّمنا، وفي حنجرته قنبلةٌ تكاد تنفجر، أرضٌ حائرةٌ لا تعرف كيف ستدفن سكّانها.
عليَّ أن أعبرَ هذا الجسر. الكلمات التي أرسلتُها كي تعبر عني سقطتْ في النهر، ولستُ نائمًا كي يعبر حلمي عني.
كيف يمكن عقْد صُلْحٍ بين الإقامة والعبور، بين الجسر والسقوط، بين الكلام والماء؟
عليَّ أن أعبر، أو أن تكون لي ريشة الممسوسين فأرسم كونًا جديدًا، كائناتٍ تأتي وتذهب مثل نسيم، لا آباء لها ولا أولاد، لا ترثُ ولا تورث.
ريشة ممسوسين ترسم اللهبة الرائعة لعدم استدعاء شيء، فيأتي على بريقها كلُّ شيء منتشيًا بالمجيء والنسيان.
كونٌ له بابٌ خفيف، تلمسه لمسًا خفيفًا فينفتح، تلمسه فينغلق، وأنت فيه غيرُ مرئيّ وجميل. أنت فيه خفيف فلا يُتعبك حَمْلُ ذاتك، وغيرُ مرئيّ فلا تزيد رؤيةُ نفسك من حمولتك.
بريشة الممسوسين وحدهم، لا بريشة الأسوياء والعقلاء. كونٌ لا عقل له وليس سويًا. لا أخضر ولا أصفر ولا أحمر. أبيضُ كي لا يرزح لونٌ تحت ثِقْلِ لونٍ آخر إذا عَبَرَ عليه. أبيض كي لا يكون تذكُّرُ ألوان. كي لا يكون تذكُّرُ عبور.
كونُ ممسوسين. لا هدف لهم إن أقاموا وإن عبروا. ممسوسين لا أصوات لهم، كي لا يرتطم صوتُ هذا بصوت ذاك. كي تبقى الساحةُ فارغةً، صامتة وجميلة. ممسوسين لا يرسلون أصواتًا، كي لا يكون لهم في الفضاء أولاد.
كي لا يبقى لهم أثرٌ ولا إرث.
بلا اصوات، لئلا يرث الآتون لغةَ الراحلين. فيتحرر الآتي من كلام الذاهب ويخلقُ لغتَه بنفسه، والراحلُ يذهب براحةٍ لأنه لم يترك أيَّ عبء.
لئلا يكون أحدٌ ابنَ أحد، ولا يكونَ آباء.
كونٌ يأتيك خلسةً دون أن تراه، وتذهب منه خلسةً دون أن يراك.
في الرؤية مرافقة، شخصٌ آخر، نظرات.
في الرؤية ضيوفٌ لا تتوقَّع مجيئهم وبيتك فارغ. في الرؤية واجبات، خجل، إدانة.
أرسمُ بريشة الممسوسين كونًا ممسوسًا، طيّبًا ونحيلاً يقعد تحت شجرة ويضحك. يمتزج بالنسيم، يبتسم، ويموت.
كونٌ لا يُرسم بحبرٍ مرئي، بل بالبياض... ولذلك لن يُرسم، ولن يكون.
ماذا نفعل بما ورثناه من كلمات؟ أين نضع كلَّ هؤلاء العجزة وبيتُنا لا يتَّسع حتى لنا؟
كيف نحفر المقبرة العظمى وأين؟
الأرض والفضاء مزدحمان بالأصوات. أين نحفر ولم يبقَ مكان؟ أم أنَّ علينا، بهذه الكلمات نفسها، أن نحفر المقابر للكلمات؟
كلماتٌ نحن خليطها، أطفالها، لقطاؤها. كيف نحفر لها القبر ولا ننام فيه؟ أم أن ذاك الكونَ الجميل، المرسومَ بريشة النسيم، شرطُ وجوده موتُنا؟
لتكن لنا إذن نعمةُ نسيان الجمال، نعمة موت الأحلام. الوقت يمرّ خفيفًا هكذا، بلا انتظار.
لتكن لنا نعمة اليأس، نعمة رضى الطيور المخذولة، العالية والبعيدة، النائية عن التطلّع إلى الوليمة. ليكن لنا جمال الفريسة، رضى العجز عن الإفتراس، مسحة الجمال الأخيرة للضحية، بسمةُ قبول الدم.
لنقلِب المقاييس، فَنُقِمْ للنصر نَدْبًا وللهزيمة زغاريد. لنستهجنِ العادةَ التاريخية السمجة، افترارَ الثغر عن بسمةٍ وقتَ الفرح، جاعلين النقاطَ الساقطة من العيون علامةً للغبطة، شعارًا لمهرجان الانقلاب العظيم على التكوين.
نغيّر كيمياءَ الروح، هذه التركيبة السيّئة التي أثبتت، على مدى التاريخ، أخطاءَ تكوينها.
نجعل الفشل هدفًا، الكسلَ إنجازًا، العملَ مضيعةً للوقت، العذاباتِ صديقات، ورفضَ الحياة قمةَ عيش الحياة.
نقلب كيمياء الروح، فيتقلَّص عددُ الأعداء.
نحفر المقبرة العظمى، ونحتفل بمهرجان الإنقلاب العظيم على التكوين.
نقلب كيمياءنا إلى نبات، فيصير في داخلنا شجرٌ صامتٌ وعشبٌ رقيقٌ عوض الدم الصارخ واستفحال العروق. نقلبها جمادًا هذه الكيمياء، فيصير ثمة حجرٌ يمكن الجلوس عليه.
إننا نحوّل أنفسنا جمادًا! أيُّ نصرٍ عظيمٍ هذا على شريعة التكوين!
برداءٍ عتيقٍ أَلفُّ الكلماتِ وآخذُها معي رفيقةَ الطريق. الرداءُ نفسه الذي حمله أبي، نفسه الذي حمله أجدادي.
أقول رفيقًا فيخرج من الرداء قاطعُ طريق، أقول فمًا فتخرج حبَّةُ جليد، أقول سمكةً فتخرج أفعى، أقول قلبًا فيخرج قبر، أقول حلمًا فيتدلَّى مشنوق...
هل الكلمات، إذًا، دلالةُ نقيضها؟ فقط رغبةُ قولٍ دفينة، ما أن تخرج حتى تصير فعلاً آخر، لا علاقة له بالقول ولا بالرغبة؟
هل كانت هذه الكلماتُ كائناتٍ حيَّةً ذات يوم، ثم ماتت، ونحن اليوم لا نرى غيرَ طيفها، وما ننطق به هو فقط شبحُ روحها الهائمة؟
كيف زحفتْ هذه الأطياف، عبر آلاف السنين، في الوحل و النار، كي تصلَ إليَّ و أعتقدَ أنها جاءت لكي تبني حياتي؟ والآن، هل أنا الآن أتكلَّم موتًا أم حياةً؟ هل أنا حيٌّ ويخرج من فمي موت؟ أم ميّتٌ وما يخرج من فمي هو لثغ الحياة؟
بالحجارة القليلة التي في فمي أحاول أن أبنيَ حياةً بعدما رصفتُ أيامًا كثيرةً من الموت. أحاول أن أخترع كلماتٍ لا تكون دليلَ نقيضها. حين تخرج من فمي لا تكون رغبةً في القول بل فِعْلَ الرغبة. أحاول حين أقول سمكةً أن تأتي سمكة، حين أقول رفيقًا أن تصير رغبتي جسدًا وأرى الرفيق، وحين أقول قلبًا أن يأتي إليَّ بائع الزهور.
ولكن، لكي يكون ذلك، ألا يجب تغييرُ كيمياء الكلمات، وتغييرُ كيمياء الناطقين بها أيضًا؟
أم أنَّ اللغة ليست هي الرغبة، ولا الفعل، بل النثارُ الباقي من ذواتنا المحطَّمة؟
أبحثُ عن مكانٍ آمنٍ لهذا النثار، مكانٍ يحفظُ لي كسورَ نفسي. لكنه لا الهمس ولا الصراخ. لا اللغة ولا طيفها. لاالتوق و لاالذكرى. ماذا يكون إذن، هذا المكان الآمن لنثار الذات وعظامها، غير القبر؟
هو ليس الهمسَ لأن الهمس لن يُسمع في ضجيج الارتطام الفظيع للنجوم والمذنَّبات البائسة في القلب. وليس الصرخاتِ لأنَّ هذه الانفجارات، كلَّها، لن تسفر عن كائنٍ حيّ. ولا اللغة ولا طيفها ولا التوق ولا الذكرى، لأن هذه ماتت أيضًا.
هل المكان الآمن إذًا هو فقط، المكان الصامت؟ الصامت والجميل لأنْ لا لغة كي تكشف عوراته؟ لأنَّ العورات لا تظهر إلاّ بالكلام؟ لأنْ لا عورات إنما الكلماتُ توجدها؟ هل الجمال إذًا لا شيء سوى الصمت؟ ولذلك هو ليس جمالَ المكان، إنما جمال العدم؟
إمنحوني عدمًا. أريد الجمال.
هناك قد أسمع كلماتٍ أخرى، تصلُ اللغةُ الناعمةُ مثل ريش عصفور، ترتطم بي ولا تؤذيني.
تصل نبرةُ الكلام بلا نبرة، تدخل الفراغَ، انعدامَ الجاذبية، مترنحةً سابحةً خاليةً من ثقلها.
هناك قد أسمع أصواتًا جارحة، آتيةً من وهم الأمكنة الأولى، لكنها تصل فاقدةً شفراتها، فاقدةً معناها، وتمرُّ عليَّ مرور النسيم الخفيف.
حين تدخل الكلمات إلى هناك تتوحّد معانيها، تصير اللغةَ الجميلة: لغة عدم الوجود.
ثمة مساءاتٌ ترتجف في الكلام. أشباحٌ في اللغة. قتلى قدامى.
في الحناجر انحدارات. انهياراتٌ في مخارج الأصوات.
ومَن يشفع بالساقطين في هذه الانزلاقات سوى آخر الأحجار في الوادي؟ الأحجار التي تسجّل وصولهم بالدم.
هناك موتٌ أكيد في الكلام. دمٌ واضح.
هناك وادٍ وأحجار، وأجسادٌ مستلقية عليها.
هناك قتلٌ، قتلٌ فظيعٌ، في اللغة.
إننا نُقيم في مجزرة!
وكلّما تكلمنا ازداد عدد الجزّارين.
فلنصمتْ إذن، علَّ الصمت يقلّل من الأعداء، علّه يقلّل من هذا الموت. فلنصمتْ، علَّ أحجار الوادي تبقى بيضاء.
في الصمت الأبيض نضع كرسيًّا أبيض ونجلس غير مرئيين. في انعدام الرؤية وجودٌ بهيّ، في انعدام الصوت لغتُنا.
حين لا نرى الآخرين يكونون جميلين حقًا. حين لا يتكلمون، نفهمهم.
في غياب الرؤية و الكلام، وجودٌ موحَّد ولغةٌ موحَّدة.
إنهم رائعون حقًا هؤلاء الغائبون. وواضحون جدًا البكماء. فهل من أجل البشاعة، والضباب، نحضر ونتكلم؟
في الساحة، في المساء، مَن ينفخ في زجاجة، من يريد أن يعبّئ شيئًا، في زجاجة الوقت الفارغة.
واحدٌ مجنونٌ في الساحة، يريد أن يملأ زجاجةَ الوقت بلهاثه!
بخارٌ في الوقت، بخارٌ في الزجاجة المكسورة، في الساحةِ في الرؤيةِ في الصوت.
وبهذا البخار على الزجاج نرسم عالمنا، أصدقاءنا، رفيفَ نظراتنا وهي تختفي في الفضاء.
بخار، وريحٌ عاتية.
الذين لهم لهاث، يَنزلون قطراتٍ نحيلة، ويتبددون.
الذين هم لهاث، لا يعيشون رطوبتهم، وما يتنفسونه: عدمُهم.
ليكنْ عمىً لكنْ ليس بخارًا. ليكن بُكْمٌ لا أزيز أصواتٍ وحشرجات. وإذا كان هناك موتى في الهواء، فليكن لهم دمٌ آخر. دمٌ أبيض، دمُ نومٍ عميق، بلا أبواب، ولا شرفاتٍ تطلُّ علينا.
كنا، دائمًا، نحاول مزج روحنا بالهواء، علَّنا نرتفع، ونغيب.
علَّ هناك فيزياءَ حركةٍ أخرى لأجسادنا، نلتقطها في الفضاء.
كنّا نحاول أن نقلّد الطيور، تلك التي عناصرها تفوَّقت على عناصرنا، ليس في الانتصار على ثقل الجسد وحده، بل في إلغاء المكان، والذاكرة، والوقت.
إذا كان هناك موتى في الهواء، فالطيور لا تراهم. تعبرهم، كمن يعبر سريعًا في غبارٍ خفيف.
الموتى يجلسون معنا. نتنفسُهم. نرى عبرهم. ولا نحادثهم فحسب، بل ننطق بلسانهم.
ليس للموتى كياناتٌ مستقلّةٌ انفصلتْ وغابت عنا. إنهم نحن، أجسادنا وأرواحنا. وإذا كان علينا أن نُميتهم حقًا، فلنمشِ بهدوء نحو الموت... لا يموت الموتى، إلاَّ بموتنا.
زَرَعْنا، على مدى آلاف السنين، القمحَ الكاسد الذي نراه الآن بين أيدينا. زَرَعْنا و حصدنا والآن وقت العودة، وقت الغروب. فلنعترفْ بكسادنا و نَعُدْ إلى البيت. لنَعُدْ، متواضعين، إلى عدمنا.
لا بذور أخرى كي نحرث هذه الأرض من جديد ونزرعها. فلنعترف بفساد الزرع و فساد الأرض، ولنمضِ أيامنا الأخيرة جلوسًا أمام هذه الحقول، كي نودّعها براحة.
فلنعترفْ بفشلنا. على البشرية أن تعترف أخيرًا بالفشل.
هل كان كلُّ هذا التاريخ فقط من أجل رصْف طبقاتٍ من الجدران؟ جدار المكان، جدار الذاكرة، جدار الكلام، جدار الحلم، جدار الحب، جدار الذات، جدار الآخر، جدار الحضور؟...
هل كنّا، كلَّ هذه السنين، بنّائيّ حيطانٍ فقط؟
وُلدتْ وحشةُ الأرض فبنينا حيطاننا في البراري. وُلدتْ مدنيَّةُ الأرض فبنينا حيطاننا في التحضُّر. وُلدَ الملوك فهدموا بيوتنا وبنوا منها حيطانًا كحَّلوها بالدم. وُلدَ الأنبياء فأقفلوا ساحاتنا مالئينها بردم الأرواح، وداهسين زهرة كُفْرنا، أجملَ زهرةَ في الأرض.
فلنستسلمْ إذن لهذا الجرف، ما دمنا صرنا ردْمًا. ولنتركْ على أحد الأحجار علامة، حتى إذا عدنا، نعرف أين نبيت.
قبيلة الروح راحلة، حملتْ حقائبها ومشت، في الرحلة الأخيرة.
رحلةٌ لم يبق فيها غير آخر المهزومين. بعض ناسها ماتوا، وبعض ناسها قُتلوا، والآخرون هجروها، ولم تبقَ ماشية لها ولا بغال ولا كلاب. قبيلة الروح انقرضت.
مَن كان هنا يشهد أنها كانت جميلة. ترقص تحت ضوء الشموع وتغنّي، وينزل من نظراتها سحرٌ على الضيوف. مَن كان هنا يشهد، لكنَّ القبيلة رحلتْ، ولم يعد عندنا حتى ضيوف.
قبيلة الروح ودَّعت آخر أصدقائها، القابعين في الزوايا، وغابت.
وكان عليَّ، أنا القابع في زاوية، أن أسجّل على الأقلّ آخر خطواتها، آخر نظراتها، لكنني فشلت، حتى في تسجيل هذا الغياب.
لا الحضور حاضرٌ ولا الغياب يمكن التقاطه. لا يمكن حتى وصفه أو كتابته. كيف إذن أكتب نصَّ الغياب؟
كيف يصف العاجزُ عن الحضور غيابَه؟ كيف يعجز حتى عن أن يكون غائبًا؟ والقابعون في الزوايا هل عليهم، كما الظانون أنهم في الساحات، أن يشهدوا فقط للعدم بالصمت؟
إننا نُقيم مأدبة عامرة للعدم، لا يأكل هو منها، ولا نحن نأكل!
لكن، أليس الوجود هو الوجبة الدسمة التي لا يأكل منها أحدٌ أيضًا؟
قبيلة الروح رحلتْ جائعة. ما اعتقدتْه طعامَها كان طُعمَها، صنَّارتَها. ما اعتقدتْه روحَها، وواجبَ إقامتها، كان سُمَّها. قبيلة الروح ماتت مسمومة، ماتت كالسمك، معلَّقةً فوق مائها. قبيلة الروح ماتت في الهواء.
ماتت القبيلةُ فلنتابع المشي. نجرُّ معنا بغالنا المفصودةَ الروح، الميّتةَ لكنْ علينا أن نجرَّها، لا لحمولةٍ ولا احتفاظًا بذكرى، بل لأنْ لا شيء نفعله على الطريق.
نمشي... ونتسلّى بجرّ البغال.
كيف نغيّر كيمياءنا، كيف نغيّر فيزياءنا، كيف نجد مكانًا، زمانًا، كيف نحْضر، كيف نحيا؟.... وإنْ تكن هذه كلّها مستحيلة، ماذا نفعل كي نغيب؟
أَقبضُ على الوهم الأول الذي وضعني هنا، وأضعه أمامي. أُجرّده من حجّة الكلام وحجّة الفعل وحجّة تركيبي بعناصره. أفكّكه من عناصر وهمه وأُركّبه من عناصر وهمي. أَجعلُ مبتدأه يصير خبري. أمحو رغبتَه في انتهائي، وأرسم رغبتي.
بالوهم الخفيف الجميل أُغيّر كيميائي وفيزيائي. وكالوهم الخفيف الجميل أصير خفيفًا وجميلاً. لا حمْل على كتفي، ولا في روحي. لذلك يمكنني أن أطير، يمكنني أن أعلو، ولا يكون لي ظلٌّ ينوء تحته شيء، ولا لون يثقل على لونٍ آخر.
أُغيّر بالوهم فيزيائي وكيميائي، وأطير.
فلتخفقِ الأجنحةُ وتَعْلُ، فوق أرضٍ لم تعد لي شراكةٌ فيها ولا مكان. أجنحةٌ عصيَّةٌ على الرؤية ولا تتوسَّل هواءً كي تطير. خارجَ فيزياء العين وكيمياء الفضاء. مقذوفةٌ بجنونٍ هائلٍ ورغبةٍ أكثر هولاً حُقنتْ ملايينَ السنين وتنفجر الآن. تاريخٌ ينفجر، تكوينٌ بكامله، رغباتٌ كنتُ أظنُّها مجرَّد أشياء صغيرة في القلب، وإذا بها مجرَّات.
أعلو عاليًا بلا كلام بلا نظرةٍ بلا رسالة. الكلام والنظر أيضًا أصابهما الانفجار وتغيَّرت عناصرهما. لم يعد الفم والأذن شرط الكلام، ولا العين شرط النظرة. لم تعد الأحرف شرط الكتابة، ولا أن يكون متلقٍّ ومُرسِلٌ شرط اللغة. امتزجت اللغةُ والعين والأُذن بالهواء. جَرَفَ كلَّ شيء جنونٌ هائل، حتى امتزج النقيضُ بنقيضه، واختلطت الألوانُ والمسافات، فلم يعدْ لونٌ ولا مسافة، واستدار المستطيل، فصار الكلُّ في مركز الدائرة، لا بدءَ ولا منتهى، لا أعداء ولا أصدقاء، تعانق القتلى مع قاتليهم، فلا موتى ولا أحياء، نزل الجميعُ إلى مركز الدائرة، رقصوا في حلقةٍ واحدة وطاروا.
تساوى كلُّ شيء هنا في رأسي. اتَّحَدَتِ العناصرُ كلُّها، الناس والنبات والحيوان والأحلام والأوهام. صار الجميع سواسية، الحيُّ والميّت والحاضر والغائب والبارد والحارُّ والناخز والمختفي. فكَّكتُهم ركَّبتُهم ساويتُهم. خالقُهم لم يساوِهِمْ لكنّي فعلت. وهمي غلبَ الخالقَ وهمي غلبَ الأرض.
أطير خفيفًا، منتصرًا على ثقل عناصري وثقل التاريخ وثقل المكان وثقل الأشياء. أطير بعناصر رغبتي: بغياب الرغبة وغياب العناصر. خفيفًا فوق أرضٍ لم تعدْ لي شراكة فيها. أرض غلبتُها بوهمي، بتغيير عناصرها، بتجريدها من جاذبيتها وجعْلها تدور في جاذبيتي. غلبتُ الأرضَ بجعلها كوكبًا في رأسي، لا في الأفلاك.
أطير خفيفًا منتصرًا على التكوين.
أسبحُ في الفضاء، فوق بلدانٍ اندثرتْ. فوق بشر لم أعدْ وريثهم ولا عادوا نسلي. أطير وأنظر إلى الصحراء تحتي. إلى غياب الأمكنة. إلى استحالة أن ينزل الطائرُ بَعد.
أطير أطير، وأبتعد.
أصير نقطةً ممحوَّة... وأختفي.
| |
| |