ملف علمي - نبيلة سلام الهندسة الوراثية بين الواقع والخيال
* استطاع العلماء إنتاج أرز مقاوم للملوحة، حيث يروى بماء ملوحته حوالي 25 في المائة من ملوحة البحر، وإنتاج أصناف من البطاطس خالية من الفيروسات ومقاومة للأمراض
* الهندسة الوراثية أدت لإنتاج هرمون النمو البشري الذي يعالج التقزم، وعلاج مرض النزيف الدموي، بدلاً من عمليات نقل الدم التي قد تنقل الكثير من الأمراض
قد لا يخفى على الكثيرين أن جهود الإنسان لتعديل صفات النباتات ليست أمرًا جديدًا، فقد كان الإنسان قديمًا يحتفظ ببذور أفضل النباتات لديه ثم يقوم بزراعتها من جديد. ثم بدأت عملية الإكثار بالانتخاب عام 5000 قبل الميلاد، وأتاحت للمزارعين فرصة تحسين محاصيلهم. ثم بدأوا يزوجون فصائل النباتات المتقاربة الصنف ليحصلوا على أنواع مهجنة، ثم يقومون بتكثير هذه النباتات المهجنة واختيار السلالة المرغوبة، إلى أن ظهرت التكنولوجيا الحيوية التي حملت تجارب تخطت الواقع إلى الخيال.
لذا حق القول أن نُطلق مصطلح ثورة الأغذية المُهندسة وراثيًّا، عندما نعلم أن هناك 2743 محصولاً مهندسا وراثيًّا يدخل في اختبارات منظمة الزراعة بالولايات المتحدة الأمريكية - منها محاصيل التفاح، والشعير، والبنجر، والانزيمات في تصنيع الجبن والخيار، وكذلك محاصيل البطيخ والفلفل، والأرز، وقصب السكر، وعباد الشمس، والقمح، والبروكلي، والعنب، والبطاطا، وبعض الخمائر، والأسماك مثل السالمون.
ولوضع صورة توضيحية عن حجم تواجد الأغذية المُهندسة وراثيًّا، نجد أن المساحة الإجمالية للأراضي المزروعة بتلك المحاصيل قد زادت بنسبة 50 في المائة، حيث كان يُزرع 222 مليون فدان عام 1997، وصل إلى 402 مليون فدان عام 2005. وانتشرت في بلدان نامية مثل البرازيل، والهند؛ فقد ذكرت الإحصاءات أن أمريكا تزرع نحو 36 في المائة من تلك المحاصيل، والأرجنتين 61 في المائة، والبرازيل 4 في المائة، والصين 4 في المائة، وجنوب أفريقيا 1 في المائة.
ويؤكد ذلك ما أعلنته الجمعية الأمريكية لفول الصويا قبل بضع سنوات، من أن حوالي 55 في المائة من محصول عام 1999 كان مُعدلاً وراثيًّا (ذلك المنتج الذي يملأ أسواق العالم، خاصة النامية والتي تعتمد على طبق الفول كوجبة أساسية يومية). ليس فقراء العالم هم فقط من تناولوا فول الصويا المُعدل وراثيًّا، ولكن أغنياء العالم كذلك، حيث يُضاف فول الصويا كمواد إضافية في بعض منتجات اللحوم المصنعة، مثل اللانشون والهامبورجر (كمصدر للبروتين)، وكذلك لإضفاء نكهة إلى بعض الأطعمة مثل المايونيز، والمربات، وزيت الطبخ، وكريمة القهوة، والحلويات، والسمن، والزبد، والدهون.
واستطاع العلماء إنتاج أرز مقاوم للملوحة، حيث يروى بماء ملوحته حوالي 25 في المائة من ملوحة البحر، وإنتاج أصناف من البطاطس خالية من الفيروسات ومقاومة للأمراض. وكذلك إنتاج نبات قطن مقاوم لدودة ورق القطن، عن طريق نقل جين مستخلص من بكتيريا معينة وهذا الجين مسئول عن إفراز مادة سامة تستطيع أن تقتل دودة ورق القطن، حيث يجعل أوراق النبات سامة للدودة فتقضي عليها، ويكتسب النبات صفة المقاومة ونستغني عن الرش بالمبيدات. هذا بالإضافة إلى إنتاج نباتات نجيلية قادرة على تكوين عقد بكتيرية، تحصل على احتياجاتها من نيتروجين الجو، وتوفر تكاليف الأسمدة النيتروجينية عن طريق نقل جين تثبيت النيتروجين. كما أمكن إنتاج طماطم وفراولة مقاومة للبرد، بعد إدخال جينات مأخوذة من السمك المفلطح إلى تلك النباتات. وكذلك إنتاج خضراوات تبقى طازجة لمدة أطول من الخضراوات الأخرى، وإنتاج لحوم طرية غير متليفة ودهونها قليلة وموزعة داخل أنسجة اللحم، وإنتاج نباتات تتحمل الجفاف وذلك باستخدام جين معزول من بكتيريا لها القدرة على تخليق المانيتول.
إن مجالات الهندسة الوراثية عديدة، حتى أن كثيرًا من خيال العلماء بات حقيقة، ويبدو ذلك واضحًا مع ما قاله البروفيسور براملي، من جامعة بوردو في ولاية أنديانا، من أن هناك تجارب تجري لإنتاج نوع من الطماطم المُعدل وراثيًّا، غني بمادة الليكوبين التي تحمي من الإصابة بالسرطان وخاصه سرطان البروستاتا وسرطان الثدي. كما تمكن العلماء من إنتاج أرز مُعدل وراثيًّا يتميز بقيمة غذائية تساعد على التغلب على النقص الخطير لفيتامين (أ). ويقول البروفيسور أنجوبو تريكوس، من معهد التكنولوجيا بزيوريخ في سويسرا، أنه يمكن عمل الشيء نفسه مع القمح والشعير ومحاصيل أخرى، ما يعني من وجهة نظره أن الاطفال الذين يصابون بعاهات شديدة نتيجة نقص هذا الفيتامين - وأخطرها فقدان البصر، ويصل عددهم إلى 124 مليون طفل - يمكن حمايتهم من هذه العاهات. كما توصل العلماء في هذا المعهد إلى إدخال نوعين من الجينات تجعل الأرز أكثر غنى بمادة الحديد، بما يعني القضاء على فقر الدم، كما تمكن العلماء في أحد مستشفيات لندن إلى تحديد البروتين الذي يمنع التصاق البكتريا المُسببة لتسوس الأسنان، وقد ساعد ذلك على استخدام التفاح والفراولة المعدلين وراثيًّا لمنع تسوس الأسنان وعلاجها. كما تمكن العلماء بمعهد «نارا» للعلوم والتكنولوجيا في اليابان من إنتاج حبوب بُن مُعدلة وراثيًّا، يقولون إنها تضم كمية أقل من الكافيين ومذاقها لا يختلف عن البن الطبيعي؛ وهذا النوع من القهوة يُجنب شاربه التوتر والأرق والسهر وخفقان القلب وارتفاع ضغط الدم، كما يُمكن الحوامل من شرب القهوة المُصنعة من هذا البن دون خوف على الجنين. كما يسعى باحثون أمريكيون إلى تطوير بطاطا مُعدلة وراثيًّا، تحمل مكوناتها اللقاح المضاد للفيروسات التي تسبب الأمراض المنقولة جنسيًّا، حيث يحمل هذا النوع من البطاطا اللقاح المضاد لهذه الفيروسات، بما يزيد مناعة النساء من خلال الطعام. ويدرس الباحثون إمكان استخدام الموز كحامل للقاحات بدلاً من البطاطا، فهو أفضل من حيث كونه يؤكل نيئًا وليس كالبطاطا التي يجب طبخها مما يقلل من فاعلية اللقاح. أمكن أيضًا إنتاج هرمون النمو البشري الذي يعالج التقزم، وعلاج مرض النزيف الدموي، وذلك بإنتاج العامل الثامن عن طريق الهندسة الوراثية بدلاً من عمليات نقل الدم التي قد تنقل الكثير من الأمراض. وأمكن كذلك إنتاج الأنسولين البكتيري بدلاً من الأنسولين المستخلص من الأبقار، والذي يتم بنقل جين الأنسولين البشري إلى البكتريا.
كل ذلك أصبح واقعًا، وواكب هذه الاكتشافات المبهرة حملة إعلامية لعب فيها الخيال العلمي دورًا مؤثرًا على عقول عامة المثقفين، تساءلوا هل يمكن للآباء والأمهات أن يتقدموا للعلماء بطلبات للحصول على أطفال لها مواصفات معينة في الشكل واللون والذكاء والقدرة الجسمانية أو العقلية. بل وذهبوا إلى أكثر من ذلك، وهو إمكانية إدخال صفة التمثيل الضوئي من النبات الأخضر إلى الأجنة البشرية للحصول على الإنسان الأخضر الذي يمكنه استخدام أشعة الشمس وثاني أكسيد الكربون من الجو للحصول على غذائه وطاقته، وبذلك تنعدم المشكلات الاقتصادية المتعلقة بالغذاء.
ويرد علماء الهندسة الوراثية - في كتاب مستقبلنا الوراثي، الصادر عن الجمعية الطبية البريطانية - أن هذا الأمر ليس مرفوضًا فحسب، وإنما لا يُحتمل التوصل إليه على الإطلاق.
وهذا يؤكد أن البحث العلمي هو تلبية للاحتياجات الحقيقية للإنسان، لكن هناك جدلاً حول تلك المنتجات من حيث أن الهندسة الوراثية تُفرض على العالم بواسطة حفنة من الشركات العملاقة، لا يكمن هدفها من تلك التكنولوجيا في التغلب على مشكلة ندرة الغذاء، وإنما خلق احتكارات على الغذاء والبذور التي تُعد الحلقة الأولى في السلسلة الغذائية والحياة نفسها. كما أن الكثير غير معروف عن مدى أمان تلك المنتجات، خاصة تأثيرها طويل الأمد، وهو ما يستدعي إجراء المزيد من الاختبارات ومناقشة مدلولاتها.
-----------------------