كَأَنَّكِ لَمْ تَنَامِي
يُوَازيهِ
أَخِفَّاءُ يَصُوغُونَ بَرَاهِينَ الْفَرَاغِ(*)
إدريـس عيــسى
(المغرب)
إليكِ " مِنَى "؛ أُمُّاً وروحَ أمٍّ
مرتحلةً وسارية في لا نهاية النور، هناك
*(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا )*
قرآن كريم، يس، 37
" من رآكَ من حيث هو فقد رأى نفسه. "
الشيخ محيي الدين بن عربي
1 ـ
إدريـس عيــسى هُمْ. حصانٌ أبيضُ
هو اليقظةُ كلُّها وساعةُ النَّأْيِ
الذين هُمُ الوراءُ عاريا في اللاَّحدّ مُضاءٌ كَفَلُه بيقظته
وذهولِنا
صافيا كمرآة في الوراء
مفتوحةٍ ولا نهايةَ لمائها تَحَدَّر إليكِ من سراح ذاكرة
وارتحال عينين في سُبات
وضوؤُها أعمقُ من خُطوةٍ في النِّسيان رأى من حوله وتنسَّم السُّبُل
ومن صرخة طائر في الليل
رأى وكان عينين
في عنقه السماء وعُرْفا يَتهدَّل في المعنى
يستدرج بلدا يريدُه خاض في ليل الحديقة
ويُضيءُ مسارَه بصرختِه تابعا نظرتَه
لم نكنْ لنعْرفَهُم مشى منْجذبا إلى يديك في هَدْأة الأشجار
حين سمَّوْهُم الموتى والغائبين كأنه يَعْرفهما في تلْويحٍ ورائحة
مَنْ كان يعرف الطريقَ إلى الظلال كأنكِ تحْمِلين مِذْوَدَه
لدى جَفْنةِ مائه المنذور
ويَقْدرُ أن يتكلَّم ؟
من كان يقدر أن يسير إلى التخوم؟ وتَصِلِين عُرْفَه بالصباح
دنا من ديوانكِ فنمتِ
وكان الليل في لباسنا حدائقَ مُتَعَثْكِلَة
ونامت ستائر الغُرَف الصغيرة
تبدأ من إيمائهم صوبَنا وهدَأَتْ ريحٌ في حديقة الأكاسيا
وصوب الأشجار
التي يتَّخذونها مراقب وجاء الليل الذي شمل الجُدُر
وبيوتا يَسكنونَها إذا حَلَّ الليل
فينسدل العالم ولم يُزِحْ كفَّيه عن النوافذ
على أطيافهم التي لا تلبث ولا عن أعيننا
وتخرج من مخابئها الحية
إذا تذكرنا الغابة
ولنا أجنحة من سهو
ندِفُّ بها وبقي هنا.
وأقدامُنا في مداخل النوم
2 ـ
الأشجار مأواهم الذي يفور بحضورهم
الحصانُ أتى
من برِّيَّة معلقة
يَبيتون في جوفها ويَكْمُنون ترامت في حُلْم بنت الخالة
قبل أن تحكيَ حلْمها
نرتقب أن يهجروها في الظلمة.
في وجوههم شيءٌ يشبه الغيم
وفي أيديهم ألواح ممحوَّة قبل أن تنامي بعيدا عن الساعات
ومِنشَّات من دُومٍ والتقاويم
ومصابيحُ من غير سَرْج تَخاطَرَ
ولا لجام
ليَزْفِر صوب مخدتك
وإلى جذوعها المجروحة وكنت تنظرين أعلى
يَشْكُمُون الخيلَ التي تأتي معهم تترصَّدين الغُدافَ الأخير
قبل أن تَهَرْهِرَ الأوراقُ في ليلها الذي يحوِّم في الماوراء
دَريناً مَرْكوما حول الجَذامير
بريئةً من الوقت والناس
ويَكْبُرَ الحفيفُ في جهة أخرى بريئةً من جسمك المخذولِ؛
ترابِكِ الذي حَمَلْتِه إلى آخر الترابِ
3 ـ
والنعاسُ الذي يسبق إلينا الأرض حصانٌ خامٌ
بالشَّاشات الغُفل الأولى لا تقيِّدُ ظلَّه شمسٌ
حيث يسيلُ الضوءُ والظّلُّ ولا تأخذه الدُّجى
حصانٌ مِن هناك؛
وتنكسرُ الأقفال حيث تعمى الخرائط
وجداولُ الرَّمل والكتبُ
نكون مدىً وراء المدى
ننأى مثل سراب
ونسري منتثرين في الظل الحُر
مدهونٌ عُرفُه برائحةٍ قُصوى
نَعرفها دائما
كلما تذكرنا إسطبلات الليل
يكونُ لنا لباسُ الرِّيش حيث، بمصابيح كابِيَة
ونَقْدرُ أن نطيرَ ولباس من غَبْرة ورحيل ،
يَتيه حَوَاذيُّ عُشيٌ
لم نكن لنعرف الأخِفَّاء مُتَقَرِّين رائحة الخيل
أشباهَنا المتنَكِّرين بالظّلّ التي لن يعودوا بها
الذين عثروا في الظلِّ الأخير هناك
معقودة بأيديهم أعرافُها الحرة
على الأقنعة الصَّافية
لمسوا بالأهداب المزاليج المختومة
4 ـ
فانفسح اللامكان في خطاهم
وراء التُّخوم في الأبدية كأن ناصية الحصان المدهونة بالغيب
المُسْبَلَةَ في أزلها؛
أزلِ السراب
وترحَّلوا مع الخيل
في السبل التي تنشأ من نعاسهم تدلَّت على مخدتكِ ووجهكِ
فراحت بكِ عيناك
إلى الضوء الواحد
ومن أيديهم يرفعونها إلى أعينهم
ويُقَلِّبونها في السُّدَف الذي يُوَحِّدُ السُّبُل
ويغسلونها في النهر المدوَّر الكبير في شتات الأرض
الذي في مائه أبدا
بالرغم من كُدْرة الماء
وضوئها الأعمى الذي يتيه
5 ـ
ساقطا من اللامكان
الذي أقسم بالسماء و الكتاب المسطور
والنجم والرياح
تَلمَع نجمةُ الغياب والخيل جارية برايات الثأر ـ
يده الرحيمة قلَّبت جسدَكِ
في جزْرِ رحمتها
(طفلٌ ويداه
حيواناه اللذان يلْبَثان معه
يداه شاردتان ونأْيِ اليد الأخرى عن دارك
ومسَّتك، من قبلُ، بالليل
تتظاهران بالجناح أحيانا الذي لا يفتحه جناح ملَك
وأحيانا بكونهما يدين يتدلى إليك بالقنديل
من جهة الاِسم
وتجرِّبان أن تطيرا في باحة الدار
حيث تعلو في اسمها شجرة الحدود
طفل ويداه
طفل ذاهلٌ ويَرَى وكنت ترفعين يديك عاليا في الفراغ
ويَرْهَبُ ما تأتي به الأرض عند منحسر السقيفة
مغلوبتين كبرهان نافل
وكان أهله يتحدثون عن الذين ذهبوا
فتزِفُّ ريحٌ في شجرة غامضة يشيح عنه، قبل أن يراه، الحَكَم
تضرب أرومتها ليلا عند مخدته
ينام، كأنما تُشهدين السماء القريبة
ويأتيه في النوم حمَامٌ يطعمه بيديه على غيابها
حمام من أسماء الذين ذهبوا
وكنت تكلمين الله
موقنة أن يديه على بيتك
طفل يَعْلَم العلم
يُصدِّق ما يرى البلوى كانت أولَ الأبواب
وكان يكْبُر في الأنداد من حيث أتانا وجهُه ويداه
يَغْمس لسانه في القول العسير
ويسأل عن أشياءَ تُدْلي غصنا قاتما وكنا نرى
على وجه أمه وأبيه وكنت امرأة توغل في الصبر
تهز الشجرة التي تعلو في اسمها
وكانت أمه تبكي في مراح البيت قدماها قريبتان من حجر الهرطقة
تحت المشمشة
والألم دُبالة في مصباحها
كلما تذكرتْ قبرَ أمِّها
في سفح التل الذي يحجب البحر وكانت في يديك النار
واسْمَيْنِ يترددان في حد النشيج : ناديت الله أن يراهما
محمدا والحسين ويحبَّ يدين في النار
أخويه اللذين تواريا ويكون واحدا في اسمه معك
كنداءين لا ترُدُّهما جهة
6 ـ
لتبقى الأم ذاهلة
ترى زهرة في كفها.) بياضُ البهيمة
ظِلٌّ مطموسٌ لكَفَنٍ مُعَلَّق
لم نكن لنعرفهم تَنُوسُ به ريحٌ في شجرةٍ ميِّتة
حينما كان السِّنديان الكهل
يتدلّى من عُزلته إلى صحونا بياض البهيمة تلك
الذي هو بُهْرةٌ في عمىً ثلجيٍّ
ضاعف الظلمةَ في جذوع الأشجار
لنحُكَّ بإطرافه نواصيَ سائبة وراء بيتكِ الذي مرتْ عليه الخيل
ونُهَيِّئَ في أَرُوماتِه أرائكَ
7 ـ
كأنك لم تنامي
نقتعدُها ونَسْردُ ما نرى دائما نعود إلى الفراغ
كأننا أول الخارجين بالنار البِكر حيث كانت يداكِ تَسْنُدان الهواء
وجسمُك المسَجّى يتقلب
من ليل المغارة؛ كنهرٍ مقَيَّدٍ في سريره
يصونون الشيءَ البِاهر يتجاذبه المَصَبُّ والمنبع والضفتان
الذي يرد غيلة الحيوان
ويرفعونه أعلى من الأسلحة ـ كأنك لم تَبْرَحي
ولم يُحاذِ الحصانُ ليلَ الحديقة
ولم نَرَ الظلمة تَكْثُرُ في الجذوع
وازنينَ أعمارَنا بالهباء والقول جوار بيتك المنكشف
الذي تداعت إلى نوافذه الخفيضة
و بأفاريزها السُّفلى
مُطاولين بأكتافٍ غريرة مَرحةٍ حَكَّتْ جباهَها الخيلُ
ذوائبَ المَرْخ والخَلَنْج
8 ـ
كأننا الموكَّلون بتلقيح النَّبات لم أَعُدْ تحت شجرة الأمومة
نَصُبُّ في وَقاره بَطْشَ أيدينا صحراءُ انطبقت على شفتَيّ
قادمين إليه من سهوه
صحراءُ لا تُداوَى
حُفاةً مُسْتبْسلين في مدخل الغابة للكلمات أجنحةٌ من مِلْح
حيث صرخاتُ النّقّارِ الجَفولِ يُغَشِّيها ذَرُورُ كِبْريت
الذي يَرْتَع في عزلته ووجهي إزاءَ الموت
ها أنذا مرة أخرى
هي الريح الوحيدة ظاهرا بفمٍ مصْعوق
في ظهيرة الأشجار
أَهْذي وأتلَعْثم
وحيث الظهيرة العَجِلَة على عتبات الرماد
تُفرغ ما تبقى من رمل
في قِمْع ساعتها الشَّفيف المُنْفطر
9 ـ
كي يَخْلُفَها الزَّوال
وتنأى صوب البحر الألم، دائما، شمسٌ باكرة
تَفْجَأُ الشُّرُفاتِ والأبوابَ والجُدُر
وحيث الصُّرَدُ والقُلَيْعِيُّ وتَبْهَرُ من يرى الظلال
بالجناح ـ المَكيدةِ والعَينِ ـ الآفَةِ كي يسأل عمَّا يحجبه الضوءُ العَتِيُّ
يَتَنزَّلان من بُرهةِ لا تَحينُ
وعن يديه تدعوهما الظلمات
مُوقِنَيْنِ أن الزّمن ليتذكّر صحوةَ القنديل
مِزْوَلَةٌ رخامٌ مطموسةُ المَيْل
شاخِصُها ريشةٌ من قَوادِمِ النَّسر
10 ـ
وأن الغَدَ الواثقَ من غَدِه الكتاب مكتوبا منذ الأزل
كصدىً يرُدُّه خَلاء تنكتب مقدمته، حتى الآن، بنا
كلَطْمَةٍ يأتي بها غصنٌ مرتدٌّ لا يُتَّقَى
ظِلٌّ حرٌّ لا تحُدُّه الخطوطُ الكتابُ، مفتوحا إلى آخره
ولا ريشةُ النّسر على البَلاطة وموضوعا على حافَة الفهم،
دُرْدورٌ يُدَوِّم في مَهْمَه الرمال
يَسْري ولا يقفزان إليه
الرُّحَّل، مشدودين إلى المدى،
(ذاكرةُ أمِّه بلد حادُوا عن مَنْزلِ الكوكب
ليس يحده قولٌ يُبهم الشفتين مكانِهِم في المكان
يشيع، ويمحوه من بعدُ القولُ
بل الصمتُ الذي يتفتَّح السُّبُلُ التبست في أرجلهم
زهرةَ قندول تكبر في كفها ـ وفي أعناق البهائم
وحدَها، ترتد الأم إلى البلد
لترى حقولا مسوَّرة بالقرابيس
وقرى فقيرة وفلاحين والطريقُ الذي هُمْ فيه
وتنادي ذاهبين إلى الحدود يُعطيهم رائحةً واحدة:
كأنما الأرضُ التي طُويت في غبار
أحيانا تفرحُ بمن يلاقونها هناك والألبسةُ القديمة المخزونة
وأحيانا تبكي بعين مسْرِفة
إذا تفتَّقت في الكفِّ زهرتُها تَصْعَدان من قَعْر التوابيت
الغياب كان أول الضيوف
يدنو وينثر الزهرة هم في المتاهة
بنفخة واحدة يُقلِّبون أسماءهم بالألسن
ويذوقون أول الليل مِلْحا على الشفاه
تسقط البُذور في ذاكرة الأُم يرجِّعون الأعين في ما لا يُرى
وتبقى السَّبَلات والشوكُ
في راحتها المطويةِ على ألَم
الخلاء إرثهم من خطوة زائغة
لم ينقذها النجم
طفلٌ ويداه
11 ـ
لتكون السماء جَنَّةَ يديه
والمشمشةُ بيتَ الدوريِّ حصان ؛
وتكون أمُّه حديقةً يتبعها عينان تَجْذبان الغِياب
وعُرْفٌ سابغٌ يتهَدَّل في أزل
يطوف في مراح الدار كأن الحيوانَ استراحةُ الضوء
غامسا أقدامه المرتبكة من المِرآة الكَهْباء المحفوظة
في دمعة الأم التي بها يتقدَّم الليلُ
نادِهاً أشباهَه
طائشا في رِداهِ الكَون
ممزِّقا أخْمَصَيه
ولم يكن يعرف الأرض.) على صخر كوكب يولَد
في صُهارةٍ عمياء.
إلى من كنا نشير حصانٌ هو الحصان؛
مذَنَّب يعلو
بأصابع لا نراها في الضوء ويَسْبَح في سُهاد الخيل
ولا في الدُّجى؟ ظِلُّ اسمِهِ تَرَنُّحُ الخيلِ
من كان يُصدِّق إيماءَنا المرتجَّ؟ إذ تكْبُو بها السُّبُل
إلى أيِّ الظلال كنا نَلْفِت العيونَ وصدَى زفْرتِه الذي يَدُوم
ولم نكن واثقين مما نرى جهةٌ لا اسم لها
ولا من عيوننا التي يرتبك فيها الضوء صحوُ الذُّعْرَة واللِّهَّيْبِ معا
ولا من وقوفنا بأفواهٍ مُدَوَّرة بأجنحة من ضوء
على شفاهها تيبس الكلمات في مِدىً لا يتلقّاهما بالشَّياهين
إذا شئنا أن نصحوَ في إيمائنا
ونبدِّدَ الخوفَ ولا يعلو
ونتلمس أول الجدر ليسقطَ في صرْخَتِه القُرْقُبُّ
وفي ألوانِه التي خذلت طيرانَه
لا بأيدينا التي تعمى وريشِهِ الباردِ
بل بصرخةٍ يسمعها الأهل؟
طُرُقٌ هي الطرق
12 ـ
لا تأتي من مكان
بل من كلامنا يدٌ مغموسة في الكفاف
ونَدخُلها بأفواه تُجرِّب أن تنأى مسحت هاماتِنا بزيت عسير
كي تعلوَ نواصينا
وتتكلمَ من بعيد بألسنة ملتوية وتلمِس أعطاف الأشجار
وشفاهٍ تصبُغها حُدوسٌ
يدٌ كانت تأتي بالمصباح اللدود
مثلما يتكلم الأهل معاديةً كل ظل مالح يَحيق بالبيت
إذا تناجوا في أركان الغُرف ليديم منفانا وكسوفَنا الطويل
متداولِين كأسا واحدة
يد لم تتبع هيئة الحروف
ولم تجرِّب في اللوح أول الليل
لبثت تحفر الصخر
يملؤها الليل لتُرقِص النيران في تنُّور العائلة
وتديرها الذكرى والوحشة. في الموسم الذي يُنهِك النجمة والقنديل
وتحت جناحه الثلجي
متحاذيَيْن ومبهمَيْن
يتربَّص الوقتُ في ذروة الصيد
من هناك؛ وكفه تهدِّئ الكاسر الذي يلهث
يدٌ ـ مروحةٌ
حيث تَعْمَى الإشارة قماشُها صبْر وأضلاعها الرحمة
ويُهْطِع الداخلون إلى الحدود كلما سرَحتِ الحمَّى على أجسادنا
تصير لنا شفاه تخبِّئنا بزَّاقاتها اللاهبة
نتكلم بها متمادين في الحكمة
كي يصيرَ المكانُ بيتا واحدا يدٌ ـ سِلاحٌ وافر وشقيق
على وصيده نخْلعُ الأحذية في الحرب التي لم نُدبِّرها
ولم نُنذَر كي نهيِّئ متاريس سابقة
ودامت ستةَ أحصدة بُورٍ؛
ونُقبِّل المشكاة الملتهبة
للمصباح الذي ينوس معلقا بالباب كي لا تأكل ظلالنا تحت يد الله
شمس البلد الغاشم
نسميه بيتَنا يدٌ ـ صمتٌ عميق في قصيدة
ننطق بالمجازات الثقيلة يسهِّل الحلمَ ويغري بالصمت:
يدُكِ أنتِ
صدورنا تدْلَهِمُّ وتشتدُّ
ملأى بالأصداء التي تسبق القول؛
13 ـ
أصداءِ الذين تكلموا من جهة أخرى
جهةٍ لا اسم لها أقول له : " ظاهرُ..
أليمة حُجُبك وتأتي بها
أزِلْ واحدا منها واظهر
وفي حناجرنا الريشُ
وندفٌ منفوشة كوبر
يحفُّ بذرة الهندباء في الجانب الآخر من اسمك الكثير
ماذا ستأخذ بعد ظلِّ الأم ؟
كلامنا مبْهَم ونُطْبِق الجفون
على الذين يروننا من هناك هبْني أن أجيء إليك
خطوةً باطلة أخرى
كأننا في حلمهم. صوب الضوء الذي لا يَخْنِس
( لم يكن يعرف الأرض الّذي أُخطِئه دائما. "
وكانت السماء أولَ الأمكنة
يحفظها بنظرة عليا
ويقتسمها مع السمامة والدوري
14 ـ
والخطاف الذي يزيِّن النهارَ
اَلدِّيكُ؛
بصرخة مقسَّمة واحدة بهلول الكينونة الأرِقُ
ونظرةِ الأم المبلولة
التي تهز السماء من باحة البيت موقِّتا بذاكرته ساعة كونية
مثل شجرة من زجاج
كأنما زائرون سينزلون من هناك لن يثلم بصيحته معدن الليل
الذي ثبَّت خطوتك في الغيب
ويجلسون صامتين
إلى دمعتها وألزمك العتبة
التي يخوض فيها طفلها بقدم صاحية.
ولن يضيء أسفل الأدراج
لم تكنِ الأرضُ تعرفه حيث يدأب كلب النسيان
ولم تكن سوى أصواتٍ في أصوات على لعق الأحذية المهملة
تأتيه من خارج البيت التي انفلتت من خطى الغائبين
ومن جهة المشمشة
ومن وراء الباب الأخضر شيلانك ملفوفة في الحقيبة
الذي يكْبحه مزلاج صدئ عَبْل ولا أحد يبسطها
وجلابيبك مطوية مع الأقمصة
ألم يحاولْ كثيرا أن يطيرَ الصمت يدسُّ فيها يديه
ويلْحقَ الأخوين؟
ويسلُّ من أسْدِيَتها رائحتَك
ألمْ يحْبِبِ السُّلم والشجرة
طريقا متشابها إلى السَّماء ؟ )
15 ـ
إلامَ ؟ أسبوعٌ مضى صوب الأجراف
حينما كانوا يُلوِّحُون بقبَّعات النِّسيان حيث يصمت الرُّعاة والرُّحَّل
من تحت الأشجار القديمة
التي عند جذوعها الموسومَة بالزَّمن وتنْحَتُّ من خطاهم الحجارة والتراب
ورائحتُكِ تَطَّوَّف في الغرف
كـطائر تُدْرُجٍ جريح
تنكسر الإشارة والعين
والضوء ُالذي يُبَذِّره النّهار يُداويه نسيانُنا
كانوا فَلْتَةَ اللِّسان عودي إلى جرار السَّمْن القديمة
التي هيأتِها باسم الله للضيف
كانوا الفُجاءةَ الكبرى من غير ما نذير والخابيةِ المركونة في مَراحِ البيت
ولا علامةٍ تسبق خطَّ المتنبِّئين
كانوا يَحْدثُون في كلامنا تحت المشمشة المَلْأى بالسماء
خارجين من الأصوات والرَّجْع
والصمتِ الذي يبقى ـ
خُذي قَدَح الفخَّار
واغترفي الماء الحيّ
كخروق تصيب لباسَنا صُبِّيه على غشاء الخَيْشِ وأَوْمِئي
كلما ركضنا بين المَرْخ والخلنج كي تَصْعَد من الخُروم الشَّعانين
فينكشف جلدُنا المخدوش وارْوي السّابِلة
جلدنا المخدَّد المدموغ بالندوب إذ يقرعون بابَكِ في الوَدائِق
عودي إلى حِنْطتك مغسولةً
مبارَكةً بكلامك القليل
وصحوِ قلبك
كأنهم يَعْنُوننا التي تنشرينها في سطح البيت على الأُزُر
كأننا ظلالهم التي تنْبَري وفيها قسطٌ للدُّوريِّ واليمامة
يتفقدونها في ضِفَّة أخرى وإلى المَحالج والأمشاط ؛
مُديمِين وقْفتَهم إزاءنا أسْلحتِكِ اللَّدودِ
التي لم تَفْلُلْها غَيْبَةُ الملائكة
إزاء سَرْدنا الطفيف الذي يسري وإلى الدواليب ملفوفةً بأَزَلٍ من صُوف
كغفلة الرعاة في غسق الذئب. غزلتِه بشرق يديك
دائرةً بدعائك كالدرويش في بهو البيت
يلُمُّ بالأكمام أطراف الكون
في ثياب أمهاتنا وآبائنا يأخذُه في غفلة الناس
وفي أركان البيوت
حيث يَرْتع الغبارُ سعيُه مع الضوء
يدور حول ذاته المبدَّدة
ويبطل الأيْنَ
ويتلافى الضوء أن يكون ـ
16 ـ
يداكِ، حاملتين قنديلَ الأمومة
رائحةٌ منهم نعرفُها وتتقدمان برغم الليل ،
وتعرفها أيدينا لم تَترُكا عُزلة في العالم
كلما عبروا الكلام
مرتدِّين بالخيل إلى حدود الضوء
17 ـ
الظهيرةُ الغيهبُ في عينيك
في الجهات التي يعْمُرها الحُطام شاخصتين بقوة الصحو
إلى ما ينفلت
التي بذهولٍ وخوفٍ في الأهداب الأرضُ السماءُ
نرعاها كي نراهم واقفين والطائرُ المحوِّمُ الجذمورُ المجتثّ
التي كسَهْبِ حَلْفاءَ في كفيك مبسوطتين على غياب
العالم واحدٌ في استرخائك
يَرْتعي فيها ماموثُ الزمن.
مُثنّىً، مضاعَفٌ ولانهائيٌّ
ولا اسمَ له
(لم يكن الموت ليَخْفى
كان كائنا مجنَّحا والآنُ الذي أَخَذكِ
نصف وجهه ظاهر صار أسيرَك الأبديَّ
ونصفه الآخر ممحو
كما لو كان مطليا بالعدم
وكان الطفل يراه
18 ـ
واقفا تحت شجرة المشمش
في الباحة المنكشفة
عتبة مضاعفة مغلقة
يبسط جناحيه الكبيرين لا تفضي إلى هنا
فتسقط الأمطار لا تفضي إلى هناك
كل وجه عندها مبدد
صار الطفل يحفظ القرآن وكل ظل مقسوم على هاويتين
ويرى طفلا آخر يعجنه الصرع كصرخة الفرخ منتفضا في الألم
تَحفُّه حلقة الأنداد
والشيخ يصلصل بالمفاتيح مخطوفا في أول الصباح
قابعا عند رأسه بمخلب بات يُشحَذ طيلة الليل
وشفتاه تفكَّان اللغز بالكَلِمِ
القرينُ يتخبط في لُمَّته رجلك ثقيلة لا تشاء
وخطوتك مرجأة
والطفل يعَضُّ على سبابته نذرتِها لطُرُق أخرى تنشأ لك
التي بدأت تتبع الحروف في اللوح
ويصرخ إن الطفل يموت لكي تسيري خفيفة كضوء
وعيناك تخوضان في السدف
منذئذ، كلما رأى المصروعَ حيث، مسْبلةً في الفراغ،
أو تخطر النائمون في كلام الأهل، تتبدى أعراف الخيل
قفز من عطف الأكاسيا جدْيٌ
ووقع في قلبه
لم يبق الموت في باحة البيت
بل صار يأتي من حوش الخروع والقصب
يقتحم الحلقة
ويعجن بجناحيه جسد القرين. )
*) هذا فصل من الجزء الأول ذي العنوان أعلاه، من ديوان "مراثي مِنَى ـ (السائرةِ في رفقة الضوء بلباس صافٍ)". وقد كتبت هذا الديوان في القنيطرة و جيبوتي، وكتبت شذرات قليلة منه في البيضاء، وجدّة، وصنعاء، وباريس. وهي مؤرخة بين يناير 2002 وأبريل 2003 ،إلا جزءا كنت كتبته عام 1995، ونشرته بجريدة " القدس العربي " ، (أوائل نونبر 1997)، عنوانه: " الموتى "، أدرجته متفرقا معدلا في كتاب: " أخفَّاء يصوغون براهين الفراغ ". والجزء الأول مهيأ للنشر قريبا.