"لماذا" أقوى من "كيف" ومن "ماذا"؟
في عام 1995 اشتريت آلة لصنع القهوة السريعة وضعتها في مكتبي. لم أكن سمعت بماركة "كرابس" حتى ذلك الحين، ولكن سعر الماكينة الألمانية المرتفع جدًا جعلني أطمئن وأدفع دون تردد. واليوم وبعد 18 عامًا من الخدمة الشاقة ما زالت رائحة القهوة الطبيعية تخرج من الآلة الألمانية وتعبق في مكتبي ومكتبتي وتقاوم التكنولوجيا الحديثة والأجهزة الإلكترونية المعقدة.
وفي عام 2000 اشتريت حقيبة صلدة من محل أمريكي لبيع الحقائب الجلدية. قال لي البائع يومها: "الحقيبة ذات العجلات مضمونة لخمس سنوات؛ ويمكنك استبدالها فورًا إذا ما تعرضت للكسر أو الخدش أو انقطع أحد سحاباتها." بعد ثمان سنوات زارت الحقيبة محلاً لصيانة الحقائب لتلميعها وتشميعها واستعادة رونقها. وما هي إلا دقائق حتى عادت حقيبتي إلى الخدمة، وما زلت حتى اليوم أسافر بها وفيها، أحملها وهي تحمل كلماتي ومعلوماتي ونظرياتي ومقالاتي وخلاصاتي.
وفي عام 2002 اشتريت حذاء برازيليًا من محل يمكن ترجمة اسمه إلى "ملابس الرجال". قال لي البائع: "هذا الحذاء مضمون لخمس سنوات." ابتسمت على اعتبار أن انتعال حذاء لخمس سنوات متواليات هو تقشف من نوع لزوم ما لا يلزم. واليوم، وبعدما دخل حذائي المريح عامه الحادي عشر، ما زال يرافقني في حلي وترحالي مع الحقيبة وكأنهما يعرفان أن القهوة الطيبة تنتظرني. الحذاء أيضًا لا يريد أن يبلى أو يتقاعد، وكأنه ينافس حقيبتي السوداء في جودة الجلود.
اشتريت المزيد من ماكينات صنع القهوة والحقائب والأحذية لاحقًا، ولم يكتب لأي منها الصمود أو الخلود! فلماذا تفاجئنا بعض المنتجات والخدمات والنظريات والمقالات والمقولات والذكريات بمثل هذا الخلود والصمود، ويذهب غيرها بسرعة ولا يعود؟ لا بد أن هناك أسبابًا لا نراها، ولكننا نستشعرها إذا ما حاولنا فهم مغزاها!
قبل نهاية عام 2012 بليلة واحدة، وفي خضم انشغال العالم بانقضاء عام وانقضاض آخر، تعرض موقعنا الأثير "إدارة.كوم" للتدمير. وقع الحادث صباح الأحد؛ يوم الثلاثين من ديسمبر حين كانت شركة "الخوادم" العالمية التي تستضيف "إدارة.كوم" في إجازاتها السنوية الموسمية. ظننا بداية أن المشكلة هينة؛ معولين على النسخة الاحتياطية التي تتولد تلقائيًا ودون تدخل مباشر ومنتظم من جانبنا. ثم فوجئنا بأن تلك النسخة أيضًا قد دمرت وصار استرجاعها مستحيلاً!
لم نوجه اتهامًا لأحد، بل وجهنا اللوم إلى أنفسنا، وصببنا كل تركيزنا على استعادة مخزوننا الإداري والعلمي الذي استثمرنا فيه الملايين خلال عشرين عامًا من الجهد والإبداع. لكن دمار "خادم" التشغيل الرئيسي، ورديفه الاحتياطي، والتوقيت باليوم والساعة، فضلاً عن انهماكنا بإعداد عددنا الخاص بمناسبة مرور عشرين عامًا على صدور خلاصات و500 عدد منها، جعلنا نضع احتمالاً قويًا بأن الدمار قد تم بفعل فاعل.
كل عملائنا الأعزاء وقرائنا الأجلاء، يعرفون "ماذا" نفعل حين نواصل نقل الفكر الإداري العالمي إلى بيئة الإدارة العربية منذ عقدين من الزمان دون كلل أو ملل. فنحن نشتري أحدث وأروع الكتب العالمية، ونشتري حقوقها، ثم نلخصها، ثم نعربها، ثم ننشرها. وبعض عملائنا وقرائنا وأصدقائنا ومنافسينا يعرفون "كيف" نفعل ذلك. ولكننا نحن فقط الذين نستشعر ونعيش ونعرف "لماذا" نكرس كل حياتنا لخدمة هذا المشروع العربي الفريد والوحيد؛ القديم.. والجديد!
هناك ثلاث دوائر شعورية تؤطر حياتنا. دائرة "ماذا" البرونزية الخارجية، ودائرة "كيف" الفضية الوسطية، ودائرة "لماذا" الداخلية الجوهرية. إذا عملت من أجل المال فقط، فلن يساعدك إلا من يبتغون أموالك، وسيتركونك فورًا لصالح من يدفع أكثر. وإذا عملت من أجل التقنية والمنافسة والمظاهر البراقة والنفخة الكذابة فقط، فسوف تفقد حماسك ويتبلد إحساسك وتتخلى أنت عن شغفك وحلمك وعلمك. فهناك من يعمل في كل شيء، ويجرب كل شيء، من أجل كل شيء، فيلمع مثل البرق، الذي سرعان ما يصمت رعده، ويتخلى عن وعده. الناس لا يشترون ما تفعله إن لم يستشعروا "لماذا" تفعله! لكي تقود وتلهم وتؤثر، يجب أن ينبع سلوكك من داخلك، حتى يدخل في ضمير الناس، ويتقمص روح العالم.
أجهزة "آبل" ليست مجرد كمبيوترات وموبايلات، بل هي مبنى ومعنى. و"جوجل" ليس مجرد محرك بحث، ففيه أيضًا روح ومعنى. و"إدارة.كوم" ليس مجرد موقع و"سيرفر" وخلاصات ومختارات ومقالات، بل له رسالة. ولأن من يطورونه ويشترونه؛ يقرؤونه ويحترمونه، ويستشعرون "لماذا" يفعلون ما يفعلونه، ولأن قيمة الأصيل تنبع من الداخل، وقيمة الجميل تُعاش ولا توصف، فإن رؤية "شعاع" ستدوم، ورسالة "إدارة.كوم" ستبقى، وها نحن نعود إليكم، لنخدمكم من الداخل، لا من "الخادم"!
نسيم الصمادي
ادارة.كوم