hassanbalam ® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11575 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2012-12-30, 8:34 am | | مى زيادة
(باحثة البادية pdf) (1920) (كلمات وإشارات pdf) (1922) (المساواة pdf) (1923) (ظلمات وأشعة pdf) (1923) ( بين الجزر والمد pdf ) ( 1924) (الصحائف pdf) (1924). سوانح فتاة pdf. كلمات و أشارات pdf . نعم ديوان الحب pdf تحميل الأعمال الكاملة لمى زيادة,جميع كتب مى زيادة pdf نسخ أصلية
https://nawasa-elbahr.yoo7.com/t8153-topic
من كتاب: بين الجزر والمدّ اليقظة
فليحي الاستقلال التام!
فلتحي الحرية!
فلتعش مصر حرة مستقلة!
فليحي الوطن!
انتبهنا يومًا على وقع هذه الأهازيج غير المألوفة التي سرعان ما اهتدت إلى مصبّها في القلوب, كالماء يفيض فيتدفق على منحدر هُيئ له منذ أجل مديد.
الأفواج, أفواج المتظاهرين, تتقاطر من كل صوب. والأعلام التي طال عليها العهدُ في الحقائب تخفق فوق الرؤوس خفوق الألوية المنتصرة. وهتاف المئات والألوف ينتظم متجمعًا في نبرة واحدة وقياس واحد, كأنه من صوتٍ واحد ينطلق. والأصداء الشائعة يصدمها هنا وهناك ترجيعُ المواكب الجائبة أنحاء المدينة في هرج وتهليل. والجوّ يدوي بارتطام الأصوات, وقرع الطبول, وعزف الآلات, وزغردة النساء بين الهتاف والتصفيق.
وتمشت روحُ النشوة إلى الضيف والنزيل فأذابت ما بين الأجناس والشعوب والمذاهب من جليد, وألغت حاسة التفرق وسوءِ التفاهم ضامَّة النفوس كما في اعتناق من التعاطف وحسن الوئام.
لمن يهتف الأجانب? وأي الألوية ينشرون? وعلام تنثر أياديهم الرياحين وفرائد العطور?
أتراهم يحتفون بعيد الوطنية الشاملة لظهور طلائع الوطنية عند شعب يستفيق فتحييه حتى جنودُ الإنجليز وضباطهم بالإشارة والتلويح, ويُحييه الجميع بالأصوات والألوان والأزهار?
نعم. في ذلك اليوم من أواسط شهر مارس سنة 1919 وقد عبق الهواءُ ببشائر الربيع, ونوَّرت البراعم الزهية على الغصون, وسَرت في الأجساد نفحة التجديد كرسول من حياة الأرواح, في ذلك اليوم الغني بتنبهِ الأرض بعد هجود الشتاءِ استيقظت أمة الوادي الجاثم بين البحر والصحراءِ.
استيقظت الأمة وهتفتْ. فإذا في صوتها غضبة الأسود, ومفاداة الأبطال, وعزم الرجال, ومرح الأطفال, وحنو النساء, وصدق الشهام.
***
وتصرَّمت أيام الفرح والهناء بعد أيام الاحتجاج والمطالبة, فسارت الجماهير وراء نعوش الموتى.
سارت كاسفة لدى زوال صور الحياة, متهيبة حيال جلال الموت. لا إن العاطفة المستجدَّة ظلت تجيش وتطمي حينًا بعد حين. وبصوت المفجوع الذي تزكى منه التضحيةُ الحمية, تهتف الجماهير وراء الإعلام المنكسة:
فليحى الوطن!
فلتحى مصر!
فليحى ذكر شهداء الحرية!
يا للرعشة العجيبة تعرو النفس لنداء الحماسة والاستبسال! إن القلب عنده جازعٌ والطرف دامع, أمام مشاهد الفوز ووراء نعوش الضحايا على السواء.
وكأني خلال الألفاظ المتكررة في الفضاء المجوف, سمعتُ مصر الفتاة تقول:
لقد كنتَ, أيها القطر, مسرحًا خاليًا منذ أجل طويل,
مسرحًا زيناته هذه السماءُ الزرقاء وهذه الصحراءُ العفراء وهذا الليل الناعم السحيق المغري إلى تلمس الأسرار, وهذه الشمس المشرقة أبدًا كمجد لا ينقضي.
- كلّك, يا هذه الأجواء والمروج والبقايا والأمواه, إنما كنتِ مسرحًا خاليًا ينتظر.
لقد مللتِ شلال الذراري المتلاحقة في ربوعك صامتة خانعة تجهل اسم الأمل والقنوط.
وانتظرتِ طويلاً طويلاً, انتظرت صوتًا يليق بعلواء تاريخكِ العظيم.
وها قد آن الأوان فهببتُ فاسمعي!
اسمعي صوتي يخاطب الرعاة بين النخيل, والكهان في الهياكل, والفراعنة والبطالمة في البلاطات والقصور.
يخاطب الغزاة والفاتحين من عتاة العهد القديم والعهد الجديد,
قائلاً إن كل ما حلّ بي من نكبات وعلل أخرسني حيناً ولكنه لم ينل من حيويتي!
لقد استيقظتُ, أيتها الأمم, استيقظ الشعبُ الصريع المستعبد!
استيقظ وأرسل كلمته الأولى:
كلمةً أسنى من الربيع, وأبقى من الارض, ترنّ في قلبي فأزيد وثوقًا بما أريد وأبتغي.
كلمة هي تتمة للماضي, وعهد للمستقبل. كلمة هي المنبه, والغاية, والوسيلة.
كلمة عميقة رحيبة كالحياة: الحرية!
- عرفت أوروبا العرب بفتوحاتهم الواسعة. ولم تكن لتصدق في بادئ الأمر أن سكان البادية يحسنون شيئًا غير النهب والسلب والتخريب. على أنها ألفَت مع الزمن وجودهم في الأندلس. ولما أن رأت أسبانيا مستمتعة بعيشٍ رغيد في أمان وسلام, أرغم أهلها على الإقرار بأن العرب بارعون في فنون السلم كما أنهم متفوقون في فنون الحرب. وما تأسست جامعة قرطبة العظيمة وطارت شهرتها إلى ما وراء جبال البرنات, حتى توارد علماء الفرنجة يطلبون العلم على علماء المسلمين.
- ومعلوم أن أوروبا مدينة للعرب بكتب جمة نقلها اليهود من العربية إلى العبرية ثم ترجمت إلى اللاتينية ومنها إلى اللغات الأوروبية الحديثة. كما أن فلسفة أرسطو لم تصل إلى علماء القرون الوسطي إِلاّ عن طريق العرب وبعد تراجم أربع: من اليونانية إِلي السريانية, فالعربية, فالعبرانية, فاللاتينية.
وقد نشر الأستاذ سلامة موسى في جريدة (البلاغ) المصرية مقالاً عن (العلوم والحضارة, ونصيب العرب فيها) نقلاً عن مجلة (كونكست) الإنجليزية, جاءَ فيه: (إن العلم الحقيقي دخل أوروبا عن طريق العرب لا عن طريق الإغريق, فقد كان الرومان أمة حربية وكان الإغريق أمة ذهنية; أما العرب فكانوا أمة علمية.
(فإنهم غزوا ممالك الشرق مثل الهند وفارس وبابل, وتعلموا منها كلَّ ما استطاعت هذه البلاد أن تقدمه لهم. ولم يقتصر علمهم على الصنائع اليدوية مثل النسج والدباغة والصباغة التي اشتهر بها الشرق. ولكنهم تعلموا أيضًا جميع ما يمكن تعلمه من الهندسة والطب والميكانيكيات.
(وقد أحرق البطريرك كيرلس مكتبة الإسكندرية في القرن الخامس, فهجر آلاف من العلماء تلك المدينة إلى فارس واستوطنوها. فلما ظهر العرب عادوا فجمعوا تلك المعارف المشتتة, بل أضافوا إِليها).
(ثم انتشروا في الغرب, وجازوا البحر إلى أسبانيا حيث لا يزال شاهداً على عبقريتهم مسجدا قرطبة والحمراء. وقد كان سكان مدينة قرطبة يزيدون عن المليون في القرن الثالث عشر. وكانت شوارعها مبلطة ومضاءَة. وكان فيها ما لا يحصى من الحمّامات. وكان فيها نحو مائة مستشفى عمومي. ولعل القارئ يدرك قيمة ذلك إذا عرف أن شوارع باريس لم يوضع عليها البلاط إِلا في ختام القرن الخامس عشر ولم يكن في لندن في نصف القرن السادس عشر مصباح واحد في شوارعها. أما الحمامات والمستشفيات فلم تعرفهما هاتان المدينتان إِلا بعد قرون.
(فنحن مدينون للعرب باستكشافاتهم العلمية أكثر مما نحن مدينون لهم بثقافتهم أو فنونهم. فهم روَّاد الزراعة العلمية والتربية العلمية للدواجن. وقد زادوا معلوماتنا عن الكيمياء ونواميس البصر, وعرفوا حمض الكبريت وحمض النيترات. وهم الذين علمونا الحساب والجبر وأضافوا الصفر إلى الأعداد الهندية التسعة. وكان الناس قبلاً يعتمدون على الهندسة في تقديراتهم, فاخترعوا الحساب الأعشاري. وكان علماء العرب يعتمدون على المشاهدة في أبحاثهم بخلاف الإغريق فإِنهم كانوا يعتمدون على الفلسفة. ولكن العلم لا يرقى إلاّ بالمشاهدة والتجارب. وقد استعمل العرب المغناطيس كما أنهم استخدموا البوصلة في الملاحة) اهـ.
كذلك أدَّى العرب إِلي الإنسانية ما على الأمم الكبيرة من واجب النفع والإفادة. انتشرت لغتهم وحضارتهم أيما انتشار فكانوا صلة أمينة, صلة خير وضياءٍ بين العصور الخالية والقرون الحديثة. ولما هبط الصليبيون الشرق عادوا إِلي بلادهم يحملون بعض أنظمة العرب التي اطلعوا عليها في رحلتهم. فاقتبسلها الأوروبيون وقدروها قدرها. وعلى ذلك الأساس العربي المتين أقامت أوروبا صرح مدنيتها الحديثة
من كتاب (بين الجزر والمد), 1924
من كتاب: كلمات وإشارات. الإخاء
إنّ كلمة الإخاء التي ينادي بها دعاة الإنسانية في عصرنا, ليست ابنة اليوم فحسبُ, بل هي ابنة جميع العصور, وقد برزت إلى الوجود منذ شعر الإنسان بأنّ بينه وبين الآخرين اشتراكًا في فكرة أو عاطفة أو منفعة, وبأنهم يشبهونه رغبات واحتياجات وميولاً. يجب أنْ يتألم المرء ليدرك عذوبة الحنان, يجب أنْ يحتاج إلى الآخرين ليعلم كم يحتاج غيره إليه, يجب أنْ يرى حقوقه مهضومة يُزدري بها ليفهم أنّ حقوق الغير مقدسة يجب احترامها, يجب أنْ يرى نفسه وحيدًا, ملتاعًا, دامى الجراح ليعرف نفسه أولاً ثم يعرف غيره, فيستخرج من هذا التعارف العميق معنى التعاون والتعاضد. كذلك ارتقى معنى الإخاء بارتقاء الإنسان.
فى جمعيات سرية وعلنية, في جمعيات علمية وفلسفية ودينية وروحانية استُعملت كلمة الإخاء بين الإنسان والإنسان قرونًا طوالاً, حتى جاءت الثورة الفرنساوية تهدم أسوار العبودية بهدم جدران الباستيل, وتعلن حقوق الإنسان مستخلصة من بين الأخربة والدماء والجماجم, كلمات ثلاثًا هنَّ شعار العالم الراقي: حريةٌ, مساواة, إخاءٌ.
حرية, مساواة: كلمتان جميلتان يخفق لهما قلبُ كل محب للإنسانية, لكن - لا بدَّ لكل شيءٍ من (لكن) - هل كان تحقيقهما في استطاعة البشر? ما أضيق معنى الحرية إذا ذكرنا أنّ مجموعة الكائنات تكوّن وحدة العالم, وأنّ على كلٍّ منها أنْ يصل إلى درجة معينة من النمو مشتركًا مع بقية الكائنات في إكمال النظام الشامل. وفي وسط هذا النظام القاهر نرى الإنسان وحدهُ متصرفًا في أفعالهِ بشرط أنْ يخضع للقوانين المحيطة به والنافذة فيه. هو حرٌّ بشرط أنْ تنتهي حريته حيث تبتدئ حرية جاره, وبشرط أنْ يعلم أنه حيثما وجَّه أنظاره وأفكاره وجد نظامًا معينًا; وأنّ حريته, كلَّ حريتهِ, قائمة في اختيار السير مع ذلك النظام أو ضده, واستعماله للخير أو الشر, للربح أو الخسران. فما أكثرها شروطًا تقيد هذه الحرية التي تندكُّ لأجلها العروش وتتطاحن الأمم للحصول عليها!
أما المساواة فحلمٌ جميل ليس غير. لأن الطبيعة في نشوئها التدريجى لا تعرف إلاّ الاختلاف والتفاوت. أين المساواة بين النشيط من البشر والكسول, بين صحيح البنية والعليل وراثة, بين الذكي وغير الذكي, بين الصالح والشرير? كلا, ليست المساواة بالأمر الميسور, بل هي معاكسة لنظام حيوي إذا غولب كان غالبًا قاهرًا.
كلمة واحدة, تجمع بين حروفها الحرية والمساواة, وجميع المعاني السامية والعواطف الشريفة. كلمة واحدة تدلّ على أنّ البشر إِذا اختلفوا في بشريتهم اختلافًا مبينًا فهم واحد في الجوهر, واحد في البداية والنهاية. كلمة واحدة هي بلْسم القروح الاجتماعية ودواء العِلل الإنسانية, وتلك الكلمة هي الإخاء. لو أدرك البشر أخوَّتهم لما رأينا الشعوب مشتبكات بحروب هائلة صرعت فيها زهرة الشبيبة, وما زالت الدماء جارية في القارات الأربع وما يظللها من سماء ويتخللها من ماء. لو أدرك البشر أخوَّتهم لما وجدنا في التاريخ بقعًا سوداء تقف عندها نفوسنا حيارى. لو أدرك البشر أخوَّتهم لما رأينا المطامع تدفع الأمم القوية إلى استعباد الأمم الضعيفة. لو أدرك البشر أخوَّتهم لما سمعنا في اجتماعاتنا كلمات جارحات يجازف بها كلٌّ في حق أخيه, وهي من أركان أحاديث صالوناتنا الجميلة. ولكن لننزلنَّ قليلاً إِلي ما هو تحت السياسة والتاريخ والصالونات, لننزلنَّ إلى مهبط الشعب حيث الشقاء مخيم, واليأس مستديم.
يتفجر ينبوع النهر في أعالي الجبال, فيهرول مقهقهًا على الصخور, حتى إذا ما حشر وسط الشواجن الخضراء ملأ الوادي ألحانًا وأنغامًا. يجري في الصحاري والقفار فتنقلب القفار والصحاري مروجًا خصيبة وجنات زاهرة. يسير في البادية والحضر على السواء فيروي سكان المدينة وأهل القرية بلا تفريق بين الشريف والحقير. يرضع الأشجار بتغلغله في صدر الأرض الملتهب, ويغذي الأثمار والنبات ناظمًا لآلىء في ثغور الورود. وكلما وزع من مياههِ زادت مياههُ اتساعًا وتدفقًا, فيتابع السير بعقيقه الفخم واسع العظمة رحب الجلال, حتى إذا ما جلب النفع على الكائنات, وملأ الديار خيرًا وثروة وجمالاً, رأي البحر منبسطًا لاحتضانه, فشهق الشهيق الأخير, وانصبّ في صدر البحر مهللاً مكبرًا. كذلك عاطفة الأُخوَّة لا تكون أخوَّة حقيقية إلاّ إذا خرجت من حيز الشعور إلى حيز العمل, تنفجر عذوبتها على ذرى الاجتماع, وتجري نهرًا كريمًا بين طبقات المجتمع, فتلقي بين المتناظرين سلامًا, وبين المتدينين تساهلاً, وتنقش محامد الناس على النحاس; أما العيوب فتخطّها على صفحة الماء. تساعد المحتاج ما استطاعت بلا تفريق بين المحمدي والعيسوي والموسوي والدهري. ترفع المسكين من بؤس الفاقة, وتنشر على الجاهل أشعة العلم والعرفان, وتفتح أبواب الرجاء لعيونٍ أظلمتها أحزان الليالي. فكم من درةٍ في أعماق البحر لم تُسَرَّ بها النواظر لأن يد الغوَّاص لم تصل إليها! وكم من زهرة نوَّرت في الفقر, فتبدد عطرها جزافًا في الهواء! إنما الإخاء يزيح بيده الشفيقة الشوك عن الزهرة المتروكة, ويرفع لها جدرانًا تقيها ريح السموم الفتاك. هو العين المحبة التي ينفذ نظرها إلى أعماق النفس فتري أوجاعها, وهو الهمة العاملة لخير الجميع بثقة وسرور, لأنه القلب الرحيم الخافق مع قلب الإنسانية الواجف.
الإخاء! لو كان لي ألف لسان لما عييتُ من ترديد هذه الكلمة التي تغذت بها الضمائر الحرة, وانفتحت لها قلوب المخلصين. هي أبدع كلمة وجدت في معاجم اللغات, وأعذب لفظة تحركت بها شفاه البشر. هو اللِّين والرفق والسماح, كما أنه الحِلم والحكمة والسلام. لو كان لي ألف لسان لظللت أنادي بها (الإخاء! الإخاء!) حتى تجبر القلوب الكسيرة, حتى تجف الدموع في العيون الباكية, حتى يصير الذليل عزيزًا, حتى يختلط رنين الأجراس بنغمات المؤذنين, فتصعد نحو الآفاق أصوات الحب الأخويّ الدائم
من كتاب (كلمات وإشارات), 1922
عام سعيد
عام سعيد
كلمة يتبادلها الناس في هذه الأيام ولا يضنّون بها إلاّ على المتشح بأثواب الحداد, فإِذا ما قابلوه جمدت البسمة على شفاههم وصافحوه صامتين كأنما هم يحاولون طلاء وجوههم بلونٍ معنويٍّ قاتم كلون أثوابه.
ما أكثرها عادات تقيِّدنا في جميع الأحوال فتجعلنا من المهد إلى اللحد عبيدًا! نتمرّدُ عليها ثم ننفِّذ أحكامها مرغمين, ويصح لكل أن يطرح على نفسه هذا السؤال: (أتكون هذه الحياة (حياتي) حقيقة وأنا فيها خاضع لعادات واصطلاحات أسخر بها في خلوتي, ويمجُّها ذوقي, وينبذها منطقي, ثم أعود فأتمشى على نصوصها أمام البشر)?
يبتلى امرؤٌ بفقد عزيز فيعين لهُ الاصطلاح من أثوابه اللون والقماش والتفصيل والطول والعرض والأزرار فلا يتبرنط, ولا يتزيا, ولا ينتعل, ولا يتحرك, ولا يبكي إِلاّ بموجب مشيئة بيئته المسجلة في لوائح الحداد الوهمية, كأنما هو قاصر عن إِيجاد حداد خاص يظهر فيه - أو لا يظهر - حزنه الصادق المنبثق من أعماق فؤاده.
إِذا خرج المحزون من بيته فلا زيارات ولا نُزَه ولا هو يلتقي بغير الحزانى أمثاله. عليه أن يتحاشى كل مكان لا تخيِّم عليه رهبة الموت; المعابد والمدافن كعبة غدواته وروحاته يتأممها وعلى وجهه علامات اليأس والمرارة.
وأما في داخل منزله فلا استقبالات رسمية, ولا اجتماعات سرور, ولا أحاديث إِيناس. الأزهار تختفي حوله وخضرة النبات تذبل على شرفته, وآلات الطرب تفقد فجأة موهبة النطق الموسيقي; حتى البيانو أو الأرغن لا يجوز لمسه إِلاّ للدرس الجدي أو لتوقيع ألحان مدرسية وكنسية - على شريطة أن يكون الموقّّع وحده لا يحضر مجلسه هذا أحد. أما القرطاس فيمسى مخططًا طولاً وعرضًا بخطوط سوداء يجفل القلب لمرآها.
كانت هذه الاصطلاحات بالأمس على غير ما هي اليوم, وقد لا يبقى منها شيء بعد مرور أعوام, ولكن الناس يتبعونها الآن صاغرين لأن العادة أقوى الأقوياء وأظلم المستبدين.
إن المحزون أحق الناس بالتعزية والسلوى; لسمعهِ يجبُ أن تهمس الموسيقى بأعذب الألحان, وعليه أن يكثر من التنزه لا لينسى حزنه فالحزن مهذب لا مثيل له في نفسٍ تحسنُ استرشاده, وإِنما ليذكر أن في الحياة أمورًا أخرى غير الحزن والقنوط.
ألا رُبَّ قائلٍ يقول إن المحزون من طبعه لا يميل إِلي غير الألوان القاتمة والمظاهر الكئيبة, إِذن دعوه وشأنه! دعوه يلبس ما يشاء ويفعل ما يختار! دعوا النفس تحرّك جناحيها وتقول كلمتها! فللنفس معرفة باللائق والمناسب تفوق بنود اللائحة الاتفاقية حصافة وحكمةً.
بل أرى أن أخبار الأفراح التي يطنطن بها الناس كالنواقيس, ومظاهر الحداد التي ينشرونها كالأعلام, إنما هي بقايا همجية قديمة من نوع تلك العادة التي تقضي بحرق المرأة الهندية حيةً قرب جثة زوجها. وإِني لعلى يقينٍ من أنه سيجىءُ يومٌ فيه يصير الناس أتم أدبًا من أن يقلقوا الآفاق بطبول مواكب الأعراس والجنازات, وأسلم ذوقًا من أن يحدثوا الأرض وساكنيها أنه جرى لأحدهم ما يجري لعباد الله أجمعين من ولادةٍ وزواجٍ ووفاة.
وتمهيدًا لذلك اليوم الآتي أحيِّي الآن كلَّ متشّحٍ بالسواد; أما السعداء فلهم من نعيمهم ما يغنيهم عن السلامات والتحيات.
أحيِّي الذين يبكون بعيونهم, وأولئك الذين يبكون بقلوبهم: أحيِّي كلَّ حزين, وكل منفردٍ, وكل بائسٍ, وكل كئيب. أحيِّي كلاًّ منهم متمنية له عامًا مقبلاً أقلَّ حزنًا وأوفر هناء من العام المنصرم.
نعم, للحزين وحده يجب أن يقال: (عام سعيد)!
من كتاب (سوانح فتاة), 1922
نبذة حول الأديبة: ميّ زيادة وصور مى زيادة اسمها: ماري إلياس زيادة ، واختارت لنفسها اسم مي فيما بعد.
مولدها ونشأتها : فلسطينيةٌ ولدت في الناصرة عام 1886 م . وهي ابنة وحيدة من أهل كسروان، لأب من لبنان وأم سورية الأصل فلسطينية المولد.
تعليمها : تلقت الطفلة دراستها الابتدائية في الناصرة, والثانوية في عينطورة بلبنان. وفي العام 1907, انتقلت ميّ مع أسرتها للإقامة في القاهرة. وهناك, عملت بتدريس اللغتين الفرنسية والإنكليزية, وتابعت دراستها للألمانية والإسبانية والإيطالية. وفي الوقت ذاته, عكفت على إتقان اللغة العربية وتجويد التعبير بها. وفيما بعد, تابعت ميّ دراسات في الأدب العربي والتاريخ الإسلامي والفلسفة في جامعة القاهرة.
محطات : - فى القاهرة, خالطت ميّ الكتاب والصحفيين, وأخذ نجمها يتألق كاتبة مقال اجتماعي وأدبي ونقدي, وباحثة وخطيبة. وأسست ميّ ندوة أسبوعية عرفت باسم (ندوة الثلاثاء), جمعت فيها - لعشرين عامًا - صفوة من كتاب العصر وشعرائه, كان من أبرزهم: أحمد لطفي السيد, مصطفى عبدالرازق, عباس العقاد, طه حسين, شبلي شميل, يعقوب صروف, أنطون الجميل, مصطفى صادق الرافعي, خليل مطران, إسماعيل صبري, و أحمد شوقي. وقد أحبّ أغلب هؤلاء الأعلام ميّ حبًّا روحيًّا ألهم بعضهم روائع من كتاباته. أما قلب ميّ زيادة, فقد ظل مأخوذًا طوال حياتها بجبران خليل جبران وحده, رغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة. ودامت المراسلات بينهما لعشرين عامًا: من 1911 وحتى وفاة جبران بنيويورك عام 1931.
- نشرت ميّ مقالات وأبحاثا في كبريات الصحف والمجلات المصرية, مثل: (المقطم), (الأهرام), (الزهور), (المحروسة), (الهلال), و(المقتطف). أما الكتب, فقد كان باكورة إنتاجها العام 1911 ديوان شعر كتبته باللغة الفرنسية و أول أعمالها بالفرنسية اسمها أزاهير حلم ظهرت عام 1911 و كانت توقع باسم ايزس كوبيا, ثم صدرت لها ثلاث روايات نقلتها إلى العربية من اللغات الألمانية والفرنسية والإنكليزية. وفيما بعد صدر لها: (باحثة البادية) (1920), (كلمات وإشارات) (1922), (المساواة) (1923), (ظلمات وأشعة) (1923), ( بين الجزر والمد ) ( 1924), و(الصحائف) (1924). وفى أعقاب رحيل والديها ووفاة جبران تعرضت ميّ زيادة لمحنة عام 1938, إذ حيكت ضدها مؤامرة دنيئة, وأوقعت إحدى المحاكم عليها الحجْر, وأودعت مصحة الأمراض العقلية ببيروت. وهبّ المفكر اللبناني أمين الريحاني وشخصيات عربية كبيرة إلى إنقاذها, ورفع الحجْر عنها.
- سافرت في عام 1932 إلى إنجلترا أملاً في أن تغيير المكان والجو الذي تعيش فيه ربما يخفف قليلاً من آلامها .. لكن حتى السفر لم يكن الدواء .. فقد عادت إلى مصر ثم سافرت مرة ثانية إلى إيطاليا لتتابع محاضرات في جامعة بروجية عن آثار اللغة الإيطالية .. ثم عادت إلى مصر .. وبعدها بقليل سافرت مرة أخرى إلى روما ثم عادت إلى مصر حيث استسلمت لأحزانها .. ورفعت الراية البيضاء لتعلن أنها في حالة نفسية صعبة .. وأنها في حاجة إلى من يقف جانبها ويسندها حتى تتماسك من جديد .
من آرائها : - على سبيل المثال فقد أعطت مي زيادة الزواج مفهوم آخر جديد هو العبودية كما قالت في كتابها: (يرمز المصورون إلى العبودية برسم رجل بائس رسف في قيوده ولو انصفوا ما كان غير المرأة رمزاً. الرجل عبد مرة وهي عبدت مرات. قيمة الرجل في استقلاله وطموحهُ المرأة إن هي أبدت ميلاً إلى الانعتاق من الأوهام القديمة والعادات المتحجرة نظر إليها كفرد شاذ أو كخيال في دوائر الرؤيا. لأنهم اعتادوا استعبادها ليس بالجور والتعذيب بل باللطف والتدليل والتحبب، وهؤلاء هن اللواتي بعد أن يشترين بالمال والحلي والتملق وقد عنى سكوتهن قبولاً ينير العبودية والرضى عنه.-
كانت ميّ تؤيد المرأة وتطالب بحقوقها، فقد انضمت إلى الحركة النسائية التي كانت ترأسها هدى شعراوي، وكذلك اشتركت في الاجتماعات التي كانت تعقدها في الجامعة المصرية القديمة. وكتبت ميّ عن شهيرات النساء في عصرها مثل باحثة البادية وعائشة التيمورية. وطالبت بإنصاف المرأة؛ إلى جانب ذلك طالبت المرأة أن تتحرّ، على أن لا تخرج عن حدود المعقول والمقبول، بل يكون تحررها على أساس العلم والتحفظ. وترى ميّ أن يكون موقف المرأة من الرجل، والرجل من المرأة موقف انسجام مع الطبيعة والنفسيّة، في غير تطرف ولا تفريط. 8
عالجت ميّ زيادة موضوع الحكم في كتابها "المساواة" نثرت آراءها هنا وهناك من شتّى أبحاثها. ودعماَ لموقفها في كتابها فقد استعرضت الأنواع المختلفة من التيارات والنظريات مثل الطبقيّة والأرستقراطية والعبودية وغيرها. فمثلاَ عن العبودية والرّق استعرضت مراحلها عبر التاريخ، وبينت العوامل التي عملت على إلغاء ضروب العبوديّة وتدعيم قواعد التحرير؛ وهي ترى أن هذه العبودية ما زالت تلاحق الإنسانية بصورٍ مختلفة وأساليب شتّى.
ما قاله النقاد : - قالت السيدة هدى شعراوي في حفل تأبين ميّ: "كانت مي المثل الأعلى للفتاة الشرقية المثقفة " .
- وقال فيها شيخ فلاسفة العرب في العصر الحديث مصطفى عبد الرازق :" أديبة جيل ، كتبت في الجرائد والمجلات ، وألفت الكتب والرسائل ، و ألقت الخطب و المحاضرات ، وجاش صدرها بالشعر أحيانا ، وكانت نصيرة ممتازة للأدب تعقد للأدباء في دارها مجلسا أسبوعيا ، لا لغو فيه ولا تأثيم ولكن حديث مفيد وسمر حلو وحوار تتبادل فيه الآراء في غير جدل ولا مراء " .
- أما الشاعر شفيق المعلوف شقيق شاعر الطيارة فوزي المعلوف فقد قال عن الآنسة مي : بنت الجبــــــال ربيبة الهرم هيهات يجهل اسمها حي لم نلق ســــحرا سال من قلم إلا هـــتفنــا هــذه مــــي
- قالت جوليا دمشقيّة: "لم أرَ في حياتي خطيباَ اشرأبّت إليه الأعناق، وشخصت إليه الأحداق كميّ، فكانت، وهي تخطب، كأنَّ أجفان سامعيها مشدودة إليها بالأهداب، وما ذلك إلا لأنّه اجتمع في الخطيبة أهم مقومات الخطابة".
مؤلفاتها :
( من أشهر أعمالها) (باحثة البادية) (1920) (كلمات وإشارات) (1922) (المساواة) (1923) (ظلمات وأشعة) (1923) ( بين الجزر والمد ) ( 1924) (الصحائف) (1924). سوانح فتاة . كلمات و أشارات . نعم ديوان الحب رد مع الاستدلال
-ما كُتب عنها : 1) "ميّ في حياتها المضطربة" لجميل جبر. 2) "حياة ميّ" لمحمد عبد الغني حسن. 3) "محاضرات عن ميّ مع رائدات النهضة النسائية الحديثة ، للدكتور منصور فهمي ".
وفاتها : توفيت في القاهرة في 17 /10/ 1941 م.
_________________ حسن بلم | |
| |