ضاحية
المناوبُ الذي نصحَها
بإجراءِ رسمٍ على المخِّ،
هزّتْه شهقتُها،
فهدّأَ الرّوعَ كاذباً:
إنها مجردُ « تتْش »
ستزولُ بعد قطرتيْنِ ورديتيْنِ
تحتَ اللسان.
وحينما انطلقتْ تنهبُ الأرضَ
في سديم الضاحية،
رنَّ في قاعِها صوتُ أخيها
حين حدّثها عن جاره الذي
ضربَ الشللُ نصفَه الأيمنَ،
بعد أن أدّي صلاةَ الفجر،
فهمهمتْ لنفسها:
لكن اللهَ
حبيبُ الشعراء.
ريشـــة
كانت قَصَبةُ السّاقِ
طائرةً في الفراغ،
وعضلاتُ الذراعِ مفكوكةً
تتخبّطُ بين الدولابِ والحائط،
لكن جسدَ سيّدةِ النبعِ
ظل ملفوفاً بملابس الإحرام،
بينما ظَهرُها منشورٌ
كجنود المظلات.
تساءلَ الفتي:
الكفُّ التي باتت تُمسِّدُ بَجَعَةً،
كيف ضّلتْ مسارَها
إلى النقطةِ العمياءِ
بين بصيرتين؟
والقدمُ التي دبّتْ طوالَ عامين
من ميدان الرمايةِ
إلى التجمّعِ الخامس،
كيف لانتْ فلا تقوي على السعي
بين سجادةٍ ومخدّةٍ؟
واللسانُ الذي قضي الليلَ كلَّه
يقيس حوضَ أنثاه
بكميّة المسامِ بين عَظْمةٍ وعَظْمةٍ،
كيف التوي
فلا يجيدُ الفصلَ بين الكافِ والنون؟
أيها الأخوةُ:
الريشةُ استقّرتْ في الفَصّ.
أيها الأخوةُ:
هذه تطوّحاتُ حَلاَّجينَ.
أيها الأخوةُ:
مرّتْ سحابة.
زيــارة
كيف لم أنتبه إلى أن زائرةً
حطّتْ رحالها بعد وعثاءِ السَّفر؟
رغم أنني عاينتُ
كيف لم تقُمْ ساقُ زاهية
بنقلها من قاعة الخزين
إلى حظيرة البهائم،
ومسحتُ قيأها الفيّاضَ فوق الكليم،
(مثلما فعلتْ سيدةٌ معاصرةٌ
مع القيء الحديث).
نعم، عَزَوتُ تيبُّسَ ساقِه
إلى كثافةِ الطرقات
نعم، عَزَوتُ سيلولةَ العضُد
إلى مَغبّةِ قطفِ خوخةٍ
من شجرة المؤذِّن،
نعم، عزوتُ انبعاجةَ الصوت
إلى شهوةِ أن تكونَ دوبليراً
ليمامةٍ.
مع أن الصيدلانيةَ الشّابةَ
شدّدتْ مراراً على فحص قاعِ العين،
والسيدةَ المعاصرةَ
أكلتْ شفتيْها حينما اهتزَّ في يدي القَدَحُ،
ورتلتْ لي على جبلٍ:
«يا ليلُ، الّصبُّ متى غدُه
ينزفُ عبدٌ في السّفحِ،
وفي السِّدرة ينزفُ سيّدُه
يشقي المحبوبُ ببسمةِ عاشقِه
لكن المحنةَ تسعده».
فكيف لم ألقطْ الإشاراتِ الإلهيةَ؟:
لمعةَ السّمانةِ، اصفرارَ البؤبؤ،
تعسيلةَ الرّنجة، الغُصَّةَ المفاجئةَ في
الأهالي، تهافتَ الرسغ
بعد سطرين من مقالة «كاتم الصوت».
هل كان يلزمني أبو حيان التوحيدي نفسُه
لكي أنتبه
إلى أن زائرةً
حطّتْ رحالها بعد وعثاءِ السَّفر؟
وأنا الذي قلتُ:
«ليتَ أمي راقبتْ
ميزانَ سُكرَّها المطفَّفِ في الدماء،
ولم تضئْ».
الأشـــعة
مربوطاً إلى السّرير الحديدي
دفعَه النوبتجي إلى قفصٍ مظلمٍ،
النوبتجي الذي صوّبَ العدساتِ
على مؤخرةِ يسارِ الجمجمة،
وضغطَ على الزِّر:
جاءت حدوتة مصرية، والراهب، ويوسف شاهين، وتجار الموالح، وكل هذا الجاز، ومدرسة عبد المنعم رياض، وسجن العبدلي، وصنع الطائرات الورقية، ونشأ وترعرع، والقنابلُ المضيئة، وسُرّةُ سيدة النبع، ونزيفُ زاهية، وعبس وتوّلي، ومسلسلُ الأيام، وقوارب الزناتي للصيّد في السحر، ونسوة يرتجلن عدودة حول ناعورةٍ، وجثة سامي المليجي في الرَّياح المنوفي، ومعتقلُ القلعة، وساهمُ الطرف كأحلام المساء، وإضاءة 77، وبقراتٌ طائراتٌ على أطراف الكازوارينا، ورعبُ المترجمات من المسحراتي، وكتاب النبي، ودفنُ عبد الغني سالم.
وحينما خرجَ من القفص،
لم يستطع أن يسأل:
هل هذا الفصُّ هو المسئولُ عن الشِّعر،
أم عن العواطف؟
لو أنه المسئولُ عن الشعر
فنداؤه للشعراء الجُدد:
الاعتناءُ بضمير الغائب،
ولو أنه المسئولُ عن العواطف
فنداؤه للجميلات:
أن يستجبنَ إذا تمَّني العاشقونَ
تمريرَ الأصابع بين الصّفا والمروة.
أيها الحكيمُ النوبتجي:
خذْ شريحةً من السيرة الذاتية،
وشريحةً من الذاكرة،
وشريحةً من آلة الفهم،
وأعطِ الشرائحَ كلَّها
للسّيدةِ التي تبكي في البهو
وبلِّغْها السلامْ.
صلاح منصور
كنتُ أتأملهِ
وهو يجرُّ نصفَه الميِّتَ
بنصفِه الحي،
كي يصلَ إلى بندقيةٍ على الحائط،
وأهتف: يا له من مشلولٍ صميم!
تمنيتُ في صباي أن أكون ممثلاً
يجسِّد الشخصيات المركبّات،
لكنني لم أتوقع تفوُّقي لهذا الحدِّ
على سادة التقمص.
ذلك أن صلاح منصور
بعد انتهاء الكلاكيت،
ارتدي بدلتَه النظيفةَ البيضاء
وقاد سيارتَه إلى المهندسين،
بينما ظللتُ أجرُّ نصفَي الميِّتَ
بنصفي الحي،
كي أصلَ إلى حَبَّةِ الأرز التي
بعثرتْها الأناملُ،
وفوق الأريكة انثناءُ سعاد حسني
وهي تصُّب الماءَ على يدي،
بينما عيناي مغروزتانِ
في منبت الثديين.
يا صلاح منصور:
أيُّنا المقلِّدُ،
وأيُّنا الأصْلُ؟
الـــدرس
ضعي القطَّ النُّحاسي
بجوار راقصةِ الباليه
فهما شقيقان،
وتأمّلي نصفَ وجهي
وهو ينوء بالفالج.
كَفْلُكِ حَاضرٌ في الدنيا كَدَرسٍ،
فحدِّقي في السنواتِ الثلاثِ العصيباتِ،
إذ ليس من خدعةٍ تنتهي
بسحابةٍ في الدماغ.
ضعي القطَّ بجوار الراقصةِ
لتنهضي من كبوةِ الشاشَاتِ،
وتشرحي لرّوادِ ندوة الزيتون،
كيف كانت تمسيدةُ النهد
عند انطلاق الصواريخِ على النجَّفِ،
جزءاً من ثأر الله،
وفصلاً من رأفة الطبيعة
بالمجذومين.
كَفْلُكِ حاضرٌ في الدنيا كَدرسٍ،
من حيث كونِه أطروحةً للرَّبِّ،
إذ ليس من خدعةٍ تنتهي
بتخشُّب السّاقِ،
لأنني الذي دفعتُ سيّارةً
بيدٍ مشلولةٍ،
بينما تطوفُ بي حاملاتُ القرابينِ
مرِّجعاتٍ شيدَ البَدَن:
« كنتُ أقولُ لسُرَّتها: هيتِ،
تقول السُّرَّةُ حيناً: هيّا،
وتقول السُّرَّةُ أحياناً: هيهاتْ
ينده شِلوٌ شلوًاً
فتطلُّ من الثوب سلالةُ ندّاهاتْ
في الحضرة يهمس شعبٌ أنثي:
واهاً،
فيكثِّرُها شعبٌ ذَكَرٌ:
واهاتْ».
ضعي القطَّ بجوار راقصةِ الباليه،
فأنا أعمتني التهيؤاتُ:
كأنني الذي غنيتُ «أنا قلبي إليك ميّال»
مرتين:
مرةً في طَلْعةِ الحسين،
ومرةً حينما كنتِ تضعين الخاتمَ المرتعش،
في البنصر المرتعش.
كَفْلُكِ حاضرٌ في الدنيا
كدرس،
وحينما أمرِّرُ كفِّي عليه،
يسري الدمُ في الأناملِ،
وتزول تنميلةٌ.
المُحْتَرِف
«لابد أن تكونَ في أفضل المستوصفات،
وأن يَجُسَّ الفصوصَ فيكَ الاختصاصيون
في علم الإنارة».
كانت زياراته زاداً
للذين يتوكأون على عصاً،
لكي يهشُّوا بها الأغنامَ والبكتريا.
يُلقي بالتعاليم القصار في حزْم المتعَبين،
ثم يحمل عن شقيقه عدّة اصطيادِ التوازن،
وخطّاً بيانيّاً لذبذبات الرقص.
ولأنه خبيرُ سحاباتٍ فقد أذاع:
يا جماعةَ الخير:
نحن واقفون في سِنِّ نملةِ الدِّبانة.
يا جماعةَ الخير:
انقذوا الفراشةَ التي تفرُّ من مصر.
يا جماعةَ الخير:
انتهي الزمنُ الجميل.
وفي الصباح كان ممدوداً
كساق زهرةٍ،
من أجل تليينِ سحابٍ مستجدٍ
مشي من الفخذ للرئة.
فيا أخي في زراعة اليوسفي:
نحن نطلقُ رصاصَ الكلام
حتى نوفّر الرصاصَ الحي للمشايخ.
يا أخي في المجزرة:
نحن نطلق رصاصَ الكلام
حتى نمتحنَ مواهبنا في التنصُّت.
يا أخي في حبِّ سيِّدة النبع:
نحن نطلق رصاصَ الكلام
حتى ننجَح في مسابقاتِ العَدْو.
وساعةَ التقي الصاحبان
صاحت اليتيمةُ التي تنسي مفاتيحَ بيتها
في المجلس:
السحاباتُ تحنُّ لبعضها بعضاً،
والمعطوبون للمعطوبين كبنيانٍ مرصوصٍ.
أما الشيوعي الذي طردَ الممرضات،
فقد أزاح شَعَره المصقولَ ثم غمغَم:
نحن نجتاز مرحلةَ الضخّ الذي يصير معجزةً،
كلما مسَّه طائفٌ من نَفَس الذين يجهزون حقائبَ السَّفَر.
فأدرك العُوّادُ أن الفتي الذي
ألقي التعاليمَ باقتدارِ المحترف،
لم يكن يري الغيمةَ التي
تمشي في ثيابه
من أسفل إلى أعلي،
مدعومةً بشهوة التسلقُّ.
«لابد أن تكونَ في أفضل المستوصفات،
وأن يجسَّ الفصوصَ فيك الاختصاصيّونَ
في علم الإنارة».
ضحك الجميعُ من لؤم الشعيرات،
وحدّثتْ سيدةٌ وحيدةٌ عنّابَها:
كيف أقسِّمُ نفسي بين المصابَيْن؟
ثم راحتْ تتتبعُ بمضربِ الذبابِ،
أحلامَها المتسرِّبةَ من الشّقوقِ،
حتى لا يَفرَّ أحدُها.
الراهــب
يفوح زهرُ البرتقال في سِكَّةِ البحر،
فتصحو تخثراتُ الدمِ الذي يمشي
وئيداً،
( أجندلاً يحمل أم حديدا؟).
الكَفُّ في الكفِّ مرتين:
مرةً عند شريط القطارات،
حيث السكندريون زيتٌ على قماش 70 في 100،
ومرةً عند ساقيةٍ
حولها العفاريتُ في صيغةِ الأرانب،
وكلما حَفَّ طائرٌ بالماء
نقَّرتْ إوزةٌ في الكبد.
مَيِّزي أنت بين نباحِ الكلاب
ونشوةِ الضفدع،
وثبِّتي أنتِ همسَ الظلام
وقفزةَ السمك النشيط،
أما أذناكَ فأسلميهما لموال غريقٍ قديم،
يصعدُ من بئر ماكينةِ الطحين:
«يا ليلُ، الصبُّ متى غدُه؟
يرسم مشهدَ وصلٍ في الحلمِ،
فيضنيه على اليقظةِ مشهدُه
هذا مطعونٌ يرجو في الحزنِ
مماتاً،
فيوافيه على الطعنة مولدُه
يضع على رمل الشّطِّ جبيناً،
وعلي طيفِ الإقصاء
يوسِّدُه
فيلملمه كيف يشاءُ،
وكيف يشاءُ يمدِّدُه».
هنا كتبتُ في الصّبا
أولَ سطر عن حبيبةٍ مزروعةٍ في دماء الأرض،
متخيلاً جنيّةَ النبر والشهوات،
وهنا سأكتب في الخريف
آخرَ سطر عن حبيبةٍ
مشبوكةٍ في الريشة التي في الفَصّ،
وذراعي في ذراع جنيَّةِ النبر والشهوات.
وحين يفوح زهرُ البرتقال في سكّة البحر،
وتصحو تخثراتُ الدمِ الذي يمشي
وئيدا
(أجندلاً يحمل أم حديدا؟)
سأترجم دعاءَ الكروان هكذا:
جرحُك لي لي لي،
وجرحي لكْ لكْ لكْ.
مالَكْ يا حبيبي؟
كان مديناً
للرجل الذي يمرِّن اللّسانَ على الكلام
بجملة: « مالَكْ يا حبيبي»؟
موقع الاستدانة: الدار البيضاء
طبيعتُها: تسمُّمُ الأمعاء.
سداداً للديون:
حَمَله على كتفيه كي يصعدَ السلَّم،
وسقاه بيديه عصيرَ الطماطم،
وسامحه على خدعة الشال المغربي،
ثم جعل ظهرَه سبورةً
لامتحان تحكُّمِ الأصابع
في رسم حروفِ الهجاء أو أسماءِ الزائرين.
مالَكْ يا حبيبي؟
في معرض الخرّاط
كنتُ مسنوداً إلى زندِ سيدةٍ معاصرة
(مسحتْ القيء الحديث في قصيدة: زيارة)
نمعنُ التحديقَ في لوحة
«الجميلات النائمات»،
ونرصدُ التشابه بين لوحةٍ وغرفةٍ بستارةٍ زرقاء،
حيث الجميلاتُ نائماتٌ
والمؤلفُ ساجدٌ على حقويْن.
أرسل المدينُ بسمةً رمزيةً،
مدلولها:
الجميلُ للجميلةْ
والمقلةُ الكحيلةْ
لصاحب العباءة الأصيلةْ.
الشَّعر في الصدر غابة الوسامةْ
الثغر خاتمٌ وفوق الخدّ شامةْ
الفارس الجريء لليمامةْ
مالك يا حبيبي؟
سنخوض تجربةً:
كجزءٍ من تمارين اللسّان
كرِّرْ بصوتٍ جلي ورائي:
«وتكون الأنثى حافيةً،
ذَكَرٌ حافٍ يومئ أن كُوني ما شئتِ،
فكيف أظنُّك قادمةً من تيهٍ،
كيف أُسمِّي هيئتَكِ البريّةَ،
أنتِ امرأةٌ وأنا رجلٌ،
كنتُ صنعتكِ من خمسةِ أضلاعٍ،
ثم اسّاقطَ عنها العرقُ،
ورائحةُ الإبطين وجوعٌ،
فالتحمتْ،
واتكأ عليها كوعُ الله وأحدثَ
ثقباً،
يكفي أن يدخله الرجلُ فتحملَ
عنه الوحدانيةَ كلُّ
شظايا الكون».
وعندما كررّتُ وراءه بصوتٍ جلي،
خلَّصَ الديْنَ القديم،
وعندما خلّصَ الديْنَ القديم،
غازل المرأة التي تمسِّد ساقَ المسجَّي
لتدرأ عنه المقرئينَ والحشائشَ،
قائلاً:
أنتِ ـ مثلي ـ أنظفُ من وصوليّينَ،
وذراعاكِ إرثٌ من مرمرِ الرومان.
كان مديناً
للرجل الذي يمرِّنُ اللسانَ على الكلام،
موقع الاستدانة: الدار البيضاء
طبيعتُها: تسمُّم الأمعاء.
ولأنه غريبٌ على العائلة،
وضعَ نفسَه بين المريضِ
وسيدةِ المريض،
لكي يأكلَ حِتّةً من قلبه،
وحِتّةً من قلبها.
فرجينيا وولف
هادئةً
هبطتْ إلى البحر،
مالئةً جيوبَها بالحجارة
حتى لا يفشلَ الغرقُ المرتجي،
لكنها كانت تعلم أن التناسخَ
سيعيد خلقَها في مصر
بعد رتوشٍ دراميةٍ في النّهدين والكَفْل.
الشاحبةُ التي علّمتْ نفسَها
المشي على شفرةِ النصّل،
لأن أمَّها لم تورِّثها سوي جفافِ الحَلْقِ،
وأباها لم يتركْ لها سوي المحرابِ،
تكثَّرتْ كانفجار الخلايا:
واحدةً تكتبُ النَّصَّ،
وواحدةً تعيش النصَّ،
وواحدةً تراقبُ نفسَها وهي تكتبُ النصَّ،
وواحدةً تراقبُ التي تراقبُ نفسَها
وهي تعيشُ النصَّ،
وواحدةً تنقل كرسيَّها من القطارِ إلى
العيادة الخارجية التي تسبقُ النصَّ،
وواحدةً تخرج من موتٍ قديمٍ
إلى موتٍ حادثٍ يعقبُ النصَّ،
وواحدةً تمسكُ المرايا وتري نفسَها
مُشظاةً في كلِّ نصّ.
الطفلةُ التي لا تتقنُ مكيافيللي
ولم يمرَّ التكيّفُ على شُبَّاكها الشرقي
بعد أن ينزلقَ الرجلُ إلى الصحراء،
وهو يدندنُ في ربابه المشروخِ:
« يا ليلُ، الصّبُّ متى غدُه؟
يترّنحُ قلبُ المحتاجينَ على الدربِ،
فهل يُقبلُ مكلومٌ يسندُه؟
كنتُ أصلي ألمي في قاعِ لظاي،
وأسجدُه
وهنا بدنٌ يُدنيه صفاءُ حبيبٍ،
لكنَّ جفاءَ حبيبٍ يُبعدُه».
هادئةً هبطتْ إلى غرفةِ العناية
مالئةً جيوبها بالحجارة
حتى لا يفشلَ الحطامُ المرتجي.
كنتُ أحصي التشابهاتِ
بين التي على الغلاف والتي على جفني،
كلما جاءتني ممرضةٌ لترصدَ الذبذباتِ
في الرُّسغ،
فأدفعُ التي على جفني إلى التوغُّلِ في
السَّلف الصالح،
حتى يتطابقَ النّصان.
لم يكن يعوزُ السابقةَ سوي
سجنِ الطائف،
ولم يكن يعوزُ اللاحقةَ سوي جيوبٍ
لا تسرِّبُ الزّلط،
ولم يكن يعوزني سوي جرعة السيولة،
كي أعقدَ المقارنات بحنكةِ المتقمص.
جميعُهم حاضرون في الممّر:
إليزابيث تايلور، والوجوديون، ونيكول كيدمان، والمعذّبون في الأرض، وماهر شفيق فريد، والفصاميّون، والخائفون من الخوف، وضحايا الكوابيس، والمتسِّمرون من البُرص، وسيدةُ النبع.
فلندخل الآنَ لعبةَ الأشباح
لكي نفهمَ:
لماذا قذفتِ السيدةُ المعاصرةُ
أحجارَها في وجه الأطباء
وتفرّغتْ لصُنْعِ العِنَّاب؟
الدراويش
عُريُكِ طبُّ أعشابٍ،
فدعينا نطيِّرْ البالوناتِ كلَّها،
لكي نختبرَ قدرةَ السماءِ
على التحمُّل،
وإذا وقعتْ الشعيراتُ على الشعيراتِ
ستزول كهرباءُ المعصم،
وتزولُ رعشةُ الخطِّ الثُلث،
وينبعثُ من خلف التكايا
كورسُ الدراويش:
« كنت ُ أقول لسُرَّتها: هِيتَ،
تقولُ السُّرةُ حيناً: هيّا
وتقول السُّرةُ أحياناً: هيهاتْ
لكني حين أشارفُ غابتَها الحُرَّةَ،
تطلق غابتُها الحرّةُ آهاً
فيردُّ عبيدُ سنيني آهاتْ
يخرج من إبطيها جني يصرخُ بي:
خذْ،
فيجيبُ العطشُ الضاربُ برمالي:
هاتْ».
الأصـــابع
لا عليكِ إن لم تستطيعي التحكُّمَ في الملاعقِ،
فيمكن رشفُ الحِساء بالفم المباشر،
ولا عليكِ إن لم تستطيعي حلاقةَ الذقن
فيمكن أن تنوبَ عنكِ حنينُ الصغيرةُ السمراءُ،
(كما أن الذقنَ غيرَ الحليقةِ،
تشي بخبرةِ السنوات والزهد)،
لا عليك إن لم تستطيعي كتابةَ
نقدِ الحداثة
فيمكن لعبد المطلب
أن ينهضَ بهذا الدور
على الوجه الأتمِّ،
(علماً بأن الأفضلَ تركُ الحداثةِ تغرقُ
من غير أن نرمي لها العوّامة).
أيتها الأصابعُ التي تشبه المِذراةَ والبيانو،
ثمّة الكثيرُ الذي يمكن الاستغناءُ به:
1. يكفيكِ أن تبصمي بالإبهام
على وثيقة رفض تعذيب الحقوقيين.
2. ويكفيكِ تقليبُ صفحة الكتاب
مستعينةً ببّلة اللسّان الذي
صار له الآن ريقٌ.
3. ويكفيكِ رفع السبّابةِ
في وجه كاتبٍ مزيف.
4. ويكفيكِ طبعُ كفٍّ غارقٍ في الدمّ
على حوائط المؤسساتِ
كرمزٍ لصرخةِ ابن آدم.
5. ويكفيكِ أن تحطي شاشةً مبلولةً
على جبين الفتاة التي تهدّها الذكرياتُ
كلما دوّي أذانُ الفجر.
أيتها الأصابعُ التي تشبه المذراةَ والبيانو،
مازلتِ قادرةً على أداء الوظيفةِ الأهم:
وضْعُ السّكر في شاي فاطمة.
إنتَ عمــري
هذه هي الحفلةُ التنكريّةُ:
المريضانِ يتكاتفانِ في المقاومة،
إذ أن برقَ الخلايا
شقيقُ سحابةِ الدم،
فكأن السّيدةَ التي بجواري
هي السيدةُ التي على الشاشة
يضربُها التضادُ والكُرَيَّات.
في هذا المربّع المعتم
تكسَّر القناعُ على القناعِ،
فهل أنا البطلُ
أم المتفرجُ؟
المريضان يتكاتفان في المقاومة،
وهنا حِصَّةُ القرينِ في قبالةِ القرين،
حيث في هذا الظلام المفتضَح
تقلِّدُ الحياةُ شاشةً فضيّةً
فتسحُّ الدموعُ التي بجواري
من جراء حَبّكةِ الدراما،
وتسحُّ حبكةُ الدراما
من جرّاء الجروح التي تتساقطُ
بين أقدامِ مشاهدَيْن
يقفزان من الكاميرا
باعتبارهما صُنّاعَ كارثةٍ.
هذه هي الحفلةُ التنكريّةُ:
حيث يصطكُّ القناعُ بالقناعِ،
وحيث راقصاتُ الباليه
يبلغنَ ذروةَ التوهّج
إذا كان الورمُ انتشارياً كالحضارات.
هذه الفتاةُ التي تحوِّلُ العذابَ
إلى عذوبةٍ
بفعل ليونةِ المونتاجِ والخَصر،
هي التي تقبعُ جنبَ شقيقها القطّ
في خزانةِ البامبو،
قبالةَ الملصق الذي خططتُه
قبل مرثيّةِ الأصابع.
أنتِ عديدةٌ يا بنتَ سيّد:
تارةً في توتّر البلاتوه،
وتارةً تحت الُّدُّش،
وتارةً في ممرّ المصحّةِ الطويل
تعلمِّين شخصاً كيف يخطو
على خطٍّ مستقيمٍ من مربّعاتِ البلاط.
يا بنتَ سيد:
لم نفاضلْ بين السَّحابةِ واللوكيميا
فكلتاهما شهابٌ جميلٌ،
ولم نفاضلْ بين الأساسيين والكومبارس،
لأن انكسارَكِ كان بؤرةَ السيناريو.
هذه هي الحفلةُ التنكريّةُ،
فيا صاحبةَ نقرةِ الإصبع:
أأنت التي في موسيقي أم كلثوم،
أم التي تضعين في شراب الدُّوم
ملعقتيْن من عسلٍ أبيض؟
ويا صاحبةَ نقرةِ الإصبع:
أنا امتحانُكِ الحَرِج.
العــزلــة
كنا نعرف أن الراديكاليّةَ جزءٌ
من أدواتِ الشُّغل،
فسلمَّنا له بإلقاء البيضِ الممشّش
على وجوه المطربين.
وعندما شاهدَ المرأةَ التي تشتهيها
عيونُ خمسةِ أجيالٍ،
مفحومةً على الريفي
الذي يربطون معصمَه إلى المَصْل،
صاح: هل نحتاج إلى سحابةٍ في المخّ
حتى يرقَّ قلبُ المؤنثاتِ؟
مزيجٌ من المَوَدّاتِ والمكائدِ
يختفي تحت هذا الشارب الكَثِّ،
لكنه قامَ من دفءِ الفراش في الهزيع،
لكي يساعدَ القروي في خلع الحذاء
حتى يريحَ ساقيه على السرير الجِلْد،
ولم يكن أتمَّ هندامَه
حينما جري كي يسندَ نصفَ صاحبه
في الذهاب إلى معمل الرنين،
صاحبِه الذي يصطاد الصقورَ
وهي في طريقها إلى الشارب الكثّ.
تقمّص السيّابَ وقال لسيدة النبع:
« أحبيني،
فكلُّ من أحببتُ قبلَكِ لم يحبُّوني»،
ثم صار يذهب إلى الكنائس
في صحبةِ المعذّباتِ في الأرضِ،
لعل الهدايةَ تنزلُ
على الأفئدة والأفخاذ،
وبعدها راح ينتقي الطّوبَ من مخلّفاتِ البناء،
كي يرأبَ كُوَّةً في النفَّس.
مزيجٌ من المودات والمكائد،
يختفي تحت هذا الشارب الكثّ،
ويخلِّفُ نسمةَ التراجيديا:
الطيبُ الذي فشل مراتٍ،
في تمثيل دور شريرين على المسرح،
والمثقَلُ الذي فشل مراتٍ،
في إتقانِ مشهدِ السذاجةِ في
سامرِ الطفل،
ربَّتَ على كتف المشدوهةِ التي توقنُ
أن جسمَها نتوءٌ في النص،
ثم دعاها إلى كأسين من بوظةٍ
بعد أن يهجع المستيقظون
في عنبر النزلاء،
وعندما رأي صاحبَه
يمشي على ساقين سليمتيْن،
ويتلو مقطعاً من ضرورةِ أن تكون
النهاياتُ حاسمةً،
بنبرةٍ مقبولةِ المخارج والفونيم،
أدرك أن هناك أكثرَ من سببٍ
للعزلة،
وأن الدموعَ هي الأبقى
بين الاشتراكيين القدماء.
العلاج الطبيعي
الاتزانُ هو الهدفْ،
اِرفعِ الذراعَ ببطءٍ
كمن يتسّللُ إلى السماء
في خِفَّةِ اللص،
ثبِّتْها عالياً بُرهتيّن،
كمن سيقطفُ مشمشةً
من صدر صبيّةٍ
رأتْ عند طبيب الأسنان
أن العميانَ يبصرون.
هذا لتوثيق الصلات بين الكتف والإبط،
واختبارٌ للتمفصل،
كي يظل الكتفُ قادراً على حمل غُمر القمح،
ويظل الإبط قادراً على
تحيةِ الغرائز.
ارفع ساقَكَ اليمني ببطءٍ
(أشدَّ من بطء كونديرا)
كمن سيرفع السقفَ بأظافره السوداء،
أو كمن سيُنيم مجرّةً صغيرةَ في الهواء
على مشط القدم.
هذا امتحانٌ للأربطة قبل القفز
على الزّانة،
ثبِّتْها في الهواء خمسَ بُرهاتٍ،
كمن يتيح للسيدة المعاصرة
تعليقَ شالها المبلولِ على القصبة
كي يجفَّ تحت َ الشمس،
أو قياسَ المسافةِ بين سهمها والكعبِ،
أو تقبيلَ الشُّقوقِ التي خلَّفها
جَمْعُ اللُّطَع،
ثم كي تمدَّ فَتلةً
من نهدها إلى صابونة الرُّكبةِ
لابتكار رأسِ المثلث.
الاتزان هو الهدف،
هنا سنرسم شارعاً
ونتجّولُ فيه
كمصطافِينَ في نزهةٍ،
وهنا سنرسم مَطَبّاتٍ كثيرةً
ونعبرها كزجزاجٍ،
في خِفَّة الفهدِ المؤسَّس،
محاذرينَ من بالوعةِ الصرف.
وهنا سنرسم بِرَكاً صغيرةً،
ونقفز فوقها
برشاقة المصابينَ،
حتى لا نطرطشَ الماءَ على الملابس.
الاتزانُ هو الهدف
لا تصدقْ ضرورةَ أن تكون النهاياتُ
حاسمةً،
هذا كلامُ الذين يخلطون الأسمنتَ
بشكائر الصمغ،
فلا تثبِّتْ العنقَ ناحية اليمين،
ولا تكتم النَّفَس.
خلايا العضلاتِ مهتوكةٌ،
لأنكَ أفرطتَ في تسديد الكُراتِ
في العارضة،
وسيطرةُ الأنامل سائبةٌ،
لأنك أنفقتَ الاحتياطيّ كلَّه
في تمشيط سِمَّانةِ السيدةِ التي
ظَهرُها منشورٌ كجنود المظّلات.
الاتزانُ هو الهدف،
الآن:
دوِّرْ ذرَاعكَ في سرعةٍ كما تفعلُ
طواحينُ هولندا،
وامشِ على أصابع المشطيْن،
كأنكَ نيللي كريم.
هذا اختبارٌ لقوة الطّرد في الطواحين،
وامتحانٌ لكاحل الراقصة.
ثم احملِ الصخرةَ واصعدْ إلى قمةِ
الجبل،
ومن أعلي نقطةٍ فيه:
نطَّ في الحياة.
توقيع:
د. محمد الشاذلي.
ريحــانـة
عاصرتْ كل سحائب الأسرة،
كأنها تخصصّتْ في الشهادة على
جرثومةٍ في الصُّلْبِ
تسير من جيلٍ لجيل،
كعلامةٍ على تكاتف القبيلة.
الفتاة التي رافقتْ طبيبَ الديوان
كي يوقفَ النزيفَ في رأسِ زاهية،
هي نفسُها التي
هبطتْ من المطار إلى عنبر المخّ،
كي ترفعَ الذراعَ المُدّلاةَ لابن زاهية،
وتتأملَ اضطرابَ ساقه
التي أضنتْها المشاوير،
وتتقصّي أثرَ سيدةِ النبع
على طريقته في نُطق حروفِ العطف،
وفي طي صفحةِ الكتابِ المقدس.
ذات ليلٍ تركتْ ولائمَ المَنْسَف،
كي تعمل في تمريض عمّال مصر،
كلونٍ من الرواية الضد،
مع أنها ودعت الصحابة،
وأرّقتْها روائحُ البيت،
حيث تري ريحانةَ الأبِّ مشنوقةً
على سور حديدي،
وحيث تري الواحدَ في عتمته
على هيئة تجار لؤلؤٍ مضبَّبينَ
يخطفون الصغار من مضاجعِهم
ويعلِّقونهم على سواري مراكب الصيد
فيصيروا متوحدين،
وتظل أمهاتهم يبكين على الفنارة
كلما قرأن قصيدةً عن عمر.
رتوشُ لوحتها خفيفةٌ،
عكسَ الندبة التي في القلب،
لأنها لم تدر أنها منذورةٌ
لإضحاك المصدورين،
رغم أنها تعاني ضيقاً في التنفس،
ولم ينقذها أحدٌ
من شعراء السبعينات،
فراحت تخرج من سرادقٍ إلى سرادقٍ،
كطّوافٍ في السيرة الهلالية،
الفتاةُ التي رافقتْ طبيبَ الديوان
كي يوقف النزيفَ في رأس زاهية،
مع أنها أحوجُ ماتكون
إلى برتقالةٍ.
البَلـطة
تكاشفتما معاً،
مرهَقةً لمرهقَةٍ:
أنتِ أطلعْتِها على سرِّ الصِّـبْيةِ المتوحِّدينَ،
وعلي فضائح جزيرةِ العرب،
وهي رَوَتْ عليكِ خدعةَ السُّكر،
واشتكتْ من غلظةِ الأجلافِ والبرابرة.
أما أنا فقد أطلعتُكِ على البلطةِ
التي هوَتْ بها على رأسي،
وعلي الطِّين الذي كبَستْه في الجرح.
سأهديكَ سراً:
السّريرُ الذي قرأتِ عليه كافكا،
هو السريرُ الذي كنتُ قرأتُ عليه جبران.
وحين منحتِ اسمها لوليدةِ الجيران،
كنت تنشرين نظريّةً في الخير،
وحين حطّتْ لكِ القشدةَ والحليب،
كانت تقدِّم لكِ الأشباهَ والنظائرَ.
تكاشفتما معاً،
مرهَقةً لمرهَقةٍ:
أنتِ التي خصَصتِها بالذِّكر الحكيم،
وهي التي تركتْ لك نوبَتها
في المستوصف
لأنها تأكدتْ أن مثيلتَها مقعيةٌ
عند أقدام الصَّبي الذي ادعّي
أن الزجاجَ شجَّ رأسَه
بعد تهشُّم نوافذِ المدرسة،
ولأنها سمعتكِ في منامها تقولين:
« الحانيةُ على ابن أبيها وعلي، شبيهةُ زاهيةَ إذا ضمَّتني،
وشبيهةُ زاهيةَ إذا باحتْ لي بالمحجوبِ،
رمتْ أقراصاً في الفرنِ،
فنضجتْ أرغفةٌ واحمرَّ الخَدّانِ،
لقطتُ الفكرةَ خلفَ الجغرافيا:
هذي الأختُ مضاعفةٌ:
أختي الطارئةُ،
وأختُ فتي سيصادفني في الصحراء».
تكاشفتما معاً،
مرهقةً لمرهقةٍ،
أيتها المرأةُ التي لم تكتشفْ صحوةَ الحلمتيْن،
إلا عندما استسلمتْ بغدادُ،
ضَعي كفَّكِ فوق رأسي:
يدُكِ قريبةٌ من موضع البلطةِ،
وموضعُ البلطةِ قريبٌ
من سحابةِ الدّماغ.
بلي الفولَ النابتَ يا فاطمة،
لأنني جائعٌ
وأحتاجُ أن آخذَ الدواء.
المهمّـــات
دعينا نقتسمْ بيننا المهمّاتِ بالعدل:
سأترك لكِ الحديثَ عن القطِّ
ذي العيون الحمراء،
سيّما إذا وضعتِه بجوار أختِه
راقصةِ الباليه،
حيث تذكِّركِ الراقصةُ
بالمؤذّن الذي يطلُّ كلما مالَ جزعٌ
على جزع،
ويذكركِ القطُّ بالسواحل التي
احترقت فيها طبخةُ الفاصولياء،
عندما كان خليجُكِ الخصوصي
لا يفنى ولا يُخلقُ من عدم.
وستتركين لي رسمَ ثدييكَ
كبروفيلٍ لإغريقييْن
يستيقظانِ من نوم الّدهور،
حيث النقشُ بالحنِّاء على أول النحر،
وحيث تجسيمُ البلوغ بمكبّر الصوت،
وحيث لعقُ الحظِّ باللّسان.
هذه قسمةٌ منصفةٌ،
يا صاحبةَ الغياب الذي صار كاملَ العدد،
لكن السؤال:
من منا عليه تصويرُ احتساءِ ماءِ الظَّهر؟
ومن منا عليه تسجيلُ السُّبابِ
الذي من نوع: يا كلبُ؟
ومن منا عليه رصدُ الجنون
الذي استبدّ بالأصابع
وهي تدقُّ على الكمبيوتر:
صلّوا من أجل المشاكس؟
الأفضلُ أن نضنَّ بهذه الوقائع
على البوح،
لكي تظلَّ هناكَ في ركنها القصي:
عندي: بجوار الفصِّ الذي زارته زائرةٌ،
وعندكِ: تحت صورةِ المتوحّدِ،
عندي: بجوار قرصِ الأسبرين،
وعندكِ: على بعد سنتيمترٍ واحدٍ
من كعبة الساقين.
الحُقْنــــة
خطأٌ بسيطٌ في حقنةِ الوريد،
أسالَ قطراتٍ قليلةً على ملاءةٍ بيضاء،
فانقلبتْ الجغرافيا،
وانشفطتْ عمائرُ كالعُلبة الصّفيح.
داختْ الفتاةُ التي يعذِّبها ذنبانِ:
ذنبُ المتوحَدِ الذي يُنشي مدينةً
في الليل،
ويهدمها في الصباح،
وذنبُ الممدّدِ الذي ستجرُّ
جلبابَه الأزرقَ المعروقَ
في مطار القاهرة
كي ينوبَ عن الكنّاسين.
خطأٌ بسيطٌ في حقنة الوريد،
جعل السيدةَ التي يحفُّها المدّاحونَ من جهةٍ
والموتورونَ من جهةٍ
تطيرِّ البرقيات للصلاة،
بينما تغسلُ القميصَ من قيء السحابة،
وتدير المسجّلَ
كي تستعيدَ صوتَه الأجشَّ
وهو ينشدُ في محفل الأندلس:
« يا ليلُ،
الصَّبُّ متى غدُه؟
مشتاقٌ راح يكابدُ نبشَ
الذكري،
ما أقسي ما كان يكابدُه
ظمآنُ يطاوعه الدهرُ الرّواغُ
سويعةَ سحرٍ،
فإذا جاء الصبحُ: يعاندُه
كان يعنِّفه في الحضرةِ،
لكنْ في الغيبة كان
يهدهدُه».
خطأٌ بسيطٌ في حقنة الوريد،
جعلني أري في نصف غيبوبةٍ:
أن عينيها
هما الأشعةُ المقطعّيةُ،
وأن يديها هما المصلُ.
الينسون
مُدراءُ التحرير أشدَّاءُ جامدون،
فلماذا بكتْ هذه السيدةُ التي
دسَّت تحت الوسادةِ وردةً
وقمعَ سكر؟
لابد أنها تذكّرتْ أخاها الذي
ندهتْه ندّاهةُ المصابيحِ،
فتمتم:
استرحْ يا طبيبي
إن دائي الإقامةُ
ودوائي السَّفَرُ.
ولابد أنها تذكّرتْ حبيبَها الذي
رمّموا له الشرايينَ كلها
بعد أن عَضَّها المثقفون والعَسْكر،
لأنهم لا يفضِّلون نظافةَ العيون.
هي التي نبهّتني إلى أن الزمانَ عويلٌ
وأوصتْني بأن ما كانَ قبل السحابة
لا ينبغي أن يكون،
ثم طلبتْ مني جيوبَ فرجينيا
لأنها التقطت وشيجةً
بين انفضاح التراثِ وانفضاحِ المعاصرة،
واصلةً بين عصر فيكتوريا
وعصرِ لجنةِ السياسات،
فيما همزةُ الوصل: طوابيرُ الجثث.
السيدةُ التي يراها المتوسّطون
آخرَ الطُّغاة،
تهمي دموعُها كلما أوتْ إلى فراشها،
لأنها تري في كل جريحٍ
وليدَها،
وتلمحُ في كل مشنقّةٍ
مصيرَ أمة.
مدراءُ التحرير أشّداءُ جامدون
لكن هذه الصموتَ
تذيبُ قلبَها في كُبّايةِ الينسون،
وتوزِّعُ الرَّشْفَ على أصحابِ العاهات،
ثم تداري تفتُّتَها
في الابتسامةِ والموعظةِ الحَسَنة.
قلب مفـتوح
الولدُ الذي ساءَه
أن أُفضحَ اسمَ أمِّه في الشِّعر،
لم يكن يتوقع أن يخذلَه البُطَيْنُ،
فظل يَعبُّ الهواءَ
حتى تضاءلَ الأوكسجين
في حجرة الضيوف،
وحينما ضاق الطريقُ على منكبيْن،
انتعشت الموسيقي
في غرفة العمليات.
الآن يا شقيقي:
جريحانِ في العائلة
وعلينا توزيعُ الواجبات
حسبَ العمر والرصيد العاطفي:
أنتَ ترعي مسيرةَ الغُرز،
محاذراً من الكُحَّةِ والقهقهاتِ والكوارع،
وأنا أحملُ إليكَ الفتاةَ
التي أتلفَ جسمَها الصدأُ،
كي تضعَ على وسادتك مجسَّمَ عمارةٍ،
أنت تلاحظ الدلالَ المفاجئَ
في فصيلةِ الدّم،
محافظاً على خشونةِ الحنجرة،
وأنا أترك لكَ اعترافاتي الصغيرةَ،
كي تنجزَ بها جُرْسَةَ المستقبل.
أما الولدُ الذي شهَّرتُ
باسم أمِّه في الشعر،
فقد أدخلَ رأسَه في قفصه الصدري
المشجوج بفأسٍ،
وصاحَ:
ما كلُّ هذا الدمِ الأنثوي
في عروقِ مدرِّس الأحياء؟
هو الآن يقرأ الغرامَ المسلح
حتى يستعينَ بصدام الحضارات
على اكتشاف قنطرةٍ
بين الأُذَيْن ونفسِه.
هو الآن غائصٌ في دفترِ السُّلالات،
حتى يقيسَ بالشِّبر
المسافةَ بين انغلاقةِ التاجي
في صدرِ تاجر الموالح،
ولمعةِ المشارطِ التي توهّجتْ في
شبين الكوم.
هو الآن عاكفٌ على البلازما،
حتى يستبينَ لونَ الرّيشةِ التي
حطَّتْ في شعيراتِ شقيقه،
حين كان ينثر اسمَ زاهية
في الشِّعر،
كنوعٍ مُسْتَحَْدَثٍ من السِّماد للتُربة:
فتخضرُّ أرضٌ،
وتزهرُ نوّارةُ البرسيم.
الملح
هكذا في لمح سحابةٍ،
انضمّ الملحُ إلى قائمةِ الأعداء.
لم يعدْ بإمكاني أن أُزَرِّيه على
صينيةِ البطاطس،
متابعاً انحلاله في الشرائح المستديرة
وهي تنثُّ بخارَها الحرّانَ في الأنف،
ولن أستسيغَ النساءَ
اللواتي ينثرنه على مواكب الظافرين،
أو على الغربالِ في سُبوع الطفل.
كما لن أستطيع أن أصيحَ في حفل اليساريّينَ:
«الفقراءُ ملحُ الأرض».
هكذا في لمحِ سحابةٍ،
انضمَّ الملحُ إلى قائمةِ الأعداء،
لاشكَّ أنني سأكون كذّاباً
إذا أقسمتُ على وفائي لمحبوبتي
بالعيش والملح،
ولاشك أنني لن أودَّ للماشينَ قرب ترعةٍ
أن يُحَوِّدوا على المالح،
كما يدعو فولكلور بِرْكة السبع.
ولاشك أنني سأتحاشى في
ندوةِ الحزب،
الحديثَ عن مسيرة الملح
ككنايةٍ عن غموض الشرقِ.
فضلاً عن استرابتي في إناء الماء بالملح،
إذا جهزّتْه بنتُ سيد،
لترطيب ساقي من ورم الوظيفة،
إذ سأسألُ نفسي:
أرحمةٌ، أم تمهيدٌ لانسراب الغرغرينا؟
إذن، ممنوعٌ على أن أنتشي حينما
يشدو صباح فخري:
« قلْ للمليحةِ في الخمار الأسودِ»،
وممنوعٌ على أن أمرَّ على المَلاَّحات
في طريقي إلى أبي يوسف،
وممنوعٌ على أن أحطَّ في عيني
حصوةَ ملحٍ،
إذا خلعتْ حبيبةٌ سوتيانَها
تأهُّباً للعزف،
الأمَرُّ: أنني سأغتاظ كلما وضعتْ
سيدةُ النبع فوق طاولة الغداء
أنشوجةً أو بطارخَ،
لأن ذلك سوف يعني أنها تريد السوءَ بي،
وكلما أفرطتْ في مدح بيّاعةٍ بدينةٍ
تنِّمقُ لها المخلّلاتِ كباقةٍ من قرنفلٍ،
لأن ذاك سوف يعني أنها
كَيّادةٌ،
ونقيضٌ للتكافل.
هكذا في لمّحِ سحابةٍ،
انضمّ الملحُ إلى قائمة الأعداء.
لكنني سأحتال على تعاليم النطاسّيين،
بخبثِ المنوفيّين وفطرةِ الشيخ،
على سبيل المثال:
سألعق عرقَ حبيبتي البرونز،
كلما ارتفعتْ موسيقي الأعضاء،
سأبيتُ أذوق باللسّان الملعثم
ماءَها المطَّهرَ الذي يتنزّي بين ساقيْها
عندما يفيضُ نبعُ سيدةِ النبع،
سأستبقي في فمي طعَم جلدها المغسولِ
بعد الخروج من هانوفيل،
سوف أظل أري وجودَها في الدنيا
ملحاً يضبط طبخةَ الرّب.
أما على سبيل الحصر:
فإنني سأعيدُ كلَّ أمسيةٍ،
إنشادَ سورةَ الرحمن التي تقول:
« يا عُريَها يا ملحُ
يهوي فتيتُكَ في الفؤادِ،
فينكوي ضلعُ الفتي
وينزُّ جرحُ
يا عريَها يا ملحُ
تحمي اندلاعَكَ في العيونِ
صبابةٌ،
ويحفُّكَ الفرْحُ
يا عريَها يا ملحُ
أنتَ التنفّسُ في التويج،
وفي اخضرار وريقةٍ نَتْحُ
يا عريَها يا ملحُ
اِنزلْ على المعطوبِ تبرأْ علّةٌ
ويجفَّ قرْحُ
يا عريَها يا ملحُ
أنت الذنوبُ،
وبعدها أنتَ العقابُ،
ويعدها ستجيء أنتَ التوبُ والصفحُ
يا عريَها يا ملحُ».
هكذا، برغم لمح سحابةٍ،
لن يتحولَ الصديقُ إلى عدو،
فيا امرأةً تفكِّكُ عن قدميها الصواميلَ:
اِقرئي مدنَ الملح
لأن حضورَك في مصر،
ينظِّفُ ذائقةَ بني آدم.
المُنَوِّر
أياديكَ البيضاءُ على جيلي
لا تعطيكَ حقَّ السَّيرِ
على خُطاي.
نعمْ، شرحتَ لي طرفةَ ابن العبد،
في أول الصِّبا،
لكن ذلك الشرحَ ليس مبرراً
للتشبُّه بي،
كما أننا لم نفهمِ الثلاثةَ اللواتي
هُنَّ من شيمةِ الفتي،
فكن مستقلاً واتخذ طريقاً خصوصياً،
يحمل منك بصمةً.
سأُذَّكِّرُكَ بقدرتكَ على الاختلاف عني:
أنا اخترتُ النّصَّ،
وأنتَ اخترتَ تشريحَه،
أنتَ انحزتََ إلى إصدارِ التعليمات،
وأنا انحزتُ إلى مخالفتُها.
إذن، تستطيع أن تكون مغايراً،
لأن أياديكَ البيضاءَ على جيلي،
لا تعطيك حقَّ السَّير على خُطاي.
صحيحٌ، تشابهنا في لكنةِ وسطِ الدلتا،
التي تنعتُ المذكَّر بالمؤنّث،
وصحيحٌ، تشابهنا في اعوجاج النُّطقِ،
بعد أن علَّمتْنا مذاهبَ اللسّانيات،
وصحيحٌ، تشابهنا في عشق سيدةِ النبع،
حينما احتضَنَّاها
كبَهْكَنَةٍ تحت الخِباء المعمَّدِ،
لكن التبايناتِ كثيرةٌ:
سحابتُكَ في فصّك الأيمنِ،
وسحابتي في فَصّي الأيسر،
هُرعَ إليكَ الكبراءُ والصفوةُ،
وهرع إلى البسطاءُ والحرافيشُ،
أنتَ بنّاءٌ غريبٌ على الأهل،
وأنا هدَّامٌ غريبٌ على الأهل.
هكذا يا رجلُ:
حينما قبَّلنا جبينَكَ الرَّطبَ،
أنا والسيدةُ التي تلوح كباقي الوشمِ
في راحة اليدِ:
لمحنا في لسانكَ المضطرب
أطفالاً يزرعون خسّاً وبازلاءَ،
وسمعنا في خطوكَ البطيء
غمغمةَ مصلّينَ.
الخلاصةُ: أن أياديكَ البيضاءَ
على جيلي،
لا تعطيكَ حقَّ السَّير
على خطاي،
فلا تنسجْ على منوال أحدٍ،
ودعني أسأل السؤالَ الطبيعي:
هل الأسدُ في عرينه؟
وأسمعُ الجوابَ الطبيعي:
نعم، الأسدُ في عرينه.
إذن لا تقلِّدني حبيبي،
سوف أحيا كالغريبِ.
الطلمبــات
طلمباتُ الطريق الزراعي
ما تزال في مكانها بجوار صفصافةٍ.
كنا شربنا وغسلنا الوجوه
ونظفّنا الحذاءَ من وحلةِ الحقل،
وحينما مررنا يوم الأحد،
لم نشربْ ولم نغسلْ الوجوه،
ولم ننظفْ الحذاءَ من وحلةِ الحقل.
ربما كان السبب
تصلّبَ الشريان
أو ندرةَ الوحلِ في مصر،
مع أن الطلمبات ما تزال في مكانها
بجوار صفصافةٍ.
لم يزد عليها غيرُ عازفٍ جوّالٍ،
جمَّعَ الصغارَ حوله وحَنَّنَ الأرغول:
«يا ليلُ،
الصَبُّ متى غدُه؟
ينشدُ في القيد الرحمةَ
من صيّادٍ،
ويناشدُه،
يبعثُ رسلاً في الطير
ويحمل رجعَ الأنّةِ
هدهدُه
إن هبط الوَسَنُ يلاقي المعشوقَ،
فإن هبط الصحوُ المجرمُ يفقدُه
ينزفُ عَبْدٌ في السّفحِ،
وفي السِّدرة ينزفُ سيدُه ».
كانت الطلمباتُ تصغي للأراغيلِ
خلفَ خُصِّ المزارعين،
فمن تُري المسئولُ عن عدم غسل الوجوه؟
هل السَّحابةُ التي اختارت مستقرها
في الفَصّ؟
هل تسرُّعُ الرئاتِ في إنجاز التنُّفس
هل خديعةُ الطقس؟
طلمباتُ الطريق الزراعي ما تزال
في مكانها،
لكن المؤكدَ أن الوحلَ
انتقل من الأحذية
إلى الحجاب الحاجز،
مع أن السيدةَ التي تنامُ في شبكةِ المعلومات،
كانت تطوّحتْ مرةً
مع الرجل الذي يقول:
«ماءُ خَدِّه
شَفَّ عن لهبْ».
المقلِّدون
لماذا يتشبَّه الكثيرون بي؟
هذا منشدٌ غني مواويلَه في عِزّ السكون
وحين أصغي إلى إذ أقول:
«حَجَرٌ على حجر،
وكلُّ بلادنا حجرٌ إلى حجرٍ يقومُ،
يشدُّ بعضٌ منه بعضاً»
راح يُحصي السحاباتِ التي تسيرُ فيه
من ساقٍ إلى رئةٍ،
بينما يغمغم:
«نِفْسي يقبُض كَفّي على سِيف الجراءة».
وهذا مُنوِّرٌ
أهدي إلى اختصاصي الشرايين،
ثم احتاجَه بعدَ ساعاتٍ
لنفسه،
وحينما تصادمنا صاح بي:
أنتم السابقون ونحن اللاحقون.
وهذا معلمٌ
كان فهَّمنا أن اختلافَهم رحمةٌ،
ثم راح في غيبوبة التليُّف،
يتعقبني من مصحةٍ لمصحةٍ،
كي يصيحَ في العذارى:
لا تصِّدقوه، إنه المخادعُ.
وهذا ابن أمي
حرَّكَ السِّدةَ من الدّماغ للقلبِ،
كي نصفَّه في عِداد المثقفين،
وكي يفوقني بثلاثِ ميزاتٍ:
غُرَزِ الصدر،
وحركةِ التنقلاتِ في الأوردة،
ودمِ البناتِ الذي يمرُّ في القَسطرة.
جميعُهم ليسوا بحاجةٍ إلى
التشبُّه بي،
فكلهم فريدونَ مملوءون:
المنْشدُ الذي يريد أن يقبضَ السيفَ
له سيرةٌ معطّرةٌ في تخثر الدماء،
وله سوابقُ في قطفِ العنب.
والمنوِّرُ الذي جاور المرايا بالمرايا
ليس مضطراً
إلى إثباتِ أن مخَّه شغَّالٌ،
فهذا جلي في ابتسامة الروائيّين.
والمعلِّمُ الذي قال إن نفعَ الليل في جماله،
لا ينبغي أن يتزحزحَ من خانة القطب،
إلى خانة المُريد،
سيّما إذا كانت يداه هما اللتان
زجّتا بنا إلى العُرس.
وابن أمي الذي
يشرح خصائصَ النباتِ للصبايا،
ليس مجبوراً على إبداءَ العواطف
عبر تهلهل الأورطي،
فضحكتُه العريضةُ
كفيلةٌ بإظهار التميّز عن الأشّقاء.
أيها المقلِّدُونَ الشرِّيرون
لستم خلصائي كما تظنون،
لقد أفسدتم على استئثاري
بالإصابة العليا.
ليسامحْكم الله،
لكنني لن أسامح.
لميــس
أدارتِ الحَدَث
الصيدلانيّةُ الجميلةُ التي عيَّنتْ
طبيعةَ السحابة
وموضعَ الشعاع،
ثم درّبتْ أباها على تدوير أُكرةِ البابِ،
عشرَ مراتٍ،
كتمرينٍ على كفاءة القبضِ والبَسْطِ
في الكَفِّ.
كانت أشارتْ إلى أهميّة اختبارات العيون،
وحذّرتْه من كوارثِ ضبطِ النفس،
فمن أين جاءت بهذه الرّصانةِ،
بينما أمُّها كهربائيةُ الأعصابِ،
(مع أنها وضعتْ خطةً محبوكةً
لشراء شبشبٍ
يناسبُ القدمَ التي لانت من كثرة المواعيد)،
وبينما أبوها فاقدُ الأهليّةِ
(مع أنه حصدَ فؤادَ جيلين).
الصيدلانيةُ الجميلةُ
ظلت ساهرةً مع المناوبين في
حجرةِ الأطباء،
يبحثون تارةً تقلبّاتِ الوريدِ،
ويبحثون تارةً تقلبّاتِ الهوى.
علّمتّه كيف يقبض على كرةِ الإسفنج
كشمشونٍ،
ورمتْ نفسَها في حضن السيّدة التي
لها أيطلا ظبي،
ثم شرحتْ لها طرائقَ السحابة في
الكَرِّ والفَرِّ،
كي يهدأ روعُ مخضوضةٍ،
ثم أوصتها بثلاثِ قبلاتٍ للطريح:
واحدةٍ في الصباح،
وأخري في الأصيل،
ومثلِها في المساء.
من أين جاءت صيدلانيةٌ جميلةٌ
برباطةِ الجأش
فيما الجميعُ مرعوشون؟
ذكّرتْه بالجدّة التي قذفتْها عالياً
في فضاء غرفة الخبيز،
ونحَّتْ عنه الحبوبَ التي
تترك أثراً جانبياً
على خفّةِ الظل،
ثم مرّنته على الذهاب للمرحاض
من غير أن تلتوي الخطواتُ،
أو يترنحَ الجذعُ على حنفيةِ البانيو.
الصيدلانيةُ الجميلةُ أدارت الحدث
لكنها فقدتْ بغتةً رباطةَ الجأش
عندما لم تطلْ به الإقامةُ
على سريرها الصغيرِ الذي عليه:
دبدوبُها
وشالُها
ومذكراتُ تشريح الأعضاء،
وتحتَه: صندلُها
والجوربُ المقطوع
ولاسةٌ قديمةٌ للخال.
وبعد أن جفّت الدمعتان،
رسمتْ له برنامجَ الجرعات،
وغمغمتْ:
المهم أن تغادرَ الفسيخَ،
وألا تكونَ وحيداً.
أدارت الحَدَث،
الصيدلانيةُ الجميلةُ التي عيّنت
طبيعةَ السحابةَ
وموضعَ الشعاع.
سأستعير من طِلب قوله:
« لمن هودجُ بلقيسْ؟
للميسْ.
ولمن راهبةٌ هائبةٌ،
لا راغبةٌ في جنّة نار العشقِ
ولا تائبةٌ؟
للميسْ.
ولمن آنسةٌ وأنيسْ؟
للميسْ».
وسأستعير من فاطمة قولها:
«أن يشتري أبٌ جميلٌ
ربطةَ عنقٍ جميلةً
لتفرح بنتٌ جميلةٌ
في يوم الخرّيجين،
بينما الماءُ يغلي فوق الرأس
والممرُّ باردٌ ومعتم».
وسأستعير مني قولي:
« تاتا تاتا/
تَلُّ جائعينَ جاءَ عند مالكِي
الضئيلِ كي يقتاتا/
تاتا/
تائبون توَّج الجميلُ جرحَهم
مواسماً مواسما
وأعطي لمهجتي الفُتاتا/
تاتا/
مشي الضئيلُ والجميلُ تاتا/
تاركاً قلبي مفرّقا أشتاتا/
تاتا / تاتا / تاتا ».
السَّرج
ستذهبينْ
ولم تنشطِ الدورةُ الدمويّةُ
في الرجل الذي أسماكِ مُهرةً
مفكوكةَ السَّرجِ،
وأقام مسرحاً رومانياً على طريق السويس
ووضعَ على كل درجةٍ عشرةَ ولدانٍ
مخلّدين،
كلُّ ولدٍ مخلَّدٍ في يده خمسةُ ناياتٍ
وثلاثةُ دفوفٍ وعُودان،
وأمام كل ولدٍ مُخلّدٍ
حاملٌ عليه نوتةٌ للحنٍ حزين
كان قد درّبهم عليه ليلةً،
بعد أن قالت سيدةٌ
ظهرُها منشورٌ كجنود المظلات:
« لا تمسَّ ظهري»،
رفع العصا بحكمةٍ فانخرطوا محشرَجينَ:
«كنتُ أقول لسُرَّتِها: هِيتِ،
تقول السرُّةُ حيناً: هيّا،
وتقول السرُّةُ أحياناً:
هيهاتْ
لكنّا في الفجر نصلي لامرأةٍ
تصنع من بدن المرأة كلِّ هزيعٍ
قِبَباً، وضراعاتٍ، ونقاهاتْ
فتُضاءُ جوانحُ عاشقةٍ
تتجلي في حقويها مأثوراتُ التاريخِ:
نقوشاتٍ وكتاباتٍ وشَفاهاتْ
يا أرجاءَ خزائنها:
ما إن اجتاز متاهاً في سيري
للنبع الأقصى،
حتى ألقي في سيري للنبعِ
متاهاتٍ تلو متاهاتٍ تلو متاهاتْ».
كان يعرف أنكِ بعد انتهاء الدفوف،
ستذهبينْ،
ولم تنشطِ الدورةُ الدمويّةُ
في الرجل الذي أسماكِ مهرةً
مفكوكةَ السَّرجِ،
وتركَ مخَّه على ملاءتكِ البيضاءِ،
مبعثرةٌ فصوصُه:
بجوار الوّلاعةِ وشفرةِ دافنشي وعلبةِ التبغ
والمحمول وبنسةِ الشَّعر، ومفتاحِ الحياةِ الذي عيار 24.
لكنه لم يلوِّثِ الوسادة،
فسحابةُ المخ لا تتركُ بقعاً
على المفارش.
إذن، رسالتُه:
احذري المديوكر.
وشكواه:
يطفو على روحي الرنينُ
فيشعُّ من عَصَبي الحنينُ.
الخَـــــطُّ
اِزنقِ القلمَ بين السَّبابةِ والإبهامِ،
مسنوداً إلى الوسطي،
وحاولْ ثانيةً،
الحروفُ مرعوشةٌ بعضَ رعشةٍ،
لابأسَ،
محضُ رعشةٍ،
كنتَ تجيدُ الكوفي،
فنشِّنْ بِسنِّ القلمِ على الفولسكابِ،
ليس الكوفي مهّماً،
كانت الفاءُ عندكَ دقيقةً،
ليست دقّةُ الفاء ضروريةً،
ما تزال الطاءُ عندكَ تحتفظُ باستدارتها
اللعوبِ،
وإن شابتْها هِزّةٌ خفيفةٌ،
ليست مؤثرةً هذه الهزّةُ الخفيفةُ،
وبعد مراتٍ قليلاتٍ
ستعود الميمُ إلى تكويرتها الأنثويةِ،
حتميةٌ هي التكويرةُ الأنثويةُ،
اجعلِ الكلامَ مستقيماً،
وحاول ثالثةً،
من غير ضغطٍ شديدٍ بسنِّ القلم على
الفولسكاب،
فالضغطُ يُربك الأوتارَ،
ويعمِّقُ الشعورَ بأننا غيرُ طبيعيينَ،
ونحن الطبيعيونَ،
لا تحزنْ لأن نونَ نبعٍ ليست مدحُوَّةً
كصحنِ أنثاكَ ساعةَ التئامِ جِلدٍ
بجلدٍ،
فنونُ أنثاكَ مرسومةٌ في القلب
جذّابةٌ في كل هيئةٍ،
والجوهري أن نقطةَ النّونِ باقيةٌ،
لا تظنَّ أن واجبَ كتابةِ الإملاء
في الصِّبا خمسينَ مرةً
قد راحَ في الهباء،
فخاء ُخدٍّ ما تزال متمسكةً
بمثلثها الشهير عندكَ قبل تنميلةِ
الأصابع،
وكافان في كركديه
ما تزالان محفولتيْن بالتواءاتٍ ليّناتٍ،
كأنهما في المطبخ الذي قبّلتَ فيه
حوضَ التي حوضُها شِصٌّ،
ثبِّتْه بين السبّابة والإبهامِ
مسنوداً إلى الوسطي،
وحاول رابعةً،
يكفيكَ أن تستدعي نداءَ
« القلم وما يسطرون»،
حتى يتطورَ التاريخُ الطبي للعُقَل،
لا تقسْ على الجماليات
بل قِسْ على قدرةِ الأصابعِ
على الضَمِّ،
وتذكّرْ أنكَ خططتَ بهذه الأصابع
على قميص محبوبةٍ:
«تري نفسَها بديلاً للرحمن»،
فنظِّم ِالتنفُّسَ، وحاول خامسةً،
عديدةٌ هي السُّبُل:
عندكَ الديواني
خصِّصْه للإخوانيّات،
وعندكَ النسَّخُ
وجهِّه للرسائلِ العاطفية،
وعندك الحُرُّ
صحِّحْ به بروفةَ البيانِ الشيوعي،
وعندك الثُلثُ
اجعلْه لقصيدةِ النثر،
ارسم الباءَ
بعدها الطاءَ
مشبوكةً في تاءٍ مربوطةٍ،
لتصبح لديكَ: بطّةٌ،
ثم أطلْقها على ترعةٍ بعيدةٍ،
واحتفظْ منها بريشةٍ
تخطُّ بها بعد الوداع:
ذهبتْ بَطّةٌ،
وبذا تكون قد أنجزتَ دورةً كاملةً
من الرسم البياني للسقوط والعلّو،
ضمَّ السبّابةَ والإبهامَ والوسطي،
ووسِّعْ عليكَ:
يكفيكَ الرِّقْعةُ لتوصيل المقاصد،
لا تتشبثْ بأوليّة الشّكل على المعنى
في مثل هذه الاختبارات،
فقفزةٌ كبري أن تجسيدَ راءَ روحٍ
وجيمَ جسد،
ألم يكن قطبُكَ مضروباً في شرايين مخِّه،
حينما قال: الجسدُ قُبّةُ الروح؟
فحاول أخيرةً،
وإذا اختتمتَ هذه القطعةَ الآن بجملةِ:
«جفّتِ الأقلامُ ورُفعتْ الصحف»،
فأنتَ سليمٌ،
إذن، اِختتمْها:
جفّتْ الأقلامُ،
ورُفعتِ الصحفْ.