لقد جعل الله تعالى سنته في الخلق والميلاد قائمة على قانون الزوجيّة، فشاءت قدرته تعالى الا يولد إنسان إلا بإختلاط مائي الرّجل والمرأة، ومرور هذا الإختلاط بالأطوار اللازمة لِتَكوُّنَ المخلوق في حَمْلٍ تحمله إمرأة، ثُمّ تَكوّن الجنين في رحمها بتزاوج وتلقيح.
هذه هي السُّنَة التي سَنَّها الله تعالى قانوناً وناموساً لازِماً في خلق الإنسان – كل إنسان – لا ولن يتخلف عن ذلك ولم يسبق تخلف حالة واحدة، فلا يمكن أن يوجَدَ إنسان إلا بتلك الطريقة. إلا أنَّ مشيئة الله وقدرته إقتضت أن يُخلقَ آدَمُ أوّلَ البشر مِنْ تُرابٍ أمْراً مُخالِفاً لِتِلْك القاعدةِ، وَانْ تُخلقَ حَواء مِنْ ضِلع آدَمَ الأيْسَرَ أمْراً آخَرَ مُخالِفاً لِذلكَ الناموس. وَإسْتَمَرَّ تَكوّنُ وايجاد الجِنس الإنساني بطريقة المُعاشَرَة والتزاوج بين ذكر وانثى، ليتم اختلاط المائين معاً،ً والتلقيح في رحم الأنثى التي تحمل في أحشائها ذلك الجنين الذي كان ثمرة إتصال جنسي بين ذكر وأنثى، لتحمله قدَراً مَعلوماً، يخرج بعدها بعملية ولادة بشراً سوياً.
إلآ أنَّ ميلاد نبي الله عيسى عليه السّلام، قد تم بطريقة خالفت تلك القاعدة وشذت عنها، فلم تتم بقانون الخلق وناموسه، إذ سبقت إرادته وحكمته تعالى أن يأتي هذا المولود إلى الدنيا بطريقة خارقة للقاعدة والقانون، ليخالف ميلاده الشريف ميلاد جميع من أتى قبله وجميع من سيأتي بعده مستقبلاً من البشر، أي بمعجزة تكون آية أخرى من آيات الله لتدلل على قدرته في الخلق، فكان ميلا د عيسى عليه السّلام بعملية "ولادة بدون أب Partheno senis" إذ أتى ميلاده الشريف المبارك من أم حملت به بدون أي إتصال جنسي مع رجل، فكان الحمل والميلاد من أم عذراء[1 ] بتول[2 ] لم يمسسها بشر مطلقاً، فلم يمتزج ماؤها بماء رجل بتاتاً، لِيُذكرّ الله تعالى الناس جميعاً: أنَّ مَنْ خَلقَ عيسى قد خلق من قبلِهِ آدَمَ بدون أم ولا أب. وفي ذلك قوله تعالى:
﴿إنّ مثل عيسى عِنْد الله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قالّ كن فيكون ﴾ [3 ]
وإذا تجاوز البشر حادث خلق الإنسان أصلاً وإنشاءه على هذه الصورة، فإنَّ ميلاد عيسى عليه السلام يكون أعجب ما شهدته البشرية في تاريخها الطويل. إذ هو حادث لم تعهده البشرية لا من قبل ولا من بعد، والإنسان لم يشهد خلق نفسه، وبالتالي لم يشهد خلق أول إنسان من غير أبوين، واعتاد البشر على مر التاريخ، ومن خلال تعاقب الدّهور والأيام أن يروا الخلق والتكوين يأتي مشاهداً بالسُّنَة المعهودة والطريقة الثابتة، فلم يعهدوا أن يأتي إنسان كائنا من كان إلى هذه الحياة الدنيا بلا اتصال جنسي بين رجل وامرأة، أي بين ذكر وأنثى. فأتت المعجزة الإلهية تبرز العجيبة الثانية في مولد عيسى بن مريم من غير أب ..... من أم عذراء بتول لم تمارس الجنس مطلقاَ ولم يمسسها بشر ، وذلك مخالف وخارق للعادة التي جرت منذ وُجِدَ الإنسان نفسه على هذه الإرض ، ليشهدها البشر ، ثم لتظل عالقة بإذهانهم مُذكرة الناس جميعا بمقدرة الله ، ولافتة النظر إلى المعجزة الأولى ميلاد آدم.
لقد جرت السُّنَة في الخلق واستمرار الحياة أن يكون ذلك بالتناسل والتكاثر الآتي من اتصال جنسي بين ذكر وانثى، جرت هذه السُّنَة أحقاباً طويلة، حتى استقر في تصور البشر أنّ تلك هي الطريقة الوحيدة والناموس الأوحد. ونسوا حادث وجود النوع الإنساني أصلاً، ذلك الحادث الذي لم يشاهده بشر، فشاءت إرادة الله وقدرته أن يَضرب لهم مثلاً يُشاهدونه بِأعينهم وهو ميلاد عيسى بن مريم ليذكرهم بقدرة الله المطلقة التي لا تخضع ولا تحتاج لقوانين ولا لنواميس ولا لقواعد، إذ أنّه إذا أراد شيئاً فإنّما يقول له كن فيكون.
يقص علينا القرآن الكريم قصة ميلاد عيسى بن مريم عليه السلام :
و﴿اذكرْ في الكِتابِ مَرْيَمَ إذ انتبَذتْ مِنْ أهْلها مَكاناً شَرْقِياً فاتخذت مِن دونِهمْ حِجابا فأرْسَلنا إليها روحَنا فتمثلَ لها بَشرا سَويا قالت إني أعوذ بِالرَّحْمن مِنكَ إنْ كنتَ تقيا قالَ إنّما أنا رَسُولُ رَبكِ لأهَبَ لكِ غلاما زَكيا قالت أنّى يَكونُ لي غلامٌ وَلمْ يَمْسَسني َبشَرٌ وَلمْ اكُ بَغيا قالَ كذلكِ قالَ رَبكِ هُوَ عَليَ هَيْنٌ وَلِنَجْعَلهُ آيَة للناسِ وَرَحْمَة مِنا وَكانَِ أمْرًا مَقضيا فَحَمَلتهُ فانتبَذتْ بِهِ مَكاناً قصِيا فأجاءَها المَخاضُ إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مِت قبلَ هذا وَكنتُ نَسْيا مَنسيا فناداها مِن تحْتِها ألا تحزني قدْ جَعَلَ رَبكِ تَحتكِ سَريا ﴾ [4 ]
ممن وُلدَ المسيح؟ من فتاةٍ عذراء بتول طاهرة نقية تقية، نذرت نفسها لعبادة الله ربها، لم يُعرَف عنها وعن أسرتها إلآ التُقى والصلاح والنقاء والطهارة، كانت معروفة لقومها أنها مِثال الطهارة والعفة، حتى أنها تنتسب إلى هارون أبي سدنة المعبد اليهودي المتطهرين....... أنها عذراء بتول، لم تقترف الزنا والفاحشة، ولم تمارس الإتصال الجنسي لا حلالاً ولا حراماً. يؤكد ذلك شهادة قومها: "يا أخت هارون"[5 ] وبصريح النص القرآني الذي يؤكد أن الميلاد كان من عذراء بتول تقية نقية طاهرة، لا بل مثال للطهارة والعفة، أحصنت فرجها ولم تقترف الزنا والسفاح والآثام، ذات التربية الصالحة والمنبت الطيب الأصل من سلالة الأتقياء الأطهار: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ التي أحْصَنَتْ فَرْجَها فنفخنا فيهِ مِن روحِنا وَصَدَّقتْ بِكلِماتِ رَبِّها وَكتبِهِ وَكانتْ مِنَ القانتينَ﴾
[ 6]