أمامك مدخلان لتقييم العام الأول للثورة فى مصر. فإما أن تقرأه من خلال ما جرى أمس. حين انعقد أول برلمان يشكل بالانتخاب الحر منذ ستين عاما على الأقل. أو أن تقرأه من خلال الاستماع إلى أصوات الغاضبين الذين سيحتشدون غدا فى ميدان التحرير.
(1)
إن شئت فقل إن الحدث الأول يمثل النصف الملآن من كأس الثورة. فى حين أن الحدث الثانى يجسد نصفه الفارغ. ذلك أن انعقاد مجلس حقيقى للشعب حدث كبير لا ريب. وأضع أكثر من خط تحت كلمة «حقيقى»، لأننا منذ منتصف القرن الماضى لم نعرف سوى مجالس مزورة وانتخابات مغشوشة ونوابا أغلبيتهم الساحقة كانت تمثل الحكومة والأمن بأكثر مما تمثل الشعب. وهؤلاء كانوا يتسترون على الحكومة ولا يراقبونها. ولعل كثيرين يذكرون أن مجلس الشعب الأخير الذ ىتم انتخابه فى عام 2010 صمم بحيث يمرر عملية توريث السلطة. ولم يسمح إلا لأحزاب الموالاة بتمثيل رمزى إلى جانب الحزب الوطنى، الذى احتل 420 مقعدا من 495 كما تم إنجاح 6 من حزب الوفد وخمسة من حزب التجمع. أما الإخوان الذين نجح منهم 88 نائبا فى انتخابات عام 2005، فلم يسمح إلا لواحد فقط بتمثيلهم فى البرلمان.
الانتخابات الحرة التى جرت بعد الثورة فضحت فحش التزوير. فالإخوان الذين لم ينجح منهم فى عام 2010 سوى واحد فقط، فاز حزبهم «الحرية والعدالة» بــ٢١٨ مقعدا. وحصد التحالف الديمقراطى الذى أقاموه 45.8٪ من مقاعد المجلس. والسلفيون الذين لم يظهروا فى البرلمان من قبل فازوا بـ123 مقعدا، وحصل الوفد على 42 مقعدا، كما حصل تحالف الكتلة المصرية على 33 مقعدا.
لدى ملاحظتان على النتائج الرسمية التى أعلنت ظهر السبت الماضى. الأولى أن حزب التجمع اليسارى لم يحصل على أكثر من 3 مقاعد فقط رغم أنه موجود فى الساحة المصرية منذ نحو 35 عاما «تأسس فى سنة 1976»، فى حين تجاوزته بكثير أغلب الأحزاب التى تشكلت قبل أشهر معدودة. وللعلم فإن حزب البديل الثورى «اليسارى فى تونس» جاء بدوره فى ذيل الناجحين فى انتخابات المجلس التأسيسى فى تونس، حيث حصل أيضا على ثلاثة مقاعد فقط.
الملاحظة الثانية أن الإسلاميين مجتمعين حصلوا على ما يجاوز 72٪ من مقاعد مجلس الشعب، فى حين أن الذين وافقوا على التعديلات الدستورية كانوا 77٪. ورغم أن التعديلات لم تكن لها علاقة بالهوية الإسلامية. إلا أن حملة العلمانيين والليبراليين عليها استنفرت الصوت الإسلامى ودفعته إلى التصويت لصالحها، وهذا التشابه فى النسب قرينة مهمة دالة على أن ثلاثة أرباع الشعب المصرى علـى الأقل منحازة إلى هويتها الإسلامية وبصرف النظر عمن يعبر عنها، وهى رسالة مهمة يتعين على الجميع احترامها ووضعها فى الحسبان دائماً.
(2)
الأهم من فوز هذا الفصيل أو ذاك أن مجلس الشعب شكلته لأول مرة الإرادة الشعبية الحرة فى ظل إقبال جماهيرى هادر، كان إعلانا عن عودة المصريين إلى السياسة بعد طول هجر وغياب. ليس ذلك فحسب وإنما من شأن تشكيله أن ينقل سلطة التشريع من المجلس العسكرى إلى المجلس المنتخب. وتلك خطوة مهمة للغاية تعنى أننا قطعنا نصف الطريق تقريبا لتسليم السلطة إلى المدنيين، حيث لم يتبق بعد ذلك سوى انتخابات مجلس الشورى وانتخاب الرئيس وإعداد الدستور الجديد.
رغم أننا بتشكيل مجلس الشعب نكون قد أقمنا على الأرض أول مؤسسة منتخبة فى النظام الديمقراطى المنشود، ومن ثم جسدنا حلما ظننا أنه بعيد المنال، إلا أن البعض استنكروا ما جرى واستقبلوا الحدث بخليط من مشاعر الامتعاض والخوف، وهو ما عبرت عنه مقالات عدة نشرت خلال الأسابيع الأخيرة، إلى جانب سيل الصور الكاريكاتورية التى لم تكف عن السخرية من الاختيار الشعبى وتشهر به. بل ذهب البعض إلى الادعاء بأن الثورة «سرقت»، رغم أن الجماهير التى ثارت هى ذاتها التى صوتت فى الانتخابات.
أدرى أن ما صدر عن بعض الإسلاميين والسلفيين منهم بوجه أخص كان يستحق الإنكار والامتعاض، لكن المشكلة أنه لم يعط حجمه، وإنما بالغ إعلام الإثارة والتربص فى تسليط الأضواء عليه وتعميمه، حتى بدا وكأن تلك الآراء التى عبر عنها آحاد الأفراد هى موقف الجميع، وهى النموذج الذى سيفرض على المجتمع فى نهاية المطاف. الأمر الذى أعطى انطباعا بأن إنجاز الانتخابات نقلة سياسية إلى الأمام. وفى الوقت ذاته ردة حضارية إلى الوراء. ولأن الأمر لم يكن كذلك لضرورة، فقد أعاد ذلك النهج إلى الأذهان صورة «الفزاعة» الإسلامية التى جرى الترويج لها فى العهد السابق، لأن التعبئة الإعلامية التحريضية والمضادةكانت بمثابة إعادة إنتاج للفزاعة نفسها.
حين خيم جو التشاؤم والتخويف الذى حرص البعض على إشاعته، لم تر إنجازات كثيرة تحققت. لم ير هؤلاء أجواء الحرية التى أنعشت المناخ العام، وفتحت الأبواب لمشاركة كل التيارات فى العمل السياسى دون وصاية أو إقصاء. ولم ينتبهوا إلى أجواء النزاهة غير المسبوقة التى تمت فى ظلها الانتخابات، ولم يلاحظوا أن الانتخابات رسمت لأول مرة صورة الخريطة السياسية للمجتمع المصرى، وحددت أحجام وأوزان تلك القوى. ولم يعبأوا بكون انتخاب مجلس الشعب، على علَّاته، يمهد لإخراج العسكر من المشهد وتسليم السلطة للمدنيين. كذلك لم ينتبهوا إلى أن انتخاب الإسلاميين ليس مكافأة لهم، وإنما هو حقيقة الأمر امتحان عسير لجدارتهم ولمشروعهم، النجاح فيه يعود على المجتمع بالخير. أما الرسوم فهم وحدهم الذين سيدفعون ثمنه. حيث سيتعرضون للتصويت العقابى فى أول جولة لاحقة.
(3)
الغاضبون الذين سيخرجون إلى ميدان التحرير محقون فى موقفهم، وإن اختلفنا معهم فى وسائل التعبير عنه. ومصدر الغضب الرئيسى هو سلسلة الأخطاء التى وقع فيها المجلس العسكرى، وكان استخدام العنف ضد المتظاهرين والمعتصمين على رأسها. لقد أدى ذلك العنف إلى قتل حوالى مائة شخص وإصابة نحو 12 ألفا تمت معالجتهم باستثناء 3500 لايزالون تحت العلاج، وهؤلاء بينهم 20 شخصا فقدوا أعينهم و12 أصيبوا بالشلل الرباعى. هذا العنف الذى أعاد إلى الأذهان أساليب النظام السابق، لم يعتذر أحد عن وقوعه، ولم يعرف الفاعلون المسئولون عنه، وبالتالى لم يحاسب عليه أحد، وإنما ظل الخطاب الرسمى يتحدث عن «طرف ثالث» ضالع فيه، الأمر الذى كان يعنى قيد كل تلك الجرائم ضد مجهولين. وهى خلاصة لم تقنع أحدا، وأدت إلى سحب الكثير من رصيد الثقة فى المجلس العسكرى. وعندما حدث ذلك فإن المجتمع الذى شعر بالإهانة لم يخف تململه وغضبه. وكان الشباب أكثر الفئات انفعالا وأشدهم جرأة فى التعبير عن ذلك الانفعال.
ليس لدى اعتراض على من يقول بأن المتظاهرين الغاضبين وقعوا بدورهم فى أخطاء، أو ذهب آخر إلى أن البلطجية وأرباب السوابق اندسوا فى أوساطهم وفعلوا أفاعيلهم الشريرة. أو ادعى ثالث أن الفلول لم يكفوا عن إذكاء الغضب وإشاعة الفوضى. هذا كلام أفهمه وقد لا أنفيه، لكن ذلك كله فى كفة وأخطاء المجلس العسكرى فى كفة أخرى. فالأولون مجهولون وأعضاء المجلس العسكرى معلومون، والأولون أفراد أو جماعات لا سلطان لهم على الشارع، والآخرون يحكمون البلد وأصحاب قرار فى مصائر البلاد والعباد. ثم إنه لا وجه للمقارنة بين أناس معتصمين أو شبان متظاهرين يرفعون اللافتات ويهتفون أو حتى يرشقوا بالحجارة، وبين من يوجه الشرطة العسكرية وقوات الأمن المركزى المعززة بالرشاشات والعصى المكهربة وقنابل الغاز المسيل للدموع والمدعومة بالدبابات والمدرعات.
لم أتحدث عن تدليل المسئولين عن الفساد والقمع من أركان النظام السابق، ومقارنة ذلك بالمعاملة الخشنة والقاسية التى عومل بها المتظاهرون والمعتصمون من شباب الثورة، ولا عن التراخى فى محاكمة المسئولين عن قتل نحو 850 من الثوار قبل تنحى مبارك. ولا عن تلفيق التهم بعد التنحى للناشطين واحتجازهم ومداهمة مقراتهم، ولا عن جرائم كشف عذرية الناشطات أو هتك أعراضهن. الخ. لكن ما يهمنى فى الشق المتعلق بالنصف الفارغ من الكأس هو عقدة العنف التى أفرزت بحيرة الدم وأحدثت فجوة عميقة فى العلاقة مع المجلس العسكرى، الأمر الذى يصعب تجاهله ولا مصلحة لأحد فى استمراره.
(4)
أدرى أن ثمة شططا من جانب بعض الغاضبين وصل إلى حد اتهام المجلس العسكرى بقيادة الثورة المضادة، وأن المشير طنطاوى رئيس المجلس طاله بعض الرذاذ من جراء ذلك، ولكنى أذكر بالمثل العربى القائل بأن من طالت عصاه قلَّت هيبته، وأن العنف المفرط الذى استخدم فى بعض الأحيان هو الذى أثر على مكانة المجلس ونال من هيبته، وأن رفض الاعتراف بالخطأ أو الاعتذار عنه هو الذى دفع الغاضبين إلى ما قد يعد تطاولا أو اجتراء، وللعلم فإن ذلك الاجتراء لم يكن من نصيب الشبان الغاضبين وحدهم، ولكننا وجدنا له صدى فى وسائل الإعلام حتى كانت بعض عناوين صحيفة الوفد يوم الخميس 19 يناير كالتالى: الشعب يريد رأس المشير ــ مبارك وطنطاوى خيبة واحدة ونهاية واحدة!
للأسف الشديد فإن البعض أخذوا ببركة الدم ووقفوا عندها، بحيث لم يروا غيرها ولم يعد يشغلهم سوى الثأر للشهداء والدفاع عن حقوق المصابين والضحايا. وقد تمكن منهم الحماس إلى الحد الذى حجب عنهم أى إنجاز آخر تحقق خلال العام الأول للثورة. ولأن القضية الاستراتيجية هى إقصاء المجلس العسكرى وتسليم السلطة إلى المدنيين وتأسيس النظام الديمقراطى البديل، فينبغى ألا نلجأ إلى أى أسلوب أو تصرف يعطل بلوغ ذلك الهدف. إلا أننى أزعم بأن التقدم فى ذلك الاتجاه الآن يتطلب إجراء مصالحة بين المجلس العسكرى والغاضبين الذين يحركهم الوفاء للشهداء والمصابين. ولا أرى سبيلا إلى إجراء تلك المصالحة إلا بتعويض أسر الشهداء والمصابين وتقديم الرعاية المستحقة لهم، وبمحاسبة المسئولين عن الجرائم التى ارتكبت بحق المتظاهرين مهما علا مقاسهم. وتلك المحاسبة وحدها هى التى تفتح البال للعبور فوق بركة الدم، لكى يصبح الجميع مرة ثانية «يدا واحدة». هل يستطيع مجلس الشعب المنتخب أن يؤدى دوراً فى إتمام تلك المصالحة؟.