د. نبيل فاروق يكتب.. كيف يمكن تغيير سلوك شعب بأكمله
كيف يمكنك أن تغيّر سلوك شعب بأكمله، وتنقله من حال إلى حال؟! هذا هو أهم سؤال يواجه أية فئة، أو أي كيان، يريد أن يبدأ عهداً جديداً، في بلد ما.. وإن كان السؤال يحتل سطراً واحداً، فالجواب ليس كذلك أبداً.. إنه يحتاج إلى أسطر عديدة.. وإلى خطة عمل.. ومنظومة متكاملة.. والأهم أنه يحتاج إلى فكر.. وفكر رفيع المستوى أيضا..
وهذا الفكر يبدأ بسؤال آخر، هو أكثر أهمية من السؤال الأول.. لماذا وصل الشعب لما هو عليه؟! ما الأسباب التي صنعت منه ما ترغب في تغييره؟! والأسباب هنا كثيرة وعديدة.. وضعف مستوى التعليم يعدّ السبب الأول، وعلى رأس كل الأسباب.. هذا لأن التعليم قد اعتمد، منذ فترة طويلة، على نظرية التلقين المباشر، وليس على مبدأ الفهم والوعي والتفكير.. فطوال سنوات الدراسة يتم سجن الطالب داخل مناهج نمطية، وكتب بعينها، وأساليب امتحانات لا تهتم بمدى فهم واستيعاب الدارس، وإنما بمستوى قدرته على حفظ ما يدرسه.. لا مجال للتفكير.. أو الابتكار.. أو حتى الفهم..
فالطالب عليه، ومنذ مراحل دراسته الأولى، أن يحفظ ما جاء في كتبه الدراسية، وألا يحاول الخروج عنها، مهما كانت الأسباب.. بل إنه يعاقب، وأحياناً بعنف، إذا ما حاول الخروج عنها.. وهكذا، وعبر سلسلة من الأخطاء، يعتاد الصغار الخضوع لكتاب المدرسة.. وتفادي العقاب، عبر حفظه تماماً، دون محاولة فهمه أو استيعابه.. ودون الدخول في أية مناقشات بشأنه.. وهكذا يتعلّم الصغير درسه الأول.. إياك أن تفكّر.. وحذار أن تناقش.. خذ ما أعطيك إياه فحسب... واستسلم..
ومع الوقت، يفقد الشخص قدرته على الإبداع والابتكار.. وحتى شعوره بالحاجة إليهم.. ويكبر هذا الشخص.. ويكبر معه الشعور بعدم جدوى التفكير.. وهكذا.. السبب الثاني الذي أوصل الشعب إلى ما هو عليه هو الشعور بانعدام العدالة، وانعدام قيمة الكفاءة.. فلسنوات وسنوات، لم يكن يحظى بالأفضل من هو حقاً أفضل.. ولكن الأمر صار يعتمد على من هو الأقرب.. من صاحب الوساطة الأقوى.. أو الوسيلة الأفضل، للتقرّب والنفاق.. لذا فقَدَ الشباب إيمانهم بالعمل والكفاح والتفوّق.. ولإيمانهم بالوطن في النهاية..
وعندما يضعف لديك شعور الانتماء للكيان الذي يفترض أن تستظل بظله، تكون الطامة الكبرى.. ويكون الانفلات... فلماذا تسعى وتجتهد، ما دام غيرك سيحصل على ما تستحق، فقط لأنه يستطيع الوصول إليه، عبر منافذ خلفية؟! ولماذا تزيد من كفاءتك، ما دام الأقل كفاءة هو صاحب الحظ الأفضل، إذا ما كانت لديه الصلات الكافية، ليقفز فوق كل الكفاءات؟! لماذا؟! ثم ما جدوى أن تشكو وتستغيث، في مجتمع لا يبالي بسماع صوت الضعفاء؟! ثم، وهو الأخطر، لماذا لا تنضم إلى قائمة الفساد، ما دامت الأكثر ربحاً؟! هذا وحده يعيد تشكيل المجتمع، على صورة سيئة.. ويشيع الفساد.. والرشوة.. والمحسوبية.. والتجاوز..
والأهم أنه يضيع الحقوق.. كل الحقوق.. وهذا يقود إلى أحد الأسباب الرئيسية في المنظومة.. ضياع قيمة العمل، وأهمية الكفاح.. فلو لاحظت ما يحدث منذ بداية ثورة يناير، للاحظت أن الكل يسعى للحصول على المكاسب.. والمكاسب وحدها.. لا أحد فكّر في ضرورة العمل.. أو أهمية الإنتاج.. بل إن أحداً لم يطرح هذا على نفسه قط.. لقد توّقف دولاب العمل.. وتراجعت عجلة الإنتاج.. وبالتالي عجلة الاقتصاد..
ولأن التعليم لم يدفع الناس إلى اعتياد التفكير المنطقي والمنظّم، فهم لم يدركوا أنه لا قيمة للمكاسب، في ظل ضعف اقتصادي مستمر.. ودعونا نحسبها.. لو أنك تربح خمسمائة جنيه شهرياً، في ظل اقتصاد متماسك، فسيتيح لك هذا الحصول على عشرة أشياء -مثلاً- قيمة كل منها خمسون جنيهاً.. ولكنك ثرت لتحصل على ألف جنيه، بدلاً من خمسمائة.. وأهملت العمل نفسه.. وتراجع الاقتصاد.. وانخفضت قيمة الجنيه..
وارتفعت الأسعار بالتالي؛ كتداعٍ طبيعي لانخفاض قيمة العملة.. وصرت تربح بالفعل الجنيهات الألف، التي كنت تسعى إليها.. ولكن ما كان يساوي خمسين جنيهاً، صار يساوي مائة.. أو ربما أكثر.. بالجنيهات الألف إذن لن تحصل على أكثر مما كنت تحصل عليه بنصفها.. ولو تراجع الاقتصاد أكثر ستحصل على ما هو أقل من هذا.. المشكلة إذن لا تكمن في زيادة المكاسب.. بل في زيادة العمل.. في نمو الإنتاج.. ونمو الاقتصاد...
ولكنك لم تكن تدرك هذا؛ لأنك لم تعتد -طوال دراستك- لعبة التحليل المنطقي العلمي للأمور.. وهنا تكمن المشكلة الرئيسية.. ولو واصلنا الحديث فستجد أن أسباب تراجع الشعب بلا حدود، كلها أسباب تراكمت مع الزمن؛ لتصنع المنظومة التي تسعى الآن لتغييرها.. وهنا نعود إلى السؤال الرئيسي.. كيف يمكن وضع منظومة التغيير؟! كيف؟! ولهذا حديث آخر،،،