في مواجهة
الثنائية التقليدية الموروثة عن كل من الدين والميتافيزيقا يراهن الخراط
على الجمال وخاصة على جمال الجسد الأنثوي ويكشف في قلب هذا الجمال عن مفهوم
"النسبي المطلق" الذي تربطه أوجه شبه عديدة بمفهوم "الزمكان" عند
آينشتاين. وكجزء من هذه المراهنة أو كامتداد لها، يقوم الخراط بإعادة
الاعتبار لقيمة الفن وتعظيمه فيما يشبه عملية تأويل استطيقي، كلية، للوجود،
تفرغه من كل حمولاته الأخلاقية التي أفرزها عبر التاريخ، سائر الموروث
الديني والميتافيزيقي، وتجعل من الفن رؤيا قائمة بذاتها وسابقة على أية
نظرية في المعرفة أو المنطق أو الأخلاق. في قصة "النحات والصحفية" إحدى قصص
مجموعة "مضارب الأهواء" يظهر لنا إدريس النحات في علاقته بليلى الصحفية
كرجل سافل ومنحط ولكن الفنان الذي ينطوي عليه إدريس يتمكن بقوة الفن وحدها
من تجاوز الرجل المنحط، فيه، بل ويعمل على إلغائه أيضا فكأنه لم يوجد قط.
كأن قوة الفن عند إدريس يستخدمها الكاتب هنا لتبرير انحطاطه الخلقي أو كأن
انحطاط إدريس الخلقي يبدو من وجهة نظر الكاتب شيئا عديم الأهمية بجوار
إدريس الفنان العظيم القادرعلى خلق منحوتات فنية عالية القيمة والجمال.
"...
دخل إدريس، بقامته الشامخة، ووجهه الصخري المنحوت، وخطوته الوئيدة يحمل
شيئا ملفوفا في ورق أصفر خشن مربوط بدوبارة، يبدو كأنه هدية عيد ميلاد،
ولكنه، كما ينتظر من إدريس، غير مغلف بالورق اللامع المنقوش بزخرفات زاهية.
لم يلق سلاما ولا كلاما. بل ذهب مباشرة إلى ليلى، ومن غير كلمة، مزق الورق
الأصفر الكابي عن هديته، وكشف عنها. كانت ليلى التمثال الصغير تنظر إلينا،
رائعة صحيح، وفاتنة، عارية. جسدها من الحجر البني المحروق، في نحوله
الرشيق، مدملج الحنيات، مدور القسمات، مضطجعا براحته، يكشف لنا دون أدنى
خجل، وربما بشىء من الزهو المكتوم عن كنوزه الأنثوية مرهفة الجوانب، ليلى
في المنحوتة التي صاغها إدريس بحب وبصيرة - تبدو قادرة على تملك حريتها،
على تملك جسدها الحر الذي لا يدين بشىء ولا بأحد غير ذاته، جسدها الأنثوي،
في دقته وصلابته ونعومته الخفية معا، ليس ملكا لأحد ولا حتى لصاحب
المنحوتة، ليس ملكا إلا لذاته - وربما للذاته - ولكن من غير مباهاة ولا
إدعاء، بل ببساطة وجوده، بمجرد انه جسد عار من كل زيف وكل التباس. كيف
استطاع الفنان - وهو الذي بلا أخلاق ولا تورع - أن يعرفها بتلك المعرفة
التي لا يصل إليها إلا الفن؟ كأن الفن يتجاوز الإنسان ولا يعيره أدنى قيمة،
كأن الفن وحده - من غير الإنسان - هو القيمة الوحيدة. خطر لي عندما بهرتني
تلك الرؤية: هل حوشية الفن تنفي وحشية السلوك؟ هل عري الصدق الفني يمحو
سفالة العري الأخلاقي؟ سقط علينا - كلنا - صمت كامل، أمام فجأة الصدمة. لم
يقل إدريس ولا كلمة. حتى لم يقل لها: كل سنة وأنت طيبة. فقد كان يقدم لها
المنحوتة، كأنه يقدم قربانا أو ذبيحة على هيكل، ومعذرة للتشبيه الكلاسيكي،
لكنه كان الشىء الوحيد الذي يمكن أن يصور تلك اللحظة الهاربة الغريبة، كأن
الفنان هنا يقتل الرجل، الرجل السافل لم يعد موجودا، قد أسقطه الفنان. نحن
الشلة اللصيقة التي تعرف ليلى، وقد سمعنا وعرفنا حكايتها، قد أصابنا الشلل
لحظة فلم نعرف أن نفرق بين الرجل النذل وبين الفنان. ليلى أسقطت المنحوتة،
برفق، على الأرض، واقتربت من إدريس وقبلته، على فمه، أمامنا جميعا، دون
تورع، كأنما قد نسيت أو غفرت أو أسقطت من الوجود مهانتها وسفالته. سألت
نفسي مرة أخرى، حوشية الفن تغفر - أو تسقط - وحشية الرجل؟"مع
"مضارب الأهواء" مجموعة تضم 14 قصة من أبدع وأجمل ما كتب الروائي الكبير
إدوار الخراط. من إصدار دار البستاني للنشر والتوزيع - القاهرة، 2003[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]يظهر الرابط بعد كتابة ردلإعادة المشاركة إلى صفحة البداية[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]..