كنت في الثانية عشرة من عمري حين وقعت عيناي على حزمة من المجلات معقودة بحبل في أحد المحلات التي تبيع الكتب القديمة – كانت الطبعة الأولى الأصلية لـ هـ. ج. ويلز "مجمل التاريخ" التي طبعت عام 1920. ولأن بعض الأجزاء كانت مفقودة فقد حصلت على الحزمة كلها مقابل بضعة شلنات، الحقيقة أن ما شد انتباهي مجموعة رائعة من الصور الملونة لديناصورات على شواطئ بحار وبحيرات تنتمي لعصور سحيقة، مع صور لإنسان نياندرتال الأقرب في تكوينه للقردة وكأنها تزوم على مداخل الكهوف، وصور للتماثيل العملاقة لرمسيس الثاني منحوتة في صخور الجبل على واجهة معبده بأبي سمبل. بعثت تلك الصور في نفسي إحساسًا عميقًا جارفًا بالتاريخ يفوق تأثير نص ويلز ذاته. وإلى اليوم يجتاحني ذلك الإحساس الساحر وذلك التشوق الذي يمتلك الأطفال حين يبدأ أحد الكبار في الحكي مستهلاً حكايته بالعبارة المشهورة: "كان يا ما كان.." في عام 1946، أعادت دار بنجوين للنشر طبع عشرة مجلدات من أعمال ويلز احتفالاً بالذكرى الثمانين لميلاده، وكان ضمن تلك المجلدات طبعة مختزلة لـ "مجمل التاريخ"، و"التاريخ الموجز للعالم". اكتشفت أن بتلك الطبعة نصًا ختاميًا غريبًا ومدهشًا تحت عنوان "العقل البشري عند منتهى حدوده". كان النص مرعبًا وغير مفهوم تمامًا حتى أنني أخذت في شد شعري دون أن أشعر "فمنذ عام 1940 وقعت سلسلة من الأحداث العالمية العظمى كان من شأنها أن تدفع بأي مفكر أو ملاحظ ذكي للتأكد من أن البشر قد وصلوا إلى نهاية المطاف، وأن ذلك الكائن المنتصب القامة والذي كان يتيه فخرًا بتلك الصفة قد وصل بتلك الأحداث إلى نهايته وأنه قد استنفد ذاته". لم تتضح تلك الرؤية عند بداية الحرب العالمية الثانية – ويمكن تفهم ذلك – إلا بعد هزيمة هتلر. حين قرأت الطبعة الأولى لموجز التاريخ اكتشفت أن النص مثله مثل مجمل التاريخ ينتهي بملحوظة متفائلة قال فيها: "كل منجزات الإنسان وانتصاراته التي حققها وطبيعته الحالية التي وصل إليها عبر كل ذلك التاريخ المدرك ليس إلا استهلالاً ومقدمة لما سينجزه في مستقبله القادم". كما يختم ويلز "مجمل التاريخ" بفصل يتنبأ فيه أن البشر سيتوصلون إلى السلام عبر منظمة "عصبة الأمم" التي تأسست بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، والتي كانت بمثابة مقدمة لتكوين حكومة عالمية. (كان ويلز أول من صاغ مصطلح حرب لإنهاء حرب). ما الذي حدث؟ ظل ذلك السؤال يؤرقني، وبعدها بعدة أعوام طرحته على صديق لـ هـ. ج. ويلز، وهو المؤرخ التوراتي "هوف سكونفيلد"، وكان رأيه أن ويلز كان قد وصل إلى يقين تام أن لديه حلولاً لكل مشاكل الجنس البشري، ثم شعر بمرارة شديدة حين لم يجد من يهتم بذلك أو يأخذه على محمل الجد. وبدا تفسيره لموقف ويلز مقبولاً في ذلك الوقت. إلا أنني توصلت بعد ذلك إلى التفسير الحقيقي الأكثر إقناعًا. ففي عام 1936 كان ويلز قد انتهى من كتابة قصة مثيرة أسماها "لاعب الكروكيه" كانت تختلف بشكل مذهل عن كل أعماله السابقة. اتضح من ذلك العمل أن ويلز قد وصل إلى درجة متقدمة من الوعي والإدراك لقدرة الإنسان الكامنة على القسوة المحضة المجردة، وأن لدى البشر قدرًا كبيرًا من السادية والتلذذ بتعذيب الآخرين. أما في عمله السابق "مجمل التاريخ" فقد أغفل ذكر المذابح الجماعية والتعذيب والقهر؛ بل أنه في حقيقة الأمر لم يشر إليها بأية إشارة. كان ويلز في ذلك الوقت خلوًا تمامًا من إدراك كم الشر البشري وهو كم الشر الذي دفع أرنولد توينبي في عمله المعروفة "دراسة للتاريخ" أن يتحدث عن "الشكل المرعب للخطيئة الذي يبدو من خلال العلاقات البشرية". اتسمت وجهة نظر ويلز عن الجريمة بنزعة براجماتية واضحة (تتوسل بالذرائع والدوافع والتبريرات)، ففي عمله المعروف "العمل والثروة وسعادة البشر" تناول الجريمة وكأنها جانب وافد دخيل على التركيبة البشرية، وأن الجريمة ناتجة عن الإحباطات والقيود المفروضة على الفرد الطبيعي من المجتمع والقانون حتى يتمكن المجتمع ككل من الاستمرار والوجود. ومن الواضح أنه لم يكن على دراية أو وعي بأن تاريخ البشر المسجل من عام 2500 ق. م يحتوي على قدر متواصل من العنف والقتل وإراقة الدماء. ثم أجبرته الوحشية البشعة للنازي الألماني على النظر إلى تلك الحقيقة بجدية أكبر. ويبدو أن الرعب والفزع اللذين صاحبا مأساة هيروشيما وناجازاكي، وما كشفا عنه مما كان يحدث في معسكرات اعتقال "بلسن"، و "بوخنفالد"، قد أقنعاه أن البشر كانوا أميل وأقرب إلى تدمير ذواتهم منذ بدايتهم على الأرض، وأن "نهاية الجنس البشري حتمية ووشيكة". بالطبع لا أدعي أن وجهة نظر "ويلز" عن التاريخ البشري سطحية في مجملها أو خطأ، بل إنه يمكن تفهمها بشكل جيد ووضعها في الاعتبار، لقد كان "ويلز" مثل من تأثروا بالعصر الفيكتوري المتأخر الذين رأوا من خلال ذلك العصر أن التاريخ البشري ليس إلا تاريخًا عظيمًا من الاختراع والإنجاز، وأنه لم يكن إلا معركة طويلة ومتصلة ضد المخاطر الناجمة عن الحضارة الحديثة. من المؤكد أن قدرة الإنسان الخلاقة المبدعة هي الحقيقة المركزية الوحيدة في نظر "ويلز". أما ما عجز ويلز عن إدراكه فهو أن ذكاء البشر نتج عنه بعض الجنوح وعدم التوازن، كما نتجت عنه مخاوف ضيقة دفعته إلى حسابات مستمرة وقسوة متحجرة بلا رحمة. تلك القسوة التي تدفع البشر إلى انتهاج الطرق المختصرة لتحقيق الرغبات – أي إلى ارتكاب الجريمة. لم يكن دافع القتل الجماعي الذي ارتكبه هتلر تلك القيود المفروضة على الإنسان الطبيعي اللازمة لاستمرار المجتمع ككل والتي قد تدفع الفرد إلى التمرد. على العكس من ذلك كان الدافع نتاج نوع مشوه من الأفكار المثالية دفعته إلى محاولة خلق "عالم أفضل". وهو الدافع نفسه الذي أدى إلى تدمير "هيروشيما" و "ناجازاكي" بالقنابل النووية، وهو الدافع ذاته الكامن خلف تدبير التفجيرات الإرهابية وإطلاق النار العشوائي على جموع البشر والذي أصبح ظاهرة متواصلة منذ عام 1960. وهو الدافع المفزع ذاته فيما يخص منظمة الألوية الحمراء اليابانية التي أمطرت مسافرين مدنيين برصاص المدافع الرشاشة في مطار "لود" الياباني، وإرهابيي إيطاليا الذين اقتحموا قاعة محاضرات في الجامعة وأطلقوا الرصاص على ساقي المحاضر مدعين أنه يبث في الطلاب "قيمًا برجوازية" وأنهم جميعًا ليسوا من المجرمين المهووسين، بل مثاليين متحمسين. حين ندرك ذلك نجد أن الإجرام ليس شذوذًا يتسم بالطيش والتهور أو نزعة لانتهاك القانون، بقدر ما هو نتيجة حتمية لتطور ونمو الذكاء البشري أو الوجه الآخر – كرد فعل عنيف – لنمو قدرتنا على الخلق والإبداع. إن أسوأ أنواع الجرائم لا يرتكبها الحمقى والأغبياء، بل يرتكبها المتحضرون الأذكياء باتخاذهم قرارات يوفرون لها المبررات والدوافع الكافية. كان ذلك الإدراك لطبيعة الإجرام هو ما دفع "ويلز" في آخر مراحل حياته إلى الميل إلى النهلستية (العدمية). لقد قضى أغلب عمره مؤمنًا وداعيًا إلى أن الجنس البشري من الممكن هدايته بالإقناع وبالذكاء، وأعلن أن الحرب العالمية الأولى قد نشبت لتنهي حربًا، وأن عصبة الأمم التي تكونت بعد الحرب والحكومة العالمية ستضمن استتباب الأمن والسلام. في تلك المرحلة، سادت العالم حالة غير مسبوقة من الانغماس في القتل والعنف والقسوة والوحشية مجاعات يفرضها "ستالين" في الاتحاد السوفييتي على "الكولاك" وهم ملاك الأرض قبل الثورة البلشفية، ووحشية الجيش الياباني في مدينة نانكنج بعد احتلالها. ومعسكرات الاعتقال الجماعي التي أقامها هتلر، والقنبلة الذرية.. بدا لويلز أنه قضى عمره بأجمعه في أوهام، وأن الجنس البشري غبي وشرير بطريقة راسخة لا يجدي معها أي تقويم أو إصلاح. لو كانت مدارك "ويلز" قد أحاطت بشكل أكبر بسيكولوجية العنف البشري، لم يكن إدراكه لوجود الجانب المدمر في الجنس البشري يدفع به إلى اليأس التام. إن الدافع الإجرامي ليس شذوذًا أو جنوحًا لفعل الشر أكثر من فعل الخير بقدر ما هو مركب طفولي وميل طفولي يدفع إلى الاستسهال والاختصار، كل جريمة تنطوي على –أو ذات – طبيعة تتسم بالتدمير والانتزاع واغتصاب شيء والاستيلاء عليه بغير استحقاق بالقوة أو بالإغارة أو العنف؛ هي نزعة للحصول على شيء مقابل لا شيء. اللص يسرق ما يريده بدلاً من العمل والكد للحصول عليه، والمغتصب يغتصب الأنثى بدلاً من إغوائها لتعطيه نفسها طواعية واختيارًا. ذكر "فرويد" في أعماله أن الطفل من الممكن أن يدمر العالم لو أتيحت له القوة الكافية لذلك. كان "فرويد" يعني بذلك أن الطفل ذاتي تمامًا، مغلف بمشاعره الخاصة الذاتية وبذلك لا يرى ولا يتفهم أي وجهة نظر أخرى. والمجرم ليس إلا شخصًا بالغًا يحيا ويسلك في حياته سلوك الأطفال. بالطبع هناك مغالطة في تلك الدوافع الطفولية للمجرم والتي تدفعه إلى انتزاع ما يريده. فالشخص الذي يحصر حالته الذهنية ومشاعره فيما يريد لا يشعر أبدًا بالسعادة إلا للحظات قصيرة ويظل أغلب وقته تعيسًا؛ فاللحظات الوامضة من السعادة الحقة في حياتنا ومضات موضوعية، نشعرها فقط حين نرتفع فوق – أو نخمد – تلك الرؤية للعالم الحلم والمكونة من رغبات ومشاعر ذاتية بحتة. أعتى طغاة التاريخ، أولئك الرجال الذين انغمسوا تمامًا في مشاعرهم الذاتية بلا أي اعتبار للآخرين، انتهوا جميعًا نصف مجاذيب؛ وكان أكثرهم انغماسًا في ذاتيته هو أعتاهم ظلمًا وقهرًا وفسادًا. الجريمة تتجدد مع كل جيل لأن البشر ليسوا إلا أطفالاً، قلة قليلة من البشر هي التي تنجز وهي القلة الناضجة. وهي تنجز ليس تخليدًا للذات كما يجدر بالقدرة الخلاقة المبدعة. فشكسبير تعلم من مارلو، ولكنه بدوره كان ملهمًا لجوته، وبيتهوڤن تعلم من هايدن ولكن أعماله كانت مصدر إلهام لڤاجنر، ونيوتن تعلم من كبلر ولكنه كان مصدر إلهام لأينشتاين. ولكن عتاة المجرمين مثل فالد المخوزق، وچاك السفاح، وآل كابوني. لم يتركوا أثرًا يعتد به. فـ "إنجازاتهم" كانت سلبية وماتت بموتهم. إن المجرم يميل أيضًا لأن يصبح ضحية للانتقاء الطبيعي. وذلك بنقص قدرته على السيطرة على ذاته. لقد أنجز الإنسان حضارته الحالية لأن الخلق والإبداع مثل كرة الجليد "التي تتضخم مع انحدارها من قمة الجبل بينما تظل الجريمة لحسن الحظ في حالة استاتيكية جامدة. قد يبدو أن "ويلز" كان مؤرخًا ساذجًا حين اعتقد أن الحروب بين البشر على وشك أن تصل إلى نهاية، إلا أننا يمكن أن نفسر ذلك على ضوء عدم درايته بالعلم الذي نطلق عليه الآن اسم علم الاجتماع الحيوي "سوسيوبيولوجي" فحين لفت كل من "تنبرچن" و "لورينز" الأنظار إلى أن العدوانية الحيوانية تعود إلى حد كبير إلى مسألة الانتماء لمكان والإحساس بامتلاكه، اتضح فجأة أن كل الحروب عبر التاريخ كانت تدور حول امتلاك المكان. حتى السلوك الدموي والإجرامي للطغاة كان له ما يوازيه ويقابله في عالم الحيوان. أظهرت الدراسات الحديثة أن عديدًا من الذكور المهيمنة بدءًا من الأسود وقرود البابون مرورًا بفصائل الجرذان والقوارض يقتلون صغار أعدائهم المهزومين، كذلك تترك الدجاجات صغارها تنقر صغار الطيور الأخرى حتى الموت، كما تقتل طيور النور صغار طيور النورس الأخرى حين تدخل منطقتها التي بها عشها ومنطقة نفوذها. ويبدو أن البرنس "كروبوتكين" كان على خطأ حين اعتقد أن كل الكائنات تتبادل التعاون والمنفعة وأن الجنس البشري وحده هو الذي يقتل بعضه بعضًا. لقد علمنا عالم الحيوان أن الجريمة ليست إلا جانبًا من ميراثنا الحيواني، وأن التاريخ البشري من الممكن تناوله والنظر إليه كمرجع مصور لعلم الاجتماع الحيوي. هل تدفعنا تلك الرؤية الجديدة للتاريخ إلى الاعتقاد بأن الجنس البشري قد يساق إلى دماره بعنفه النابع منه؟ لا يمكن لأحد بالطبع أن ينكر هذا الاحتمال؛ إلا أن المتشائمين يتجاهلون المكون الآخر بداخلنا والذي فهمه "ويلز" وأدركه بشكل جيد وهو قدرة البشر على التطور عن طريق ذكائهم. الحقيقة الثابتة أن التاريخ البشري كان بشكل رئيسي تاريخًا من الإجرام، إلا أنه كان مليئًا أيضًا بالإبداع. ومن الثابت في الوقت نفسه أن الجنس البشري من الممكن أن يفنى عبر حادثة نووية، إلا أن من درس التاريخ بشكل جيد يؤمن أن ذلك الاحتمال ضعيف، وفهم طبيعة الإجرام يتضمن أيضًا فهم لماذا ترجح كفة الإبداع والذكاء؟ هذا الكتاب ليس إلا محاولة لفهم قصة الجنس البشري على ضوء التناقض بين الجريمة والإبداع، ثم استخدام النتائج التي يمكن التوصل إليها للتنبؤ بالمراحل القادمة من تطور الجنس البشري.
خرافة
₪ عضو جديد₪
رسالة sms :
عدد المساهمات : 1
نوسا البحر :
2012-03-04, 10:46 pm
شكرااااااا كبيرا وجميلا
طالبة دراسات عليا
₪ عضو جديد₪
رسالة sms :
عدد المساهمات : 4
نوسا البحر :
2013-03-15, 2:42 pm
شكرااااااااااااااااااااااا
تحميل كتاب التاريخ الأجرامي للجنس البشري - سيكولوجية العنف البشري _ لكولن ولسون