خلافاً لكل نظريات الإلحاد والشرك والكفر، وخلافاً لكل آراء ومعتقدات أصحاب الديانات الوضعية، ينظر الإسلام بلسان القرآن الكريم، وبلسان رسوله الأمين، وبأيمان أتباعه، إلى الإنسان نظرة تختلف اختلافاً جوهرياً وبالكامل عن جميع النظرات الأخرى.
في حين ينظر للإنسان من أعمى الله قلوبهم أنّه آثم خاطيء بالوراثة، أو أنّه من سلالة القرود والسعادين، أو أنه قريب من نسل الكلاب والحشرات؛ ماسخين إياه في أحط صورة؛ واصفين أصله بالوضاعة المتناهية وبالتالي حقارة ودناءة هذا المنشأ. وفي حين يعتبره بعضهم مادة للبحث يستخدمونها لإجراء التجارب عليها في معاملهم ومختبراتهم، وحقل تجارب واستكشاف لدى علماء النفس والاجتماع. فإنَّ الإسلام ينظر إليه نظرة تبجيل واحترام. فهو في نظر الإسلام مخلوق خلقه الله تعالى في أحسن تقويم، صاحب أجمل صورة. وأنّ الله صوره فأحسـن التصوير.
نعــم، إنه الإنسـان الذي سجدت له ملائكة الرحمن، الإنسان الذي كرّمه الله وزينه بالسمع والبصر والفؤاد والإدراك والتمييز وحُسن الصورة وجمالها.
قال تعالى من سورة الانفطار ( 6-8 ): ﴿(يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك)﴾)
وقال تعالى من سورة غافر64: (﴿الله الذي جعل لكم الأرضَ قراراً والسّماء بناءاً وصوركم فأحسَنَ صُوركم وَرَزَقكُم مِنَ الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين ))﴾
وقال تعالى من سورة التغابن ( 3 ): (﴿خلقَ السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير ﴾)
ومن سورة المُلك ( 23-24 ): (﴿هُوَ الذي أنشأكم وَجَعَلَ لكمُ السّمْعَ وَالأبْصارَ وَالأفئدةَ قليلاً ما تشكرونَ قُلْ هُوَ ذرَأكـُمْ في الأرْضِ وَإلَيْهِ تُحْشَرونَ )﴾
ومن سورة التين ( 4 ): (﴿لقدْ خلَقنا الإنسانَ في أحْسَنِ تقويمٍ ﴾)
ومن سورة الإسراء ( 70 ): (﴿وَلقدْ كرَّمْنا بني آدَمَ وَحَمَلناهُمْ في البَّرِ وَالبَحْرِ وَرَزَقناهُمْ مِنَ الطَّيِباتِ وَفَضَلناهُمْ على كثيرٍ مِما خلقنا تفضيلاً )﴾
وفي تفضيل الله تعالى الإنسان على غيره من المخلوقات يقول محمد بن جرير الطبري في تفسيره: (إنَّ التفضيل هو أن يأكل بيده وسائر الحيوانات بالفم، وروي عن إبن عباس والكلبي ومقاتل نفس ذلك، وقال الضحاك: كرّمهم بالنطق والتمييز، وقال عطاء: كرّمهم بتعديل القامة وامتدادها، وقال يمان: بحُسن الصورة) ( 1 )وله أيضاً: (بتسليطهم على سائر الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم) وقال آخرون: (بالكلام والخط، وقيل بالفهم والتمييز) [2 ]
وقال القرطبي في تفسيره مُرَجحاً: (والصحيح الذي يعول عليه أنَّ التفضيل إنّما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف، وبه يُعرف الله ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رُسُله، إلا أنّه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بُعِثت الرّسُل وأرسلت الكتب)
[3 ]
أما ابن كثير فيقول في تفسيره: (يخبر الله تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها، كقوله تعالى "ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"[ 4 ]، أن يمشي قائماً منتصباً على رجليه ويأكل بيديه، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه، وجعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً يفقه به ذلك كله وينتفع به ويفرق بين الأشياء، ويعرف منافعها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية.....) [4 ]
وقال العلامة الشيخ تقي الدين النبهاني، في كتابه "التفكير": (إنَّ الإنسـان هو أفضل المخلوقات على الإطلاق، حتى لقد قيل ~ وهو قول حق ~ إنَّه أفضل من الملائكة، والإنسان فضله إنّما هو في عقله، فعقل الإنسان هو الذي رفع شأن هذا الإنسان وجعله أفضل المخلوقات) [ 5]
وأورد محمد علي الصابوني في تفسيره: (أي لقد شرفنا ذرية آدم على جميع المخلوقات: بالعقل والعلم والنطق وتسخير جميع ما في الكون لهم... وفضلناهم على جميع من خلقنا من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات من الجن والبهائم والدواب والوحش والطير وغير ذلك) [6 ]
وأمّا صاحب الظلال فيقول: (ذلك وقد كرّم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه، كرّمه بخلقته على تلك الهيئة، بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة، فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان!! وكرمه بالاستعدادات التي أودعها في فطرته، والتي استأهل بها الخلافة في الأرض، يغير فيها ويبدل، وينتج فيها وينشئ، ويركب فيها ويحلل، ويبلغ فيها الكمال المقدر للحياة..... وكرّمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك..... وكرّمه بذلك الاستقبال الضخم الذي استقبله به الوجود، وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة ويعلن فيه الخالق جلّ شأنه تكريم الإنسان) [7 ]
قال عالِم التطور "ميلرش H.Mellersh" في كتابه "تاريخ الإنسان": (إنّ دماغ الإنسان يختلف عن أدمغة بقية الحيوانات، وهو يشكل حدثاً جديداً في الحياة. وكل الأجناس البشرية تتمتع بهذه المزية... فأقوام أستراليا البدائيون يستطيعون أن يتثقفوا في بحر جيل واحد، وهذا يدل على أنّ الإنسان سواء أكان شرقياً أو غربياً، متمدناً أو بدائياً، يتمتع بالقدرات العليا ذاتها. وهذا ما أقرّه العِلم! فالهوّة إذاً سحيقة بين الإنسان والحيوان)
أمّا مجلة "لايف Life" فقد كتبت في عددها الصادر بتاريخ 28/06/1963، شارحة تفوق الدماغ الإنساني تقول: (لخلايا الدماغ العصبية آلاف الاتصالات بعضها ببعض، وهناك اتصالات إضافية بفضل الكمية العليا من القشرة الدماغية التي تضاعف القدرة أضعافاً لا نهاية لها على استقبال وتحليل المعلومات. وهذه القدرة الاعتيادية تجعل الدماغ الإنساني بمنزلة رفيعة لا تُدانى بالنسبة إلى باقي الكائنات الحية)
وبالتالي فالهوة سحيقة جداً بين الإنسان وبين الحيوان، أو حتى بين الإنسان وبين أي مخلوق آخر، فلو كانت نظرية النشوء والارتقاء المادي أو جميع نظريات التطور المادي الأخرى صادقة لما كانت تلك الهوة السّحيقة، بل لكان التقارب النسبي واضحاً.
يقول علماء التطور المادي بوجود مراحل للذكاء، ولكننا لا نعلم بوجود ذلك مطلقاً، بل إنّ ما نعلمه "أنَّ 90% من الناس أذكياء، فعامة الناس أو أكثرهم أذكياء، والنادر هم البلداء أو الأغبياء، وهذا النادر لا حكم له." وهذا الرأي هو ما قال به العلامة النبهاني في كتابه "سرعة البديهة".[ ]
كما يزعم علماء التطور المادي بأنّ الإنسان المعروف باسم "إنسان ما قبل التاريخ" والذي يدّعون أنه انقرض كان يمثل الحلقة الوسطى. فلماذا عاشت هذه الحلقات الدنيا مثل القردة بينما انقرض إنسان ما قبل التاريخ، مع العِلم أنّ المفروض فيه حسب منطوق ومفهوم نظرياتهم أن يكون أرقى من القردة بكثير وأصلح للبقاء؟ وما الدليل على ذلك إن وُجد؟.
ويقول داروين: (قد يكون للإنسان عذره في أن يشعر بشيء من الكبرياء لأنه ارتقى إلى ذروة السّلم العضوي، ولو أنّ ذلك الارتقاء لم يكن نتيجة لجهده الخاص. وإذا كان الإنسان قد ارتقى إلى مكانه الذي يحتله الآن، ولم يوجد في الأصل ومنذ البداية في هذا المكان فإنَّ ذلك خليق بأن يعطيه بعض الأمل في مصير أفضل في المستقبل البعيد... "ومع ذلك"... ورغم كل هذه القوى المثيرة فلا يزال الإنسان يحمل في هيكله المادي وصمَةً لا يمكن محوها تشير إلى أصله الوضيع)[ ]
وصمة الأصل الوضيع!!!! هكذا ينظرون للإنسان وأصله، ونحن نقول ومعنا كل الأدلة الدامغة التي تؤكد صحة قولنا؛ وتنفي نفياً قاطعاً ادعاءات وترهات داروين والتي نسجها من خياله الواسع!!!! نقول: نعم، لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم... إنّه الإنسان العاقل، الذي علمه الله، وزينه بالعقل والإدراك. إنّه الإنسان الأول "آدم عليه السّلام" الذي هو نفس الإنسان الحالي بجميع أوصافه التي نراها وندركها. لم يتبدّل ولم يتغير ولم يتطور. وله أن يفخر بأصله بحق، وله أن يفخر بأنّ الله قد فضله على جميع مخلوقاته، إذ اختاره من دون المخلوقات جميعها ليهبه العقل المميز، وأن يُسّخِرَ له ولمنفعته كل ما خلق. الإنسانُ الذي خلقهُ الله في أحسن تقويم.